القانون الجنائي وظاهرة الفساد الإداري
هل يمكن اختزال أهمية قضايا الشأن العام في تطهيره هذا المجال الأخير من ظاهرة الفساد الإداري؟بل ما هو الفساد الإداري، ومضمونه وتجلياته؟ هل هو فساد إدارة كمؤسسات أم فساد مسؤولين كأشخاص ذاتيين يتخذون قرارات؟ أم فساد منفذين، أي انحراف على مستوى تطبيق القرارات؟
من البديهي أن نقول أو نذكر بأن المسؤولية الجنائية مسؤولية شخصية، ومع ذلك لا يحرجنا الحديث عن المسؤولية الجنائية حتى على مستوى الشخص المعنوي العام. ويجب أن نعترف أن مثل هذا الحديث، إنما هو ضرب من النفاق القانوني ـ إن صحت هذه العبارة ـ فالمسؤولية الجنائية للشخص المعنوي، يكاد لا وجود لها ـ حتى أبقى متفائلا ـ
الفساد، فساد أشخاص ذاتيين، وفساد الإدارة قد يختزل في فساد الموظفين. أما القانون الجنائي، فيتعامل مع الفساد بتسميات مختلفة كانحراف على مستوى السلوك. والسلوك الإجرامي مصدره الإنسان: فلا يمكن القول «القضاء مرتش»، «الضابطة القضائية متعسفة في الاعتقال» فالمسؤولية الجنائية تقع مع القاضي أو على الضابط في حالة ثبوت ارتكابهما للفعل الجرمي.
وبنظرنا المتواضع، لابد من فصل الدولة بما ترمز له وتسمو به من قيم عن الأشخاص الذاتيين، إذ تأتمنهم على سلطاتها الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية. وكما يدل الائتمان على الثقة، فهو يحتمل الخيانة، وبذلك ربطت المسؤولية بالمحاسبة خاصة في مجال الشأن العام.
مع ذلك، يبقى التساؤل المحوري، لماذا هذا الحضور القوي للقانون الجنائي ـ ونقصد به التشريع بداهةـ؟ حضور قوي في كل المجالات، سواء ذات الأهمية (الأمن والاستقرار وحقوق الإنسان والمال العام ـ والاقتصاد الوطني…) أو ذات الأهمية الأقل (الإيذاء الخفيف ـ السب والشتم…).
قد نصطدم بنوع من التناقض عندما نستحضر فكرة دولة القانون ـ وإن كنا نفضل دولة الحق لأسباب ليس هذا موضوعها ـ، بمقتضاها يصبح القانون فوق الجميع والجميع سواء أمامه. ومع ذلك، يأتي القانون الجنائي ليكرس حماية مدعمة لمؤتمني الدولة، بحيث يمكن أن نلمس في روحه امتيازا واضحا لهؤلاء: ففي علاقة المؤتمن على السلطة بالمواطن، لا يمكن مواجهة الأول، بحيث قد يكيف أي فعل تافه بإهانته كموظف.
الواقع أن هناك خلطا بين فكرة الدولة كمجسد لقيم المجتمع ومفهوم الائتمان على السلطة العامة، بحيث يدفع هذا الخلط إلى الارتقاء بالمؤتمن على السلطة إلى درجة «مجسد للدولة»، وهذا خطأ في منظور القانون الجنائي. ولعل الأمر هنا يفرز «أزمة تكييف» وليس فقط مسألة تطوير التشريع أو تحديثه.
من جهة أخرى، هناك ما يسمى بظاهرة تضخم التشريع الجنائي، وهو في حقيقته تشتت أفقده هويته، بحيث أصبح تائها بين هيمنة الجانب الزجري (المنافق) والتورط في الانفتاح على مجالات تقنية أكثر تعقيدا ـ التكنولوجيا الحديثة… ـ ولعل التجربة أبانت لكل الدول بأن الإكثار من الزجر أو المراهنة عليه لوحده، إنما ساهم وبشكل كبير في إنقاص فاعلية تطبيق القانون الجنائي.
إذن هناك إشكالية على مستوى المنهجية الجنائية التي ينبغي اعتمادها لمقاربة قضايا المجتمع، أهمها قضايا الشأن العام، ما دام الحديث عن الفساد الإداري.
الشأن العام، ما هو؟ هل هو الدولة أم المؤسسات التي تتفرع عنها، حتى لا أقول تدخل ضمن مكوناتها؟ أو ما يتفرع عن هذه المؤسسات بتسميات بنظرنا معيبة (مؤسسة عمومية، مقاولة عمومية، شركة وطنية…)، وقد نصل إلى كل ما تحضر فيه الدولة إما بمراقبتها أو بمساعداتها؟
بنظرنا المتواضع يصعب اليوم أن نحدد مفهوم الشأن العام خصوصا في المغرب.
هناك جلالة الملك، بمبادرات قوية ومشاريع ضخمة، وأوراش إصلاحية كبرى، بل مشروع مجتمعي كامل، منسجم ومتناغم، يؤكد العلاقة الأصلية التي تربط الملك بشعبه. يقابله ضعف على مستوى الأداء الحكومي، ومنذ بداية العهد الجديد، فهل هو مشكل ظرفي مرتبط بتمام تنزيل مقتضيات الدستور الجديد أو مشكل نخبة أو نخب؟!
الشأن العام أيضا مرتبط بفكرة المصلحة العامة، وبنظرنا المتواضع هي فكرة أريد لها أن تضحى غامضة شأنها شأن فكرة النظام العام ـ مهما اجتهد المجتهدون في بذل مجهوداتهم.
لماذا هذا الغموض؟ هل هو نتيجة مقصودة تقف وراءها عبقرية، أم عجز واضح على مستوى تصور المفاهيم وتدقيقها. ولن أنتظر طويلا لكي أعترف للقانون الجنائي بأنه المصلحة العامة نفسها ـ في حالة تجردنا من أفكار مبتذلة ـ، لأنه بكل بساطة نظام قانوني مهمته الأساسية تكريس القيم المجتمعية، به تضمن الدولة لنفسها الوجود، وبمقتضياته تحمى الحقوق وتضمن الحريات.
وبالرجوع إلى الدولة، فهي غير مساءلة جنائيا لأنها تملك حق العقاب، لكنها مسائلة للمؤتمن على سلطاتها سياسيا وقانونيا.
فماذا عن السلطة العامة محور المساءلة الجنائية؟
السلطة العامة بنظرنا المتواضع تدبير، والتدبير قرارات تتخذ، والقرارات تحسم في قضايا، والقضايا مجموعة مصالح، وتناقض المصالح هو الذي يولد ضرورة القانون، وضرورة القانون هي التي تقف وراء شرعية السلطة العامة، والسلطة العامة يؤتمن أشخاص على تصريفها، وهم مساءلون عن ذلك بخلاف الدولة التي يجسد سموها دستوريا جلالة الملك ويضمن حمايتها.
إذن الوزير، البرلماني، رجل السلطة والمنتخب الجماعي مؤتمنون على تدبير الشأن العام، سواء على المستوى الوطني أو على المستوى المحلي، وسواء كانوا معينين أو منتخبين، فكلهم يتخذون قرارات مهمة وقد تكون مصيرية.
السلطة العامة، مؤسسات، مجالات، اختصاصات تحتمل التداخل، بل التدخل، بمعنى آخر أين يبدأ السياسي وأين ينتهي؟ بل ما هو السياسي؟ “فن الممكن” كما يقال، كلام فضفاض…وهل هناك مسؤولية سياسية؟ ما هي؟ وما علاقتها بالمسؤولية القانونية؟، بل لماذا تتعدد المسؤولية القانونية، ويراد للمسؤولية السياسية الإطلاق وعدم الوضوح! من يسائل من؟ (ثلاثية “دولة – مجتمع – مواطن” وثنائية “قانون – مؤسسات”) هنا نصل إلى عمق الإشكال:
ما هي الدولة؟ أم على الأقل، ماذا نقصد بهذا المصطلح؟ قد نجد تعاريف متعددة، واجتهادات تصل إلى حد التكلف، لكن الغائب دائما هو الوضوح، بل الإقناع وحصول الاقتناع. لماذا دائما القانون الجنائي؟ هل هو ضرورة؟
بل كيف نستطيع أن نخرج الشأن العام، وما يعانيه من فساد، من واقع اللاعقاب إلى منطق المساءلة؟ ما هي مجالات المساءلة؟ أساسها؟ مضمونها؟ وحدودها؟ ما هي شروطها الموضوعية، القانونية والسياسية؟ بل ما هي الطريقة الأسلم لحماية الشأن العام؟ أسئلة كثيرة، في حاجة إلى نقاش ملتزم ومسؤول.
ومع ذلك نذكر بأن:
– القانون ضرورة لابد أن يستشعرها المسؤول قبل المواطن.
– القانون تعبير عن واقع في حاجة إلى تنظيم وليس العكس.
– القانون أداة لبلوغ الهدف وليس الهدف في حد ذاته.
– القانون وعي بالطبيعة المتناقضة للحياة المجتمعية.
– القانون خطاب يبحث عن إقناع.
– القانون تصور يرشد إلى حلول.
– القانون اجتهاد أمله تحسين الواقع.
وحتى لا نخطئ في حق القانون الجنائي ونرمي به في عزلة يكرهها، نقول بل نؤكد أن له وظيفة أسمى من الردع والزجر، وظيفة اجتماعية وإنسانية تحاول أن ترسم للمجتمع منظومة قيم بقدر ما تتفهم نقط ضعفه فهي تستثمر في نقط قوته ليتحقق له التماسك ويطرد عنه أهم مظاهر الاختلال.
من منا ينكر أن أصل ظاهرة الفساد الإداري، بل جوهرها إشكالية اخلاقية، وبنظرنا المتواضع لا يمكن مواجهتها سوى بفكرة لن نمل من الدفاع عنها: وهي أن القانون الجنائي، هو الأداة الأضمن لتكريس القيم، وكلما وقع تحميل نصوصه بهذه الفكرة كلما استطاع أن يرشد إلى حلول ويحسن من واقع أرهقه الاستماع إلى شعار تطهير الحياة العامة.
الدكتور فريد السموني, أستاذ التعليم العالي
اترك تعليقاً