الرشوة كجريمة من جرائم الإخلال بالثقة العامة
الجرائم الماسة بالثقة العامة هي تلك الجرائم التي يكون اقترافها مفضيا إلى زعزعة ثقة الأفراد بالدولة وهي نوعين :
1 – النوع الأول لا يرتكبه مبدئيا إلا الموظفون العموميون ومن في حكمهم و تضم الرشوة واستغلال النفوذ والاختلاس والغدر وتواطؤ الموظفين والشطط في استعمال السلطة وغيرها….
وهذا النوع هو الذي وصفه المشرع الجنائي المغربي بالجنايات والجنح التي يرتكبها الموظفون ضد النظام العام (المواد 233 إلى 262 من القانون الجنائي)
2 – النوع الثاني فيرتكبه الموظفون وغير الموظفين ويشمل جرائم تتفق جميعها في حصيصة مميزة لها وهي أن ركنها المادي يقوم على الكذب وتغيير الحقيقة والخداع . وتضم جرائم التزوير والتزييف والانتحال (المواد 334 إلى 391 من القانون الجنائي)
غير انه نظرا لتعدد هذه الجرائم سواء التي يشملها النوع الأول أو الثاني فإنني سأقتصر على جريمة الرشوة
جريمة الرشوة
تعتبر الرشوة ظاهرة خطيرة وجديرة بالمكافحة ، لأنها تؤدي إلى أمرين خطيرين ، أولهما أنها تسفر عن فقدان الثقة لدى الأفراد بالمهمة التي أودعتها الدولة بين أيدي الموظفين العموميين والأمر الآخر يكمن في أن الرشوة في حد ذاتها تؤدي إلى انتفاء العدالة بين المواطنين . فمن كانت له القدرة على دفع المقابل ، تؤدى لمصلحته الأعمال الوظيفية ، ومن لا يستطيع أو لا يريد تعففا تهدر حقوقه ومصلحته.
والرشوة بهذا المفهوم هي اتجار الموظف العمومي ومن في حكمه بالوظيفة الموكولة إليه أو بالأحرى استغلال السلطات المخولة له بمقتضى تلك الوظيفة لحسابه الخاص وذلك حين يطلب لنفسه أو لغيره أو يقبل أو يأخذ وعدا أو عطية لأداء عمل من أعمال وظيفته أو يزعم أنه من أعمال وظيفته أو للامتناع عن ذلك العمل أو للإخلال بواجبات وظيفته.
ونظرا لخطورة الرشوة فقد بادرت الشريعة الإسلامية إلى تحريمها والنهي عنها ففي كتاب الله تعالى بسورة البقرة الآية 187 يقول الله تعالى:”لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ”. صدق الله العظيم
وفي الحديث النبوي الشريف “لعن الله الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما”.
وبالنسبة للتشريعات الوضعية القديمة والحديثة منها فقد أجمعت على تجريم هذه الآفة وذلك من خلال تنظيميين مختلفين
-تنظيم يرى أن الرشوة تتكون من جريمتين مستقلتين هما المرتشي الذي يجب أن يكون موظفا عموميا وجريمة الراشي الذي لا يشترط توفره على أية صفة.
وقد اخذ بهذا النظام المشرع الفرنسي والتونسي والأردني والألماني …
وعن هذا الأخير اقتبس المشرع الجنائي المغربي الأحكام المنظمة للرشوة فاعتبر أن الرشوة تتشكل من صورتين مستقلتين هما جريمة المرتشي المنصوص عليها في المادتين 248 و249 من القانون الجنائي وجريمة الراشي المنصوص عليها في المادة 251 من نفس القانون .
– وتنظيم يرى بان الرشوة جريمة واحدة يرتكبها الموظف العمومي الذي يستغل وظيفته وحده كفاعل أصلي.
أما الذي يقوم بتقديم الرشوة له مقابل حصوله على خدمة فيعتبر شريكا له وتسري عليه أحكام المشاركة وقد أخذ بهذا الاتجاه المشرع الجنائي المصري والعراقي والايطالي.
قيام جريمة الرشوة
باعتبار المشرع الجنائي المغربي تبنى الاتجاه الذي يعتبر الرشوة تتكون من جريمتين مستقلتين هما جريمة الراشي وجريمة المرتشي فان الضرورة تقتضي التطرق إلى العناصر التي تقيم كل جريمة على حدة من خلال النصوص القانونية المنظمة لكل منهما
1-عناصر قيام جريمة المرتشي
تنص المادة 248 من القانون الجنائي:
(غير و تمم بالمادة الثانية من القانون رقم 03-79 الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 129-04-1 بتاريخ 29 رجب 1425 (15 سبتمبر 2004) : ج.ر. بتاريخ فاتح شعبان 1425 (16 سبتمبر 2004)) : يعد مرتكبا لجريمة الرشوة ، ويعاقب بالحبس من سنتين إلى خمس وبغرامة من ألفي درهم إلى خمسين ألف درهم ، من طلب أو قبل عرضا أو وعدا أو طلب أو تسلم هبة أو هدية أو أية فائدة أخرى من أجل :
1 – القيام بعمل من أعمال وظيفته بصفته قاضيا أو موظفا عموميا أو متوليا مركزا نيابيا أو الامتناع عن هذا العمل ، سواء كان عملا مشروعا أو غير مشروع ، طالما أنه غير مشروط بأجر . وكذلك القيام أو الامتناع عن أي عمل ولو أنه خارج عن اختصاصاته الشخصية إلا أن وظيفته سهلته أو كان من الممكن أن تسهله.
2 – إصدار قرار أو إبداء رأي لمصلحة شخص أو ضده ، وذلك بصفته حكما أو خبيرا عينته السلطة الإدارية أو القضائية أو اختاره الأطراف.
3 – الانحياز لصالح أحد الأطراف أو ضده ، وذلك بصفته أحد رجال القضاء أو المحلفين أو أحد أعضاء هيئة المحكمة.
4 – إعطاء شهادة كاذبة بوجود أو عدم وجود مرض أو عاهة أو حالة حمل أو تقديم بيانات كاذبة عن أصل مرض أو عاهة أو عن سبب وفاة وذلك بصفته طبيبا أو جراحا أو طبيب أسنان أو مولدة.
إذا كان مبلغ الرشوة يفوق مائة ألف درهم تكون العقوبة السجن من خمس سنوات إلى عشر سنوات والغرامة من خمسة آلاف درهم إلى مائة ألف درهم.
وتنص المادة 249 من نفس القانون:
(غير بالمادة الأولى من القانون رقم 03-79 الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 129-04-1 بتاريخ 29 رجب 1425 (15 سبتمبر 2004) : ج. ر. بتاريخ فاتح شعبان 1425 (16 سبتمبر 2004)) : يعد مرتكبا لجريمة الرشوة ويعاقب بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات وبغرامة من خمسة آلاف إلى خمسين ألف درهم ؛ كل عامل أو مستخدم أو موكل بأجر أو بمقابل ، من أي نوع كان طلب أو قبل عرضا أو وعدا ، أو طلب أو تسلم هبة أو هدية أو عمولة أو خصما أو مكافأة ، مباشرة أو عن طريق وسيط ، دون موافقة مخدومة ودون علمه ، وذلك من أجل القيام بعمل أو الامتناع عن عمل من أعمال خدمته أو عمل خارج عن اختصاصاته الشخصية ولكن خدمته سهلته أو كان من الممكن أن تسهله.
ومن خلال هذين المادتين فان جريمة المرتشي تقوم على العناصر التالية:
1 – لاتصاف بصفة الموظف العمومي طبقا لمقتضيات المادة 224 من القانون الجنائي.
2 – ركن مادي قوامه فعل الطلب أو القبول أو تسلم هبة أو هدية أو أية فائدة أخرى مقابل العمل أو الامتناع.
3 – ركن معنوي يتخذ دائما صورة القصد الجنائي.
2-عناصر قيام جريمة الراشي.
تنص المادة 251 من القانون الجنائي على مايلي ” من استعمل عنفا أو تهديدا ، أو قدم وعدا أو عرضا أو هبة أو هدية أو أية فائدة أخرى لكي يحصل على القيام بعمل أو الامتناع عن عمل أو على مزية أو فائدة مما أشير إليه في الفصول 243 إلى 250 ، وكذلك من استجاب لطلب رشوة ولو بدون أي اقتراح من جانبه ، يعاقب بنفس العقوبات المقررة في تلك الفصول ، سواء أكان للإكراه أو للرشوة نتيجة أو لا.”
من خلال هذه المادة يتضح لنا أن جريمة الراشي مستقلة عن جريمة المرتشي بحيث يمكن عملا بالمادة المشار اليها اعلاه ادانة الراشي أو تبرئته باستقلال تام عن الموظف الذي قد يتابع ويدان بالارتشاء .ذلك كما أشرنا في الأول بكون المشرع المغربي نظر الى جريمة المرتشي بكيفية مستقلة عن جريمة الراشي
فما هي العتاصر التي يقوم عليها الركن المادي لجريمة الراشي
الركن المادي
-استعمال العنف أو التهديد:وهي حالة اكراه الموظف بغية دفعه الى مخالفات واجبات وظيفته ونحو ذلك اشهار السلاح في وجهه لارغامه على الفعل المخالف أو التهديد بخطف أحد أولاده أو اتلاف ماله الى غير ذلك من الحالات…
ويقوم الركن المادي بهذا النوع من التهديد سواء كان للتهديد نتيجة أم لا.
-تقديم وعد أو عرض:فيكفي لكي تقوم الجريمة في حق الراشي أن يقوم باغراء الموظف للاتجار بوظيفته.
لذلك كان مجرد تقديم الوعد أو العرض كافيا بادانته بغض النظر عن قبول الموظف المختص بالعمل أو الامتناع للوعد او العرض أو رفضه له.
ويشترط في العرض أن يكون جادا أي يهذف من وراءه الحصول على مصلحة معينة أما اذا كان هذف العارض كشف الموظف امام الشرطة فان الركن المادي لا يقوم وبالتالي لا يعتبر راشيا.
-الاستجابة لطلب الرشوة:تقوم هذه الحالة على عكس الحالات السابقة من صور الركن المادي على تصرف سلبي من جانب المرتشي هو استجابته لطلب المرتشي فهو لم يعرض رشوة ولم يحاول اغراء الموظف بوعد او عهد ولكنه استجاب للموظف حينما طلب منه رشوة مختارا وعلى بينة من الأمر
والشرط لفيام هذه الجريمة هو علم الراشي بطبيعة المقايل المطلوب منه اما اذا وقع في غلط كان يعتقد بان هذا المقابل هو ضريبة تتقاضاها المصلحة العامة وانه ملزم بدفعها فانه لا يعتبر مرتكبا لجريمة الراشي
الركن المعنوي
جريمة الراشي جريمة عمدية يلزم فيها توافر القصد الجنائي العام بعنصريه العلم والارادة.
علم باركان الجريمة وارادته الى الفعل المكون لها ونتيجته
فيلزم ان يكون الجاني عالما بانه يتجه بفعله الى موظف عمومي أو مستخدم لكي يكرهه على القيام بالعمل أو يغريه للقيام به
كما يلزم أن يتجه الجاني بارادته الى احداث الفعل المادي ونتيجته ولو لم يتحقق بالفعل.
عقوبة جريمة الرشوة.
زجر المشرع الجنائي المغربي جريمة الرشوة إذا ما توافرت عناصرها بعقوبات أصلية و أخرى إضافية
I -العقوبات الأصلية للرشوة
هذه العقوبات اما تكون جنحية او جنائية
أ – العقوبات الجنحية:
هي التي نصت عليها المادة 248 من القانون الجنائي التي تنص على انه ” يعد مرتكبا لجريمة الرشوة ، ويعاقب بالحبس من سنتين إلى خمس وبغرامة من ألفي درهم إلى خمسين ألف درهم ، من طلب أو قبل عرضا أو وعدا أو طلب أو تسلم هبة أو هدية أو أية فائدة أخرى …”
من خلال نص المادة يتبين لنا أن المشرع عاقب الموظف العمومي المرتشي اذا تبثث في حقه جريمة الرشوة بعقوبة سالبة للحرية وهي الحبس من سنتين الى خمس ينوات كما فرض الى جانبها وبكيفية وجوبية غرامة مالية تتراوح بين الفي وخمسين ألف درهم ونفس هذه العقوبات تطبيق على الراشي طبقا لمقتضيات المادة 251 من القانون الجنائي.
ب – العقوبات الجنائية:
شدد المشرع عقوبة الرشوة ليجعل منها جناية وذلك في الحارت التالية:
-الحالة المنصوص عليها في المادة 252 من القانون الجنائي والتي يكون الغرض فيها من الرشوة القيام بعمل يكون جناية في الواقع وهكذا تنص المادة على انه:
” إذا كان الغرض من الرشوة أو استغلال النفوذ هو القيام بعمل يكون جناية في القانون ، فإن العقوبة المقررة لتلك الجناية تطبق على مرتكب الرشوة أو استغلال النفوذ ”
وكمثال على ذلك اتفاق عدل مع شخص آخر على تزوير محرر رسمي مقابل أن يأخذ هذا العدل رشوة فان المتفقان يعاقبان بعقوبة جنائية هي السجن المؤبد سواء ارتكبت جريمة التزوير أو محاولتها ولا يعاقبات بالعقوبة المنصوص عليها في الفصل 248 من القانون الجنائي لأن الرشوة وان كانت في الأصل جنحة الا ان الغرض منها هو ارتكاب جناية التزوير في محرر رسمي طبقا لمقتضيات المادة 352 من القانون الجنائي.
-الحالة المنصوص عليها في الفصل 253 من القانون الجنائي وهي عندما تؤدي رشوة أحد رجال القضاء الى صدور حكم بعقوبة جناية ضد المتهم.
تنص المادة على انه ” إذا كانت رشوة أحد رجال القضاء أو الأعضاء المحلفين أو قضاة المحكمة قد أدت إلى صدور حكم بعقوبة جناية ضد متهم ، فإن هذه العقوبة تطبق على مرتكب جريمة الرشوة.”
والتشديد هنا يطال كل أطراف جريمة الرشوة (الراشي والمرتشي) على أن يكون الحكم بعقوبة جناية قد صدر فعلا ضد المتهم حتى وان كان هذا الحكم غير نهائي أي قابل للطعن.
II)-العقوبات الاضافية للرشوة
تعرض المشرع لهذه العقوبات في المادتين 255 و256 ومن القانون الجنائي وهي
أ)-المصادرة:
تنص المادة 255 من القانون الجنائي على انه:” : لا يجوز مطلقا أن ترد إلى الراشي, الأشياء التي قدمها ولا قيمتها بل يجب أن يحكم بمصادرتها وتمليكها لخزينة الدولة ”
والمصادرة لا تقتصر على المبلغ المالي الذي قدم كرشوة وانما تنصب على كل ما يكون الراشي قدمه فعلا كمقابل سواء كان عقارات أو مجوهرات أو أسهم…. على ان يتم ضبط هذا المقابل عند المرتشي وبالتالي فلا تشتمل المصادرة الأشياء التي يكون الراشي قد وعد بها فقط أو حتى المقابل الذي قدم فعلا كرشوة لكنه سرق أو فوت بأية طريقة أو دمر…
ب)-الحرمان من بعض الحقوق المنصوص عليها في المادة 40 من القانون الجنائي.
تنص المادة 256 من القانون الجنائي على انه “ي الحالات التي تكون فيها العقوبة المقررة ، طبقا لأحد فصول هذا النوع عقوبة جنحية فقط ، يجوز أيضا أن يحكم على مرتكب الجريمة بالحرمان من واحد أو أكثر من الحقوق المشار إليها في الفصل 40 من خمس سنوات إلى عشر ، كما يجوز أن يحكم عليه بالحرمان من مزاولة الوظائف أو الخدمات العامة مدة لا تزيد عن عشر سنوات.”
وبالرجوع الى المادة 40 نجدها بدورها تحيلنا في تحديد هذه الحقوق على المادة 26 من القانون الجنائي التي تنص على أن ” التجريد من الحقوق الوطنية يشمل :
1 – عزل المحكوم عليه وطرده من جميع الوظائف العمومية وكل الخدمات والأعمال العمومية.
2 – حرمان المحكوم عليه أن يكون ناخبا أو منتخبا وحرمانه بصفة عامة من سائر الحقوق الوطنية والسياسية ومن حق التحلي بأي وسام.
3 – عدم الأهلية للقيام بمهمة عضو محلف أو خبير ، وعدم الأهلية لأداء الشهادة في أي رسم من الرسوم أو الشهادة أمام القضاء إلا على سبيل الإخبار فقط.
4 – عدم أهلية المحكوم عليه لأن يكون وصيا أو مشرفا على غير أولاده.
5 – الحرمان من حق حمل السلاح ومن الخدمة في الجيش والقيام بالتعليم أو إدارة مدرسة أو العمل في مؤسسة للتعليم كأستاذ أو مدرس أو مراقب.
والتجريد من الحقوق الوطنية عندما يكون عقوبة أصلية ، يحكم به لزجر الجنايات السياسية ولمدة تتراوح بين سنتين وعشر سنوات ما لم تنص مقتضيات خاصة على خلاف ذلك.
اترك تعليقاً