العدالة الجنائية بين التثبيت والتحديث
تمهيد :
ان الحديث عن العدالة الجنائية هو حديث ذو شجون، بل هو حديث كل العصور، ومازلت البشرية منذ وجدت تنشد العدالة الجنائية وتسعى نحو تحقيقها، وقد افرزت هذا السعي تراثا ضخما غنيا ممتدا في الزمان والمكان، بمدارسه الفكرية ونظرياته الفقهية وعلومه الجنائية وتشريعاته التطبيقية، فالفكرة تحمل على ظهرها ماضيا ثقيلا حافلا وتعيش حاضرا متوثبا وتنتظر مستقبلا متحديا.
فنظرة الناس للعدالة الجنائية في الالفية الثالثة ليست هي حتما نظرتهم إليها في العهود البدائية أو العصور الوسطى.
صحيح ان الفكر الجنائي تطور وارتقى وكافحت الشعوب والمجتمعات وادت الثمن غاليا حتى اصبح للعدالة الجناية مبادئ خالدة يعز على الانسانية ان تفرط فيها أو تتنازل عنها، ولكن في نفس الوقت كشفت السنون عيوبا وطرحت الصراعات الاجتماعية اشكالا جديدة من التحديات والتطورات المتلاحقة، واصبح البحث عن الحلول يفرض نفسه على نحو مستقر في افق تفعيل العدالة الجنائية على جميع المستويات بعيدا عن الارتباك والجمود.
لاشك اننا نعيش اليوم ثورة تكنولوجية وعلمية مهولة تكتسح كل اصناف العلوم، بما فيها العلوم القانونية ولا شك ايضا ان المجتمعات الانسانية تعيش تقلبات كبرى وتغييرات ملحوظة في قيامها واعرافها ومعتقداتها جعلت العلاقات الاجتماعية تبعا لذلك اكثر تعقيدا واكثر تمردا لذلك من الطبيعي ان ينظر إلى العدالة الجنائية انطلاقا من هذا الواقع المتحرك في اطار فلسفة واضحة المعالم محددة الاهداف.
وهذا يعني اعادة التفكير في مجموعة من المفاهيم والاليات التي تحكم العدالة الجنائية انطلاقا من البحث في موضوع الجريمة تعريفا وطبيعة وضبط اشكالها والوسائل الكفيلة بمكافحتها والتطرق إلى موضوع العقوبة اغراضا وخصائصا والتركيز على البدائل الممكنة والناجعة اضافة إلى ايجاد طرق سالكة لتوفير العدالة الجنائية لجميع المواطنين من خلال ضمان المحاكمات العادلة بحثا وتحقيقا وحكما.
وقد يتساءل البعض هل العدالة الجنائية جامدة ام متحركة كيف السبيل إلى تطوير العالة الجنائية وتجديدها.
الفصل الأول : العدالة الجنائية : الثابت والمتغير :
ان الفكر الجنائي استطاع ان يزحف بثبات إلى الامام فلامس العدالة الجنائية وتعرف على مظاهرها وعايش معانيها، فوضع مبادئ لن يقبل التراجع عنها ولن يرضى عنها بديلا، وفي نفس الوقت رفض الجمود وساير الواقع الاجتماعي وبحث باستمرار عن الحلول المتاحة جنائيا من خلال القواعد القانونية شكلا وموضوعا.
1- المبادئ الراسخة للعدالة الجنائية : الثوابت :
سنقتصر على الاشارة إلى بعض هذه المبادئ التي اصبحت لازمة من لوازم العدالة الجنائية.
أولا : الأصل في الانسان البراءة :
ان هذا المبدأ الخالد مظهرا من مظاهر العدالة الجنائية، فقد عانت الانسانية الأمرين من جراء غياب هذا المبدا، وكان الظلم الاجتماعي باديا للعيان، فيكفي ان يوجه الاتهام لفرد من الجماعة لكي يصبح محكوما عليه مذنبا ومدانا، ويصبح مطالبا باثبات براءته أو يترك الامر للأقدار لكي تتكفل باثبات براءته، فقد مضى على المتهمين حين من الدهر كان يقذف بهم إلى الوحوش الضارية فان صرعوها برؤوا انفسهم وان صرعتهم فالاصل هو إذنابهم، أو يلقى بهم في واد سحيق ذي تيار جارف فان نجوا اثبتوا براءتهم وان غرقوا اخفقوا في اثبات العكس .
وهكذا كانت العدالة الجنائية في ايام خلت ووفق عادات ومعتقدات سادت ثم بادت، وبدات هذه النظرة المختلفة تتغير شيئا فشيئا بفضل المجهودات التي قام الفلاسفة والمفكرون، وبدا الانسان يستعيد انسانيته وكرامته وحريته بعد ان مسخت هذه المعاني طوال عصور مظلمة كانت العبودية والتسلط والظلم والاستبداد اهم مظاهرها.
وهكذا اصبح الانسان الذي تلده امه بريئا اصبح من حقه ان يحتفظ لنفسه بهذا الأصل وبهذه البراءة إلى ان يثبت المجتمع العكس، والدولة التي تمثل المجتمع تأخذ على عاتقها هاته المهمة عن طريق مؤسسة النيابة العامة التابعة لها، وجهت اتهاما إلى احد افراد المجتمع، فعليها ان تقيم الحجة على صحة هذا الاتهام وصحة نسبته إلى فرد بعينه فالفرد هنا لن يتحمل ما لا طاقة له به، لن يكلف باثبات براءته، لان انسانيته تكفيه شر هذا الاثبات وبعد مبدا الأصل في الانسان البراءة احد الاعمدة الاساسية التي يقوم عليها بنيان العدالة الجنائية المعاصرة وثابتا من الثوابت التي لا تراجع عنها.
ثانيا : لا جريمة ولا عقوبة الا بنص :
لا يجوز القول ان العدالة الجنائية كانت موجودة ايام كان التجريم والعقاب خاضعا لمزاج الحاكم المستبد، الذي يحل الفعل اليوم ويحرمه غدا دون سابق اشعار، ويعاقب من شاء وبما شاء، فلا رقيب ولا حسيب فقد كان الافراد يعيشون في بحر لجي من التعسفات والخروقات فأصناف العقوبات غير محددة بل مرتبطة باختيارات الحاكم ولائحة الجرائم غير مقيدة بل مفتوحة على الدوام يضيف إليها الحاكم وينقص في كل وقت وحين.
ولكن الانسانية وبعد صراعات مريرة ومعاناة طويلة استطاعت ان تغير هذا الواقع سعيا نحو تحقيق عدالة جنائية منشودة، فدخل مبدا الشرعية إلى التشريعات بعد ان راج طويلا في عالم الفكر والتنظير، واصبح ركنا من اركان العدالة الجنائية فلا جريمة الا بنص ولا عقوبة الا بنص في القانون، ولا يمكن ان تجردني من العذر بجهل القانون اذ لم تنذري مسبقا بان اقترافي لفعل معين ممنوع ومجرم ويترتب عنه عقوبة محددة سلفا فلا يمكنني ان اشعر بالعدالة الجنائية في غياب ذلك، والقاضي الذي يحاكمني لا يمكنه ان يخلق الجرائم أو عقوبات غير منصوص عليها قانونا، ويحظر عليه ان يستعمل القياس أو ان يتوسع في تفسير النصوص الجزائية بغية استيعاب حالات اجرامية لم يقع التنصيص عليها.
2- موضوع العدالة الجنائية وشكلياتها : المتغيرات :
انه للعدالة الجنائية شقين : شق موضوعي يضم جملة من القواعد القانونية التي تحدد افعال الانسان المجرمة والعقوبات المقررة لها في اطار القانون، وشق شكلي يضم ثلة من القواعد القانونية المسطرية التنظيمية التي توضح طرق اكتشاف الجرائم والبحث عن مرتكبيها والتحقيق معهم ومحاكمتهم وتنفيذ العقوبة عليهم، والواقع ان الشقين معا متكاملين لا غنى لاحدهما عن الاخر، وما يميزها معا هو ذلك التطور المستمر والتغير الدائم الذي يطبع قواعدهما.
أولا : القواعد الموضوعية أو القانون الجنائي :
يضم القانون الجنائي مجموعة من القواعد القانونية التي تحصر افعال الانسان وامتناعاته التي تعد جريمة في نظر القانون وتضع لها عقوبات أو تدابير وقائية لزجر مرتكبيها، والقانون الجنائي بقواعده الموضوعية يستهدف أولا حماية المجتمع من الجريمة بمختلف اشكالها وثانيا يعبر عن ارادة جماعية لحماية قيم ومصالح معنية يعد العدوان عليها مستنكرا وغير مقبول، وهذا يعطي لقواعد القانون الجنائي ديناميكية وحركة دائمة وهو ما يفسر التعديلات العديدة التي تعرفها قوانين العقوبات في مختلف التشريعات المقارنة، فاول قانون عقوبات صدر في فرنسا سنة1791 ومنذ ذلك التاريخ والتعديلات تطرأ عليه بشكل مستمر الى حدود السنوات الاخيرة التي صدر فيها قانون العقوبات الفرنسي الحالي في 22 يوليوز1992 وبدا العمل به فاتح مارس1994.
اما القانون الجنائي المغربي فما زال بدوره يعرف العديد من التعديلات المتواصلة فقد صدر بتاريخ 26/11/1962 وشرع في تطبيقه في 17/6/1963 بعد ان الغى مجموعة من الظهائر التي أوجبت تطبيق قانون العقوبات الفرنسي المغربي، وقد استمرت التعديلات المدخلة على هذا القانون اذ لا يفصل بين التعديل والتعليل الا بضع سنين، ويجري الان الحديث عن اعداد مشروع لمدونة القانون الجنائي المغربي والتي ستقوم بمراجعة شاملة لنصوص القانون الجنائي الحالي.
وما نود التشديد عليه هو ان العدالة الجنائية تقتضي ان تكون نصوص القانون الجنائي محط تتبع مستمر من لدن المشرع ليزيد فيها وينقص ويعدل ويراجع بحسب الحاجيات المجتمعية المتطورة.
وربما اعطى امثلة على ذلك لمزيد من التوضيح فالفصل الأول من القانون الجنائي الحالي مثلا جاء فيه ” يحدد التشريع الجنائي افعال الانسان التي يعدها جرائم بسبب ما تحدثه من اضطراب اجتماعي ويوجب زجر مرتكبيها بعقوبات أو بتدابير وقائية” فهذه العبارة الاخيرة التدابير الوقائية لم تكن في النص السابق وانما استحدثت تمشيا مع التطورات التي عرفها الفكر الجنائي خاصة فيما يتعلق بعلم العقاب.
اعطى مثال اخر بالفصل 521 من ق ج ” من اختلس عمدا قوى كهربائية أو أي قوى ذات قيمة اقتصادية يعاقب …” فقبل التدخل التشريعي بالتجريم كان فعل اختلاس التيار الكهربائي محط خلاف كبير، هل يعد سرقة رغم ان الشيء المسروق ليس له تجسيد مادي؟ فتدخل المشرع لاستيعاب هذه الافعال وادخالها في دائرة التجريم والعقاب. ايضا الفصل 533 من ق ج : ” من ركب سيارة اجرة وهو يعلم انه يستحيل عليه مطلقا ان يدفع اجرة مقعده يعاقب …. ” هذا الفصل ايضا لم يكن له وجود من قبل وكان خارجا عن دائرة التجريم والعقاب.
ايضا الفصل 575 من ق ج المتعلق بالاعتداء على الملكية الفنية والادبية أي حقوق المؤلفين هو ايضا من المستجدات التي لم تكن معروفة من قبل وانما وجدت واستحدثت نتيجة للتطورات الفكرية التي عرفها المجتمع المغربي.
ولا يخفى عليكم ايضا ان الكيف كان مباحا وكان ظهير 12 نونبر1932 يمنح لشركة التبغ احتكار التبغ والكيف الا ان المشرع تدخل بمقتضى ظهير 1954 ليجعل الاحتكار منحصرا في مادة التبغ وليمنع الكيف. اذن فالقواعد الموضوعية قابلة للتغير المستمر، فما كان مباحا بالامس قد لا يبقى كذلك اليوم وما هو ممنوع اليوم قد يصبح مباحا غدا ونذكر في هذا الصدد الظهير الاستعماري كل ما من شانه” 1935″ الذي تم الغاؤه، لان الظروف التي وضع فيها والغايات التي استعمل لاجلها لم تعد قائمة، ويمكن ان نشير بصفة عامة إلى جريمة الزنا التي لم تعد مجرمة في العديد من التشريعات الغربية وحتى بعض التشريعات العربية إلى حد ما، والامثلة كثيرة على التغيير الذي يطبع قواعد القانون الجنائي والذي قد يكون تغيرا ايجابيا كما قد يكون سلبيا، وربما نختم سلسلة الامثلة باخر تعديل عرفته مجموعة القانون الجنائي بمقتضى الشريف رقم 10102 الصادر بتاريخ فبراير2001 تمم الفصل 303 الخاص بالسلاح بالفصل 303 المكرر الذي اصبح بمقتضاه حمل السلاح جريمة معاقب عليها ما لم يكن الحمل بسبب النشاط المهني أو لسبب مشروع.
ثانيا : القواعد الشكلية أو المسطرة الجنائية :
يضم قانون المسطرة الجنائية مجموعة من القواعد القانونية التي توضح الطرق المتبعة للبحث عن مرتكبي الجرائم والتحقيق معهم ومحاكمتهم وتنفيذ العقوبة عليهم وتحديد السلطات المختصة بذلك، ان القواعد الشكلية لقانون المسطرة الجنائية تستهدف الموازنة بين مصلحتين متعارضتين، من جهة مصلحة الجماعة التي تسعى إلى معاقبة المذنبين ومكافحة الاجرام بمختلف اشكاله، لضمان سيادة القانون واحترامه ومن جهة اخرى مصلحة الفرد سواء كان جانيا من خلال تمكينه من وسائل الدفاع عن نفسه وحقه في اثبات براءته أو مجنيا عليه من خلال ضمان جبر الاضرار المادية والمعنوية اللاحقة به، وفي اطار تحقيق هذه الاهداف تعرف القواعد الشكلية تغيرات وتعديلات مستمرة تتراوح بين المد والجزر وبين التقدم والتاخر حسب فترات الانفراج والانفتاح التي يعرفها المجتمع أو فترات الضيق والاحتقان التي يعيشها، فقانون التحقيقات الجنائية الفرنسي صدر سنة 1808 وبدأ العمل به في 1811 ومنذ ذلك التاريخ عرضة للتعديلات إلى حدود السنين الاخيرة التي صدر فيها قانون 4 يناير 1993 الذي ادخل تعديلات عميقة على قانون المسطرة الجنائية الفرنسية. اما قانون المسطرة الجنائية المغربية فهو ايضا مجال مفتوح للتعديلات والتغييرات المستمرة، فمنذ صدوره بتاريخ 10/02/1959 طرأت عليه جملة من التعديلات سنة 1962 و1974 بمقتضى ظهير الاجراءات الانتقالية ثم تعديلات سنة1991 وتعديلات 1993 وما تلاها والان يطرح مشروع مدونة المسطرة الجنائية للنقاش بعد ان صادق عليه مجلس الوزراء مؤخرا.
والملاحظ ان التعديلات التي عرفها قانون المسطرة الجنائية كانت مرتبطة بالتحولات والظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي كان يعرفها المغرب، فالتعديلات التي ادخلها ظهير1962 مثلا سجلت تراجعات خطيرة على مستوى ضمان الحريات الفردية من خلال الزيادة في مدد الوضع تحت الحراسة والاعتقال الاحتياطي عما كان عليه الوضع سابقا.
اما ظهير المقتضيات الانتقالية سنة 1974 فلم يخل ايضا من تراجعات ضيقت من الحقوق التي كان يتمتع بها المتهمون فلم يعد التحقيق اجباريا في الجنايات واختياريا في الجنح وامكانيا في المخالفات ان طلبت النيابة العامة ذلك بل اصبح طابعه الاجباري مقتصرا على الجنايات المعاقب عليها بالاعدام أو السجن المؤبد أو التي يرتكبها حدث.
ونتيجة الانتقادات الفقهية التي وجهت والمطالبات المستمرة التي عبرت عنها فعاليات المجتمع المدني وجمعياته وقواه ومنها جمعية هيئات المحامين بالمغرب عبر مؤتمراتها العديدة، فقد ادخلت تعديلات توحي بوجود توجه تشريعي جديد وروح جديدة على مستوى التعديلات تغاير التوجهات التي عبرت عنها التعديلات السابقة.
وظهر ذلك على الخصوص من خلال تقليص مدد الحراسة التي اصبحت 48 ساعة قابلة للتمديد 24 ساعة فقط في الجرائم العادية و96 ساعة يمكن تمديدها مرة واحدة فقط في جرائم أمن الدولة الداخلي وكذا مدة الاعتقال الاحتياطي التي اصبحت شهرين عوض اربعة اشهر واصبح تمديد هذه المدة ممكنا في حدود خمس مرات فقط
واصبح لزاما على وكيل الملك في الفترة الاخيرة من الفصل 76 ولزاما ايضا على قاضي التحقق ان يخضعا المتهم إلى فحص يجريه طبيب خبير إذا عاينا اثارا تبرر ذلك أو طلب منهما ذلك وهذا مقتضى قانوني لم يكن معترفا به من قبل، اضافة إلى تمتين حقوق الدفاع من خلال السماح للمتهمين بالافادة من مؤازرة المحامين أمام وكيل الملك وقاضي التحقيق اثناء الاستنطاق الاولي.
كما اصبح مفروضا على ضابط الشرطة القضائية ان يقوم باشعار عائلة المحتفظ به رهن الحراسة فور اتخاذ قراره بالوضع تحت الحراسة والان يوضع على طاولة النقاش مشروع مدونة المسطرة الجنائية الذي تضمن تعديلات جوهرية ارتأوا واضعو المشروع انها تساير التطورات التي عرفها المجتمع المغربي وتساير الافكار التي ينادي بها الفكر الجنائي على المستوى الدولي، وستستمر القواعد الشكلية في التغير والتحول وفي الحركة والتطور، لان طبيعتها اقتضت ذلك كما ان النظام الاجرائي الذي قد يصلح للعدالة الجنائية اليوم قد لا يصبح صالحا غدا وان كان قانون المسطرة الجنائية المغربي مازال امامه الكثير، وهذا ما سنتحدث عنه في الفصل الثاني من هذا الموضوع
الفصل الثاني: افاق تحديث العدالة الجنائية :
تواجه العدالة الجنائية اليوم تحديات لم تكن مطروحة من قبل تحديات تمتحن الوسائل التقليدية التي تعتمدها والمناهج والنظم الاجرامية التي تعمل وفقها، لقد ظهرت اشكال جديدة من الاجرام استفادت من الثورة العلمية والتقنية الحديثة “جرائم الحاسوب والانترنيت والجرائم ضد الانسانية وجرائم المواصلات السلكية واللاسلكية وجرائم البيئة” وفي نفس الوقت اصبحت الحقوق والحريات الفردية معترفا بها على المستوى العالمي اكثر من أي وقت مضى، واصبح على العدالة الجنائية ان تساير المعطيات التكنولوجية بسرعتها ودقتها وضبطها بدلا من الاعتماد على اساليب عمل تقليدية مكلفة وبطيئة لذلك اصبح العمل جادا على المستوى الدولي من اجل حوسبة العدالة الجنائية وجعلها اكثر عصرنة واكثر علمية، وان كان ذلك غير كافي وحده، إذ ان العدالة الجنائية لا يمكن فصلها عن العدالة الاجتماعية والاقتصادية، والسياسية، فتحقيق العدالة في شقها الجنائي لن يتم الا بشكل مواز مع تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والديمقراطية السياسية وذلك عن طريق الاهتمام بالطبقات الاجتماعية المحرومة ومحاربة اشكال الفقر والبطالة والقضاء على الامية وتشجيع التعليم وتوفير السكن اللائق ورعاية الطفولة وفتح المجال للحريات العامة في اطار الالتزام والمسؤولية …
1- أولويات السياسة الجنائية :
نتطرق هنا إلى بعض الأولويات على المستوى الشكلي والموضوعي
أولا : على مستوى القواعد الموضوعية :
الجريمة والمجرم والعقوبة هذه ابرز المحاور التي يهتم بها وبمعالجتها القانون الجنائي، ولاشك ان تحقيق العدالة الجنائية بمفهومها الحديث اضافة إلى مفهومها التقليدي يقتضي مسايرة المجتمعات الانسانية في معتقداتها وقيمها وانماط سلوكها وطريقة تفكيرها، وإذا خصصنا الحديث نوعا ما فان السياسة الجنائية المغربية من واجبها على المستوى الموضوعي ان تراعي المبادئ والميزات التالية :
1- عدم الجمود :
ان جمود نصوص القانون الجنائي، يعني تخلف العدالة الجنائية عن تحقيق اغراضها فبقدر ما يجب ان تكون النصوص الجزائية حاضرة في ضمائر الافراد وثقافتهم بقدر ما يجب ان تكون حاضرة في حياتهم اليومية، لذلك فان من أولويات السياسة الجنائية عدم جمود اليات التجريم والعقاب، فعلى مستوى الجريمة يلاحظ ان نصوص القانون الجنائي المغربي لم تستطع ان تستوعب اشكالا جديدة من الجرائم التي أفرزتها الحياة المعاصرة وسأعطي بعض الامثلة على ذلك فجرائم التزوير لدينا لازالت تقليدية بشكل لا يسمح باستغراق أصناف معينة من التزوير التي اصبح يحفل بها في مجال الالكترونيات، فما زال التزوير مجرما ومعاقبا عليه فقط في الحالات التي ينصب فيها على محور أو مستند بالمعنى الكتابي للكلمة في حين ان التطورات الاقتصادية أدت إلى ظهور ما يسمى بالتزوير الالكتروني خاصة في المجال خاصة في مجال المعاملات البنكية والاتصالات وبرامج الحاسوب، مثال اخر استمده من تجربة مهنية شخصية عشتها في احد الملفات التي كان فيها احد موكلي متابع بمقتضيات الفصل 523 من ق ج ” من ركب سيارة اجرة …” فقد حصل ان كان مؤازري في وضعية راكب حافلة ولم يكن وضعية راكب سيارة اجرة ولم يؤد الثمن، ففي اطار واجب الدفاع القانوني دفعت جاهدا بانعدام النص وتمسكت بمبدا الشرعية ما دام ان نص التجريم يتحدث عن سيارة اجرة ولا يتحدث عن الحافلة أو القطار أو الطائرة أو ما إلى ذلك وان القاضي الزجري يحظر عليه القياس، فكان ان حكمت المحكمة ببراءته من هذه التهمة، وهذا ناتج عن الجحود والذي يؤدي في الكثير من الاحوال إلى افلات المجرمين من العقاب لاعتبارات معقولة وهي غياب النص، هذا على مستوى الجريمة اما على مستوى المجرم فيلاحظ ان الحياة المعاصرة عرفت تزايد ما يسمى بالجرائم الاقتصادية والتي يكون وراء ارتكابها ما يسمى بالاشخاص المعنوية التي يتخفى وراءها بعض الاشخاص الذاتيين أمام غياب نص قانوني واضح يحدد مسؤولية هاته الاشخاص بصفة صريحة.
2- عدم المبالغة في التجريم :
ان التشدد في التجريم والتوسع فيه لم يثبت في يوم من الايام انه كان حلا ناجحا، فالحرص على تجريم الانحرافات السلوكية لافراد المجتمع صغر شانها أو كبر هو منهج غير سليم وقد يؤدي إلى عكس النتائج المرتقبة منه، فكثير من الجرائم المنصوص عليها تتحمل فيها الدولة مسؤولية اكبر من تلك التي يتحملها الافراد، وهذا يفرض اخراجها من دائرة التجريم مثل جرائم التسول والتشرد التي اصبحت غير ذات معنى في واقعنا المغربي، كما ان العديد من الجرائم التي يغلب فيها العنصر المدني كعدم تقديم طفل لمن له حق حضانته أو عدم التصريح بازدياد مولود أو اهمال الأسرة ينبغي اعادة النظر فيها، لان الاضرار التي تنتج عن التجريم والعقاب افدح من الاضرار التي تنتج عن ارتكابها، فالشخص الذي يحكم عليه من اجل هذه الافعال يقضي عقوبة حبسية قد يتحول إلى مجرم حقيقي خلال الفترة التي قضاها في السجن والتي مكنته من الاحتكاك بمجرمين اكثر خطرا واثبت اثرا، كما ان بعض النصوص لم تعد ملائمة للظروف السياسية والاجتماعية التي يعيشها الوطن ويتعين اخراجها من دائرة التجريم مثل الفصل 288 من ق ج الخاص بما يسمى بعرقلة حرية العمل، والذي كثير ما يستخدم للانتقام من حركات اضرابية مشروعة والحد من العمل النقابي، وهذا يجعله فصلا لا علاقة له بجرائم الحق العام.
3- وضع سياسة عقابية ناجحة :
ان تحقيق العدالة الجنائية يكلف ميزانية الدولة مصاريف وتكاليف ضخمة في سبيل القضاء على الجريمة والبحث عن مرتكبيها ومحاكمتهم وتنفيذ العقوبة في حقهم، وهذا يقضي امعان النظر في النتائج المحصل عليها والبحث عن البدائل الضرورية فالتركيز على العقوبة لوحدها غير كاف للوصول إلى الاصلاح المنشود بل لابد من توجيه الاهمال إلى التقليل ما امكن من العقوبات في السالبة للحرية في بعض الجرائم السابقة وتعويضها بالجزاءات الادارية أو على الاقل بالعقوبات المالية، وتشجيع التدابير الوقائية والبحث على تطبيقها وتنويعها، في حالة ضرورة انزال العقوبات السالبة للحرية فلا بد ان يكون الهدف الرئيسي هو السعي إلى اصلاح المحكوم عليه وتتبع وضعيته داخل السجن وتفادي تهميشه والعمل على تيسير اعادة ادماجه عند مغادرته للسجن، ووضع معايير دقيقة تتيح للقضاء تطبيقا سليما لمبادئ تفريد العقاب والظروف المخففة أو المشددة.
ثانيا : على مستوى القواعد الشكلية :
ان السياسة الجنائية المغربية على المستوى الشكلي مطالبة بمراعاة مجموعة من المبادئ ورسم بعض الاهداف الكبرى في افق الوصول إلى تحقيق العادلة الجنائية من خلال ضمان احترام شروط المحاكمات العادلة والاعتناء بمختلف العاملين في محيط العدالة الجنائية.
1- حماية حقوق الانسان ” جنائيا أو مجنيا عليه”
لقد طغى على العدالة الجنائية في وقت من الاوقات الاهتمام بحقوق الانسان كمتهم، واتجه التفكير إلى ضرورة حماية حقوق المتهمين المتابعين وتوفير الضمانات الكافية لهم اثناء محاكمتهم وفي نفس الوقت كان الاهتمام بضحية الجريمة والمتضرر منها قاصرا ومحدودا وربما املت ذلك ظروف معينة، كانت فيها حقوق المتهمين اكثر استهدافا وكانت لا تحظى بقدر كاف من الاحترام، ما الان فقد اصبح من الواجب اعطاء كلمة الانسان معناها الكامل بحيث لا يتم فيها التميز بين مرتكب الجريمة أو المظنون فيه ارتكابها وبين ضحيتها، فلا بد ان تهتم القواعد المسطرية بتوفير الضمانات الكافية لجميع الخصوم في الدعوى العمومية والدعوى المدنية التابعة لها بالنسبة للمتهمين ينبغي ان تتاح لهم جميع وسائل الدفاع عن نفسه في جميع المراحل بما في ذلك مرحلة البحث التمهيدي عن طريق فتح المجال للمحامين لمؤازرة موكليهم خلال هذه المرحلة الحاسمة التي اصبحت السرية التي تطبعها تتسبب في الكثير من الخروقات وتؤدي إلى المس بالحقوق والحريات الشخصية للافراد بعيدا عن أعين الرقباء وبشكل سري يستحيل معه في في اغلب الحالات اثبات هذه الخروقات، اما بالنسبة للتضرر من الجريمة فينبغي ان تحاط الشكايات التي يتقدم بها بما يكفي من الاهتمام وان يبت فيها ويتم تحريك البحث بشانها في اقرب الاجال، مع أعلامه بكل جديد يطرأ خلال جريان المسطرة واستدعائه للدفاع عن مصالحه وحفظ حقوقه وتيسير انجع السبل لتعويضه عن الاضرار والخسائر التي لحقته من جراء الجريمة.
2- العناية بالعاملين في محيط العدالة الجنائية :
ان العناية بالعنصر البشري العامل في محيط العادلة الجناية يعد من الأولويات الاساسية والمقصود هنا هم القضاة سواء كانوا قضاة حكم أو قضاة نيابة عامة وايضا المحامون وكذا كتاب الضبط ورجال الضابطة القضائية والخبراء والمترجمون وغيرهم من المساعدين، والعناية بهؤلاء تكون من خلال توفير الامكانيات المادية والمعنوية وتمكينهم من اداء وظائفهم في احسن الظروف، فبالنسبة للقضاة يتعين تعزيز استقلالهم دستوريا وزيادة في اعدادهم لمواجهة التراكمات التي تعرفها المحاكم الزجرية على مستوى الملفات والقضايا والشكايات، والاهتمام بتجهيز المحاكم بما يليق من مكاتب وخزانات وادخال تقنيات المعلوميات وتعميمها على المستوى الوطني، ونفس الشيء يمكن ان يقال على جهاز كتابة الضبط الذي ينبغي ان يستمتع باستقلالية اكبر، وبإمكانيات عمل حديثة ميسرة تنهي الصلة مع وسائل العمل التقليدية على مستوى الارشفة وترتيب الملفات وطبع الاحكام .. الخ.
اما بالنسبة للمحامين فقد ان الأوان لكي يساهموا بشكل اكبر في تحقيق العدالة الجنائية عن طريق توسيع مجال مؤازرتهم لموكليهم لتشمل مرحلة البحث التمهيدي، وكذا توفير حصانة اكبر اثناء مزاولتهم في الدفاع، في حين ان الالتفات إلى وضعية رجال الضابطة القضائية وظروف عملهم لا يقل اهمية، اذ يتعين الفصل بين الشرطة القضائية والشرطة الادارية بحيث تصبح الأولى تابعة فقط للسلطة القضائية ورهن اشارتها، كما ان النظرة إلى رجال الضابطة القضائية ينبغي الا يتم فيها التركيز فقط على الجوانب السلبية والانحرافات التي تطبع عمل بعض المعنيين بهذا القطاع بل يجب ايضا الاعتراف بالخدمات الجليلة التي يقدمها الكثيرون منهم في سبيل مكافحة الاجرام والقبض على المجرمين معرضين حياتهم وسلامتهم البدنية للخطر، في ظل إمكانيات مادية ولوجستيكية ضعيفة بالمقارنة مع الامكانيات الضخمة التي تخصص للتحقيق والبحث الجنائي في بلدان اخرى على مستوى التجهيزات وطرق البحث العلمية المتاحة والتعويضات الممنوحة والتأمينات المرصودة في حالة التعرض للوفاة أو الاعاقة البدنية.
واذا كنا ننادي دوما بضمان اجور محترمة لمختلف العاملين في محيط العدالة الجنائية، وتوفير الامكانيات المادية والمعنوية لهم فاننا في نفس الوقت نشدد على ضرورة تفعيل اجهزة المراقبة والحرص على استمراريتها لتامين اداء ممتاز لمختلف الاجهزة العاملة على تحقيق العدالة الجنائية.
3- اليات تحديث العدالة الجنائية :
إذا كان حديث العدالة الجنائية هدف نتوخاه جمعيا فاننا نرى ان يتم تنويع اليات الحديث والافادة منها بشكل متواز، ويتعلق الامر في نظرنا بالاليات المهمة التالية :
أولا : الالية الفقهية.
لا شك ان العلوم القانونية في المجال الجنائي تطور بشكل كبير يوازي التطور الذي تعرفه مجالات العلوم الاخرى ولا يمكن للعدالة الجنائية ان تتطور ان هي أدارت ظهرها للحلول والمعطيات العلمية التي يبدعها رواد الفكر الجنائي على المستوى العالمي في علم الاجرام وعلم العقاب وعلم النفس الجنائي وعلم النفس القضائي وعلم الاجتماع الجنائي وعلم الوقاية من الجريمة وعلوم السياسة الجنائية، فما اكثر الندوات والمؤتمرات التي تعقد هنا وهناك وما اكثر الدراسات القانونية التي تنجز على هذا الصعيد أو ذاك في المجال الجنائي وهي كلها مجهودات جبارة تطرح حلولا جادة لابراز المشكلات والتحديات التي تواجهها العدالة الجنائية اليوم والتي لا يمكن لها ان تتقدم إلى الامام وان تصمد دون الاعتماد على الالية الفقهية والافادة من الافكار والنظريات التي تقدمها في هذا الصدد.
ثانيا : الالية التشريعية :
ان التشريع يلعب دورا هاما وحاسما في الطريق نحو تحقيق العدالة الجنائية، فالنص الجنائي السيئ يكون وبالا على العدالة الجنائية، هذه الاخيرة تحتاج إلى المواكبة التشريعية وحسن الصياغة النصية، لذلك يكون الوضوح والبساطة والدقة مطلوبين هنا، اما الغموض والتعقيد فهما مكروهين الى حد كبير، لذلك فالتعابير التي يستعملها التشريع الجنائي احيانا والتي تتميز باتساعها وعدم محدوديتها من قبيل مصطلح ” النظام العام” هي تعابير غير مقبولة وان استعملت فيتعين التعريف بها تفاديا لتاويلات مغرضة وبعيدة عن روح العدالة الجنائية كما ان وضع النصوص الاجرائية دون فرض احترامها ومراعاتها تحت طائلة جزاءات معينة، يجعلها فارغة من محتواها ويكون وجودها كعدمها.
ثالثا : الالية القضائية:
ان العدالة الجنائية ستصاب حتما بالخلل على المستوى التطبيق في غياب الالية القضائية الناجعة، لذلك لا بد من الحرص على توفير قضائي جنائي متخصص ومتفرع لتحقيق العدالة الجنائية على ضوء المعطيات العلمية المرتبة بالعلوم الجنائية، وهذا يتيح للقاضي التعامل الايجابي مع الاليات الفقهية والتشريعية فمن المعروف ان النص الجزائي يخضع لطرق تفسيرية ثلاث : التفسير الحرفي الضيق والمحدود والتفسير الروحي المستند إلى ارادة المشرع والغاية من وضع النص القانوني، والقاضي الجنائي المتخصص سيسهل عليه اختيار طريقة التفسير الاسلم كما انه سيهتم اكثر بالتكوين وبالعطاء وسيولد اجتهادات في مصلحة العدالة الجنائية بحكم تخصصه السابق الذكر الذي سيمكنه من احاطة قانونية وعلمية اشمل.
اترك تعليقاً