الدعوى المدنية أمامَ القاضي الجزائيّ
القاضي أحمد الأشقر
قاضي محكمة صلح رام الله
إنّ من الثابتِ الذي لا يقبلُ التأويل أنّ الأصل في نظر المنازعات المدنية منوطٌ بالمحكمةِ المدنية دون سواها، ولقد أوردَ المشرعُ استثناءً على هذه القاعدة يقضي بتخويلِ المحكمة الجزائية صلاحيةَ النظر في الدعوى المدنيةِ تبعاً للدعوى للجزائية المنظورة أمامها، وقد نظمّ قانون الاجراءات الجزائية النافذ أحكامَ نظر الدعوى المدنية أمام القاضي الجزائيّ بجملةٍ من المواد المتعلقة بهذا الشأن، ومنها المادة (11) التي تنصُ على أنّه ” يبقى الادعاء بالحق المدني من اختصاص المحكمة المنظور أمامها الدعوى الجزائية وإذا كانت الدعوى الجزائية لم ترفع يكون الاختصاص بالدعوى المدنية للمحكمة المدنية المختصة” وقد أحال المشرع الأحكام التنظيمية والاجرائية في طريقة البت في الدعوى المدنية أمام القاضي الجزائي إلى ما تمليه أحكام قانون البينات في المواد المدنية والتجارية وذلك وفق صريح المادة ة (210) من قانون الاجراءات الجائية النافذ والتي نصت على” 1- تلتزم المحكمة بتطبيق أحكام قانون البينات في المواد المدنية والتجارية على دعوى الحق المدني التي تنظر فيها تبعاً للدعوى الجزائية.2- تتبع في نظر دعوى الحق المدني من حيث الإجراءات القواعد التي يقررها هذا القانون.”
والسؤال الملّحُ في هذا الجانب، يقومُ على أساس فهم مقصدِ المشرع من منح هذه الصلاحية للمحاكم المدنية خروجاً عن القاعدةِ الأصل، لماذا أباحَ المشرّع للمحكمة الجزائية أن تتصدى للدعوى المدنية خارج حدود اختصاصها الأصيل ؟؟
إن محاولة الاجابة عن هذا التساؤل لا يُقصد منها الترف الفقهيّ أو الاجتهاد العبثيّ بقدر ما تؤسس هذه الاجابة لفضاء من الجدل البنّاء حول حدود اختصاص القاضي الجزائي في نظر الدعوى المدنية كي لا يراوحُ القاضي الجزائيُّ مكانَه بين التوسع أو التضييق في ممارسته لحدود هذا الاختصاص الاستثنائي .
إنّ مقاصدَ المشرع يجبُ أن تكون بوصلةُ القاضي التي لا تخطئُ في سبيل أدائِه رسالته القضائية بالصورة الفضلى، دون تزيّدٍ أو انتقاص، وقد استقرّ الاجتهادُ القضائيُّ المقارنُ في على مسائل بهذا الشأن أهمها :
1- إنّ اختصاص القاضي الجزائي الاستثنائيّ بنظر الدعوى المدنية تبعا للدعوى الجزائية يهدف إلى جبر الضرر الناشئ عن الجريمة في حال ثبوتها، وأمام ذات القاضي الذي يحكم بالإدانة والمتبصر في وقائعها واعياً ونافداً ، لأنّ ” الأصلُ في دعاوى الحقوق المدنية التي ترفع استثناء إلى المحاكم الجزائية بطريق التبعية للدعوى الجنائية، أن يكون الحق المدعى به ناشئاً عن ضرر للمدعى من الجريمة المرفوعة بها الدعوى (أنظر الطعن رقم 60248 / 59 نقض مصرية ) ومؤدى ذلك، أنّه إذا كان قد أجيز للمدعى بالحقوق المدنية أن يطالب بتعويض عما لحقه من ضرر أمام المحكمة الجزائية فإن هذه الإجازة ما هي إلا استثناء من أصلين مقررين حاصل أولهما أن المطالبة بمثل هذه الحقوق إنما تكون أمام المحاكم المدنية ، والثاني أنّ تحريك الدعوى الجزائية إنما هو حق تمارسه النيابة العامة وحدها، ومن ثم يتعيّن عدم التوسع في الاستثناء المذكور وقصره على الحالة التي يتوافر فيها الشرط الذى قصد الشارع أن يجعل الالتجاء إليه فيها منوطاً بتوافره، وهو أن يكون المدعى بالحق المدني قد أصابه ضرر شخصي مباشر من الجريمة.
2- إذا لم يكن الضرر الذى لحق بالمدعي ناشئاً عنا الجريمة سقطت تلك الإباحة الاستثنائية للقاضي الجزائي بنظر الدعوى المدنية وسقط معها اختصاص المحكمة الجزائية بنظر الدعوى المدنية، مما يقود إلى القول أن الحكم بعدم الاختصاص هو الأقرب للقانون من الحكم برد الدعوى المدنية كما هو دارج في أحكامنا الجزائية في فلسطين، ذلك أنّ الرد قد يحمل معنى نفي حق المدعي المدني برفع دعواه أمام محكمة مدنية، لأن الحكم الصادر من القاضي وهذه الحالة يكون صادرا عن هيئة قضائية غير مختصة وفقا لمقاصد المشرع.
3- لا تثريب على الحكم القاضي بالتعويض المدني الصادر عن القاضي الجزائي إن لم يبين عناصر الضرر الذى قدر على أساسه مبلغ التعويض، إلا أنّ ذلك مشروط بأن يكون الحكم قد أحاط بأركان المسئولية التقصيرية من خطأ وضرر وعلاقة سببية وأن يكون ما أورده في هذا الخصوص مؤدياً إلى النتيجة التي انتهى إليها في التجريم والتعويض .
4- في حال الحكم بالبراءة في دعوى جزائية ملحقة بها دعوى مدنية ، فيجب أن يشتمل الحكم على أسباب الحكم بالبراءة ذلك لأن أحكام البراءة المستندة إلى كون ” الفعل لا يؤلف جرما ” لا تنفي حق المدعي بالحق المدني للمطالبة بالتعويض أمام المحاكم المدنية وهذا ما جاء به صريح المادة (390/3) والتي نصت على انه ” لا يكون للحكم بالبراءة هذه القوة إذا كان مبنياً على أن الفعل لا يعاقب عليه القانون” وهذا ما استقر عليه قضاء محكمة النقض الفلسطينية في حكم محكمة النقض المنعقدة في غزة في الدعوى الحقوقية رقم 40 لسنة 2004 والذي جاء فيه ”
“الحكم الجنائي الصادر بالبراءة إذا كان مبنياً على أن الفعل لا يعاقب عليه القانون سواء لانتفاء القصد الجنائي أو لسبب آخر لا تكون له حجة أمام القضاء المدني، وبالتالي لا يمتنع على المحكمة من البحث فيما إذا كان هذا الفعل مع تجرده من صفة الجريمة نشأ عنه ضرر يصح أن يكون أساساً للتعويض”
5- إذا أقيمت الدعوى المدنية تبعا للدعوى الجزائية فإن القاضي الجزائي ملزم بالفصل بالدعويين بحكم واحـد وليس للمحكمـة الجزائية أن تفصل في إحداهما وتؤجل البت في الثانيـة وإلا كان حكمهـا في الدعوى المدنية بعد ذلك باطلا لصدوره في وقت فقدت فيه المحكمـة ولايتهـا في النظر في الدعوى المدنية طالما ان الدعوى العامة لم تعد قائمة أمامها (أنظر تمييز أردنية رقم 1996 / 610 )
6- ان الالتزام بالتعويض عن الضرر الناشئ عن الجريمة تحكمه نصوص قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجزائية وقانون البينات والأصول المدنية، وهو يشمل الضرر المادي والضرر المعنوي ومصاريف المعالجة أو بدل التعطيل، والضرر المادي هو كل ضرر يخل بمصلحة المضرور ذات القيمة المادية، وتتبع في الاثبات في الدعوى المدنية المقامة تبعا لدعوى الحق العام قواعد الاثبات الخاصة بالدعوى المدنية ويتوجب على المدعي بالحق الشخصي تقديم البينة لإثبات هذا الحق، ويجب أن يؤسس القاضي الجزائي حكمه في التعويض على ضوء البينات الثابتة وليس على مجرد التقدير الناتج عن حرية الإثبات في المواد الجزائية.
أخيرا ،، ولمّا كانت الدعوى الجزائية هي الأصل والدعوى المدنية هي الفرع، ولمّا كان من الثابت أنّ الدعوى المدنية تدور مع الدعوى الجزائية وجودا وعدما، فإن الدعوى المدنية التي تقام تبعا لدعوى الحق العام لدى القاضي الجزائية تكون تابعة لطرق الطعن المقررة لدعوى الحق العام في قانون الإجراءات الجزائية وهذا ما استقر عليه قضاء محكمة التمييز الأردنية ( أنظر الطعن 1979 / 70).
اترك تعليقاً