الحماية الجنائية للحرية الشخصية بالقانون العراقي
تشكل مفردة الحرية المستعصية على التعريف كما يقول (مونتسكيو) انثيالات روحية لمديات الانعتاق الحقيقي في فضاءات الروح وتجلياتها وصور التعبير عن مكنوناتها وخزائن بوحها المتعددة لذلك كانت معشوقة لصوفية الثائر وطمأنة لنهايته الخالدة.
كلمة الحرية في اللغة العربية تطلق على الخلاص من العبودية وتعني ايضاً القدرة على التصرف بملء الإرادة والخيار، و ورد تعريف الحرية في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنّها حق الفرد في أن يفعل ما لا يضرّ بالآخرين. في حين اعتبرتها المادة الرابعة من اعلان حقوق الانسان والمواطن الفرنسي سنه 1791 بأنها : مكنة أن يعمل الفرد كل مالا يضر بالآخرين وبالتبعية له أن يمارس كافة حقوقه الطبيعية في الحدود التي يُمكن باقي افراد الاسرة الاجتماعية من التمتع بحقوقهم، والحرية لاتقف عند بعدها الفلسفي بل يجب ان تتقيد بالمظهر القانوني، فالقانون يمنح السلطة ممارسة بعض السلطات صيانة لحقوق الافراد وينبغي ان يمارس الفرد حريته في الاطار القانوني وبذلك تصبح الحرية الفردية (رخصة مقيدة ) وحدودها ما لا يحظره القانون ومالا يضر بحقوق افراد المجتمع الاخرين،والمفهوم العام للحرية الشخصية يجاذبه نظريتان؛ الاولى : المطلقة وترى بان الحرية عمل لكل ما يريده الفرد دون قيد والاخرى : المعتدلة والتي تستند على وجود الحرية الشخصية بوجود الدولة والسلطة وهي النظام لا الفوضى والضمانات الاساسية للحرية الفردية والامن العام، والحماية الجنائية للحرية الشخصية تستند الى مسلمات إجرائية قضائية تبتدئ بالأصل من مبدأ المتهم بريء حتى تثبت ادانته وهو مفهوم يعني (قرينة البراءة) وهذه القرينة تحيلنا الى الاسس القانونية لها وهي الشرعية الاجرائية المستندة على النص الدستوري (لا جريمة ولا عقوبة الا بنص) والنص القانوني الوارد في المادة الاولى من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل (لا عقاب على فعل او امتناع الا بناء على قانون ينص على تجريمه وقت اقترافه، ولا يجوز توقيع عقوبات او تدابير احترازية لم ينص عليها القانون).
وقبلها اشار الدستور العراقي لسنة 2005 في المادة (19 / خامساً) منه والتي تنص (المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة، ولا يحاكم المتهم عن التهمه ذاتها مرة أخرى بعد الافراج عنه الا اذا ظهرت ادلة جديدة) والتي استلهمها الدستور من الاعلان العالمي لحقوق الانسان في الفقرة (1) من المادة (11) والتي تنص (ان كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئاً الى ان تثبت ادانته قانونا بمحاكمة علنية تؤمن له فيها الضمانات للدفاع عنه) وان اثار هذا المبدأ تترك بصماتها على الاجراءات القضائية في دور التحقيق واحكام القضاء ومنها ضمانة الحرية الشخصية للمتهم حيث يجب معاملة المتهم بما يحفظ كرامته وإنسانيته وان يعامل معاملة الابرياء مهما كانت التهمة المسندة اليه والتي يتم اتخاذ الاجراءات القانونية بالاستناد اليها، وان اي خرق لحقوقه وتجاوز الحدود القانونية في التعامل معه سيجد مرتكبها نفسه بمواجهة القانون، فلا يمكن مس الحرية الشخصية للمتهم الا بالقدر الذي تبيحه القوانين ولمقتضيات المصلحة العامة والعدالة وعلى ضوء ذلك فان مبدأ (الشك يفسر لمصلحة المتهم) هو مبدأ يقتضينه افتراض البراءة وهو قاعدة قانونية واجبة الاتباع من قبل الجهات التحقيقية والقضائية كذلك حق المتهم في الدفاع عن نفسه وحق الدفاع حق كفله الدستور والقانون اضافة الى القوانين والاتفاقيات الدولية فالفقرة (رابعاً) من المادة (19) من الدستور العراقي اعتبرت (حق الدفاع مقدسا ومكفولا في جميع مراحل التحقيق والمحاكمة) كما اوجب النص الدستوري على المحكمة في الفقرة (11) من المادة المذكورة انتداب محام للدفاع عن المتهم لمن ليس له محام يدافع عنه وهو امر وجدناه حاضرا في التعديل الوارد على نص المادة (123) من قانون اصول المحاكمات الجزائية وفي الفقرة (ثانيا) منه والتي تنص على ان (للمتهم الحق في أن يتم تمثيله من محام، وان لم تكن له القدرة على توكيل محام تقوم المحكمة بتعيين محام منتدب له دون تحميله أتعابه) ووجود محام للمتهم امر يكسب التحقيق مشروعيته وبخلافه سيجعل الاجراء المتخذ والقرار القضائي الصادر و المستند اليه بمواجهة النقض ومخالفة القانون، كما ان وجود محام لا يعني سلب الضمانات الخاصة بالمتهم واهمها حقه في السكوت والصمت ولا يعتبر دليلا عليه عند الاستجواب، ومن الضمانات المهمة التي يفرضها مبدأ براءة المتهم كذلك هو (عبء الاثبات) ويعني الوصول الى الحقيقة وهو عبء يقع على عاتق سلطة الاتهام فبراءة المتهم مفترضة وعلى من ينسب اليه ارتكاب الجريمة ان يثبت ذلك واقامة الدليل على مسؤولية المتهم عنها بعد اثبات توافر جميع اركان الجريمة وقاعدة عبء الاثبات ليست مطلقة فهناك حالات استثنائية يقع عبء الاثبات فيها على المتهم منها توافر حالة الدفاع الشرعي وارتكاب الفعل تنفيذاً للقانون أو أمر من سلطة قانونية لها صلاحية اصدار الامر، وبالرغم من ذلك فان مشرعي الدساتير والقوانين الداخلية والدولية يشعرون بان الضمانات المتحققة غير كافية في حماية الحريات الشخصية من الانتهاكات والتجاوزات الخارجة عن الإطار الإنساني الباحث عن تحقيق العدالة والمساواة وهم في حالة عمل مستمر لتعزيز الضمانات القانونية للحقوق والحريات الإنسانية.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً