الضرورة القانونية للمحكمة الدستورية
المحكمة الدستورية ضرورة وليست ترفاً / المحامي الدكتور جودت مساعدة
دولة القانون هي التي تتقيد جميع مظاهر نشاطها بقواعد قانونية تعلو عليها وتكون بذاتها ضابطاً لأعمالها وتصرفاتها في أشكالها المختلفة وهذا لا يتحقق إلا من خلال قضاء كامل ومستقل يتولى تفسير الدستور وتطبيق أحكام القانون لتحقيق عدالة ناجزة لإيصال الحقوق إلى مستحقيها, ليصار للوصول بالدولة إلى دولة قانون حقاً وفعلاً والذي يتوجب أن يواكبه إصدار تشريعات أو مراجعات للتشريعات الحالية, يتم من خلالها إعطاء استقلالاً حقيقاً وواقعياً للسلطة القضائية والقائمين عليها بما يكفل عدم التدخل في شؤونها, لتقوم بالنهوض بمهامها ومسئولياتها وفق تشريعات تضبط عملها والقائمين عليها, ليسود القانون بتطبيقه على الحاكمين والمحكومين بعدل ومساواة, وأن من أهم أركان الدولة القانونية وجود سلطة قضائية ومحكمة دستورية مستقلة والتي هي أداة من أدواتها لترسيخ دولة الحق والقانون.
إن أي تشريع يتوجب لإصداره أن تتوافر الأسباب الموجبة لذلك وبخصوص الأسباب الموجبة لإنشاء المحكمة الدستورية, فإنه من الضروري بيان اختصاصات تلك المحكمة ولو على سبيل التمثيل لتكون مدخلاً لبيان الأسباب الموجبة, ومن بينها الرقابة القضائية على دستورية القوانين والأنظمة وتفسير النصوص التشريعية والحكم بإلغاء أي نص مخالف للدستور والفصل بما تحيله المحاكم إليها.
أما الأسباب الموجبة لإنشاء محكمة دستورية والذي يتطلب لإنشائها, إجراء تعديل على الدستور لتحقيق ذلك ولا يتم ذلك إلا من خلال قانون يحدد كيفية تشكيلها والشروط الواجب توافرها في أعضائها وحقوقهم وحصاناتهم بالإضافة لاختصاصاتها ومن بين تلك الأسباب ما يلي:
1. من أهم سمات ومرتكزات دولة القانون أن يوجد لديها قضاء كامل ومتخصص يتولى تفسير أحكام الدستور والقانون وتطبيقهما على الجميع.
2. نص الميثاق الوطني الأردني على إنشاء المحكمة, كما أن الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني وغيرهم طالبوا ويطالبون بإنشائها, بالإضافة إلى ذلك فإن معظم الدول العربية يوجد لديها محاكم دستورية.
3. عدم وجود رقابة قضائية سابقة على إصدار أي تشريع, للتحقق من موافقته للدستور من عدمه وهذا لا يتم تحقيقه إلا بإنشاء تلك المحكمة.
4. تعدد الجهات التي تتولى تفسير نصوص الدستور والقوانين والأنظمة وهما المجلس العالي لتفسير الدستور والديوان الخاص بتفسير القوانين والذي يقوم الأخير بتفسير نصوص القوانين والأنظمة التي لم يسبق له أو المحاكم أن قاما بتفسيرهما.
5. لا يعتبر المجلس العالي لتفسير الدستور أو الديوان الخاص بتفسير القوانين محكمة لافتقارهما للشروط والمتطلبات والتي يجب أن تتوافر بأية محكمة, حيث من المعروف في الفقه الدستوري أن تفسير النصوص الدستورية لا يتم إلا من خلال محكمة خاصة بذلك, وأن المجلس يتكون من تسعة أعضاء من بينهم خمسة قضاة ورئيس مجلس الأعيان وثلاثة من بين أعضاء مجلس الأعيان يتم اختيارهم بالاقتراع ولا يشترط فيهم أن يكونوا من رجال القانون وكذلك الأمر بالنسبة للعضو الذي تنتدبه الوزارة أو المؤسسة, ليكون ممثلاً لها في الديوان الخاص بتفسير القوانين عند الطلب من الديوان تفسير النص القانوني التي طلبت وزارته أو مؤسسته تفسيره.
6. ما يقوم به المجلس العالي لتفسير الدستور يعتبر قاصراً ولا يحقق الغايات والأهداف من إنشاء المحكمة الدستورية, سواء من حيث صلاحياته والجهة التي تطلب منه تفسير نصاً دستورياً وتركيبة المجلس وآلية وكيفية إصدار قراراته التفسيرية وما يرافقها من إشكالات عملية وقانونية وعدم إصدار قرار تفسيري إذا لم يوافق ستة من أعضائه على تفسيره.
7. رقابة الامتناع التي تمارسها المحاكم بالامتناع عن تطبيق أي نص ترى انه غير دستوري دون أن تملك إلغائه, تعتبر رقابة قاصرة وتقديرية بالإضافة إلى أن اجتهادات المحاكم تتباين وتختلف بخصوص دستورية نص قانوني من عدمه لأسباب عديدة.
8. العيوب والتشوهات التشريعية التي تظهر من خلال التشريعات التي تصدر, سواء أكانت قوانين دائمة أم مؤقتة أم أنظمة لأسباب عديدة, مما يجعلها تخضع في أحايين كثيرة للتعديل وأن بعض التعديلات تتم على تلك التشريعات بعد مدة قصيرة من العمل فيها, وبوجود محكمة دستورية يتم تلافي تلك العيوب والتشوهات من خلال الرقابة السابقة لإصدار تلك التشريعات.
9. اطمئنان مجلس الأمة عند دراسته لمشاريع القوانين من دستوريتها وذلك من خلال فحص وتشخيص المحكمة لتلك المشاريع قبل تحويلها إليه, للتأكد من دستوريتها من عدمها, وهذا يعفي المجلس أو مجلس الوزراء عند إصداره لأية قوانين أو أنظمة من بذل الجهد في البحث بدستورية أو عدم دستورية مشروع القانون أو النظام, ما دام أن تلك التشريعات تراقبها المحكمة قبل إحالتها للسلطة المختصة بإصدارها.
10. تخفيف الجهد على المحاكم قبل إصدارها لأحكامها من البحث في دستورية أي تشريع واجب التطبيق على النزاع المعروض عليها, ما دام أن المحكمة الدستورية قد أجازته مسبقاً, مما ينعكس ذلك إيجاباً على سرعة الفصل بالقضايا المنظورة أمام المحاكم والاطمئنان والارتياح إلى دستورية التشريع الذي تقوم المحاكم بتطبيقه على النزاعات المعروضة عليها.
11. تفرغ أعضاء مجلس الأعيان الذين هم أعضاء في المجلس العالي لتفسير الدستور للقيام بمهامهم التشريعية وكذلك الأمر بالنسبة للقضاة والذين هم خمسة أعضاء في المجلس العالي لتفسير الدستور وثلاثة أعضاء في الديوان الخاص بتفسير القوانين للتفرغ لأعمالهم القضائية.
12. التفسير الذي تصدره المحكمة ويولد الثقة والاطمئنان لدى الجميع إذا ما قورن بأية تفسيرات تصدر من جهة غير قضائية.
وترتيباً على ما تقدم, فإنني أرى أنه في حال إنشاء محكمة دستورية سيكون لها دور حيوي في المساهمة بالإصلاحات السياسية والإدارية والاقتصادية وغيرها, كما أنه سيترتب عليه إلغاء المواد الواردة في الدستور المتعلقة بإنشاء المجلس العالي لتفسير الدستور والديوان الخاص بتفسير القوانين وهذا يشكل حافزاً ومبرراً لنزع صلاحية المجلس العالي الوحيدة المتبقية بعد إنشاء محكمة دستورية وهي محاكمة الوزراء والذي يستوجب إسنادها للقضاء الجنائي صاحب الولاية والاختصاص الجنائي, للنظر بأية جريمة تتم داخل الوطن وهذا يستدعي لتحقيق ذلك إجراء تعديل على قانون محاكمة الوزراء بحيث يصبح القضاء هو الجهة المختصة والوحيدة في محاكمة الوزراء كما هو الحال في العديد الدول المتقدمة, مما سيساهم ذلك في محاربة الفساد و/أو الحد منه, وذلك من خلال الدور الوقائي للعقوبة وهو الردع لمن يفكر بالتطاول على المال العام بأية صورة كانت والدور العلاجي في حال الإدانة, كما يتطلب لتحقيق ذلك بشكل أمثل تعديل المادة (56) من الدستور والمتعلقة بحق مجلس النواب في اتهام الوزراء والتي تنص على أن يصدر قرار الاتهام بأكثرية ثلثي أصوات الأعضاء الذي يتألف منهم مجلس النواب بحيث ينص التعديل على توافر الاتهام بالأكثرية المطلقة لإصدار قرار الاتهام, كما هو الحال عندما يقرر مجلس النواب عدم الثقة بالوزارة وفق ما هو وارد بالمادة (53/2) من الدستور, ولا بد من التذكير أن المادة (56) المذكورة لم يتم بموجبها إحالة أي وزير للمحاكمة أمام المجلس العالي لتفسير الدستور منذ صدور الدستور في عام 1952 وحتى تاريخه.
وأخيراً فإنني أرى أن إنشاء المحكمة الدستورية يعتبر ترجمة وترسيخاً وتدعيماً لدولة القانون والمؤسسات لأن هذا من سمات دولة القانون وأنه لا مبرر لتخوف البعض من إنشاء تلك المحكمة لأسبابهم ومبرراتهم والتي يمكن الرد عليها من خلال تعيين كوكبة من القضاة لتلك المحكمة يتم اختيارهم من بين رجال القانون المشهود لهم بالوطنية والكفاءة والجرأة والنزاهة.
اترك تعليقاً