تعود الإنابة القضائية بالطريق نفسه الذي أرسلت به، فإذا كان هذا الطريق بالأسلوب الدبلوماسي فأنها تعود عن هذا الطريق المحكمة الأجنبية المنفذة ثم وزارة العدل، وزارة الخارجية في تلك الدولة الأجنبية ووزارة الخارجية في الدولة طالبة الإنابة ثم وزارة العدل وأخيراً المحكمة التي قررت الإنابة القضائية والتي تنظر الدعوى. وتعود إلى وزارة الخارجية ثم وزارة العدل وأخيراً المحكمة المعنية التي قررت الإنابة القضائية إذا كان التنفيذ من قبل الممثل الدبلوماسي أو القنصل لدولة المحكمة في الخارج. وبعد هذه العودة لأوراق الإنابة فيجب على المحكمة أن تتأكد من صحة تنفيذ الإنابة في الخارج وبالنسبة إلى فرنسا (إذا كانت الإنابة القضائية تخضع لقانون الدولة الأجنبية حال تنفيذها في أقليم هذه الدولة، فأن القاضي الفرنسي يمارس رقابة للتأكد من صحة الإجراءات التي أتبعت)(1). يتطلب ذلك تقدير صحة تنفيذ الإنابة القضائية في الدولة الأجنبية وإن تبين للمحكمة أن هذا التنفيذ مشوباً بعيب جزاؤه البطلان على وفق قانون الدولة الطالبة فلها أن تهدر النتيجة التي آل إليها تنفيذ الإنابة القضائية وعدم الركون إليها، وللمحكمة أن تتأكد من توافر الضمانات الأساسية ولحقوق الأطراف المعنيين عند تنفيذ الإنابة القضائية في الخارج وخاصة فيما يتعلق بحقوق الدفاع بموجب قوانين الدولتين المعنيتين فهذه من المبادئ الأساسية التي يجب مراعاتها (على أن ذلك يجب أن يتم أعلام المدعى عليه أعلاناً صحيحاً يمكنه من حضور الجلسة المحددة لنظر الدعوى وأن يتم إطلاعه على المستندات التي قدمها خصمه وإعطائه مهلة لتحضير دفوعه، كما يجب أن يتم تمثيل القاصر أو عديم الأهلية تمثيلاً صحيحاً، بحضور من له الولاية أو الوصاية عليه)(2).
ويملك القاضي الوطني الذي ينظر الدعوى الحق في تقدير صحة تنفيذ الإنابة من قبل القاضي الأجنبي إذا كان هذا التنفيذ مشوباً بعيب جزاؤه البطلان على وفق للقانون الأجنبي (هناك حقيقة خطر من الغش، إذ يكفي للخصم لكي يرجع إلى قانون يخدم أهدافه أن يبدل الجنسية أو حتى السكن أو الإقامة الأعتيادية ولكن قاعدة الغش يتم بأبطال مفعولها)(3). لكن إذا كان ذلك التنفيذ مراعياً للقانون الوطني للقاضي الذي قرر الإنابة القضائية، فيمكن له الركون لهذه الإنابة حتى ولو كان ذلك التنفيذ مشوباً بعيب على وفق للقانون الأجنبي، ويتحقق ذلك إذا قدر القاضي بأن التنفيذ الذي تم بوساطة السلطة القضائية الأجنبية في الخارج مخالفاً للقانون المحلي الواجب التطبيق على الشكل، إذا كان القانون الأجنبي يقرر البطلان جزاء لذلك فللقاضي الوطني أن يقرر عدم صحة هذا الأجراء (غير أنه إذا أتبعت في هذا الأستقصاء أصول منطبقة على القانون المصري فلا وجه للنعي بالبطلان بحجة خرق القانون المحلي وهذا القول نجده مقنناً صراحة في صلب المادة (140) من قانون أصول المحاكمات اللبناني التي تقضي بإخضاع إستقصاء الإثبات في البلاد الأجنبية لقانون هذه البلاد، غير أنه إذا أنبعث لأصول منصوص عليها في القانون اللبناني فلا مجال للطعن عليها بحجة أنها تخالف القانون الأجنبي)(4).
وكذلك للقاضي الوطني أن يراقب صحة التنفيذ –وتقرير البطلان من عدمه إذا كان ذلك التنفيذ للإنابة القضائية مخالفاً للنظام العام في دولة القاضي وأن حق التمسك بالبطلان هنا يكون لأطراف الدعوى كافة وكذلك من له مصلحة في التمسك به، ويمكن للمحكمة التي تنظر الدعوى أن تثير هذا البطلان من تلقاء نفسها، فإذا كانت الإجراءات المتبعة في الدولة الأجنبية لغرض تنفيذ الإنابة القضائية مخالفة للنظام العام في الدولة المنيبة مثل البيانات الخاصة بتحديد المعلن إليه أو تاريخ ذلك، أو تحديد ميعاد الحضور وقد فرق الفقه بين الإجراءات الجوهرية أو البسيطة(5)، وقرروا أن الأولى تكون مخالفة للنظام العام والأخرى لا تتعلق به، وهذه الأشكال لا حصر لها وإنما يتمتع القاضي بسلطة تقديرية كبيرة في تحديد ذلك، لأن صيغة الشكل الجوهري مرنة ويمكن للقاضي أن يقرر بأن تنفيذ الإنابة القضائية مخالفاً للنظام العام في دولته من ناحية الشكل بدون وجود نص تشريعي يحدد ذلك الشكل، فتكون دائرة التمسك به واسعة، ويجب تحقق ضرر نتيجة لمخالفته، أما الأشكال التي لا تتعلق بالنظام العام فهذه الأشكال غير جوهرية وتخضع لقواعد البطلان في الشكل وأن دائرته ضيقة، إذا يجب الحكم بالبطلان نتيجة لمخالفتها وجود نص يجيز ذلك، ويجب أن يتحقق ضرر على عدم أحترامها (6)، ومثل تلك الأشكال والبيانات التي تتعلق ببعض صفات المدعى عليه، مثل تعيين مهنته بصفة خاصة، أو الجهة التي يجب أن تودع لديها الصحيفة عندما يكون موطن المعلن إليه في الخارج، كذلك أن المراكز القانونية الإجراءات التي تنشأ في الخارج لا يكون نظام العام الأثر نفسه عن تلك التي تحدث داخل الدولة –كما سبق الإشارة إليه- فمن غير الممكن أن يسمح القاضي للأجنبي بإنشاء علاقة لا يبيحها القانون كالزواج بأكثر من زوجة داخل الإقليم الفرنسي نظراً لما يؤدي إليه ذلك من مساس واضح، بالأسس التي يقوم عليها نظام الأسرة في فرنسا، في حين إذا قام هذا الشخص بالزواج نفسه خارج الإقليم الفرنسي فأن إمتداد آثاره إلى فرنسا لا يحدث الأثر نفسه فيما إذا تم في فرنسا(7).
كذلك للمحكمة التي تقرر صحة أتخاذ الأجراء من عدمه لجهة الخصوم ذاتهم فأن العيب الذي لحق بالتنفيذ من شأنه أن يؤدي إلى الأضرار بأحد الخصوم دون سواه، ومن ثم كان لهذا الخصم الحق في طلب أبطال هذا الأجراء وعدم الركون إلى نتيجة الإنابة القضائية، ويقدم هذا الطلب إلى المحكمة التي تنظر الدعوى والتي تقرر فيما بعد إذا كان ذلك التنفيذ للإنابة القضائية في الخارج باطلاً من عدمه. إن هذا الدفع بالبطلان مقرر فقط للخصم المتضرر، فلا يكون للقاضي أن يقضي به من تلقاء نفسه، وأن تحقق القاضي من وجود عيب في الأجراء، فهنا الأمر يتوقف على صاحب المصلحة(8)، الذي له الحق في إثارة هذا الدفع من عدمه، فإنتفاء المصلحة في الدفع بالبطلان يؤدي إلى عدم قبوله من قبل المحكمة، وأن الشخص المتضرر فقط والذي يرمي القانون إلى حمايته له الحق في أبداء هذا الدفع بالبطلان فلا يحق لأطراف الدعوى الآخرين التمسك بهذا البطلان، ولكن إذا قررت المحكمة بطلان الإنابة القضائية بناء على طلب من له الحق في ذلك فأن هذا الأجراء يعد باطلاً بالنسبة للجميع(9)، فإذا أعلم الخصم بطريقة غير قانونية، كان لهذا الخصم الدفع ببطلان ذلك الأجراء أستناداً لبطلان الأعلان إذا كان الجزاء المترتب هو البطلان مثلاً.
وبما أن الدفع بالبطلان حقاً قاصراً للخصم الذي أعطاه المشرع هذا الحق، فأن لهذا الخصم الحق كذلك في التنازل عن هذا الدفع، وهذا التنازل قد يكون بشكل صريح تقديم طلب تحريري بذلك، وأبداؤه هذا التنازل بشكل شفوي أثناء المرافعة، أو بشكل ضمني تستنتجه المحكمة من خلال سلوك ذلك الخصم في الدعوى والذي يبدي أستعداده لتحمل آثار الأجراء المعيب، ولخصوصية الإنابة القضائية في العلاقات الخاصة الدولية، كونها تنفذ في دولة أخرى، فأنه يتطلب والحال هذه أن يكون هذا التنازل الضمني عن حق الخصم بالدفع بالبطلان تنفيذ الإنابة القضائية، واضحاً من خلال أفعال هذا الخصم ودفوعه وليس مجرد السكوت عن الدفع بالبطلان يعد تنازلاً عنه. والتنازل هنا يجب أن يتخذه صاحب الحق في موقف لا تدع ظروف الدعوى شكاً على دلالته لقصد التنازل، فالتنازل هنا لا يفترض ولا يقوم على الظن أو الأحتمال أو على واقعة غير قاطعة الدلالة عليه أي لا يتبين بوضوح نية صاحب الحق في التنازل عن هذا الدفع بالبطلان. وإذا تنازل الخصم عن حقه في الدفع ببطلان تنفيذ الإنابة القضائية أو غير مشوب بعيب جزاؤه البطلان، فالمحكمة هنا مخيرة في الأستناد إلى نتيجة الإنابة القضائية والركون إليها من عدمه بعدها دليلاً من أدلة الإثبات في الدعوى. يتضح مما تقدم أعلاه أن للمحكمة التي تنظر الدعوى الحق في تدقيق تنفيذ الإنابة القضائية التي تمت في الدولة الأجنبية من قبل السلطة القضائية لتلك الدولة الأجنبية(10).
أما إذا تم تنفيذ الإنابة القضائية في الخارج من قبل الممثل الدبلوماسي أو القنصلي التابع للدولة المحكمة طالب تنفيذ الإنابة القضائية فأن تدقيق الإنابة القضائية يبقى حقاً لمحكمة الموضوع، وخصوصاً أن هذا الممثل عند تنفيذه تلك الإنابة يطبق عليها قانونه الوطني –قانون المحكمة التي طلبت تنفيذها- وهذه المراقبة والتدقيق يشمل الجوانب كافة سواء ما يتعلق منها بالنظام العام أو ما يتعلق بأطراف الدعوى أو لأي سبب آخر يكون محلاً للتدقيق والمراقبة، وللمحكمة أن تقرر على وفق قانونها بطلان تنفيذ الإنابة القضائية وهدر نتيجتها إذا كان التنفيذ معيب بعيب جزاؤه بطلان أو تقرر الركون إليها إذا رأتها خالية من كل عيب، كذلك لا يقتصر حق المحكمة المراقبة أو التدقيق الإنابة القضائية المنفذة من قبل الممثل الدبلوماسي أو القنصلي، بل أن لو كانت ذلك التنفيذ صحيحاً وغير مخالف لنظام العام جاز للمحكمة هدر الإنابة القضائية وعدم الأستناد إليها والركون إلى أدلة الإثبات الأخرى في الدعوى(11). وكذلك يمكن لهذه المحكمة الأستناد إلى تلك الإنابة إذا كانت خالية من كل عيب تؤدي إلى بطلانها، فللمحكمة الحرية كاملة للأخذ بالإنابة القضائية من عدمه(12). يتضح مما تقدم أن الدور الذي تقوم به الجهة المنابة هو تنفيذ الإنابة القضائية فقط وليس لها أجبار المحكمة التي قررت تنفيذها في أتخاذ الإنابة أساساً أو أحد أدلة الدعوى لإصدار هذه المحكمة حكمها. وأن لهذه المحكمة الحرية كاملة في الأحوال كلها الأستناد إلى الإنابة القضائية كدليل من أدلة الإثبات أو إهمالها عند إصدار حكمها في الدعوى والذي يبقى –الحكم- قابلاً للأستئناف أو التمييز(13).
_______________________
1- أبو العلا علي أبو العلا النمر، مصدر سبق ذكره، ص67.
2- د. حسام الدين فتحي ناصف، نظام رقابة القضاء الوطني للحكم الأجنبي، مجلة العلوم القانونية والاقتصادية، تصدر عن جامعة عين شمس، العدد 2، حزيران، 1997، ص515.
-3Pierre Mayer، op. cit.، p. 369
4- د. عكاشة محمد عبد العال، الإجراءات المدنية …، مصدر سبق ذكره، ص302.
5- د. أحمد هندي، التمسك بالبطلان في قانون المرافعات، الإسكندرية، دار الجامعية الجديد، 1999، ص51.
6- د. محمد نور شحاتة، مصدر سبق ذكره، ص72.
7- د. فؤاد عبد المنعم رياض، ود. سامية راشد، مصدر سبق ذكره، ص159.
8- د. أحمد السيد صأوي، مصدر سبق ذكره، ص542، وذكر الأستاذ د. أحمد هندي (العبرة في تحديد الشخص الذي من حقه التمسك بالبطلان هي بإرادة المشرع فلا يعتد بزعم الخصم ويجب الرجوع إلى أرادة المشرع وخصره لمعرفة ذلك الشخص المقرر البطلان لمصلحته) التمسك بالبطلان …، مصدر سبق ذكره، ص25.
9- د. آدم وهيب، قانون المرافعات …، مصدر سبق ذكره، ص137.
10- أبو العلا علي أبو العلا النمر، مصدر سبق ذكره، ص138.
-11Paul D. Carrington، op، cit; p. 682.
-12Yvom Loussouarn and Pierre Bourel. Op.، cit. p. 466.
13- د. آدم وهيب الندواي، قانون المرافعات …، مصدر سبق ذكره، ص337.
المؤلف : عبد المطلب حسين عباس الموسوي
الكتاب أو المصدر : الانابة القضائية في القانون الدولي الخاص
الجزء والصفحة : ص80-85
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً