الطبيعة القانونية لقرارات الوكالات الحضرية وقابليتها للطعن بالإلغاء
ذ. رضا التايدي قاضي بالمحكمة الإدارية بالرباط
لقد أصبحت سياسة التعمير وتهيئة المجال في الآونة الأخيرة ينظر إليها كأحد الركائز الأساسية التي تقوم عليها التنمية البشرية باعتبارها الرهان الأكبر الذي أخذته الدولة على عاتقها. وتشكل رخص التعمير على شتى أنواعها التجسيد الحي لتلك السياسة وما أدركته من تطور في تدبير العمران والتجمعات السكنية داخل المدن والمناطق المحيطة بها، بحيث أن للحكم على سياسة عمرانية بالنجاح أو الفشل، يكفي القيام بإطلالة على المباني والتجزئات القائمة للتأكد مما إذا كانت تحقق متطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية فضلا عن عنصر الجمالية، وهو ما يرتبط ارتباطا وثيقا بالرخصة التي حصل عليها صاحب الطلب وكيف حصل عليها، ومدى تناسبها مع المجال الذي سلمت فيه، ويزداد الأمر صعوبة إذا علمنا أن سكان المغرب الحضريين يبلغ 16,5 مليون نسمة حسب إحصائيات سنة 2004 من مجموع حوالي 29,9 مليون نسمة، مما يشكل 55,18 %، ويتوقع أن ترتفع هذه النسبة إلى حوالي 70% في أفق سنة 2005.
إن جميع تلك الرهانات تلقي على عاتق المتدخلين في دراسة طلبات الحصول على رخص التعمير مسؤولية كبيرة قبل اتخاذ القرار المناسب سواء بالترخيص الذي يتعين فيه أن يخدم سياسة التعمير الكلية على مستوى المنطقة، أو بالرفض الذي يعني بالمقابل حرمان الطالب من إمكانية الحصول على سكن شخصي، أو عرقلة الاستثمار العقاري، وبين هذا وذاك تقوم الوكالات الحضرية كأحد هؤلاء المتدخلين بدور محوري في دراسة طلبات الرخص بحكم طبيعتها كجهاز فني بالأساس يضم العديد من التقنيين في مجال التعمير والتهيئة الحضرية، وأيضا بالنظر إلى القيمة القانونية التي أعطاها المشرع للرأي الذي تبديه كرأي ملزم لرؤساء المجالس الجماعية الذين يرجع إليهم اختصاص اتخاذ القرار النهائي.
إلا أنه بالرغم من مرور أزيد من عقدين من الزمن على إحداث أول وكالة حضرية بمدينة الدار البيضاء في أكتوبر 1984، فإن الغموض مازال يطبع عمل الوكالات الحضرية مع العلم أن التوجه العام للسلطة الحكومية المكلفة بالتعمير ينحو في اتجاه الرفع من عددها وجعلها تغطي جميع النفوذ الترابي للمملكة، بحيث أنه في سنة 2005 فقط تم قائمة ، ومرد ذلك يرجع إلى عمومية النص التشريعي واستعماله لعبارات عامة لم تحدد الدور الدقيق الذي يمكن أن تلعبه الوكالات الحضرية في تسليم رخص التعمير وكيف لها أن تمارس ونأمل أن يأتي مشروع القانون رقم 04.04 بسن أحكام تتعلق بالسكنى والتعمير والنصوص التطبيقية له بمقتضيات واضحة في هذا الشأن تزيل اللبس وعدم الاستقرار الذي صاحب عمل الوكالات الحضرية منذ إحداثها نتيجة الاعتماد فقط على المناشير والدوريات الوزارية.
وفي انتظار ذلك، يظل التساؤل قائما حول طبيعة القرارات التي تصدرها الوكالات الحضرية بمناسبة دراستها لملف الرخصة والآثار القانونية المترتبة على تلك الطبيعة من حيث قابليتها أو عدم قابليتها للطعن بالإلغاء، وانعكس ذلك حتى على الأحكام القضائية التي تأرجحت بين قبول ذلك الطعن أحيانا وعدم قبوله أحيانا أخرى وتأتي هذه المداخلة في محاولة للجواب على ذلك التساؤل من خلال مبحثين نتناول في الأول دور الوكالات الحضرية في مجال التعمير سواء منه الدور الشمولي الذي تساهم به في إعداد السياسة العمرانية للعمالة أو الإقليم، أو دورها الضيق في تسليم رخص التعمير. ونتطرق في الثاني إلى الطبيعة القانونية للقرارات التي تصدرها بمناسبة ممارستها لهذا الدور الأخير على ضوء الاجتهاد القضائي، بعد أن نحدد في البداية مفهوم القرار الإداري الذي يمكن أن يكون محلا دعوى الإلغاء وتمييزه عن غيره من الأعمال الإدارية الأخرى.
المبحث الأول : دور الوكالات الحضرية في مجال التعمير
إن تتبع الأدوار التي تضطلع بها الوكالات الحضرية1 في مجال التعمير والتهيئة العمرانية يجعلنا نميز بين نوعين من تلك الأدوار أو الوظائف:
الأول شامل يتمحور حول المساهمة إلى جانب فاعلين آخرين في وضع التوجهات العامة للسياسة الحكومية في ميدان التعمير، ومراقبة تنفيذها داخل نفوذها الترابي كأداة لضبط ترشيد استعمال المجال الحضري والحد من الاستغلال العشوائي له، بالإضافة إلى التنسيق بين مختلف المتدخلين على المستوى المحلي.
والثاني تقوم به كجهاز فني يتولى تقديم المساعدة والاستشارة التقنية لصاحب القرار (الجماعات المحلية)، قبل البت في طلبات الحصول على رخص التعمير على مختلف مستوياتها.
المطلب الأول : الاختصاص العام للوكالات الحضرية
هذا الصنف من الاختصاصات المسندة إلى الوكالات الحضرية نصت عليه المادة الثالثة من الظهير الشريف بمثابة قانون رقم 51-93-1 بتاريخ 10/9/1993 المتعلق بإحداث الوكالات الحضرية باستثناء البندين الرابع والخامس منها المتعلقين بالرأي الذي تبديه في المشاريع المتعلقة بتقسيم وتجزئة الأراضي وإقامة المجموعات السكنية والمباني، ومراقبة تنفيذ تلك المشاريع.
كما عملت المذكرة الوزارية عدد 344/د الصادرة عن وزير الداخلية بتاريخ 7/9/1993 قبل صدور الظهير المذكور بثلاثة أيام وبعد الموافقة عليه من طرف المجلس الوزاري، على تفعيل تلك الاختصاصات ذات البعد الشمولي والواسع والتي يمكن تلخيصها في :
– القيام بالدراسات الضرورية لإعداد المخططات التوجيهية المرتبطة بالتهيئة الحضرية ومتابعة تطبيق التوجهات المحددة فيها ؛
– برمجة مشاريع التهيئة المتعلقة بتحقيق الأهداف التي ترمي إليها المخططات التوجيهية ؛
– تحضير مشاريع وثائق التعمير المقررة بنصوص تنظيمية ولا سيما منها خرائط التنطيق ومخططات التنمية ؛
– مراقبة أعمال وتقسيم وتجزئة الأراضي وإقامة المجموعات السكنية والمباني التي هي في طور الإنجاز للتأكد من مدى مطابقتها للنصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل، وكذا احترامها لضوابط رخص التجزيء والتقسيم وإحداث المجموعات السكنية والمباني المسلمة إلى المستفيدين منها ؛
– القيام بالدراسات اللازمة لمشاريع تهيئة قطاعات خاصة، وتنفيذ جميع مشاريع الصيانة العامة أو التهيئة لفائدة الدولة والجماعات المحلية أو بناء على طلب يوجه إليها من أي شخص عام أو خاص عندما يكتسي المشروع صبغة المنفعة العامة ؛
– تشجيع وإنجاز عمليات تجديد المباني وإصلاح القطاعات الحضرية وإعادة هيكلة الأحياء التي تفتقد إلى التجهيزات الأساسية والقيام بهذه الغاية بإنجاز الدراسات وامتلاك الأراضي اللازمة لذلك ؛
– المساهمة في أي مؤسسة يطابق نشاطها الأهداف المرسومة للوكالة والمهام المسندة إليها.
– الاهتمام بتشجيع تأسيس وتطوير جمعيات الملاك من خلال وضع الأطر اللازمة رهن إشارتها بتنسيق وتعاون مع الهيئات المنتخبة ؛
– تقديم المساعدة الفنية للجماعات المحلية فيما يتعلق بالتعمير والتهيئة العامة والخاصة فيما تقوم به من أعمال التهيئة في حالة طلبها ؛
– جمع ونشر المعلومات المرتبطة بالتنمية المعمارية للعمالات والأقاليم الواقعة داخل النفوذ الترابي للوكالة.
ويتضح من قراءة هذه الاختصاصات والوظائف أن أبرزها على الإطلاق هي تلك المتمثلة في المساهمة في وضع وإعداد وثائق التعمير سواء منها وثائق التعمير التقديري، وتتمثل أساسا في المخطط التوجيهي للتهيئة العمرانية، أو وثائق التعمير التنظيمي وتتجلى في تصاميم التنطيق والتهيئة والتنمية. وتبرز أهمية هذا الدور بالنسبة للوكالة الحضرية بحكم أن نطاق اختصاصها حسب المادة الأولى من ظهير 10/9/1993 يشمل عمالة أو إقليم بأكمله، وقد يمتد في بعض الأحيان إلى عدة عمالات أو أقاليم، وبالتالي تكون الأقدر أكثر من غيرها على بلورة تصور شمولي للسياسة العمرانية التي ينبغي نهجها تأخذ بعين الاعتبار معطيات الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمنطقة ككل بهدف تحقيق تنمية متناسقة على صعيد جميع تلك المستويات، وهو ما تتوخاه بشكل عام وثائق التعمير المشار إليها ولا سيما منها مخطط توجيه التهيئة العمرانية الذي يمكن أن تشمل رقعته الأرضية عدة جماعات حضرية أو عدة مراكز محددة أو عدة جماعات قروية مجاورة . في حين يغيب على الجماعات المحلية ذلك التصور الشمولي بحكم ضيق المجال الترابي لتدخلها، وهو ما يجعل الآراء والاقتراحات التي تبديها خلال مرحلة الاستشارة في مسطرة إعداد الوثائق المذكورة محدودة الأفق، وتعكس هاجس الجماعة في إيجاد حل آني لمشاكل التعمير التي يعرفها تراب هذه الأخيرة بشكل منفصل عن المشاكل والصعوبات التي تعترض تهيئة مجال العمران في الجهة ككل، وتتعارض في بعض الأحيان مع الغايات التي تستهدفها السياسة الحكومية في المنطقة.
أما باقي الأدوار الأخرى التي تضطلع بها الوكالات الحضرية، فيلاحظ أنها لا تخرج عن كونها برامج أو آليات عملية لتنفيذ الأهداف المسطرة في وثائق التعمير ومراقبة حسن تطبيقها على أرض الواقع بتعاون مع جميع الفاعلين الآخرين.
وفي هذا الصدد، صدرت مجموعة من المناشير والمذكرات الوزارية التي أشارت بصفة مباشرة أو غير مباشرة إلى المهام الملقاة على عاتق الوكالات الحضرية في هذا الشأن، وعضويتها في العديد من اللجان المحلية ومجموعات العمل، نذكر من ذلك الدوريتين المشتركتين الصادرتين عن كل من وزير الداخلية تحت عدد 26 و27 والوزير المنتدب لدى الوزير الأول المكلف بالإسكان والتعمير تحت عدد 3013 و 3020 بتاريخ 4 مارس 2003، الأولى بخصوص وضع وتنفيذ البرامج الجهوية لإنعاش السكن الاجتماعي ومحاربة السكن غير اللائق، والثانية بخصوص شروط استفادة المشاريع الاستثمارية من استثناءات في مجال التعمير. وأيضا الدورية المشتركة الصادرة عن وزير الداخلية تحت عدد 2757 ووزير العدل تحت عدد 468 والوزير المنتدب لدى الوزير الأول المكلف بالإسكان والتعمير تحت عدد 11525 المؤرخة في 11 يونيو 2003، حول تفعيل آليات المراقبة وزجر المخالفات في مجال التعمير الموجهة إلى كل من ولاة الجهات، وعمال عمالات وأقاليم المملكة، والوكلاء العامين لدى محاكم الاستئناف، ووكلاء الملك لدى المحاكم الابتدائية، ومديري الوكالات الحضرية، وحثت هذه الفئة الأخيرة على مؤازرة الولاة والعمال في العمل المنوط بهم ومدهم بكل الوسائل المادية والبشرية المتيسرة .
ويسهر على تنفيذ مهام الوكالة الحضرية جهازين أساسيين : الأول هو مجلس الإدارة الذي يتكون من ممثلي الهيئات المنتخبة على صعيد العمالة أو الإقليم ، وممثلين عن الدولة على رأسهم الوزير الأول أو السلطة الحكومية التي ينيبها عنه لهذا الغرض، وهو الذي يتولى رئاسة المجلس بالإضافة إلى وزراء آخرين لهم ارتباط من قريب أو من بعيد بمجال التعمير، حددت قائمتهم بمقتضى المادة الثالثة من المرسوم رقم 67-93-2 بتاريخ 21/9/1993 بتطبيق الظهير الشريف المتعلق بإحداث الوكالات الحضرية.
ويجتمع المجلس بدعوة من رئيسه مرتين في السنة على الأقل، الأولى قبل 31 ماي لحصر حسابات السنة المالية المنصرمة، والثانية قبل 31 دجنبر لدراسة وحصر الميزانية والبرنامج لعمليات السنة المالية التالية . إلا أن الملاحظ أن المجالس الإدارية للعديد من الوكالات الحضرية لا تجتمع بانتظام وربما ذلك راجع إلى الطبيعة التكوينية للمجلس التي لا تساعد على اجتماعه بكيفية منتظمة لا سيما بالنسبة لممثلي الدولة الذين يبلغ عددهم 16 وزيرا إلى جانب الوزير الأول، وهو ما ينعكس سلبا على ممارسة الوكالة الحضرية لاختصاصاتها على نحو سليم، ويخفف من ذلك ما يملكه المجلس من صلاحية تكوين لجنة إدارية يفوض إليها بعض سلطاته واختصاصاته ضمانا لاستمرارية عمله.
الجهاز الثاني هو المدير الذي يشرف على التدبير الإداري والتقني والمالي للوكالة كما يقوم بتنفيذ مقررات مجلس الإدارة ومقررات اللجنة الإدارية في حالة وجودها. وبصفة عامة، يدير شؤون جميع مصالح الوكالة، وله أهلية تمثيلها أمام القضاء وكذا إزاء كل شخص طبيعي أو معنوي، كما يعتبر الأمر بالصرف ويعمل على إمساك محاسبة النفقات الملتزم بأدائها ويصفي ويثبت نفقات الوكالة ومواردها .
وبالإضافة إلى الجهازين المذكورين تتولى كل وكالة حضرية إحداث مجموعة من المصالح للقيام بمهامها تشكل هيكلها الداخلي، وهذه المصالح لا تخرج في الغالب عن ديوان المدير، وعدد من المديريات تتوزع إلى أقسام ومصالح تختلف بحسب كل وكالة، وعادة ما تتمثل في مديرية الشؤون الإدارية والمالية، ومديرية التسيير الحضري، ومديرية الدراسات ومديرية الشؤون القانونية والعقارية .
المطلب الثاني: دور الوكالات الحضرية في دراسة طلبات رخص التعمير.
تنقسم رخص التعمير إلى أربع رخص أساسية تختلف من حيث أحكامها ومسطرة الحصول عليها ودراستها من طرف الجهات المختصة، وهي :
1- رخصة البناء :
وهي رخصة منظمة بمقتضى الباب الثالث من القانون رقم 12.90 المتعلق بالتعمير، وتعتبر أكثر الرخص التي يتم تسليمها أو تقديم طلبات الحصول عليها، والمظهر الأساسي للتطبيق السليم لوثائق التعمير.
كما تتجلى أهمية هذه الرخصة في كونها إحدى وسائل تقييد حق الملكية العقارية وما تقتضيه من إخضاع هذا الحق للمراقبة المسبقة للبناء وعدم ممارسته إلا في نطاق النصوص القانونية الجاري بها العمل ، بحيث حظرت المادة 40 من القانون المذكور من إحداث أي بناية أو إدخال تغييرات على المباني القائمة داخل الدوائر المنصوص عليها في تلك المادة قبل الحصول على رخصة لمباشرة ذلك تحت طائلة تعريض المخالف لعقوبات إدارية (قرارات إيقاف الأشغال وهدم البناء المخالف) وزجرية (غرامات مالية).
2- رخصة التجزيء :
وهي منظمة بمقتضى الباب الأول من القانون رقم 25.90 المتعلق بالتجزئات العقارية والمجموعات السكنية وتقسيم العقارات ، حيث نصت المادة الثانية على أنه : “يتوقف إحداث التجزئات العقارية على الحصول على إذن إداري سابق يتم تسليمه وفق الشروط المنصوص عليها في هذا الباب”.
و يلاحظ أن المشرع هنا استعمل عبارة “الإذن” بدلا من عبارة “الرخصة” التي استعملها في القانون رقم 12.90 مع أن المعنى الذي قصده منهما واحد.
وتعتبر هذه الرخصة الآلية التي تسمح للجهات المختصة في محاصرة البناء العشوائي وتفاديه، وخلق انسجام في اتساع العمران وتأمين التناسق بين مختلف التجمعات السكنية ، والحفاظ على الطابع المعماري المنظم للمجال، حتى تتماشى السياسة المطبقة في ميدان السكن مع متطلبات الأمن والصحة والسكينة العامة .
3- رخصة إقامة المجموعات السكنية:
وهي رخصة منصوص عليها في الباب الثالث من القانون رقم 25.90، ويشمل مادتين فقط (56 و57) ؛ عرفت الأولى المجموعة السكنية التي اعتبرتها جملة المباني الفردية أو الجماعية المعدة للسكن التي يشيدها بصورة متزامنة أو مختلفة على بقعة أرضية واحدة أو عدة بقع أرضية مالك أو مالكو البقعة أو البقع المقامة على المباني ؛ في حين نصت الثانية على تمديد سريان الأحكام المطبقة على إقامة التجزئات العقارية على إحداث المجموعات السكنية.
4- رخصة التقسيم:
يتفق التقسيم مع التجزيء في أن كليهما يعتبر أداة لتفتيت الملكية العقارية وتقسيمها إلى قطع أرضية صغيرة المساحة. إلا أنهما يختلفان في كون التجزيء ينتج عنه بقع أرضية معدة سلفا لإقامة بناء عليها مع تحديد تخصيصها (سكنية-صناعية-تجارية…) وتوفير جميع التجهيزات اللازمة لبناء تلك البقع وكذا المساحات المخصصة للمرافق الجماعية التي تقتضيها متطلبات التجزئة؛ في حين أن التقسيم ينتج عن عملية بيع أو قسمة يترتب عنهما تقسيم عقار إلى بقعتين أو أكثر غير معدة لإقامة بناء عليها، أو بسبب بيع عقار لعدة مشترين على الشياع من شأنه أن يكون نصيب أحد منهم دون المساحة التي يجب ألا تقل عنها مساحة البقعة الأرضية بمقتضى وثيقة من وثيقة التعمير، أو دون 2500 متر مربع إذا لم ينص على مساحة من هذا القبيل. وفي الغالب، يتم اللجوء إلى رخصة التقسيم لإفراز حالة الشياع الناتجة عن الإرث ورغبة كل وارث في الاستقلال بنصيبه مفرزا بغرض الانتفاع به والتصرف فيه بعيدا عن باقي الورثة.
والقاسم المشترك بين جميع هذه الرخص هو أن اختصاص منحها يرجع إلى رئيس المجلس الجماعي أو من يفوض إليه هذه الصلاحية ، ماعدا في بعض الحالات الخاصة التي يتولى فيها تسليم الرخصة استثناءا وزير الداخلية أو السلطة المحلية في شخص الوالي أو العامل . كما يلاحظ غياب أي إشارة صريحة إلى الدور الذي يمكن أن تضطلع به الوكالات الحضرية في دراسة ملف طلب الرخصة وكيفية القيام به سواء في القانون رقم 12.90 أو القانون رقم 25.90 مع أنه عند صدورهما في 17/6/1992 كان قد شرع في تطبيق تجربة الوكالات الحضرية بإحداث الوكالة الحضرية للدار البيضاء بمقتضى الظهير الشريف بمثابة قانون رقم 188-84-1 بتاريخ 9/10/1984، وعلى وشك إنشاء كل من الوكالة الحضرية لفاس والوكالة الحضرية لأكادير المحدثتين على التوالي بمقتضى القانونين رقم 19.88 و20.88 بتاريخ 9/11/1992.
بل إن القانونين المذكورين (90.12 و 90.25 لم يتطرقا بكيفية دقيقة وواضحة إلى مسطرة دراسة طلبات رخص التعمير من جميع الجهات المتدخلة في تلك الدراسة والآجال المحددة لها لإبداء آرائها أو منح تأشيرتها، واقتصرا فقط على الإشارة بصفة مقتضبة إلى أن تسليم رخصة البناء أو الإذن بالتجزيء أو التقسيم يتم دون إخلال بوجوب الحصول على الرخص والأذون المنصوص عليها في تشريعات خاصة، وبعد أخذ الآراء والحصول على التأشيرات المقررة بموجب الأنظمة الجاري بها العمل، الأمر الذي فتح المجال أمام اختلاف وتباين المسطرة المتبعة بين كل جماعة وأخرى.
أما بالنسبة للوكالات الحضرية، فلم يتم الحديث صراحة عن دورها في مسلسل دراسة ملف الرخصة إلا بمقتضى المرسوم التطبيقي للقانون رقم 12.90 والمرسوم التطبيقي لقانون رقم 25.90 الصادرين بتاريخ 14/10/1993، الأول نص في مادته 32 على أن كل طلب للحصول على رخصة البناء، يجب أن يعرض على المصالح الخارجية التابعة للسلطة الحكومية المكلفة بالتعمير لإبداء رأيها فيه مع مراعاة الصلاحيات المسندة في هذا الميدان إلى الوكالة الحضرية بموجب التشريع الجاري به العمل. في حين نصت المادتين 8 و 20 من المرسوم الثاني على وجوب عرض كل مشروع تجزئة أو تقسيم على المصالح الخارجية التابعة للسلطة الحكومية المكلفة بالتعمير أو السلطة الحكومية نفسها حسب طبيعة المشاريع لاستطلاع رأيها، ولا يطلب ذلك الرأي في حالة إذا كان المشروع يقع خارج دائرة اختصاص وكالة حضرية، مما يعني بمفهوم المخالفة أنه في حالة إذا كانت الأرض المراد تجزئتها أو تقسيمها واقعة داخل النفوذ الترابي للوكالة الحضرية تحل هذه الأخيرة محل المصالح الخارجية المكلفة بالتعمير في مسطرة استطلاع الرأي من طرف الجماعة.
والغرض من الحرص على التنبيه إلى دور الوكالات الحضرية في المرسومين المذكورين إنما يندرج في إطار ملائمة مقتضياتهما مع ما نص عليه البند الرابع من المادة 3 من الظهير الشريف بمثابة قانون رقم 51-93-1 بتاريخ 10/9/1993 المتعلق بإحداث الوكالات الحضرية الذي جاء فيه على أنه “تتولى الوكالة الحضرية في نطاق اختصاصها إبداء الرأي في جميع المشاريع المتعلقة بتقسيم وتجزئة الأراضي وإقامة المجموعات السكنية والمباني، وذلك داخل أجل أقصاه شهر ابتداء من توجيه تلك المشاريع إليها من قبل الجهات المختصة، ويكون الرأي الذي تبديه في ذلك ملزما”.
ولم تكن هذه المقتضيات المجملة والمقتضبة كافية لتوضيح كيفية ممارسة الوكالات الحضرية تدخلها في دراسة طلبات رخص التعمير والإجراءات العملية لذلك التدخل وحدوده ، ولسد هذا الفراغ على مستوى النص التشريعي والتنظيمي صدرت مجموعة من الدوريات والمناشير الوزارية كانت أولها الدورية رقم 222 الصادرة عن وزير الداخلية بتاريخ 12 ماي 1995 بشأن مسطرة دراسة طلبات رخص البناء وإحداث التجزئات العقارية والمجموعات السكنية وتقسيم الأراضي في دائرة اختصاص الوكالات الحضرية، والذي بين لأول مرة خطة عمل الوكالة الحضرية في دراستها لطلب الرخصة بعد إحالته عليها من المجلس الجماعي، وذلك من خلال التمييز بين نوعين من المشاريع : المشاريع العادية وتخضع دراستها لمسطرة سريعة، والمشاريع الكبيرة خصصت لها إجراءات خاصة أطلق عليها اسم المسطرة العادية.
إلا أن التطبيق العملي أبان عن ضعف في التنسيق بين الجماعات المحلية والوكالات الحضرية نتج عنه بطء كبير في دراسة طلبات الرخص وتعقيد في مسطرة البت يرجع إلى تخوف الجهة الأولى من أن يؤدي الدور المنوط بهذه الأخيرة إلى تقليص دورها كهيئات منتخبة في مجال التعمير كأهم المحاور المجسدة للامركزية المحلية، في مقابل محاولة الجهة الثانية فرض وجودها وسحب البساط من المجالس الجماعية مستغلة في ذلك سوء التدبير الذي كان يعرفه مرفق التعمير أحيانا من طرف الأخيرة وما أدى إليه من تجاوزات على مستوى البناء العشوائي والسكن غير اللائق.
وفي محاولة لخلق هذا التنسيق صدر منشور الوزير الأول رقم 14 بتاريخ 2 أكتوبر 2000 حول تبسيط مسالك ومساطر دراسة طلبات رخص البناء وإحداث التجزئات العقارية والمجموعات السكنية وتقسيم العقارات، وهو عبارة عن إطار عام موجه لكل المتدخلين في قطاع التعمير على المستوى المحلي من أجل التقيد بالقواعد والتدابير التي تضمنها حتى يتسنى لهذا القطاع الإسهام في تشجيع الاستثمار وإنعاش حركة العمران وترويج الثروات والأموال. والتدابير المذكورة تهدف فقط إلى إعطاء فعالية أكبر لتدخل الإدارات المعنية لا سيما على مستوى اللجان المكلفة بدراسة الطلبات بغرض البت فيها داخل الآجال القانونية، دون خلق مساطر جديدة مغايرة للمسطرة التي نص عليها المنشور رقم 222، وإنما أحال بشأنها إلى منشور تفصيلي سيصدر عن الوزير المكلف بإعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان، وهو ما تم فعلا بمقتضى المنشور عدد 1500 بتاريخ 6 أكتوبر 2000 المعمول به حاليا ، والذي تطرق بالتنظيم إلى مسألتين أساسيتين :
1- مذكرة المعلومات الإدارية : تهدف إلى إخبار صاحب الشأن بناء على طلب منه بالاستعمال المخصص له عقار معين بموجب وثائق التعمير الجاري بها العمل، ويمكن لكل ذي مصلحة أن يتقدم بذلك الطلب عندما تكون هناك وثيقة من وثائق التعمير مصادق عليها، وفي غيابها لا يمكن أن يتقدم بالطلب إلى صاحب البقعة المعنية أو كل شخص يدلي بموافقة هذا الأخير، أو بكل وثيقة تبرر الحصول على مذكرة المعلومات كقرار الإعلان عن المنفعة العامة مثلا.
ويتعين على الوكالة الحضرية أن تسلم هذه المذكرة في أجل لا يتعدى 72 ساعة من تاريخ توصلها بالطلب ولا تشهد بأي شكل من الأشكال بصحة المعطيات المقدمة من طرف الطالب، أو تعتبر بمثابة موافقة من الوكالة على أي مشروع مستقبلي.
2- مسالك دراسة رخص التعمير : تم تصنيف مساطر دراسات طلبات رخص التعمير إلى ثلاثة أصناف بحسب حجم وأهمية المشاريع المزمع إقامتها، تتمثل في مسطرة الأشغال الطفيفة والمنشآت الموسمية أو العرضية ولا تمارس الوكالات الحضرية بشأنها أي دور بحيث لا توجه إليها أصلا الملفات الخاضعة لهذه المسطرة. تم مسطرة المشاريع ذات استعمال سكني أو مهني المحدودة الأهمية، وتدرس بمقر الجماعة من طرف لجنة مكونة من ممثلين عن هذه الأخيرة والوكالة الحضرية والعمالة أو الإقليم المعني بالإضافة إلى ممثل عن كل مصلحة إدارية معنية بالمشروع ولا يجب أن يتعدى أجل دراسات الملفات ثمانية أيام من تاريخ إيداعها، ويمكن أن يحظى بعد ذلك المشروع بموافقة اللجنة سواء بدون تحفظ أو مع إبداء تحفظات يتعين التحقق من الاستجابة إليها أثناء تنفيذ أشغال البناء أو معاينتها عند الانتهاء منها، وإما رفض المشروع أو وقف البت في شأنه، وإما إحالة الملف على الوكالة الحضرية عندما يكون المشروع ذا خصوصيات تتطلب دراسة أكثر عمقا على أساس عرضه في اجتماع اللجنة المقبل.
وفي حالة عدم حصول أي اتفاق بين أعضاء اللجنة يتخذ رئيس المجلس الجماعي القرار دون المساس برأي الوكالة الحضرية الذي يجب أن يقتصر على التأكد من مطابقة مشروع البناء للمقتضيات القانونية والتنظيمية العامة المتعلقة بالتعمير والبناء، ثم مطابقته لوثائق التعمير المعمول بها.
ثم هناك مسطرة المشاريع الكبرى وتنطبق على مشاريع إحداث التجزئات العقارية والمجموعات السكنية وتقسيم العقارات والبناء والتهيئة، حيث توجه الملفات داخل أجل ثلاثة أيام من تاريخ إيداعها بالجماعة إلى الوكالة الحضرية وكذا المصالح والمؤسسات الأخرى المعنية. ثم تقوم جميع هذه الهيئات بدراستها كل في مجال اختصاصه تمهيدا لتقديمها للجنة يرأسها مدير الوكالة الحضرية أو من يمثله، وعضوية ممثل الجهة المكلفة بالاتصالات السلكية واللاسلكية بالإضافة إلى أعضاء اللجنة المكلفة بدراسة المشاريع الصغرى المشار إليهم أعلاه، وبعد دراسة اللجنة للملف الذي يتعين أن يتم داخل أجل 10 أيام من تاريخ تسلم الوكالة الحضرية للملف ؛ يمكن أن تصدر قرارها بالموافقة بدون تحفظ، أو مع إبداء تحفظ أو أكثر، أو رفض الطلب .
ومما تجدر الإشارة إليه في ختام هذا المبحث أن الإبقاء على تنظيم مساطر دراسة طلبات رخص التعمير عن طريق الدوريات والمناشير بدل النصوص التشريعية والتنظيمية سيطرح دائما تساؤلات حول القيمة القانونية لهذه المناشير ومدى إلزاميتها سواء بالنسبة للإدارات المعنية أو في مواجهة طالبي الرخص. ونعطي مثالا لذلك فيما نص عليه المنشور رقم 1500 بالملحق السادس منه، من وجوب أن يتضمن ملف طلب رخصة إقامة المشاريع الصغرى والكبرى، مذكرة المعلومات المشار إليها في ذلك المنشور من جملة وثائق الملف، وعلى هذا الأساس اعتادت بعض الوكالات الحضرية على عدم قبول طلبات
الترخيص لعدم إرفاقها بالمذكرة المذكورة وإعادتها إلى أصحابها إلى حيث استيفاء هذا الشرط، مع العلم أن هذه الأخيرة مسألة اختيارية بالنسبة للطالب وليس هناك ما يلزمه بها سواء في القانون رقم 12.90 أو القانون رقم 25.90، ولا سيما المادة الرابعة من هذا القانون الأخير التي حددت الوثائق التي يتكون منها طلب الحصول على رخصة إقامة تجزئة، وهو ما يتجاوز نطاق تدخل الدورية أو المنشور اللذين يقتصر مجالهما على توضيح وتفسير ما غمض وأبهم من النص القانوني دون إضافة شروط أو وضع التزامات لم يشرعها هذا الأخير.
من جهة أخرى، هناك تفاوت بين الإدارات المعنية بدراسة طلبات الترخيص في استجابتها مع الدوريات والمناشير الوزارية في مجال التعمير ، بحيث أن البعض منها يتعامل بتحفظ أو لا يبدي استعدادا جديا لتطبيقها بحكم أن الجهة الصادرة عنها لا تربطها بها أي علاقة إدارية ولا تخضع لوصايتها، وبالتالي تعتبرها لا تكتسب أي قوة ملزمة لها، وهذا ما حدث مع المنشور رقم 1500 الصادر عن وزير إعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان والبيئة، إذ لم يكن محل قبول من طرف جميع المجالس الجماعية التي لا يزال بعضها يعمل بالدورية رقم 222 بتاريخ 12 ماي 1995 الصادرة عن وزير الداخلية، في الوقت الذي تعمل الوكالات الحضرية بالمنشور المذكور، الأمر الذي ينعكس سلبا على مساطر دراسة ملفات الرخص وتباينها إن على مستوى الكيفية أو الآجال أو الشروط المتطلبة .
المبحث الثاني: الطبيعة القانونية للقرارات الصادرة عن الوكالات الحضرية
إن الحديث عن طبيعة الأعمال الصادرة عن الوكالات الحضرية بمناسبة الدور الذي تقوم به في مجال رخص التعمير وترتيب الآثار القانونية على تلك الطبيعة من حيث قابليتها أو عدم قابليتها لأن تخضع لرقابة قاضي الإلغاء، يقتضي بداية معرفة مفهوم القرار الإداري الذي يكون بمفرده محلا لدعوى الإلغاء وتمييزه عن باقي الأعمال الإدارية الأخرى التي لا ينطبق عليها هذا الوصف لانتفاء أحد مقوماته فيها (المطلب الأول)، قبل أن نعمل في المطلب الثاني على إسقاط تلك المقومات على أعمال الوكالات الحضرية بعد تصنيفها بحسب المرحلة التي تصدر فيها من مسلسل دراسة طلبات رخص التعمير.
المطلب الأول : نطاق القرارات الإدارية القابلة للطعن بالإلغاء
القرار الإداري وفق ما اصطلح عليه الفقهاء وذهب إليه القضاء المغربي والمقارن هو “إفصاح الإدارة عن إرادتها الملزمة بما لها من سلطة بمقتضى القوانين واللوائح، وذلك بقصد إحداث أثر قانوني معين متى كان ممكنا وجائزا قانونا، وكان الباعث عليه ابتغاء مصلحة عامة”.
وواضح من هذا التعريف وغيره من التعاريف المشابهة التي لا يسع المجال لذكرها أنه يضع ثلاثة عناصر أساسية يقوم عليها القرار الإداري، تتمثل في أن يكون القرار صادرا عن سلطة إدارية وطنية يستوي في ذلك أن تكون سلطة إدارية مركزية أو لامركزية مرفقية أو إقليمية، وأن يكون صدوره عنها نتاج إرادتها المنفردة بوصفها سلطة عامة من أجل استبعاد تصرفاتها الصادرة في حدود قواعد القانون الخاص شأنها شأن الأفراد العاديين وكذا العقود الإدارية التي تكون وليدة توافق إرادتين متقابلتين وليست نتاجا لإرادة منفردة، ثم أن يكتسي القرار صفة العمل القانوني النهائي .
وما يهمنا في موضوع بحثنا هو هذا العنصر الأخير لما له من تأثير على تحديد مفهوم العمل الصادر عن الوكالات الحضرية وممارسة الأفراد لحقوقهم في الطعن إزاءه.
إن أهم ما يميز القرار الإداري عن غيره من أعمال الإدارة الأخرى هو نيته في إحداث آثار قانونية معينة بشكل فوري ومباشر، وذلك من خلال إنشاء مركز قانوني جديد أو تعديل في مركز قانوني قائم أو إلغاء له. ويكون هذا الأثر ناتجا عن القرار في حد ذاته دون أن توجد سلطة أعلى تملك حق التعقيب أو المصادقة على الإجراء المتخذ، وإلا كنا أمام اقتراح أو إبداء رأي فقط لا يرقى لمرتبة القرارات الإدارية الكفيلة بترتيب آثار قانونية وفي هذا، تقول المحكمة الإدارية العليا بمصر : “ليس يكفي لتوفر صفة النهائية للقرار الإداري أن يكون صادرا من صاحب اختصاص بإصداره، بل ينبغي أن يقصد مصدره الذي يملك إصداره تحقيق أثره القانوني فورا ومباشرة بمجرد صدوره، وألا تكون ثمة سلطة إدارية للتعقيب عليه، وإلا كان بمثابة اقتراح أو إبداء رأي لا يترتب عليه الأثر القانوني للقرار الإداري النهائي” .
وترتيبا على ذلك، فإن كثيرا من أعمال الإدارة لا تعتبر قرارات إدارية لأنه ينطبق عليها معيار العمل القانوني، وتتمثل في :
1-الأعمال التمهيدية أو التحضيرية:
وهي التي تمهد لقرار لاحق سوف يصدر، وتأخذ شكل تحقيق أو توصية أو اقتراح إداري أو رأي استشاري، وهي لا تعتبر قرارات إدارية لأنها لا ترتب بذاتها أي أثر قانوني ولأنها تحتاج إلى مصادقة جهة أخرى التي تعطيها ذلك الأثر، والمثال البارز على ذلك: المقترحات التي تبديها اللجان الإدارية المتساوية الأعضاء كمجالس تأديبية وإجراءات التوقيف المؤقت الصادرة في حق الموظفين في حالة ارتكابهم مخالفات مهنية إلى حين البت النهائي في وضعيتهم، وقرار الإعلان عن إجراء البحث الإداري في مسطرة نزع الملكية لأجل المنفعة العامة، إلى غير ذلك من القرارات المشابهة.
2-أعمال تقتصر على ترديد أثر قانوني ترتب بمقتضى نص تشريعي أو تنظيمي:
وهو ما يطلق عليه بالأعمال المادية للإدارة، ومن قبيل ذلك الإجراءات التي تتخذها هذه الأخيرة في مجال تسوية الوضعية المادية للموظفين، سواء أفيد منها الموظف أم أضير منها مثل الإجراء المتعلق بمنح مكافأة دورية أو صرف مصاريف التنقل، أو الاقتطاع من الراتب ، وأيضا الشهادات الإدارية التي تشهد بحالة واقعية أو قانونية معينة مقررة سابقة، أو الإنذارات الضريبية، والمناشير والتعليمات الدورية التفسيرية…
3-الأفعال المادية التي تقع تنفيذا لقرار إداري سابق:
مثل عملية سحب السلاح من شخص تطبيقا لقرار صادر في حقه برفض تجديد رخصة حمل السلاح التي يستفيد منها أو سحبها منه، وعملية هدم بناء مخالف لضوابط التعمير تنفيذا لقرار إداري يقضي بذلك الهدم، أو منع موظف من الدخول إلى الإدارة تنفيذا لقرار عزله من العمل…
بالمقابل، فإن هناك طائفة أخرى من أعمال الإدارة يتحقق فيها وصف العمل القانوني بالنظر لما ترتبه من آثار قانونية في مواجهة المخاطبين بها، وتصلح تبعا لذلك لأن تكون محلا لدعوى الإلغاء :
1- أعمال تكون الإدارة ملزمة باتخاذها متى تحقق سبب معين: بمعنى أن تحقق هذا السبب يوجب عليها اتخاذ العمل، مثال ذلك قرار منح رخصة بناء (والسبب هو طلب الحصول على الرخصة واستيفاء شروطها)، أو قرار إنهاء خدمة موظف لبلوغ سن إحالته على التقاعد أو لعدم كفاءته البدنية (والسبب في هاتين الحالتين هو إدراك سن التقاعد أو عدم الكفاءة البدنية)، أو قرار الإعلان عن نجاح الطالب في الامتحان (والسبب هو واقعة النجاح).
وبالرغم من أن سلطة الإدارة تبقى مقيدة في مثل هذه الحالات لأنها تكون ملزمة باتخاذ القرار متى تحقق السبب، إلا أن الأثر القانوني لا ينشأ مع ذلك إلا بصدور هذا الأخير.
2- أعمال تملك الإدارة حرية في اتخاذها أو عدم اتخاذها، ولكنها لا تستطيع اتخاذها إذا ارتأت ذلك إلا إذا توافر سبب محدد بعينه (أو واحد من بين عدة أسباب محددة) دون غيره (وليس أي سبب آخر)، مثال ذلك قرار فصل الموظف بغير الطريق التأديبي ، أو قرار سحب بطاقة الإقامة عن الأجنبي.
3- أعمال تكون جهة الإدارة حرة في اتخاذها، وإذا هي اتخذتها جاز لها أن تسندها إلى أي سبب طالما كان قائما أو مشروعا، مثال ذلك، تعيين موظف، أو ترقية عادية بالاختيار، منح مكافأة تشجيعية، توقيع جزاء تأديبي.
المطلب الثاني: الطعن في قرارات الوكالة الحضرية
إن البحث في مدى انسجام فكرة “الأثر القانوني” كشرط لقيام القرار الإداري مع الأعمال الصادرة عن الوكالات الحضرية في مجال رخص التعمير ينطلق من زاويتين أساسيتين : الأولى من خلال معرفة دور الوكالة الحضرية في دراسة طلبات الرخص المذكورة وطبيعة ذلك الدور وحدوده، والثانية تقوم على أساس التمييز بين تلك الأعمال بحسب المرحلة التي صدرت فيها وعدم اعتبارها من جنس واحد، بحيث يمكن تصنيفها إلى ثلاثة أنواع : الأعمال الصادرة قبل دراستها لملف الرخصة، والأعمال الصادرة بمناسبة تلك الدراسة، والأعمال الصادرة بعد صدور قرار الترخيص.
أولا : القرارات الصادرة قبل دراسة ملف الرخصة :
لا يمكن تصورها إلا بالنسبة لمذكرة المعلومات التي يطلبها صاحب الشأن من الوكالة الحضرية في إطار استعداداته لتقديم طلب الحصول على رخصة ما من رخص التعمير، وذلك من أجل معرفة طبيعة تخصيص البقعة الأرضية المراد إنجاز المشروع فوقها وفق وثائق التعمير وما هو نوع البناء الممكن إقامته ومواصفاته. ولا شك أن الوثيقة الصادرة بتلك المعلومات لا تملك أي صفة تقريرية بالنسبة للمركز القانوني للطالب وإنما تعكس فقط المركز المعطى له من قبل وثيقة التعمير المستند إليها التي تظل هي المؤثرة قانونا في ذلك.
المركز، وهذا ما ذهبت إليه المحكمة الإدارية بمراكش في قضية إدريس بن أبيش ومن معه ضد الوكالة الحضرية بمراكش، حيث جاء في حكمها : “وحيث إن القرار الإداري حسب الفقه والقضاء هو إفصاح الإدارة في الشكل الذي يتطلبه القانون على إرادتها الملزمة بمالها من سلطة عامة بمقتضى القوانين واللوائح لإحداث مركز قانوني متى كان ممكنا وجائزا وكان الباعث عليه ابتغاء المصلحة العامة.
وحيث اعتبارا لما تقدم فإنه لكي يكون القرار الإداري قابلا للطعن بالإلغاء يجب أن يكون صادرا عن سلطة عامة ونهائيا ومؤثرا بذاته في المراكز القانونية للأطراف.
وحيث إنه بالرجوع إلى ما اعتبره الطاعنون قرارا إداريا يتضح أنه لا يعدو أن يكون مجرد ورقة معلومات تتعلق بعقارهم من حيث موقعه ووضعيته حسب توقعات مشروع تصميم التهيئة الخاص بالمنارة جليز، ولا يتضمن أي قرار من شأنه إحداث أثر قانوني أو إلغاؤه بالنسبة لحقوق المعنيين بالأمر، الشيء الذي يكون معه الطعن فيه بالإلغاء غير مقبول” .
وهذا الاتجاه القضائي إنما هو اتجاه عام بالنسبة لجميع الشهادات الإدارية التي تتضمن الإشهاد بحالة معينة واقعية أو قانونية دون إحداث أي أثر قانوني، مثل الشهادة الصادرة في موضوع الصفة الفلاحية لعقار معين، أو الشهادات المدرسية، أو شهادات العمل…
مع العلم أنه ينبغي التمييز بين الطعن في مذكرة المعلومات الصادرة عن الوكالة الحضرية والتي لا تقبل الطعن بالإلغاء كما قلنا، وبين قرار الوكالة الصريح أو الضمني برفض تمكين الطالب من تلك المذكرة، فهذا القرار أضر بالمركز القانوني لهذا الأخير لأنه حرمه من حقه في معرفة طبيعة التخصيص المحدد لبقعته الأرضية من أجل ممارسة حقوقه عليها والالتزام بواجباتها نحو ذلك التخصيص، وهذا يعتبر في حد ذاته مؤثرا من الناحية القانونية بغض النظر عن مضمون تلك المذكرة، سيما وأن المنشور رقم 1500 بتاريخ 6-10-2000 المعتمد من طرف الوكالات الحضرية في دراستها لطلبات الترخيص، ينص في الملحق السادس منه -كما مر معنا- على وجوب أن يتضمن ملف طلب الرخصة من بين وثائقه، بالنسبة للمشايع الخاضعة لمسطرة المشاريع الكبرى، مذكرة المعلومات المذكورة مسلمة من طرف الوكالة الحضرية، مما يترتب عنه أن رفض هذه الأخيرة تسليم تلك الوثيقة لطالبها يؤدي إلى حرمانه من حقه في الحصول على الرخصة المطلوبة لعدم استيفاء وثائقها حسب ذلك المنشور. مع التذكير بما سبق أن أشرنا إليه في المبحث الأول من أن اشتراط الإدلاء بتلك المذكرة رفقة ملف الطلب ليس له أي سند قانوني وإنما هو شرط إضافي فرضه المنشور المذكور مما يتعدى نطاق المناشير الوزارية، ولا يبرر عدم قبول الملف أو رفضه لهذه العلة تحت طائلة اعتبار القرار الصادر بهذا الشأن متسما بعدم المشروعية، بالإضافة إلى أن واجب الوكالة في تسليم مذكرة المعلومات لطالبها يندرج في إطار اختصاصها حول جمع وتعميم جميع المعلومات المتعلقة بالتنمية المعمارية للعمالات والأقاليم الواقعة داخل نطاق اختصاصها طبقا للبند 11 من المادة الثالثة من الظهير المحدث الوكالات الحضرية.
ثانيا : القرارات الصادرة بمناسبة دراسة الملف:
لا شك أن هذه الطائفة من القرارات الصادرة عن الوكالات الحضرية هي التي تثير جدلا حول قيمتها القانونية واختلفت فيها المحاكم الإدارية حول مدى قابليتها للطعن بصفة مستقلة عن قرارات الترخيص أم لا.
ونعتقد أن الجواب على هذا التساؤل يتوقف على الوصف الذي يأخذه الرأي الذي تبديه الوكالة الحضرية في أعقاب دراستها الملف. وقبل تحديد ذلك الوصف ، تجدر الإشارة إلى أنه أمام تعدد المتدخلين في دراسة طلب الرخصة مما قد يؤدي إلى تأخير أجل البت في الطلب بحكم أنه يتعين إحالة الملف على جميع هذه الجهات لإبداء رأيها فيه بصرف النظر عن القيمة القانونية للرأي الذي تبديه كل واحدة منها (ملزم أو غير ملزم)، فقد نص المنشور رقم 1500 على أن دراسة الملف يتم من طرف لجنة تضم جميع هؤلاء المتدخلين على مستوى الوكالة الحضرية، تتكون بالإضافة إلى ممثل هذه الأخيرة من مستشار جماعي مسؤول عن مصلحة التصميم بمعية مهندس معماري يعمل بالجماعة، وممثل عن القسم التقني للعمالة أو الإقليم، ثم ممثل عن كل مصلحة إدارية معنية بدراسة المشروع بالنسبة لدراسة المشاريع الصغرى، يضاف إليهم ممثل عن الوقاية المدنية، وممثل عن الجهة المكلفة بالاتصالات السلكية واللاسلكية بالنسبة لدراسة المشاريع الكبرى .
ويتولى رئاسة اللجنة رئيس المجلس الجماعي أو من يمثله في حالة وجود وثيقة من وثائق التعمير مصادق عليها، وفي حالة عدم وجود تلك الوثيقة يتولى رئاستها مدير الوكالة الحضرية أو من يمثله ، وفي جميع الأحوال يكون الرأي الذي تبديه هذه الأخيرة ملزما لرئيس المجلس الجماعي في اتخاذه لقرار الترخيص أو الرفض ، وذلك فيما يتعلق بمطابقة مشروع البناء للمقتضيات القانونية والتنظيمية العامة المتعلقة بالتعمير والبناء أو مطابقته لوثائق التعمير المعمول بها. وذلك على خلاف باقي الآراء الأخرى التي تكتسي طابعا استشاريا فقط ولا تحوز أي قوة ملزمة، دون أن يمنع ذلك من أن جميعها بما فيها رأي الوكالة الحضرية تعتبر من صنف الإجراءات التمهيدية أو التحضيرية التي تسبق اتخاذ القرار النهائي من طرف الجهة التي منحها المشرع هذا الاختصاص ممثلة في شخص رئيس المجلس الجماعي بموجب المادة 41 من القانون رقم 12.90، والمادتين 3 و59 من القانون 25.90، وهو ما يجعلها تفتقد إلى شرط التأثير في المركز القانوني للمعنيين بالأمر. وهذه الفرضية من الناحية العملية تطرح في حالة عدم حصول أي اتفاق بين أعضاء اللجنة حول القرار الواجب اتخاذه، ولذلك جاء في المنشور 1500 على أنه في مثل هذه الحالة يتخذ رئيس المجلس الجماعي القرار دون المساس برأي الوكالة الحضرية كما سلف الذكر، وذلك انسجاما مع مقتضيات المواد أعلاه.
وعلى هذا الأساس بنت المحكمة الإدارية بالدار البيضاء حكمها الصادر في قضية عبد الحق الشاوي ومن معه ضد عامل عمالة ابن مسيك، حيث اعتبرت أن طلب الحصول على رخصة البناء بإقامة مسكن ومشروع استثماري يجب أن يوجه لرئيس المجلس الجماعي المختص قانونا بالبث في الطلب، الأمر الذي يكون معه طلب المدعين الموجه للعامل مدير الوكالة الحضرية بالدار البيضاء، وعامل مقاطعة ابن مسيك للحصول على الرخصة، قد وجه إلى جهة غير مختصة، ويكون أي قرار صادر عنهما مجرد رأي استشاري لا يسمو لمرتبة القرار الإداري المكتمل الأركان والمؤثر في المركز القانوني للمعني به، وهو الأمر الذي لا دليل على توافره في نازلة الحال التي وجه الطعن فيها لقرارين غير مؤثرين ولم يتصفا بالصبغة التنفيذية، وقضت تبعا لذلك بعدم قبول الدعوى.
نفس المعنى أشارت إليه المحكمة الإدارية بالرباط في حكمها الصادر بتاريخ 16/10/2003، بمناسبة الطعن في قرار رئيس المجلس البلدي للرباط اليوسفية الذي رفض تلبية طلب الطاعن في الحصول على رخصة لبناء عمارة من أربع طوابق على قطعته الأرضية استنادا إلى الرأي السلبي الذي أبدته الوكالة الحضرية للرباط بخصوص ذلك الطلب، وقبل مناقشة المحكمة لمضمون ذلك الرأي ومدى مطابقته للقانون أم لا، وصفته بداية بأنه رأي استشاري ، بما يحمله هذا الوصف من مفهوم قانوني يجعله خارج عداد القرارات الإدارية القابلة للطعن .
بالمقابل، فإن اعتبار رأي الوكالة الحضرية عند دراسة ملف الرخصة قرارا إداريا نهائيا ومؤثرا في المركز القانوني للطاعن يسقطنا في كثير من الافتراضات غير المستساغة والبعيدة عن المنطق القانوني، إذ أن فتح المجال للطعن في رأي الوكالة الحضرية يعني بالموازاة إمكانية الطعن في باقي الآراء والاستشارات الأخرى الإجبارية منها والاختيارية المنصوص عليها في القانونين رقم 12.90 و 25.90، وهو الأمر الذي لا يمكن قبوله وسبق للمحكمة الإدارية بأكادير أن قضت بذلك بمناسبة نظرها في الطعن الموجه ضد قرار اللجنة التقنية للعمالة بعدم الموافقة على طلب الطاعن الحصول على رخصـة تسوير منزل واعتبرت أن ذلك القرار لا يعد قرارا إداريا قابلا للطعن بالإلغاء وإنما مجرد إجراءا تحضيريا، لا سيما وأن اللجنة المذكورة لها رأي استشاري فقط بخصوص طلبات رخص البناء التي يختص بمنحها رؤساء المجالس الجماعية طبقا لمقتضيات قانون التعمير وظهير التنظيم الجماعي . مع العلم أن رأي اللجنة المذكورة يختلف عن رأي الوكالة الحضرية من حيث أن هذا الأخير يكون ملزما لرئيس المجلس الجماعي، إلا أنهما يشتركان في أن كليهما يعتبر عملا تحضيريا ولا يقبلان بهذه الصفة للطعن فيهما بالإلغاء.
من جهة أخرى، فإن ممارسة الطعن في رأي الوكالة الحضرية الذي يأتي سلبيا في طلب صاحب الشأن قبل أن يصدر القرار النهائي من طرف رئيس المجلس الجماعي لا يفهم منه إلا أن ذلك الرأي اعتبر من طرف الطاعن بمثابة رفض لطلب الترخيص، مع العلم أن هذه الأخيرة باعتبارها الجهة المختصة قد تصدر قرارا بالترخيص لفائدة الطالب على نحو مخالف للرأي الذي أبدته الوكالة الحضرية ، أو أنها قد تلتزم موقف الصمت إلى غاية انصرام أكثر من شهرين على تاريخ إيداع الطلب، ويعتبر آنذاك الطالب حاصلا على رخصة ضمنية بالبناء طبقا لمقتضيات المادة 48 من القانون رقم 12.90 أو بالتجزيء بعد انصرام ثلاثة أشهر طبقا للمادة 8 من القانون رقم 25.90، إذا كان ملف الترخيص متوفرا على كافة الشروط القانونية والفنية التي تجعله متكاملا وحريا بالقبول، وهو ما يفترض في الطاعن في مثل هذه الحالة، وإلا لما كان أقدم على الطعن في رأي الوكالة الحضرية، التي يكون عليها إذاك الطعن في قرار الترخيص الضمني المخالف لرأيها. و أخيرا، قد يصدر قرار الجماعة مطابقا لرأي الوكالة السلبي برفض منح الترخيص دون أن يعتمد على نفس السبب الذي بنت عليه هذه الأخيرة رأيها.
أما ما يراه البعض من أن الأثر القانوني الذي يحوزه رأي الوكالة الحضرية يجد سنده في كونه يبقى ملزما طبقا لما ينص عليه البند الرابع من المادة الثالثة من الظهير المحدث للوكالات الحضرية، فإن تلك الإلزامية يقصد بها أمرين : الأول أن سلوك تلك المسطرة يبقى لازما تحت طائلة اعتبار القرار الصادر في غياب رأي الوكالة متسما بعدم المشروعية، والثاني أن تلك الإلزامية يواجه بها المجلس الجماعي الذي ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار الرأي الذي تبديه الوكالة الحضرية عند اتخاذ القرار النهائي بشأن الطلب دون أن يحدث ذلك الرأي أي أثر بذاته في مواجهة المعني بالأمر مادام أنه يحتاج إلى اعتماده أو المصادقة عليه من طرف الجهة المختصة قانونا بإصدار القرار المذكور، التي قد تخالف رأي الوكالة رغم إلزاميته لها كما أوضحنا ، وتنتفي بالتالي أي مصلحة للطالب في الطعن فيه. ولمزيد من التوضيح نقول بأن “فكرة الأثر القانوني ” تقوم على عنصرين متلازمين : الأول إلغاء أو تعديل في المركز القانوني للطاعن (التأثير الموضوعي)، والثاني أن يكون القرار نهائيا بالمعنى الذي يجعله قابلا للتنفيذ بذاته نفاذ التأثير. و الرأي الذي تبديه الوكالة الحضرية بمناسبة دراسة طلب الرخصة إذا كان يتحقق فيه العنصر الأول، فإن العنصر الثاني يظل غائبا ما دام أنه يحتاج إلى تبنيه من طرف رئيس المجلس الجماعي.
كما أنه في حالة العكس إذا اعتبرنا أن رأي الوكالة يكون مؤثرا في مركز الطاعن وقابلا للطعن بذاته لكونه ملزما للجماعة، فهل معنى ذلك أن رأيها الإيجابي هو بمثابة قبول لطلب الترخيص، ونكون بالتالي أمام جهتين مختصتين بإصدار قرار الرخصة في تعارض مع نص المواد المشار إليها أعلاه، التي تعطي ذلك الاختصاص لرئيس المجلس الجماعي بمفرده، بالإضافة إلى أن بعض المشاريع المصنفة حسب المنشور رقم 1500 السالف الذكر في مسطرة الأشغال الطفيفة والمنشآت الموسمية أو العرضية يتم منح الرخص المتعلقة بها من طرف الجماعة دون أخذ رأي الوكالة الحضرية.
لكل ذلك، نعتقد أن كل من المحكمة الإدارية بأكادير والمحكمة الإدارية بالدار البيضاء لم تكونا على صواب عندما قبلتا الطعن في الآراء التي أبدتها الوكالة الحضرية أثناء دراسة طلب الترخيص، حيث قبلت المحكمة الأولى الطعن الموجه ضد قرار الوكالة برفض مشروع التصميم المقدم من طرف الطاعن، واعتبرته قرارا إداريا ملزما يقبل الطعن بالإلغاء، ومما جاء في حيثيات حكمها الصادر بتاريخ 20/2/2001 في معرض ردها على الدفع بعدم القبول المثار من طرف الوكالة. “وحيث إن ملاحظة الوكالة الحضرية برفض المشروع لأسباب تتعلق بالجمالية هو في حقيقته قرار برفض المشروع من شأنه إلزام المدعي بإعادة مشروع التصميم موضوع الملاحظة وعدم اعتباره، ومن شأنه إحداث أثر قانوني في مواجهة الطاعن قبل إحالته على المجلس البلدي المختص بمنح الرخصة كمرحلة أخيرة، ويؤثر على وضعية الطاعن حالا واستقبالا كلما تقدم بمشروع مماثل” .
والملاحظ على هذا الحكم أنه بالرغم من إشارته إلى أن رأي الوكالة تتم إحالته على المجلس البلدي الذي يظل هو المختص بمنح الرخصة أو رفضها كمرحلة أخيرة بتعبير الحكم، إلا أنها مع ذلك اعتبرت أن الرأي المذكور يشكل قرارا إداريا مؤثرا بذاته في المركز القانوني للطاعن، بل أكثر من ذلك في نفس الوقت الذي قضى الحكم بقبول الطعن الموجه ضد رأي الوكالة قضى بعدم قبول الطعن في قرار المجلس البلدي لأكادير برفض منح الترخيص بالبناء بعد أن دفع هذا الأخير بعدم صدور أي قرار صريح عنه بالرفض حتى يمكن الطعن فيه بدعوى الإلغاء، وهو التبرير الذي استند إليه الحكم مضيفا بأنه بمرور شهرين على تاريخ إيداع الطاعن لطلبه، يكون قد صدر عن المجلس البلدي قبول ضمني بمنح الرخصة ولا تكون بذلك أي مصلحة له بالطعن في القرار المذكور”. و هو ما يطرح التساؤل حول المصلحة نفسها التي دفعت الطاعن لتوجيه طعنه في قرار الوكالة الحضرية مادام أنه حصل على ترخيص ضمني بالبناء كما ذهب إلى ذلك الحكم.
أما المحكمة الإدارية بالدار البيضاء ففي قضية علال البركة ضد الوكالة الحضرية للدار البيضاء، قبلت الطعن الموجه ضد قرار هذه الأخيرة الضمني برفض إعطاء الرأي الموافق على رخصة البناء التي طلبها الطاعن، وهو القرار الذي استنتجته من موقف الصمت الذي تعاملت به الوكالة إزاء الطلب الذي تقدم به إليها هذا الأخير من أجل حثها على إبداء الرأي المذكور.
وعللت المحكمة قبولها للطعن بأن الوكالة الحضرية وهي “سلطة إدارية عامة عندما أفصحت عن إرادتها في عدم منح موافقتها على طلب الرخصة تكون قد أضرت بمصالح الطاعن، وأثرت بصورة مباشرة في مركزه القانوني، الأمر الذي تتوفر معه لموقف العامل مدير الوكالة الحضرية جميع مقومات القرار الإداري كما اصطلح عليها فقها وقضاء، مما يجعله قابلا للطعن بالإلغاء ” .
وبذلك تكون المحكمة ساوت بين قرار الترخيص الذي يتخذه رئيس المجلس الجماعي والرأي الذي تبديه الوكالة الحضرية من حيث الأثر القانوني المترتب عنهما، وهو ما ينم عن سوء فهم لطبيعة الرأي الذي تبديه الوكالة كعمل تحضيري كما مر معنا آنفا.
ولنا في أدبيات الفقه وأحكام القضاء نموذجا مماثلا من حيث طبيعة الرأي الذي تبديه الوكالة الحضرية في مجال رخص التعمير، وهو الاقتراح الذي يبديه المجلس التأديبي بعدم مؤاخذة الموظف المتابع تأديبيا. والذي يبقى ملزما لسلطة التسمية ولا يمكنها اللجوء إلى مسطرة تشديد العقوبة كما استقر على ذلك الاجتهاد القضائي لأن هذه الأخيــرة لا تكون مفترضة إلا في حالة اقتراح عقوبة معينة من طرف المجلس المذكور، وترى جهة الإدارة أنها لا تناسب خطورة الفعل المرتكب، ومع ذلك لا يعتبر ذلك الاقتراح قرارا إداريا مؤثرا في مركزه القانوني ولا يمكنه أن يستند إليه الموظف لطلب تسوية وضعيته في الإدارة ما لم تتم تزكيته من طرف السلطة المختصة.
وفي النازلة التي عرضت على المحكمة الإدارية بالدار البيضاء لم يصدر أي قرار صريح عن رئيس الجماعة برفض الترخيص للطاعن، بل جاء في الحكم بأن مصالح الجماعة قد أعطت موافقتها على منح الرخصة، كما لم يصدر أي رأي عن الوكالة بخصوص طلب الرخصة بدليل أن الطاعن هو الذي وجه إليها الطلب لحثها على إبداء رأيها الموافق، والذي التزمت حياله الصمت، وبالتالي يكون قد حصل على ترخيص ضمني ما دام أنه لم يتوصل بأي قرار صريح بالرفض من الجهة المختصة داخل الأجل القانوني.
ثالثا : القرارات الصادرة بعد صدور قرار الترخيص:
إن الدور الذي تقوم به الوكالات الحضرية بعد صدور قرار الترخيص يجد سنده في البند الخامس من المادة الثالثة من الظهير المحدث لتلك الوكالات والذي ينيط بها مراقبة أعمال تقسيم وتجزئة الأراضي وإقامة المجموعات السكنية والمباني عندما تكون في طور الإنجاز، وذلك للتحقق من مطابقتها لأحكام النصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل ولرخص التجزئ أو التقسيم وإقامة المجموعات السكنية أو البناء المسلمة لأصحاب الشأن.
وللقيام بذلك الدور نصت المادة 11 من نفس الظهير على إحداث هيئة مأمورين محلفين تابعة لمدير الوكالة يكلفون بإثبات المخالفات للنصوص التشريعية والتنظيمية المتعلقة بالتعمير. ويوجه مدير الوكالة المحاضر الذي يحررها المأمورون المشار إليهم، إلى السلطات المختصة لاتخاذ قرار بشأنها وفق النصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل.
وفي هذا السياق يلاحظ أن هناك تقصير كبير من جانب الوكالات الحضرية في القيام بوظيفتها على هذا المستوى. إذ في الغالب لا تتحرك إلا بعد توصلها بشكايات من المتضررين من البناءات المخالفة لضوابط التعمير. وعلى إثر ذلك يقوم أعوانها بمعاينة المخالفة المرتكبة وتحرير محضر بشأنها. أحيانا يتم إرسال ذلك المحضر إلى السلطات المختصة لاتخاذ ما يلزم من القرارات المناسبة، وأحيانا كثيرة يتم الاكتفاء فقط بمراسلة صاحب الشكاية لإخباره بمآل شكايته وما اتخذته الوكالة في شأنها أي التحقق من صحة المخالفة المشتكى بها من عدمها.
وحتى في حالة توجيه محضر المخالفة إلى السلطة الإدارية المختصة تعتقد العديد من الوكالات الحضرية أن مهمتها تنتهي عند هذا الحد، في حين أنه يتعين عليها تتبع طبيعة الإجراءات المتخذة من طرف تلك السلطة ومدى تناسبه مع نوع المخالفة، كما أنه في حالة عدم اتخاذ الإجراء المعني الذي غالبا ما يكون قرار الهدم داخل الأجل المحدد للإدارة، يتوجب على الوكالة أن تبادر إلى الطعن القضائي في القرار الضمني برفض اتخاذ القرار المناسب في حق المخالف بنفس الصفة التي تملكها للطعن أصلا في قرار الترخيص الذي يصدر بشكل مخالف للرأي الذي تبديه أثناء دراسة الملف، دون أن تملك أي صلاحية لسحب القرار الصادر على هذا النحو أو اتخاذ قرار بوقف الأشغال أو هدم البناء سواء المنجز بناء على ذلك الترخيص، أو المخالف لضوابط التعمير (بناء بدون ترخيص أو غير مقيد بشروط الرخصة). لأن ذلك فيه تعدي على اختصاصات السلطات الإدارية الأخرى التي منحها المشرع هذه الصلاحية، وهذا ما أكدته الغرفة الإدارية في قرارها عدد 597 الصادر بتاريخ 20/04/2000 في الملف الإداري عدد 162/5/1/98 والذي جاء فيه على أن “قرار الوكالة الحضرية وإن كان يعتبر ردا عن استفسار المستأنف عليه –الطاعن- فإنه قد أثر في المركز القانوني للمعني بالأمر عندما أخر إيقاف أشغال البناء الجارية ضدا على رخصة البناء، والحالة أن المستأنف عليه لا يعتبر مسؤولا عن عدم اتباع المجلس البلدي للمسطرة الواجب إتباعها على فرض ثبوت ذلك، مما يكون معه الحكم المستأنف الذي اعتبر قرار الوكالة المذكورة بمثابة سحب لرخصة البناء واجب التأييد” .
اترك تعليقاً