الحماية من القانون بالقانون
نموذج الحصانة الإجرائية
د. الهادي بوحمرة -عميد كلية القانون-طرابلس
مقدمة
الحصانة الإجرائية، خلافا لمفهوم الحصانة الموضوعية، هي إمكانية تعطيل تفعيل نص التجريم في مواجهة شخص قام بانتهاكه، بمقتضى سلطة يمنحها القانون. أي الحيلولة، ولو بصفة مؤقتة، دون محاسبته، بعدم الإذن باتخاذ الإجراءات القانونية في مواجهته، لأنه إذا كان النص الإجرائي هو الذي يحول النص العقابي من السكون إلي الحركة، لأنه لا عقوبة بدون حكم، ولا حكم بدون دعوى جنائية، فان الحصانة الإجرائية تمنع من الحركية التلقائية والعادية للدعوى الجنائية.
فمع وقوع الجريمة لا تستطيع النيابة العامة التحقيق فيها إلا بعد الحصول على تصريح من جهة أخرى، غالبا ما تكون الجهة التي يتبعها الموظف المتهم بارتكابها، يسمح باتخاذ الإجراءات الجنائية. الأمر الذي يعنى في هذه الحالة أن تقدير ملائمة تحريك الدعوى الجنائية ليس للامين على الدعوى الجنائية (النيابة العامة)، وإنما لجهة أخرى أو صاحب صفة كأمانة مؤتمر الشعب العام أو أمين اللجنة الشعبية العامة للأمن العام أو محافظ مصرف ليبيا المركزي.. الخ.
وهذه الجهة أو صاحب الصفة له رفض رفع القيد دون أن يكون ملزما – حسب القانون- بتسبيب رفضه، ما يعنى بقاء النيابة العامة مقيدة عاجزة عن التحقيق والإحالة إلى القضاء، ولا يستطيع المضرور- أيضا – بوجود هدا القيد، أن يلجأ إلى المحكمة الجنائية باستعمال ما يسمى بالادعاء المباشر، وبالتالي فان الوصول إلى حق الدولة في العقاب رهين إرادة من يملك إصدار الإذن، والذي قد لا يرتبط بمدة ممارسة الوظيفة في القانون الليبي كما سنلاحظ لاحقا، كما أن إصداره في وقت يتراخى عن وقت ارتكاب الجريمة، أو انتظار زوال صفة مرتكب الفعل لكي يمكن التحقيق معه، في الحالات التي يمكن تصور ذلك فيها ذلك، قد يكون غير ذي جدوى، كما في حالة ضياع أدلة الجريمة، خصوصا إذا طالت مدة البقاء في الوظيفة المشمولة بالحصانة، ومن هنا فان الحصانة الإجرائية المقررة بقانون قد تفضي في النهاية إلى الحيلولة دون توقيع العقوبة على مرتكب الفعل المجرم والمقررة بقانون. فمن يملك إعطاء الإذن يملك بموجب القانون حماية مرتكب الجريمة من تحريك الدعوى الجنائية ورفعها ضده برفضه رفع القيد على النيابة العامة، أي حمايته في مواجهة سلطة النيابة العامة التي يترتب على إعمالها إعمال سلطة المحكمة المختصة.
ومهما يكن من حال الحصانة الإجرائية (قيد الإذن) في القوانين المعاصرة، فإنها تطرح عدة إشكاليات في النظام القانوني، منها ما يتعلق بمبدأ المساواة أمام القانون والقضاء، حيث أن الحصانة تعنى التمييز بين الأفراد في كيفية واحتمالية الخضوع للقانون وتطبيقه في مواجهتهم من قبل السلطات المختصة، هذا الاختلاف في المعاملة الجنائية لا يستند إلى اختلاف لوازم الردع أو مقدار الإرادة الآثمة أو اختلاف نتيجة السلوك، وإنما يستند إلى اختلاف المركز الوظيفي والذي يعنى- أيضا – من ضمن ما يعنى المركز الاجتماعي. وبالتالي فهو لا يقع في إطار بناء نوع المعاملة القانونية على وظيفتها، ومن ثم فهو ليس من نوع الاختلاف الذي توجبه المساواة، أي انه ليس من لوازم المساواة التي توجب الاختلاف في الوسيلة المستعملة في مواجهة مرتكب الفعل أو مقدار استعمالها بناء على اختلاف القدرات الفردية والاستعداد الفطري والسمات الشخصية، والتي توجب الاختلاف في التعامل مع مرتكبي الجرائم، للمحافظة على فاعلية القانون وقدرته على تحقيق وظيفته في مواجهة الكافة. ذلك أن الاختلاف الناتج عن الحصانة الإجرائية هو اختلاف غير مؤسس على إمكانيات تحقيق القانون لهدفه، لكونها عقبة في طريق إعمال القانون، وبالتالي يجب عدم الخلط بين الصورة الأولى التي تبتعد عن المساواة العقابية الجامدة والمجردة، والتي تقوم على عدم إخضاع الجميع لنفس نوع ومقدار العقوبة ولنفس الإجراءات، كموجب لإحداث التمايز بإيجاد تنوع عقابي وإجرائي يتناسب مع تطور وظيفة القانون الجنائي، ويبتعد عن التوزيع الآلي للعقوبات، بهدف جعل القانون الجنائي اقرب إلى كونه قانون مساواة، والصورة الثانية التي تستعمل كحجة لدعم نظام الحصانة، والذي تبعده عن كونه قانون مساواة، لأنها تعكس الإخلال بالمساواة بمعناها الظاهري والحقيقي على حد سوا، فالصورة الأولى لإحداث الاختلاف هي لدعم فعالية النص القانوني، أما الثانية فهي لإضعاف فعاليته، ويتضح دلك من خلال استخدام مقياس (أصل اعتبار المآل). فالمساواة لا تعنى أن توقع عقوبة واحدة على كل من يرتكب الجريمة ذاتها دون تفرقة بينهم وفق ظروفهم وظروف ارتكاب الفعل، لا ن للقاضي سلطة تقدير العقوبة في نطاق النص القانوني وفقا لظروف الجاني ودوافعه ومدى خطورته ودرجة مسؤوليته، حتى تكون متلائمة والحالة التي توقع عليها، لان اثر العقوبة يختلف بتفاوت ظروف الأفراد، مع كونهم جميعا يخضعون لنفس النص الذي يقرر الجريمة ويحدد بشأنها العقوبة، بشكل يعطي للقاضي سلطة تفريدها. أما الحصانة الإجرائية فإنها تعرقل أو تحول دون إمكانية إعمال النص في مواجهة بعض من ينتهكونه في حالة عدم رفعها.
من ناحية أخرى يجب تميز الحصانة الإجرائية من حيث التأسيس القانوني عن حالات عدم إعمال النص العقابي في مواجهة بعض من يرتكبون الفعل ذاته، فهذا، وان كان يمثل – ايضا- خروجا على مبدأ المساواة، إلا أن هذا الخروج قد يكون لموجبات تقتضيها فاعلية النظام العقابي ذاته، لا لفاعلية اعتبارات خارجة عنه، كالإعفاء من العقاب لاعتبارات نفعية تستجيب لمتطلبات السياسة الجنائية، ومن ذلك التضحية بالمساواة لتحقيق منفعة سرعة اكتشاف الجريمة، أو الحد من نتائجها، ومن ذلك الإعفاء من العقوبة بالنسبة لمن ينفصل عن العصابة التي قامت بالفتنة، أو لمن يسلم نفسه قبل مقدرة السلطات عليه في حالة الحرابة.
و بما أن كل خروج عن مبدأ المساواة أمام القانون والقضاء هو استثناء، فانه لا يكون إلا لضرورة، ومحدد، وفي أضيق نطاق ممكن، ولا يمكن تبريره إلا في حالة عدم إمكان وجود بديل يحقق الهدف، دون تعطيل النص الجنائي في مواجهة البعض، أي لضرورة والضرورة تقدر بقدرها، لان القاعدة التي يبنى عليها القانون هي المساواة، فكما أن التجريم والعقاب والإجراءات الجنائية الماسة بالحرية استثناء، فأن استثناء البعض من الخضوع له، أيضا، استثناء، ويجب أن يعامل على نفس أساس معاملة الاستثناء، بحيث لا يتوسع فيه، ولا يقاس عليه، ولا يكون إلا لضرورة تتمثل في حالة عدم إمكانية تحقيق الغاية بوسيلة أخرى في إطار مبدأ المساواة قدر الإمكان. ولهذا، فأن دلك يعنى، من ضمن ما يعنى، أن الخروج الجزئي من المساواة أمام النص الجنائي أفضل من الخروج الكلي، ويجب أن يسعى المشرع في استعماله لسلطته عند وضع النص إلى تقليص الخروج عن هذا المبدأ إلى اكبر حد ممكن. والحصانة ضد الإجراءات الجنائية، وان كانت لا ترفع وصف الجريمة عن الفعل، متى كان داخلا في نموذج من النماذج التجريمية التي أوجدها المشرع الجنائي، إلا أنها تعطل النص الإجرائي، وتمنع سلطة الاتهام من إعماله بالشكل المعتاد، وتنفي عن الدعوى الجنائية صفة كونها دعوى تلقائية ناجزه، أي غير معلقة على شرط، الأمر الذي يدخلنا في إطار الاستثناءات على النص الجنائي، فالاختصاص معلق على شرط، لأنها مانع إجرائي من شانه أن يحول دون اتخاذ الإجراءات الجنائية ضد من يتمتع بالحصانة بصدد فعل يعد جريمة.
ومن إشكالية الحصانة في ليبيا ضخامة عدد المستفيدين منها، فهي لم تعد مقصورة على الحصانة القضائية أو الدبلوماسية، بل أصبحت هناك عدة حصانات إدارية، سبق وان هجرتها بعض التشريعات المقارنة، حيث وجدت الحصانة الإجرائية لدينا متكئا فسيحا، قلما تستطيع أن تجده في ظل نظام قانوني أخر، وربما يرجع دلك إلى حقيقية الكيفية التي يصنع بها التشريع في هذا البلد، فتوسع الحصانة بهذا الشكل في القانون الليبي يطرح سؤالا في غاية الأهمية حول من يصنع القانون حقيقة في ليبيا، انطلاقا من سؤال آخر هو هل يرتضي الشعب فعلا مثل هده القوانين ؟ لدينا إجابة أولية على ذلك، حيث نعتقد أن حقيقة الأمر تكمن في أن الذي صنع قانون المصارف هو مصرف ليبيا المركزي، وبالتالي كانت الأولوية لمصلحة موظفي المصرف، ولو على حساب المصلحة العامة، والذي صنع قانون الشرطة هم الشرطة، وبالتالي كان طبيعيا أن يرجح مصلحة ضباط الشرطة، ولو كان ذلك لا يتفق مع المصلحة العامة، والذي صنع قانون نظام القضاء هو المجلس الأعلى للهيأت القضائية، وبالتالي كل الجهات الممثلة في المجلس كان لها الحصانة، حتى ولو كانت في حقيقتها لا تمارس عملا قضائيا، ويظهر ذلك من التمييز بين المحاماة الخاصة والشعبية في الحصانة، فلأن رئيس المحاماة الشعبية عضوا في المجلس، كان طبيعيا أن يدافع عن مصالح المحامين الشعبيين، بخلاف المحامين الخواص، الذين ليس لهم تمثيل في المجلس، وبالتالي لم يدخلوا في عداد المشمولين بالحصانة (مع عدم إنكار وجاهة التبريرات الأخرى)، ومع انه، نظريا، المؤتمرات الشعبية هي المشرع، إلا أن ما يقر في المؤتمرات هو، في الغالب، ما يصنعه من وضع مشروع القانون، والذي لا يشكل بطريقة تضمن توازن المصالح، لأنه – غالبا – ما تغيب وجهة النظر الأخرى عند صنع المشروع، ولا وجود يمكن أن يوصف بأنه فعال، إلا الوجود السابق لمن يقال أنهم متخصصون بالمسألة، ومن هنا فان قانون الشرطة يصنعه كبار الشرطة، وقانون المسؤولية الطبية يصنعه كبار الأطباء، وقانون المحاماة يصنعه كبار المحامين، بحجة مراعاة التخصص، والذي، غالبا، ما يؤدى إلى ضياع عملية التوازن بين المصالح المتعارضة بطبيعتها في بعض النصوص، و يعطى شعورا بعدم العدالة في بعض القوانين الليبية.
وإذا رجعنا إلى الأسانيد التي بنيت عليها الحصانة الإجرائية، فانه يمكن لنا مناقشتها على النحو التالي:
– من مبررات الحصانة الإجرائية القول بأنها ضرورية للاستقلال اللازم لمباشرة أداء الوظيفة، إلا أن ذلك يتضمن خلطا بين الشخص والوظيفة التي يمارسها، فهي مزج بين القاضي والوظيفة القضائية، وسيادة الدولة ومن يمثلها، ومن ذلك اعتبار التعرض للرئيس تعرضا لسيادة الدولة، إلا أن القبول بصحة التعليل ولو نسبيا يعتمد على مكان إعمال الحصانة هل خارج إقليم الدولة أم داخله ؟، حيث أن قانون الدولة هو تعبير عن سيادة الدولة أكثر من شخص رئيس الدولة، كما إن القضاء عند تفعيله للقوانين هو يعمل سيادة الدولة، وتعطيلها في مواجهة البعض هو تعطيل لسيادة الدولة، وان كان بسيادة الدولة، أيضا، أي بواسطة القانون، ما يعنى أنها بالفعل صورة من صور الحماية من القانون بالقانون.
– كما أن القول بأن الحصانة ضرورية لأداء الوظيفة لا يصلح مبررا لامتدادها إلى ما وراء إعمال الوظيفة، فهي، في بعض القوانين المقررة لها، لم تعد تقتصر على الأعمال التي تتعلق بممارسة أعمال الوظيفة، وإنما تمتد لتشمل جميع الأعمال والتصرفات الخاصة بالمستفيدين منها طوال مدة وظيفتهم، بل أنها امتدت في بعض الحالات إلى ما بعد انتهاء الوظيفة، فما معنى أن تمتد لجريمة إصدار صك دون رصيد، وهى جريمة لا علاقة لها بمتطلبات الوظيفة، وما معنى أن يتمتع بها من زالت عنه الصفة، فقانون كالقانون رقم (1) بشأن المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية لسنة 2006 يقرر الحصانة أيضا للمختارين السابقين من مؤتمر الشعب العام، أي الذين انتهت أعمال وظائفهم ما يعنى أن وظيفة الحصانة في القانون الليبي تتجاوز ضمان حسن أداء الوظيفة، وتحولت في هذا المثال إلى حماية شخصية، بدلا من كونها حماية للوظيفة، مع ملاحظة أن المادة (51) من القانون رقم (1) لسنة 2001 كانت تنص على أنه): لا يجوز التحقيق مع المختارين من مؤتمر الشعب العام في المخالفات المتعلقة بواجباتهم الوظيفية إلا بإذن من أمانة مؤتمر الشعب العام. ويسرى هذا الحكم عليهم حتى بعد قبول استقالاتهم أو إعفائهم من مهامهم المختارين لها.
كما لا يجوز التحقيق من قبل الأجهزة الرقابية والقضائية مع أمناء المؤتمرات الشعبية الأساسية أو أمناء المؤتمرات الشعبية للشعبيات، أو أمناء اللجان الشعبية للشعبيات إلا بإذن من أمانة مؤتمر الشعب العام.).
– وإذا كان من الأسس التي تبنى عليها الحصانة القضائية هي البعد عن أي تأثير قد يخشى استخدامه من لدن سلطة الدولة للضغط والتهديد، مما يحد أو ينقص من الاستقلال اللازم لمباشرة الوظيفة، فان الأمر لا يجب أن يمنع من رفع الدعوى وجمع الأدلة فيها، وكل ما يمكن أن يحقق ذلك هو منع اتخاذ الإجراءات الماسة بالحرية الشخصية، دون منع دخول الدعوى في حوزة القضاء، للمحافظة على حقوق الغير، وللمساواة أمام القانون، وفي ذلك تقدير للحصانة بقدرها، لان الخشية لا يجب أن تكون من نظر القضاء في الواقعة، وإنما من إجراءات التحقيق السابقة الماسة بالحرية أو بحرمة المسكن.
فالمسألة يجب أن لا تتعدى المعالجة بتنوع الإجراءات، أو تنوع المحاكم المختصة، أو حتى التنوع في الجهة المختصة بمباشرة التحقيق، أو تنوع وسائل التحقيق، دون أن تصل إلى إمكانية تعطيل تحريك الدعوى الجنائية، أو رفعها بتعليقها على إرادة جهة غير الجهة التي ائتمنها المجتمع عليها.
– أما إذا كان الغرض من الحصانة مواجهة الدعاوى الكيدية، التي قد يلجأ إليها ضد بعض من يتولون وظائف حساسة، فانه يمكن أن نلجأ للتفكير بطريقة أخرى في مواجهتها اخف ضررا من الحصانة، تهدف إلى إيجاد وسائل لأساليب الدعاوى الكيدية، واقتراح حلول لها تتعلق بالعمل الإداري أو بالعمل القضائي أو بالعمل التشريعي، أي دراسة أساليب الدعاوى الكيدية لوضع حل لها، ولو عن طريق التدخل الجنائي بشكل أكثر صرامة يشكل رادعا لمنع رفعها، وقد يكون جانبا من الحل رفع كفاءة جهات الاتهام والتحقيق، وضمان استقلالها بشكل أفضل مما هو عليه الآن في مواجهة الهيأت التشريعية والتنفيذية، لا بشكل يضعف فعالية النظام الجنائي بالنسبة للمتهم والمجتمع، ولا بشكل يقلل من صفة العمومية والتجريد في القاعدة القانونية الموضوعية والإجرائية.
– كما أن القول بان الحصانة هي للمحافظة على هيبة بعض الوظائف، ذلك أنهم إذا خضعوا لنفس الإجراءات التي يخضع لها الشخص العادي لم يعد ينظر إليهم بنفس عين الهيبة والاحترام اللازمين لهذه الوظائف أو المناصب، هو قول يغلب هيبة الوظيفة أو المنصب على هيبة القانون والقضاء. فإمكانية تعطيل إعمال القانون، ولو مؤقتا، يؤدى إلى إضعاف هيبة القضاء في أعين الناس، ويمتد إلى إضعاف الاطمئنان إلى القانون، وإنقاص الثقة فيه، فهي خرق لمبدأ المساواة، وهيبة القانون والقضاء آولى من هيبة من يمارس الوظيفة أيا كانت، مع كون إضعاف الهيبة لا يكون للوظيفة بقدر ما يكون للامين أو الوزير أو القاضي الذي ارتكب الفعل المجرم، والذي يجب أن لا تعرقل صفته سرعة الإجراءات بشأن الجريمة التي ارتكبها وسرعة تحوله إلى محكوم عليه.
– ولا يمكن أن تبرر حصانة كالحصانة القضائية بالمحافظة على حياد القضاة، لكون القاضي قد يحاكم أمام نفس المحكمة التي يعمل فيها، ما يؤثر، غالبا، في حياد قضاة الحكم. ذلك أن هذا الأمر يمكن أن يعالج بالخروج على قواعد الاختصاص النوعي أو المكاني، دون أ ن يستلزم الأمر وضع قيد على تحريك ورفع الدعوى الجنائية بشأن ما يرتكبه من أفعال.
في مقابل ذلك، فان من أهم سلبيات إقرار نظام الحصانة الإجرائية إضعاف دور السلطات القضائية في إعمال النص القانوني، الأمر الذي ينتج عنه إضعاف وظيفته في تحقيق الردع. ويقع في إطار ذلك ما ينتج عن الحصانة من اختلاف في فاعلية الحماية الجنائية التي يحققها النص ألتجريمي باختلاف شخصية مرتكب الفعل، ذلك لان إعمال القانون يتوقف على اعتبارات تتجاوز الواقعة لتتعلق بمركز الفاعل الوظيفي والاجتماعي.
فإحساس الأمين أو ضابط الشرطة أو الموظف أيا كان بان لديه وضعا مميزا يقيد سلطة النيابة العامة في تحريك الدعوى الجنائية في مواجهته، أو في قدرة المضرور من فعله في استعمال الادعاء المباشر عند توافر شروطه قد يجعله يتصرف عند مباشرته لأعمال وظيفته بنوع من اللامبالاة، ويقلل من قدرة القانون في ضبط سلوكه عند تعامله مع حقوق الأفراد وحرياتهم، ويعطيه طمأنينة تقلل من حرصه عند القيام بعمله، لانعدام يقينية الجزاء. فطبيعة بعض الوظائف وحساسيتها قد تستوجب من القائمين عليها ضرورة الحرص واحترام منهج القانون اكتر من غيرهم، لا أن تكون موجبا لتقرير حماية في مواجهة النص القانوني، وإذا ما خرجوا عن حدود القانون، فان الأمر يستدعى تشديد العقاب، لا الحماية في مواجهة إعمال النص القانوني، إذ أن سهولة ارتكاب الجريمة لبعض الفئات قد تكون علة تشريعية لتشديد العقوبة، وتكون موجبا لخلع الحماية، وربما ثوب الوظيفة نهائيا.
ومن هنا، فانه إذا ما قرر قانون ما الحصانة لضباط الشرطة، والتي تحول دون إمكانية تحريك ورفع الدعوى بشأن الجرائم التي ترتكب أثناء الوظيفة وبمناسبتها قبل الحصول على إذن من الرجل الأول المسئول عن الأمن في البلاد (كأمين الأمن العام في ليبيا) فان ذلك يضعف من الحماية الجنائية المقررة بتجريم التعذيب والقبض على الأفراد بغير وجه حق وانتهاك حرمة المنازل من رجال الأمن خارج إطار القانون. وعدم إمكانية تحريك الدعوى الجنائية ورفعها في مواجهة الوزراء في الدول الأخرى، أو المختارين من مؤتمر الشعب العام في ليبيا، أو مستخدمي المؤسسات الكبرى العامة كمصرف ليبيا المركزي يضعف إلى حد بعيد من الحماية الجنائية للمال العام، ومن هنا فان محاولات أي مشرع في أي دولة بشأن حماية المال العام بالتوسع في التجريم والتشدد في العقاب لن تكون فعالة متى توسع في الحصانة الإجرائية لمن هم أكثر قدرة على اختلاس المال العام. فالحصانة الإجرائية تجعل من تفعيل النصوص القانونية معلقا على إرادة جهة غير قضائية تفتقد للاستقلال اللازم لإعمال القانون، مع قابليتها للتأثر باعتبارات الواقع السياسي والاجتماعي، بالمعنى السلبي، أكثر من تأثر الجهات القضائية. فإناطة تحريك الدعوى الجنائية في جريمة كجريمة التعذيب أو القبض بغير وجه حق يرتكبها ضابط الشرطة أثناء عمله بإرادة المسؤول عن الأمن العام الذي هو جزء من التنظيم السياسي يقلل من صدق مقولة أن القاضي هو الحارس الطبيعي للحريات في النظام القانوني، كما انه ليس هناك ما يمنع أن يكون التعذيب الذي يمارسه ضباط الشرطة هو بناء على سياسة ممنهجة يقوم عليها المسؤولون عن الأمن في الدولة يرفض بموجبها إعطاء الإذن، الأمر الذي يؤدى إلى إفلات مجرمين من العقاب بالحماية من الجهات التنفيذية أو الإدارية في مواجهة السلطات القضائية.
لهذا فان المشرع الليبي عندما تدخل بقوانين استثنائية كقانون محكمة الشعب رقم (5) لسنة 1988 نص في مادته التاسعة عشر على انه لا يتوقف إقامة الدعوى التي تختص بالفصل فيها محكمة الشعب على إذن لإعطاء فاعلية لمكافحة الجرائم الداخلة في اختصاص محكمة الشعب إلا انه تراجع عن ذلك بشكل تدريجي. ففي القانون رقم (8) لسنة 1991 عدل المادة التاسعة عشر من القانون السابق بان نص على انه لا يجوز في غير حالات التلبس القبض على أعضاء محكمة الشعب ومكتب الادعاء الشعبي إلا بعد الحصول على إذن من أمانة مؤتمر الشعب العام، وبالقانون رقم (7) لسنة 1426م عاد واشترط لتحريك الدعوى الجنائية ورفعها في مواجهة الهيأت القضائية والمختارين شعبيا من مؤتمر الشعب العام الحصول على إذن. وإذا كان هناك من ايجابيات في أيلولة الصلاحيات والاختصاصات التي كانت مسندة إلى محكمة الشعب ومكتب الادعاء الشعبي إلى النيابات المتخصصة بالمادة الثانية من القانون رقم (7) بشأن إلغاء محكمة الشعب فان من ضمنها الحد من القيود الواردة على سلطة التحقيق في تحريك الدعاوى الجنائية بشأن الجرائم التي كانت من اختصاص محكمة الشعب، والتي منها ما يتعلق بالحريات العامة وحماية المال العام.
وعندما جاء في القانون رقم (3) بشأن قانون من أين لك هذا؟ نص في مادته السابعة على انه لا يتوقف رفع الدعوى الجنائية عن الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون على أذن أو طلب أو شكوى، نفس الأمر أورده في نص المادة الثامنة عشرة من قانون التطهير رقم (10) لسنة 1423م، الأمر الذي يعنى إدراك المشرع إلى إشكالية الحصانة الإجرائية وتأثيرها في العلاقة بين الوسيلة(القانون) والغاية (فاعلية مكافحة الجريمة).
إلا أن ما يمكن ملاحظته أن المشرع لا يخرج عن الحصانة المقررة في التشريع الليبي إلا في ظل قوانين استثنائية، مع اتجاهه إلى التوسع في إقرارها في القوانين العادية، ونرى أن المطلوب هو الاتجاه إلى التوسع في إلغائها في مختلف جوانب القانون في ظل موازنة يتطلبها إلغاء الحصانة الإجرائية بالنسبة لبعض القائمين بوظائف يمكن أن توصف بأنها حساسة.
كما الحصانة قد تجعل من أشخاص يتولون وظائف أو يستمرون فيها غير مؤهلين لتوليها أو الاستمرار فيها لو تمت محاكمتهم. وفي ذلك بالغ الأثر على المصلحة العامة، كأن يستمر قاضي أو عضو نيابة أو ضابط شرطة أو أمين لجنة شعبية عامة في ممارسة عمله مع كونه من ناحية فعليه قام بارتكاب الفعل، و كل ما حال دون تحوله إلى متهم ثم إلى محكوم عليه هو عدم رفع الحصانة عنه، خاصة وان الحصانة القضائية وتلك المقررة للمختارين من مؤتمر الشعب العام لا تقتصر على الجرائم التي بينها وبين الوظيفة علاقة سببية، لأنه قد يكون من العقوبات التبعية في حالة الإدانة العزل من الوظيفة، أو عدم أهلية تولى الوظائف العامة، مما يعنى أن الحصانة قد تساعد في أن تدار الدولة من قبل أشخاص هم في حقيقة الأمر مجرمون، إلا أن ما منع من اتصافهم بهذه الصفة قانونا هو عدم وجود حكم محكمة، لان الدعوى لم تحرك و لم تدخل حوزة المحكمة لعدم رفع الحصانة.
ومن هنا فان الحصانة الإجرائية قد تؤدى إلى إطالة عمر الفاسدين في الوظائف والمناصب العامة، وعدم وجودها يتيح الفرصة لمحاكمتهم، ما يفضي في حالة إدانتهم إلى تجنب استمرارهم في الوظيفة، وبالتالي إعطاء فاعلية اكبر لمكافحة الفساد، مما يعني أن الحصانة، وخاصة في الأنظمة التي تتوسع في إقرارها، تعتبر معوقا من معوقات مكافحة الفساد، وربما لو كان هناك جهاز اتهام يتصف بالفاعلية في ليبيا، ولم تكن هناك حصانة، لأمكن تجنب كثير من صور الفساد في ليبيا، دون الحاجة للدخول في أنظمة إجرائية جنائية استثنائية، كالتي دخلها المشرع الليبي دون أن تؤتى النتائج التي وضعت لبلوغها.
وبناء على ذلك، فان الحصانة يمكن أن تكون حصنا لتعسف السلطة من قبل الأقوياء في المجتمع الذين لديهم القدرة على ارتكاب الجرائم الأكثر ضررا بالمصالح العامة، والذين هم اكتر قدرة على الاختلاس، فحماية المال العام تستوجب رفع الحصانة، والحماية ضد التعذيب تستوجب رفع الحصانة على من يمكن أن يصدر منه التعذيب، وإلا فقد تجريم الفعل بعض من فاعليته. ومن هنا، وعلى منوال ما يجرى على المستوى الدولي، يجب أن لا يكون لأحد حصانة، خاصة عندما يتعلق الأمر بالجرائم الجسيمة الضارة بالمصالح الأساسية للدولة، ومنها موجبات حماية الحقوق والحريات والمال العام.
وبناء على ما سبق، يبدو لنا أن ما ينطوي علية نظام الحصانة من سلبيات أكثر من الايجابيات، خاصة أن المشرع الليبي لم يراع الطابع الاستثنائي للحصانة، وانه من الأجدر البحت عن بدائل لنظام الحصانة المعمول به حاليا في القوانين الليبية، وانه في حالة عدم تبنى اتجاه الإلغاء فإنها يجب أن يكون وجود الحصانة في أضيق نطاق، وأن تحاط بتدابير تمنع تحولها إلى غطاء لارتكاب الجرائم، وتزيل ما يعرقل الكشف عن الأدلة وحفظها، وان يكون قرار رفض منح الإذن مسببا، على أن يضبط بمعيار زمني دقيق، وان لا تمتد إلا إلى الأعمال التي ترتبط بالوظيفة بعلاقة السببية، وان تزول بانتهاء فترة الوظيفة، وان كنا نفضل الأخذ باتجاه الفقه الإسلامي في هذا المجال القائم في مجمله على رفض الحصانة، لا لأنه فقه إسلامي، وإنما لأنه أكثر نفعية للنظام القانوني، ولان موازنة المصلحة المتأتية من نظام الحصانة الإجرائية والمصلحة المتأتية من إلغائها في ظل واقع المجتمع الليبي الحالي نعتقد انه يظهر بوضوح أن المصلحة الثانية هي المصلحة الآولى بالرعاية. خاصة وان الوسط الاجتماعي، في وضعه الحالي، في حاجة لكل ما من شأنه أن يرفع درجة الشعور بالعدالة، بالخروج من حالة التستر على ما قد يرتكب من جرائم من قبل النافذين فئ الدولة، ويزيد، ولو بقدر، من ضمانات فاعلية الحماية الجنائية، مع إمكانية إيجاد بدائل منها على سبيل المثال لا الحصر : إعطاء ضمانات لممارسي بعض الوظائف ومتقلدي بعض المناصب باشتراط أن يتولى التحقيق قاضى تحقيق من درجة معينة أعلى من درجة القاضي المتهم أو عضو النيابة المتهم، أو الاكتفاء باشتراط أن يأذن النائب العام أو المحامي العام بتحريك الدعوى عندما يتعلق الأمر بضباط الشرطة، وبالتالي يكون تقيد الدعوى من داخل النيابة العامة، ولا تخضع سلطتها في تحريك الدعوى لإرادة من خارجها سواء كانت الجهة جهة إدارية أو تنفيذية، أو إنشاء محكمة متخصصة لمحاكمة الأمناء، كما في النظام الفرنسي بالنسبة للوزراء، دون تقيد رفع الدعوى بشأنهم على إرادة أمانة مؤتمر الشعب العام.
يلاحظ أخيرا، أنه إذا رجعنا إلى القانون الدولي والقوانين المقارنة نجد أن هناك اتجاه إلى الحد من هذه الحصانة بما فيها الحصانة الدبلوماسية في شأن عدة جرائم يختلف مداها من قانون إلى أخر، ومن أهمها الجرائم ضد الإنسانية وجرائم التعذيب وجرائم الإبادة الجماعية، وهذا ما يبدو انه يشكل بداية الطريق للخروج من هدا النظام الذي بني في أساس وجوده على أفكار طبقية (كما في القانون الروماني والقوانين السابقة للثورة الفرنسية)، ثم اوجد له مناصروه أفكارا أخرى تجد أساسها في نظام الدولة الحديثة.
ولعل مثال نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية يوضح التغير الذي طرأ على الحصانة، والذي قد يعطي مؤشرات عن مستقبلها على المستويين الوطني والدولي، حيت أن المادة 27 منه تنص على أن هذا النظام الأساسي يطبق على جميع الأشخاص بصورة متساوية دون تمييز بسبب الصفة الرسمية والحصانات المقررة في القوانين الإجرائية الخاصة التي قد ترتبط بالصفة الرسمية للشخص، سواء في إطار القوانين الوطنية أو الدولية. وبالنظر إلى نظام المحكمة الجنائية الدولية، فان الإسراف في الحصانات في القانون الداخلي يمكن أن يجعل السلطات القضائية غير قادرة على ملاحقة ومحاكمة بعض مرتكبي الجرائم الخطيرة، مما يفتح الباب أمام القضاء الدولي بشأن جرائم ترتكب على الإقليم الوطني، وهذا ما نعتقد أنه سبب من الأسباب التي سمحت بما حدث في السودان مؤخرا.
اترك تعليقاً