المصطلحات التي تعبر عن الانحراف في استعمال السلطة
المؤلف : حسن خالد محمد الفليت
الكتاب أو المصدر : الانحراف في استعمال السلطة واثره على القرار الاداري
تعددت التسميات التي أطلقها الفقه والقضاء للدلالة على انحراف الإدارة بسلطتها، وقد تباينت اراء الفقه حول المصطلح الأكثر دلاله على هذا العيب من غيره، وتفصيل ذلك على النحو الآتي :
أولا: موقف الفقه من المصطلحات التي تعبر عن الانحراف في استعمال السلطة .
تشعبت اراء الفقه في البحث عن أنسب التسميات للدلالة على عيب الانحراف الذي يصيب الغاية من القرار الإداري إلى عدة اتجاهات :
الاتجاه الأول: استخدم اصطلاح “إساءة استعمال السلطة”
يرى أنصار هذا الاتجاه أن أكثر المصطلحات دلالة على هذا العيب هو “إساءة استعمال السلطة”، لأن الإدارة إذا باشرت السلطة الممنوحة لها بقصد تحقيق غرض غير الذي قصده المشرع تكون قد أساءت استعمال سلطتها، ويكون قرارها غير مشروع إذا ما توافرت فيه نية سيئة لدى مصدر القرار الإداري(1).
الاتجاه الثاني : استخدم اصطلاح “الانحراف بالسلطة أو الانحراف في استعمال السلطة”
كان لهذا الاتجاه اعتراض على اصطلح “إساءة استعمال السلطة” باعتباره لا ينطبق إلا على حالة واحدة من حالات الانحراف بالسلطة تتحقق إذا أساء رجل الإدارة استعمال السلطة فقصد بها هدفا مجانب ا للمصلحة العامة، في حين أن اصطلح “الانحراف بالسلطة” أوسع مدى من ذلك، فهو يتسع ليشتمل على تلك الحالة كما لو انحرف مصدر القرار عن المصلحة العامة إضافة إلى حالة حسن النية عندما يهدف رجل الإدارة إلى مراعاة المصلحة العامة، ولكنه بالرغم من ذلك يخدم هدفا غير الذي اراده القانون(2) ، ومن ثم فإن عيب الانحراف بالسلطة يؤخذ به سواء أكانت ارادة مصدر القرار سيئة أم حسنة، أما إساءة استعمال السلطة فهو عيب يظهر فقط إذا ما كانت نية مصدر القرار سيئة(3). ويضيف هذا الاتجاه أن الانحراف في استعمال السلطة أقرب للدلالة على هذا العيب الذي ينصب أولا وأخيرا على الهدف من إصدار القرار الإداري(4)، ذلك أن جهة الإدارة هدفها في جميع الأحوال بما تملكه من سلطات هو تحقيق الصالح العام، وفي الوقت نفسه فإنها مقيدة بالقانون، وعليها التزام باحترام قواعده لحماية حقوق الأفراد وحرياتهم، ومن ثم فهي ملزمة بأن تكون غاية قراراتها متسقة مع الغاية التي يحددها القانون للقرار الإداري، وهي غاية تحقيق الصالح العام(5).
الاتجاه الثالث الجمع بين اصطلاحي “إساءة استعمال السلطة والانحراف بها” :
ذهب هذا الاتجاه إلى الجمع بين التسمية التي استخدمها الاتجاه الأول وهي “إساءة استعمال السلطة” والتسمية التي استخدمها الاتجاه الثاني وهي “الانحراف بالسلطة” وذلك حتى يصبح هذا العيب جامعا وشامل لجميع أوجه إساءة استعمال السلطة أو الانحراف بها عن غايتها(6)، إذ إن الإدارة ليست حرة في اختيار الغاية من تصرفاتها، بل يجب عليها أن تلتزم بالغرض الذي حدده لها المشرع، فإذا تجاوزت الإدارة هذا الهدف ولو كانت حسنة النية أصبحت قراراتها مشوبة بعيب الانحراف بالسلطة أو إساءة استعمالها(8). ذلك أن استخدام هذه التسمية يشمل جميع صور إساءة استعمال السلطة أو الانحراف بها، سواء كان ذلك عن قصد من الإدارة مصدرة القرار أو عن غير قصد منها(9) .
ثانيا: موقف القضاء من المصطلحات التي تعبر عن الانحراف في استعمال السلطة .
آثرت محكمة العدل العليا الفلسطينية استخدام أكثر من مصطلح للتعبير عن عيب الانحراف في استعمال السلطة، حيث أخذت باصطلح إساءة استعمال السلطة أحيانا، وأخذت باصطلح الانحراف في استعمال السلطة أحيانا أخرى، وفي بعض الأحيان ذهبت إلى الجمع بين الاصطلحين، ومن تطبيقات محكمة العدل العليا بهذا الخصوص أخذت المحكمة في حكم لها بمصطلح إساءة استعمال السلطة حيث جاء فيه : “أن المستدعي قدم طلب من أجل إحالته على التقاعد بدون إكراه أو ضغط من أية جهة، ولم يقم المستدعي بسحب الطلب، ولم يقدم أية بينة على سحب الطلب أو رفضه في الجهات المختصة، وبالتالي فإن القرار المطعون فيه قد جاء متفقا مع الأصول القانونية لأنه جاء بنا ء على رغبة المستدعي، كما أن المستدعي لم يقدم أية بينة على أن القرار المطعون فيه مشوب بعيب إساءة استعمال السلطة، أو أن هناك إجراء عقابي أو تأديبي اتخذ بحقه”(10).
وفي حكم آخر أخذت محكمة العدل العليا بمصطلح الانحراف في استعمال السلطة وهذا ما أكدته بقولها : “وحيث إن مبادئ العدالة تتطلب ألا يشارك رئيس البلدية مع اللجنة المحلية في إصدار الرخصة موضوع القرار المطعون فيه، وكان عليه أن يتنحى عن الاشتراك في جلسة إعطاء القرار بالرخصة باعتباره صاحب مصلحة ولأحد أقاربه، وبما أن إصدار الرخصة موقعة من رئيس البلدية فيه تحقيق مصلحة خاصة ومنفعة شخصية تعود عليه بصفته أحد المستفيدين، وفيه أيضا مصلحة شخصية تعود للغير، وهو أخيه المستفيد الثاني من موضوع الرخصة التي صدرت بموجب القرار المطعون فيه، فإن ذلك يعتبر أمرا غير مشروع، ويشكل انحرافا في استخدام السلطة”(11)
وفي قرار آخر ذهبت المحكمة إلى الجمع بين الاصطلحين للتعبير عن عيب الانحراف في استعمال السلطة، وذلك بقولها : “وحيث إن المستدعي قام بالإجراء المنسوب إليه وهو مختص بذلك بحكم ضرورة خضوعه لأوامر وتعليمات وقرارات رؤسائه، وحيث إن المرؤوس لا يملك حق التعقيب على قرار رئيسه، وبما أن هذا الذي أقدم عليه المستدعي لا يشكل في الأساس مخالفة لواجباته توجب أصل تشكيل لجنة للتحقيق معه، فإن القرار المطعون فيه يغدو والحالة هذه حريا بالإلغاء، لعدم استناده إلى أساس قانوني أو سبب يبرر إصداره، وهو بالتالي يكون صادرا بصورة يشوبها عيب إساءة استعمال السلطة والانحراف في استعمالها”(12). يتضح لنا من خلل استقراء الأحكام السابقة لمحكمة العدل العليا، أنها لم تتبن تسمية معينة للتعبير عن الانحراف في استعمال السلطة، وأنها اعتبرت أن كافة التسميات تعطي الدلالة نفسها وأن مضمونها واحد وان اختلفت ألفاظها.
ونحن من جانبنا نؤيد في هذا المقام اتجاه الفقه الذي استخدم اصطلح “الانحراف في استعمال السلطة” لأنه يتسم بالشمول في التعبير عن عيب الانحراف، فهو يعني البعد عن تحقيق الهدف من إصدار القرار، سواء تعلق الأمر بالانحراف عن المصلحة العامة، أو الهدف المخصص الذي حدده القانون لبعض القرارات الإدارية، ويتوافق مع طبيعة عيب الانحراف في استعمال السلطة، والذي لا يرتبط قيامه بالعمد وسوء النية، وانما يتصور وقوعه بحسن نية كما هو الحال بالنسبة للانحراف عن الهدف المخصص(13).
وبذلك نجد أن المشرع الفلسطيني قد أحسن صنعا في استخدامه لهذا الاصطلاح، والجدير بالذكر أن المشرع كان قد أضاف اصطلح التعسف إلى جانب الانحراف في استعمال السلطة للتعبير عن هذا العيب(14)، وهنا يثار التساؤل عما إذا كان عيب التعسف هو بذاته عيب الانحراف ، أم أنه عيب مستقل قائم بذاته؟ ذهب جانب من الفقه(15) إلى أن التعسف والانحراف في استعمال السلطة والذي يعتبر الوجه الرابع من أوجه الطعن في القرار الإداري، يشير إلى استعمال رجل الإدارة لسلطته التقديرية لغاية منافية لقصد الشارع، ويتحقق هذا العيب حتى لو التزم رجل الإدارة بذات الغاية المقصودة، إلا أن وسيلته في تحقيق ذلك لا تتناسب مع محل القرار المتمثلة في الوقائع المادية والقانونية مما يلحق بالقرار الغلو”، ويرى بأن إضافة المشرع لاصطلح التعسف إلى جانب الانحراف بالسلطة ضمن إطار عيب واحد، يمكن من خلله تغطية رقابة القضاء الإداري لجانب غلو الإدارة في التقدير والذي لا يتضمنه الانحراف بالسلطة منفردا.
وهذا الراي مردود عليه إذ إن القرار المشوب بالغلو هو قرار معيب، ولكن ليس لأنه أصيب بالغلو، وانما لأنه إذا أصيب بالغلو لا يكون محققا للغرض المشروع من القرار، ومعنى ذلك أن القضاء الإداري لا يلغي القرار لعدم التناسب أو الغلو، ولكنه يستند في إلغائه إلى عيب من عيوب تجاوز السلطة، وهو عيب الانحراف في استعمال السلطة، وذلك لعدم تحقيق المصلحة العامة من القرار، أما عدم التناسب أو الغلو فهو قرينه لإثبات هذا العيب(16). كما يرى جانب آخر أن العمل التعسفي هو عمل غير مشروع شأنه في ذلك شأن القرار المشوب بعيب الانحراف ، وبذلك يكون العيب في حالة الانحراف هو بذاته في حالة التعسف، لأن العمل الذي يرمي إلى هدف غير مشروع يستتبع مسؤولية من صدر عنه لأنه قد خالف القانون، ومن ثم يكون مجال الطعن بالإلغاء في حالة التعسف والانحراف واحدا (17) وبناء على ما سبق يبدو أن المشرع حينما أضاف التعسف إلى جانب الانحراف في استعمال السلطة قد أضفى على التعسف والانحراف دلالة واحدة منعا لأي تأويل حول دلالة التعسف، مما يعني أن عيب التعسف هو بذاته عيب الانحراف ، ولم يكن هناك فارق بينهما، وهو ما يستفاد من خلل صياغتها ضمن إطار عيب واحد.
وتأكيدا لذلك فقد اعتبر قضاء محكمة العدل العليا الفلسطينية أن الإدارة تكون منحرفة إذا ما استعملت سلطاتها استعمالا تعسفيا، حيث قررت المحكمة في هذا الشأن بقولها : “إن الإدارة وهي تقوم بوظيفتها إنما تتقيد بقواعد القانون والعدالة وهي في ذلك تخضع لرقابة القضاء الإداري الذي من حقه بل من واجبه أن يبحث القرار الإداري مستوحيا بذلك النصوص القانونية للنظر فيما إذا كان القرار الإداري قد جاء متفقا مع تلك النصوص صادرا في الحدود المرسومة له، فإذا تبين أن القرار قد جاء مشوبا بالانحراف عن القانون متسما بالتعسف على أحد المواطنين كان لزام إلغاء ذلك القرار فيما تضمنه من إجحاف”(18).
_________________
1- محمد رفعت عبد الوهاب وحسين عثمان، القضاء الإداري، الكتاب الثاني، دار النهضة العربية، القاهرة، 1997 م، ص 518 . محمد علي محمد عطا الله، الإثبات بالقرائن في القانون الإداري والشريعة الإسلامية، دراسة فقهية مقارنة، دار الفكر الجامعي، الإسكندرية، 2013 م، ص 646 . محمود محمد حافظ ، القضاء الإداري في القانون المصري والمقارن، دار النهضة العربية، القاهرة، 1993 م، ص 649 . محمود الجبوري، القضاء الإداري، دراسة مقارنة، الطبعة الأولى، دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان، 1998 م، ص109.
2- انظر في هذا الاتجاه : سليمان محمد الطماوي، نظرية التعسف في استعمال السلطة “الانحراف بالسلطة”، دراسة مقارنة، الطبعة الثالثة، مطبعة جامعة عين شمس، 1978 م، ص 66 . مصطفى أبو زيد فهمي، القضاء الإداري ومجلس الدولة، الجزء الأول، قضاء الإلغاء، منشأة المعارف للنشر، الإسكندرية، 1999 م، ص 815 . محمد أنور حمادة، القرارات الإدارية ورقابة القضاء، دار الفكر الجامعي، الإسكندرية، 2004 م، ص 141 . عمر محمد الشوبكي، القضاء الإداري، دراسة مقارنة، الطبعة الأولى، دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان، 2001 م، ص 353 . محمد عبد العال السناري، مبدأ المشروعية والرقابة على أعمال الإدارة في دولة الإمارات العربية المتحدة، دراسة مقارنة، مطبوعات جامعة الإمارات العربية المتحدة، 2000 م، ص 269
3- عمر عبد الرحمن البوريني، عيب الانحراف بالسلطة “ماهيته، أساسه، حالاته” في ضوء اجتهاد محكمة العدل العليا الأردنية، مجلة الحقوق، جامعة الكويت، العدد 4، السنة 31، 2007 ،ص404.
4- سليمان محمد الطماوي، نظرية التعسف في استعمال السلطة، مرجع سابق، ص 66
5- طارق فتح الله خضر، دعوى الإلغاء، دار النهضة العربية، القاهرة، 1997 م، ص 198
6- عبد الغني بسيوني عبد الله، القضاء الإداري، منشأة المعارف للنشر، الإسكندرية، 1996 م، ص 660.
7- إسماعيل البدوي، القضاء الإداري، دراسة مقارنة، الجزء الرابع، أسباب الطعن بالإلغاء، دار النهضة العربية، القاهرة، 1999 م، ص 241
8- نواف كنعان، القضاء الإداري، الطبعة الأولى، دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان، 2009 م، ص 308.
9- قرار محكمة العدل العليا الفلسطينية برام الله رقم 199/ 2011م جلسة 3/12/2012م ، غير منشور .
10- قرار محكمة العدل العليا الفلسطينية برام الله رقم 201/ 2008 م جلسة 23/2/2009 م غير منشور .
11- قرار محكمة العدل العليا الفلسطينية برام الله رقم 13/2002جلسة 6/4/2005 غير منشور .
12- عبد العزيز عبد المنعم خليفة، الانحراف بالسلطة كسبب لإلغاء القرار الإداري، دار الفكر الجامعي، الإسكندرية، 2010 م، ص 24.
13- راجع المادة (34/4) من قانون تشكيل المحاكم النظامية الفلسطيني رقم 5 لسنة 2001 م.
14- محمد عمر يونس النجار، فاعلية القرار التأديبي ومبدأ الضمان في فلسطين، دراسة مقارنة، رسالة دكتوراه، معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة، 2009 م، ص 469 . يقصد باصطلاح الغلو: عدم الملائمة الظاهرة أو عدم التناسب البين، أو التفاوت الصارخ بين خطورة المخالفة الإدارية وجسامة العقوبة الموقعة عنها، انظر في ذلك : يعقوب يوسف الحمادي، القضاء ومراقبة السلطة التقديرية للإدارة، دراسة مقارنة، منشأة المعارف للنشر، الإسكندرية، 2012 م، ص 246.
15- انظر في ذلك : سامي جمال الدين، قضاء الملاءمة والسلطة التقديرية للإدارة، دار النهضة العربية، القاهرة، 1992 م، ص 225 . عصام الدبس، القضاء الإداري ورقابية لأعمال الإدارة، دراسة مقارنة، الطبعة الأولى، دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان، 2010 م، ص 368.
16- انظر في ذلك : سليمان محمد الطماوي، نظرية التعسف في استعمال السلطة، مرجع سابق، ص 173.
17- قرار محكمة العدل العليا الفلسطينية بغزة رقم 112/1963م جلسة 29/4/1965م، مجموعة مختارة من قرارات محكمة العدل العليا، الجزء الثالث عشر، ص96.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً