“الشركات العائلية” تحديات الذبول وحلول الابتكار
لا تعد شيخوخة الشركات العائلية تهديداً لدخل العائلة ومستواها المعيشي فحسب بل تمثل إحدى المؤثرات على النمو الاقتصادي الذي تسهم فيه تلك الكيانات التجارية بما يعادل 10% من إجمالي الناتج المحلي حيث قدرت استثمارات الشركات العائلية في المملكة بـ 247.5 مليار ريال بحسب تصريح أدلى به رئيس منتدى الشركات العائلية 2017. أي أن ذبول هذا المكون المهم في الناتج المحلي سينعكس بدوره على مجالات حيوية متعددة، أهمها القطاعات والأنشطة التي تلامس احتياجات المستهلك المباشرة كأسواق التجزئة والأنشطة الزراعية، ومصانع الأغذية المحلية.
ولذلك جاء “الابتكار” في أولى الاهتمامات الدولية لتحقيق الاستجابة السريعة للمخاطر التي تهدد الاحتياجات الأساسية من الزراعة والصناعات البسيطة، فقد رفع المؤتمر السنوي لمؤشر الابتكار العالمي في العام المنصرم شعار “الابتكار يُطعم العالم” وألقى خلاله برونو لانفان -المدير التنفيذي لمبادرة إنسياد التنافسية الأوروبية (إيسي)، ومشاريع المؤشرات العالمية- كلمة قال فيها: “لقد بدأنا نشهد البزوغ السريع والعالمي للزراعة الرقمية التي تسخّر طائرات بدون طيار وأجهزة استشعار وروبوتات ميدانية. وتزداد الحاجة إلى الزراعة الذكية من أجل تحسين سلاسل التوريد والتوزيع وتعزيز نماذج إبداعية جديدة تخفف من إفقار التربة واستهلاك الطاقة والموارد الطبيعية الأخرى”.
ومن المنطقي القول بأن غياب الابتكار في الشركات العائلية يمثل انعكاساً لغياب البيئة الابتكارية في المنطقة العربية التي ستظل متأخرة ما لم تستثمر جامعاتها ومراكز أبحاثها في تنمية الذهنية الابتكارية وتهيئة البيئة المحفزة للإبداع وتحقيق أقصى الضمانات للملكية الفكرية وإقامة الشراكات مع مجتمع الأعمال والمصانع الوطنية والمعامل التقنية والتدريب النوعي للكفاءات الطلابية في أهم الجامعات التي تحقق نمواً مستمراً في تسجيل براءات الاختراع، فقد تراجع تصنيف المملكة في مؤشر الابتكار العالمي إلى المرتبة 55 من بين 130 اقتصاداً عالمياً في العام 2017، بعد أن كان يحتل المرتبة 49 في العام 2016، والمرتبة 43 في 2015م طبقاً لتقارير المنظمة العالمية للملكية الفكرية WIPO.
وبموازاة ذلك تأتي في مقدمة التحديات التي تواجه استراتيجية الشركات العائلية على المديين المتوسط والبعيد ظاهرة (الذبول) أي التراجع من هرم المنافسة إلى أدنى القاع بشكل تدريجي وذاتي، فالتدرج في التراجع يعتبر خطراً مضاعفاً لعدة أسباب أهمها أنه لا يخلق الصدمة التي تبرر اتخاذ القرارات الجريئة في إعادة هيكلة الشركة أو الاندماج أو التخلص من الأصول غير المستغلة لاعتبارات تاريخية تربطها بالعائلة.
ولذلك تكون بعض حالات الانهيار المفاجئ في كبرى الشركات مفيدة لزيادة عمر الشركة كالنسر الذي ينزع ريشه بمنقاره بألم شديد ليبدأ دورة حياة جديدة يستعيد من خلالها عافيته ليعود للتحليق بأجنحة تمكنه من الصمود والارتفاع بكفاءة تامة، فمشكلة (الذبول) في الشركات العائلية أنه لا يخلق المبرر المقنع لكبير العائلة في التغيير الجريء من جهة، ومن جهة ثانية أنه ومنذ بداية الانحدار وحتى الذبول التام يستمر المدير أو المالك في استنزاف موارد الشركة وأصولها وسمعتها وقيمتها وربما الموارد الأخرى للعائلة كعوائد الاستثمار في العقارات، في سبيل البقاء لا غير، وحتى يحين الموعد الفعلي للمكاشفة على طاولة مستديرة تكون الشركة قد غرقت في الالتزامات والديون المتراكمة، وحينها تكون صدمة القيمة السوقية للشركة مغايرة تماماً لكل التوقعات والخيالات التي رسمها غرور الرهان على إرث الشركة وارتباطها العائلي والتاريخي الذي بقي راسخاً في مخيلة أفراد العائلة واسمها.
والتحدي الآخر الذي يمثله (الذبول) أنه عادةً ما يكون ذاتياً أي لأسباب عائدة إلى ذات الشركة لا إلى الأوضاع الاقتصادية التي قد تسهم في صعوبة الخروج من المأزق بأقل الخسائر، لكن الشركة ذاتها لم تكن في الأصل على مستوى التعامل مع المستجدات والمتغيرات، والغالب أن الفكر الإداري التقليدي هو العامل الأبرز ضمن العوامل الذاتية في ذبول الشركات العائلية، إذ يتساهل كثيرون في أهمية بعض المفاهيم الإدارية الحديثة ودورها المذهل في استدامة الشركات، كشفافية القرارات ومداولة الآراء، وتجديد الدماء خاصة على صعيد القيادات والموظفين البارزين وإزاء هذه الحثيثة تحديداً وجدت الدراسات أنها من أكثر العوامل التي تلعب دوراً بارزاً في انتقال الإدارة من جيل إلى جيل.
وهنا يبرر ملاك الشركات العائلية عدم مرونة اتخاذ قرارات من هذا النوع بحماية أسرار المهنة وكون الموظفين البارزين في الشركة هم ما بين أبناء موثوقين في العائلة أو ممن تربطهم بالمالك علاقة خاصة أو عاملين أمضوا عشرات السنين تحت يد المالك وسمعه وبصره، فالخوف من المنافس أو التوجس من اختراق الطبيعة الخاصة للشركة يقف خلف عرقلة تجديد القيادات في حين لم تعد تجد تلك القيادات نفسها منجذبة أو قادرة على التجديد والابتكار لمواكبة السوق.
ومهما يكن فالابتكار الذي يكفل الاستدامة لن يتحقق بمعناه المثمر إلا بالاستقطاب من خارج الصندوق، وقد لا يكون هذا الخارج بالضرورة فرداً غريباً عن عائلة الشركة، فهناك الكثير من الحلول التي يمكن أن تمهد لإحلال الابتكار محل السياسات الفردية التي يرسمها الملاك عادةً إذ غدى من النادر أن تخلو عائلة مالكة لشركة متوسطة أو كبيرة من ابن أو أبناء يدرسون أو سبقت لهم الدراسة في تخصصات حيوية كالتقنية والهندسة وإدارة المخاطر والاقتصاد والتسويق وقوانين الشركات والحوكمة وغيرها في الجامعات والمعاهد العريقة التي تنتهج أساليب حديثة في ابتكار الأفكار وعصف الخيارات المثلى واتخاذ القرارات الجريئة في دوائر الأزمات.
إن استقطاب هذا النوع من الأبناء أو الأقارب ممن جمعوا بين المعرفة المتخصصة والعلاقات الأجنبية والولاء لإرث العائلة وتاريخها التجاري؛ يمكن أن يسهم في خلق حلول ابتكارية بلغة تحاكي مجتمع الأعمال وجرأةٍ مشروعة كتلك الجرأة التي كان يتمتع بها مؤسس الشركة إبان التأسيس، والمهم في ذلك -وهو ما لا يتنبأ به كثيرون- قدرةُ العائد من الدراسة على استثمار العلاقات الأجنبية في توطيد التحالفات التجارية بأشكال متعددة منها الاندماجات وتركيز النشاط التجاري وعقود الفرنشايز وتبادل الخبرات. فضلاً عن أن بعض الشركات التي تعاملت مع ذبولها بواقعية لم يكن لديها مزيد من الوقت لتبديده في الرهان على منجزات الماضي، بل بدأت فعلياً بتدريب وتأهيل الشباب السعودي من ذوي الذهنية المؤهلة لنقل المنهج الابتكاري في إطالة أعمار الشركاتالعائلية من دول الاستدامة التي تعيش فيها الشركات العائلية طويلاً كاليابان التي تحتضن أكثر من 900 شركة يفوق عمرها الـ 200 عام !
يقول “كين هو” المسؤول التنفيذي لشركة Huawei مؤكداً على “أهمية الاستثمار في رأس المال البشري لتعزيز الابتكار: إن ذلك بمثابة محفّز للبلدان كي تتعلّم من بعضها البعض وتشترك في تهيئة بيئة ابتكارية مفتوحة وفعالة. ونحن في شركة Huawei ملتزمون بالابتكار من خلال الاستثمار في أهمّ مورد نملكه ألا وهو (عمّالنا).”
ولذلك لم يكن مستغرباً أن تقدمت تلك الشركة في عامي 2015، 2016 بـ3898 طلب تسجيل براءة اختراع عالمياً – أي أن الطلب تخطى مرحلة البحث المحلي ليكون مؤهلاً لتسجيله بموجب معاهدة البراءات الدولية- وبنمو يقدر بـ 456 طلب عن العام 2014! محتلة بذلك صدارة الشركات المسجلة لبراءات الاختراع الدولية في تلك الأعوام.
أما في بيئتنا المحلية فتعتبر القناعة بالتغيير والدور الإيجابي للتفكير الإبداعي من أجل خروج الشركة من مأزقها من أهم ممهدات حلول الابتكار؛ إذ يظل مفهوم الابتكار غائباً غياباً تاماً عن كثير من ملاك ومدراء الشركات العائلية وربما ارتبط مفهوم الابتكار عندهم بالتقنية، الأمر الذي يجعل الشركات ذات الأنشطة غير التقنية تستبعد “الابتكار” كحلّ، بينما تشمل حلول الابتكار كل الأشكال والممارسات التجارية كالابتكار في التسويق وتنويع قاعدة العملاء وإدارة الموارد البشرية والحوكمة ومعالجة البنود التي تثقل كاهل العقود وإدارة الأصول والموجودات وتوزيع الأعباء على الفروع، والابتكار كذلك في قياس الأداء والتغذية الراجعة والكثير الكثير من الجوانب والمجالات التي يدخل الابتكار فيها كمفتاح حل لتحسين مستواها أو تقييم جدواها.
قد يكون من الغريب قليلاً أن يكون لـ “الإعلام التقليدي” قدرةٌ خاصة على تشكيل القناعات بجدوى الابتكار في الشركات العائلية ذات التركيبة الإدارية البسيطة، فالإعلام التقليدي -وخاصة البرامج التلفزيونية والوثائقية والأفلام الكلاسيكية والصحف الورقية والمجلات الدورية- لا زال هو اللغة السهلة التي تخاطب بعض كبار الملاك والمدراء.
ففي وقتٍ تطالعنا يومياً عشرات التغريدات والفيديوهات والمحتويات الرائجة التي تحاكي لغة التجديد والابتكار، نجد أن الكثير من ملاك الشركات العائلية لا تستهويهم لغة الإعلام الجديد وتطبيقاته ولا تختلس ما تتبقى من أوقات فراغهم سوى آلة الإعلام التقليدي الذي لا زال هو الآخر متأخراً في تقديم المحتوى الابتكاري وتقريب صورته، على الأقل لتغدو مفردة “الابتكار” حلاً مألوفاً في مجالس الإدارات ومجالس المعالجات الطارئة لشيخوخة الشركات التي تحمل معها رائحة الزمان الذي يستدير دورته دون أن يبقي حالاً على حالته.
عبدالعزيز محمد العبيد
باحث ومستشار قانوني
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً