العقاب والردع بين التشريع الإلهي والوضعي
كانت العقوبة من الأمور التي رافقت الإنسان منذ وجوده وأصبحت مغروسة في فطرته التي تؤكد على مبدأ الثواب والعقاب، فالعمل الحسن يقابل بمقابل أو جزاء حسن والعمل السيئ يقابل بمقابل أو جزاء سيئ.
وعلى هذا الأساس فإن مبدأ العقوبة موجود في كل مراحل الوجود الإنساني، سواء كان الذي أقرها دين سماوي أو فلسفة وضعية أو قانون بشري، فالكل أجمع على ضرورة وحتمية مبدأ العقوبة.
ولذلك كانت الآية القرآنية الكريمة: [ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب] تعبيرًا عن هذه الحتمية والضرورة.
وإذا كانت العقوبة، في القانون الوضعي، قدر مقصود من الألم يقرره المجتمع ممثلاً بمشرّعه ليوقع كرهاً على من يرتكب جريمة في القانون، بمقتضى حكم يصدره القضاء، إلا أن هذا التعريف القانوني الوضعي لم يحدد بدقة مقدار ذلك الألم، كما أن قدر الألم المذكور قد لا يشمل عقوبة إزهاق الروح (الإعدام).
لكن هذا الخلل تستدركه الشريعة الإسلامية بتقريرها جزاء في حق كل من يخالف أحكامها، أو يعين آخر على مخالفة تلك الأحكام، وتختلف طبيعة ذلك الجزاء باختلاف درجة الجرم.
فالشريعة تعرّف العقوبة بأنها (الجزاء المقرر لمصلحة الجماعة على عصيان أمر الشارع والمقصود من فرض عقوبة على عصيان أمر الشارع هو إصلاح حال البشر وحمايتهم من المفاسد).
وبالتالي حافظت الشريعة على التوازن الذي يجب أن تقوم عليه العقوبة من خلال حفظها للنسبة بين الجرم والجزاء وهذا ما لم تلتفت إليه القوانين الوضعية.
إن من العيوب الأساسية للقوانين الوضعية هو أنها تشرّع لأجل حفظ النظام الحاكم في البلاد، ولذلك نجد أن العقوبات المقررة لبعض ما ينال من النظام الحاكم لا تتناسب مع ما يقترفه الإنسان، فهي تبالغ في العقوبة ولا تحقق التوازن، فبعض الدول تعاقب بالإعدام كل من ينال شخص قائد البلد ولو بكلمة واحدة، وهذا الجزاء لا يتناسب أبداً مع الجرم الذي قرر له، فشخص ذلك القائد لا يرتبط مع الحق بحيث يكون النيل منه نيلاً من الحق ولذلك يجب أن تحفظ هذه النسبة في العقوبات.
والمفترض أن العقوبة تشّرع من أجل حفظ وحماية واحترام حياة الإنسان، وممتلكاته، وعرضه، أما أن يتم ترك الإنسان الذي يتعرض لهذه الأمور دون أن ينال العقوبة كما في كثير من البلاد التي تحكم بالقوانين الوضعية، فإن في ذلك إجحافاً في حقوق الناس وتشجيعاً للجناة على ارتكاب الجرائم.
والمفترض أن تكون الوظيفة الأساسية للعقوبة هي تحقيق الردع العام للعقوبة بإنذار الجماعة بشرها إذا ما ارتكب أحد أفرادها فعلاً يعد جريمة، أو بمثل العقوبة التي تصدر ضد الجاني إذا ارتكب فعلاً مجرماً وتثبت مسؤوليته، فوظيفة العقوبة هنا إذن تهديدية موضوعها نفسية أفراد المجتمع، ولا سيما أولئك الذين تتوافر لديهم دوافع إجرامية، ويساعد على تخفيف حدة هذه الوظيفة إحساس الأفراد بأن يد العدالة ستلاحقهم، وأن عقوبة ما ستوقع بهم حتماً إذا ما وقعوا في هاوية الجريمة.
كما أنه من الضروري أن تحقق العقوبة الردع الخاص فيما يتركه ألمها من أثر نفسي في المحكوم عليه يحول بينه وبين العودة إلى الإجرام مرة ثانية.
لكن الملاحظ أن البشر يتحايلون على القوانين الوضعية ويغشون ويدلسون لضمان الهروب منها وعدم تطبيقها عليهم، رغم إتيانهم للجرم المجرم قانونًا والذي يحتوي على الإضرار بالفرد والمجتمع، بينما من الصعب التحايل على أحكام الشريعة لوجود الردع والزجر الداخلي للفرد تجاه الحكم الرباني.
ومما تهدف إليه العقوبة إصلاح الجاني، لا الانتقام والتشفي منه، فالمجرم إذا شعر بالألم وأحس به فإنه سيشعر حتماً بمقدار ما تسبب به للآخرين من الألم فيمتنع عن إيلام غيره، وفي كثير من أحكام القانون الوضعي عدم مراعاة لظروف المتهم الذي ربما شعر بالظلم فتمرد أكثر، وبالتالي تكون العقوبة غير مجدية وغير مؤثرة.
إن من مقاصد الشريعة حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ النسل، وحفظ المال، وحفظ العقل، وفي كثير من الأحيان لا تحقق القوانين الوضعية هذه المقاصد.
والشريعة الإسلامية تختلف عن غيرها في طريقة التجريم فهي لا تضع الإجراءات الاعتباطية في طريقة تجريم الإنسان كما فعلت القوانين الوضعية، وإنما كانت أحرص على تبرئة ساحة المتهم قبل أن يدان بالجرم الذي اتهم فيه، إعمالاً لقاعدة العدل الكبرى: (ادرؤوا الحدود بالشبهات)، و(ادرؤوا الحد عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم للمسلم مخرجاً فخلّوا سبيله، فإن الإمام لئن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة).
والعقوبة في الإسلام مقررة لفرض عقوبة على عصيان أمر الشارع، واعتبار ذلك إصلاحًا لحال البشر وحمايتهم من المفاسد، واستنقاذهم من الجهالة، وإرشادهم من الضلالة، وكفهم عن المعاصي وبعثهم على الطاعة.
فالعقاب إذن في الشريعة هو لإصلاح الفرد، ولحماية المجتمع وصيانة نظامه من الانهدام، أما القانون الوضعي فهو لا يرى إلا بعين واحدة.
وتختلف فلسفة العقوبة في الشريعة عن نظيراتها في القوانين الوضعية في أن القوانين الوضعية تقوم على أساس الجزاء الدنيوي فحسب، أما الجزاء في الشريعة فإنه إنما يكون في الدنيا والآخرة كذلك، بل يعد الجزاء الأخروي الجزاء الأعظم أثراً في طبيعته من الجزاء الدنيوي، وهذا يشجع الإنسان على طاعة أحكام الشريعة ، وخصوصاً إذا عرف أن العذاب الأخروي هو من الأمور المهولة، فمن لا يرتدع رغبة منه في طاعة أحكام الشريعة فإن الأحكام الإسلامية الخاصة بالعقوبة الأخروية قد أعدت لأن يطيع الإنسان رهبة.
وقد سبقت الشريعة الإسلامية أفكار المدارس الجنائية التي سعت لتحديد أغراض العقوبة وأساليب تطبيقها، وحيث أن الخالق العظيم هو من خلق الإنسان ويعرف تكوينه فهو الأقدر على أن يقرر العقوبة الملائمة لصالح البشرية، فهو سبحانه أقدر على تحقيق العدل من خلال شريعته السمحاء، والعدل اسم من أسماء الله الحسنى، وهو يأمر عباده بتحقيق العدل، فيقول تعالى: [إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ].
والعقوبة في الشريعة تمثل رد فعل المجتمع تجاه العدوان الذي وقع عليه، وحيث تعيد العقوبة التوازن إلى ميزان الحقوق والواجبات في المجتمع، تحقق في نفس الوقت العدالة وتمنع ردود الفعل العشوائية الانتقامية تجاه الجاني على نحو قد يتجاوز كثيراً من الضرر الذي لحق بالمجني عليه.
وتؤيد الأحاديث الشريفة فكرة تحقيق العدالة لاسيما حديث المرأة المخزومية، وهي التي توسط أسامة لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدم توقيع حد السرقة عليها فقال له الرسول الكريم ” أتشفع في حد من حدود الله ” ثم خطب في الناس قائلاً ” إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد, وأيم الله لو أن قاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها”.
إن العدالة تتحقق عندما يتساوى الناس في العقاب أمام نفس الجريمة ولهذا حرص الرسول عليه الصلاة والسلام أن يقرر قطع يد ابنته إذا سرقت وذلك يبين أنه لا فرق بين بنت الرسول وغيرها من الناس.
إن بعض الناس يتصورون أن بعض العقوبات قاسية من جهة أن الأفضل مثلاً في القاتل أن يسجن أو تؤخذ منه الدية لا أن يقتل، لكن هذه المزاعم غير تامة، فإن الإنسان إذا علم أن جزاء القتل هو السجن والغرامة، لا القصاص بالمثل، فإنه عادة لا يعدل عن الجريمة، وخاصة إذا كان قادراً على التحايل والتلاعب بالقانون، من خلال دفع الرشوة، واتخاذ المحامي بالباطل، وتخفيف مدة العقوبة وغير ذلك.
اترك تعليقاً