الحياة ممكنة بدون دستور
يمكن للدول أن تعيش بدون دستور مكتوب. ولا يمكن لأى جمعية تأسيسية أن تضع دستورا ضد العدل، أو تكافؤ الفرص، أو الحريات العامة والخاصة، حتى لو كانت هذه الجمعية تضم من يعتبرون الديمقراطية وثنا، والحرية فسادا. فمثل هؤلاء ترشحوا وانخرطوا فى عمل سياسى لا يعرف غير المصالح.
بالرغم من أننا لم نكتب دستورا، ركزنا الاهتمام على حكم المحكمة الدستورية العليا فى قانون العزل وقانون انتخاب مجلسى الشعب والشورى. بالرغم من عدم وجود دستور مكتوب، وكل ما نملكه إعلان دستورى ناقص. والمحكمة الدستورية العليا هى من يقرر دستورية أو عدم دستورية ما يصدر من قوانين، ولديها المبادئ الدستورية التى تقيس عليها وتقرر استمرار أو إلغاء القوانين. سواء كان لدينا دستور أم لا. ومهما كانت المواقف والأفكار، فإن هذا يشير إلى أن مصر لديها تراث من المبادئ الدستورية يمكن بها إدارة المرحلة الانتقالية.
نقول هذا بمناسبة الجدل الدائر الآن، حول الجمعية التأسيسية المشوهة التى تم تشكيلها مرتين، وتكاد تواجه نفس الفشل للمرة الثانية..كما أن قانون انتخابات مجلس الشعب، كان واضحا أنه يخل بتكافؤ الفرص بين المرشحين عندما أصرت الأحزاب على الجمع بين الترشح على القائمة والمقاعد الفردية، بالرغم من أن الانتخابات بالقائمة ألغيت مرتين عامى 1984 و1987 لنفس السبب لأنها حرمت المستقلين من المساواة. وقلنا يومها إن هذه الخطوة ضد المبادئ الدستورية. ونفس الأمر فى العزل الذى تباطأ مجلس الشعب فى إصداره، ولما أصدره كان يفتقد لقواعد المساواة.
هناك قواعد عامة مجردة تحكم العمل السياسى والإدارى حتى لو لم تكن مكتوبة، ولا يمكن الخروج عنها، وهناك دول مثل بريطانيا ليس لديها دستور ولا قوانين مكتوبة، وتحكم بما يسمى العرف الدستورى والقانونى. وفى حالة الخلاف حول أى من المبادئ، يردونها للمحكمة التى تقرر ويكون حكمها ملزما لكل الأطراف. ومن هنا تأتى أهمية المطالبة بقضاء مستقل بعيدا عن مناورات السياسة وفساد المصالح.
الحياة ممكنة فى ظل مبادئ دستورية بشرط أن يبتعد القضاء عن الأهواء والتدخلات من أى سلطة، ولا نقصد فقط السلطة السياسية، وإنما أى سلطة حتى لو كانت سلطة الرأى العام. أو سلطة الجماعات والانتماءات الخاصة والعامة للقضاة. وقد شهدنا خلال الأيام الأخيرة حروبا كان القضاء طرفا فيها، وبدت الفواصل بين السلطات غائبة، ورأينا تعليقا على أحكام القضاء داخل مجلس الشعب، وبيانات من القضاة ضد تدخلات البرلمان، وتدخلات للانتماءات الحزبية والسياسية ضمن الآراء المعروضة فى أحكام قضائية أو مبادئ دستورية.
القضاء وحده يمكنه تصحيح انحرافات السلطات الأخرى، وهو الضمان الأهم لفاعلية أى دستور محتمل، لأن التجارب تؤكد أن الدساتير يمكن اختراقها والتلاعب فيها، ويظل القضاء هو القادر على تصحيح الوضع.
الحياة ممكنة بدون دستور، لكن القضاء المستقل العادل لا بديل له.
اترك تعليقاً