العقد الإداري الذي يبرم بالنيابة عن الإدارة
إذا كان الأصل أن تقوم الإدارة بإبرام عقودها بشخصها إلا انه ليس هناك ما يحول دون قيام الإدارة بإنابة غيرها في إبرام مثل هذه العقود فللجهات الإدارية أن تنوب عن بعضها في مباشرة إجراءات التعاقد لإبرام عقد معين هذا من جهة بل انه من المتصور أيضا أن تقوم الإدارة بإنابة شخصا أخر سواء كان ذلك الشخص من أشخاص القانون العام أم من أشخاص القانون الخاص في مثل هذه الحالة يتعين التفرقة بين فرضين الأول يتعلق بالحالة التي تكون تلك النيابة صريحة وقانونية والثاني يتعلق بالحالة التي لا تكشف فيها الإدارة عن إرادتها الصريحة في قيام تلك النيابة 0
المطلب الأول :- النيابة القانونية في التعاقد لحساب الإدارة
قد لا تظهر الإدارة في عقد من العقود ومع ذلك يعتبر العقد إداريا إذا كان أحد طرفيه يتعاقد باسم ولمصلحة الإدارة على انه في هذه الحالة يتعين احترام القواعد المدنية الخاصة بالوكالة والواردة في المادة 105 من القانون المدني وهو ما أوردته المحكمة الإدارية العليا صراحة في حكمها الصادر 23 نوفمبر سنة 1968 ( س14 ؛ ص 56 ) . ([1])
وقد عبرت عن ذلك المحكمة الإدارية العليا حين قررت في حكمها السابق الإشارة إليه ” إلا انه متى استبان أن تعاقد الفرد أو الهيئة الخاصة إنما كان في الحقيقة لحساب الإدارة ومصلحتها فان التعاقد يكتسب صفة العقد الإداري ” كما قررت المحكمة العليا أيضا صراحة انه إذا نص صراحة في العقد على وجود الوكالة فهذا لا يمنع من احترام القواعد المدنية الخاصة بها والتي وردت في المادة 105 من التقنين المدني “
والفرض هنا أذن أننا بصدد نيابة قانونية سواء كانت تلك النيابة بمقتضى نص قانوني أم بمقتضى عقد وكالة صريح ونعتقد أن مجلس الدولة المصري قد استقر على اعتماد قواعد كل من النيابة والوكالة متى كانت تلك النيابة أو الوكالة صريحة لا تحتاج ثمة شك أو تأويل وعلى ذلك فان مجلس الدولة المصري قد اعتبر العقد الصادر من أحد أشخاص القانون الخاص إذا كان ذلك الشخص يمثل شخصا معنويا عاما ويعمل باسمه ولحسابه وتتوافر مقومات العقد الإداري قد اعتبر ذلك العقد عقدا إداريا ولا غرابة في ذلك ما دام أن هذا الشخص الخاص يمثل الشخص المعنوي العم ويعمل باسمه ولحسابه على النحو السابق بل إننا نرى أن مثل هذا المسلك القضائي لا يعد بأي حال من الأحوال خروجا عن الأصل العام من اشتراط أن يكون أحد أطراف العقد شخصا معنويا عاما كما يذهب جانبا من الفقه ذلك انه إذا كان ظاهر الحال يقطع بان كلا من المتعاقدين من أشخاص القانون الخاص إلا أن حقيقة الأمر وطبقا لقواعد النيابة فان مثل العقد بالنظر إلى الآثار التي تترتب عليه وبالنظر للقواعد المستقرة لكل من النيابة والوكالة أن جميع آثار العقد تنصرف لشخص الأصيل وهو في هذا الفرض الشخص العام ولهذا قلنا انه لا مجال للقول أن هذا الفرض يعد استثناء عن الأصل بل انه في حقية الأمر يؤكد ذلك الأصل .
المطلب الثاني :- التعاقد لحساب الإدارة
ثارت فكرة التعاقد لحساب الإدارة أو باسم ولحساب الإدارة بمناسبة حكم محكمة التنازع الفرنسية بتاريخ 8يوليه عام 1964 ويهمنا في هذا الصدد أن نعرض لما جاء بهذا الحكم ( 1 ) بالنظر إلى ما إثارة من أفكار تستحق البحث عن التكيف القانوني لتلك النتيجة التي انتهى إليها ذلك الحكم و لاسيما أن جانبا كبيرا من فقه القانون الإداري في مصر وفرنسا حاول أن يستند في تفسير ذلك الحكم إلى فكرة الوكالة الضمنية كتبرير لاعتبار مثل هذا العقد المبرم بين أشخاص القانون الخاص عقدا إداريا بالرغم من عدم قيام النيابة الصريحة بصورها المختلفة في جانب أحد المتعاقدين .
وتتلخص الوقائع في أن القانون 18 أبريل سنة 1955 قد حدد نظام طرق السيارات ونص في المادة 4على انه يمكن بصفة استثنائية أن يكون إنشاء و استغلال أحدها بمنح التزامه إلى شخص عام أو غرفة تجارية أو شركة اقتصاد مختلط تكون الأغلبية فيها للمصالح العامة وقد أنشأت شركة طريق سيارات استيريل-كوت دازور تطبيقا لهذا النص وحصلت على التزام إنشاء طريق السيارات باتفاق اقره مرسوم بعد موافقة مجلس الدولة في 21 مايو 1957 و أبرمت الشركة عقودا مع المقاولين لإنشاء الطريق وقد أدي أحد هذه العقود إلى نزاع فقد عاني صاحبه شركة منشاة بيرو صعوبات مالية وتقرر إفادتها من التصفية القضائية وقد نسبت الشركة ومديرها القضائي إلى شركة طريق السيارات ارتكاب حيل تدليسية لجعل المتعاقد معها (المنشاة المدعية)تنسحب من العقد وطالبها علي هذا الأساس بتعويض ارتفع إلى اكثر من مليون فرنك وقد
1 ) ترجمة هذا الحكم والتعليق د / احمد يسري – أحكام المبادئ في القضاء الإداري الفرنسي – مارسو لون – بروسبير في – جي بريبان – ترجمة د/ احمد يسري – ص – 596 وما بعدها
رفع النزاع أولا إلى محكمة فوا foix الابتدائية التي قررت اختصاصها ولكن محكمة استئناف تولوز قررت عكس ذلك وان النزاع يدخل في اختصاص القضاء الإداري وامتثالا لهذا القضاء عرضت المنشاة النزاع على المحكمة الإدارية بنيس التي رأت رأيا مخالفا لمحكمة استئناف تولوز فأحالته بأمر اختصاص إلى محكمة التنازع تطبيقا لنصوص مرسوم 3يوليه1963التى تستهدف تجنب نشوء النزاع السلبي .وقد حسمت محكمة التنازع الأمر لصالح الاختصاص الإداري بحكم أعطى تأسيسها القانون ونطاقه العملي مجالا للجدل 0 حيث قررت محكمة التنازع ” من حيث أن شركة طريق السيارات autoroute استيريل_كوت دلزورesterel –cote d’azur الملتزمة بالشروط المنصوص عليها في المادة 4من قانون 18 إبريل 1955 بإنشاء و استغلال طريق سيارات أبرمت مع منشاة بيرو عقدا لتنفيذ الأشغال الضرورية لإنشاء هذا الطريق ؛وان منشاة بيرو تنسب إلى شركة طريق سيارات استريل-كوت دلزور حبلا تدليسه تستهدف جعلها تنسحب من هذا العقد ،و تقدر انه نالها ضرر من ذلك تطلب التعويض عنه من تلك الشركة ؛
ومن حيث انه طبقا للمادة 4من قانون 18ابريل سنه 1955 في شان نظام طرق السيارات التي تنص علي أن “استعمال طرق السيارات مجاني من حيث المبدأ .ومع ذلك يمكن أن يقرر قرار المنفعة العامة في حالات استثنائية منح الدولة التزام إنشاء و استغلال أحد الطرق إلى شخص عام أو مجموعة من الأشخاص العامة أو غرفة تجارة أو شركة اقتصاد مختلط تكون الأغلبية فيها للمصالح العامة .وفي هذه الحالة يقر مرسوم عقد الالتزام وكراسة الشروط، ويصدر بعد اخذ رأي مجلس الدولة وبعد استشارة الأشخاص المحلية ذات الشان مباشرة ؛ويمكنها أن تخول الملتزم تقاضي رسوم مرور لتغطية فوائد واستهلاك رؤوس الأموال التي استثمرها وكذلك لصيانة الطريق وتوسيعه في المستقبل “
ومن حيث أن لإنشاء الطرق الوطنية صفة الأشغال العامة وهو بطبيعته من شان الدولة ،وينفذ تقليديا من خلال الإدارة المباشرة ؛وانه نتيجة لذلك تكون العقود التي يبرمها رب العمل لهذا التنفيذ خاضعة لقواعد القانون العام
ومن حيث انه يجب أن يكون الأمر كذلك بالنسبة للعقود التي يبرمها رب عمل لإنشاء طرق سيارات بالشروط المنصوص عليها في قانون 18ابريل 1955,دون حاجة إلى التفرقة حسبما إذا كان الإنشاء تتولاه الدولة مباشرة بالطريقة المعتادة أو يتولاه بصفة استثنائية ملتزم يعمل في مثل هذه الحالة لحساب الدولة سواء كان هذا الملتزم شخصا معنويا من أشخاص القانون العام أو شركة اقتصاد مختلط بغض النظر عن صفة الشخصية المعنوية من القانون الخاص الثابتة لمثل هذه الشركة وانه على هذا الوجه و أيا كانت الأوضاع المتبعة لإنشاء الطريق فان العقود المبرمة بين المقاول مع الإدارة أو مع الملتزم لها صفة عقود الأشغال العامة وانه نتيجة لذلك فان المنازعات المتعلقة بتنفيذ هذه العقود تدخل في عداد تلك المبينة في المادة 4من القانون 28 بلفيوز pluviose للسنة الثامنة وانه بذلك تكون الدعوى المبين تحليلها أعلاه التي رفعتها منشاة بيرو ضد شركة طريق سيلرلت استيريل –كوت دازور تدخل في اختصاص القضاء الإداري ؛ …. (تقرير اختصاص جهات القضاء الإداري )
هذا وقد شايع مجلس الدولة المصري زميله الفرنسي حيث قضت المحكمة الإدارية العليا أن ” العقد الذي لا تكون الإدارة أحد أطرافه لا يجوز بحال من الأحوال أن يعتبر من العقود الإدارية ذلك أن قواعد القانون العام إنما وضعت لتحكم نشاط الإدارة لا نشاط الأفراد والهيئات الخاصة إلا انه من المقرر انه متى استبان أن تعاقد الفرد أو الهيئة الخاصة إنما كان في الحقيقة لحساب الإدارة ومصلحتها فان هذا التعاقد يكتسب صفة العقد الإداري إذا ما توافرت فيه العناصر الأخرى التي يقوم عليها معيار تميز العقد الإداري ” ( 1 )
هكذا ذهبت كل من أحكام محكمة التنازع الفرنسية وغيرها من أحكام مجلس الدولة الفرنسي وزميله المصري أن محكمة التنازع الفرنسية إذن اعتبرت عقدا مبرما بين أشخاص القانون الخاص عقدا إداريا والمحكمة هنا لم تؤسس حكمها على سند من أن ذلك الشخص كان يعمل بالنيابة عن الإدارة بل أن الغريب وبعكس ما يذهب إليه البعض لم تؤسس حكمها على افتراض قيام وكالة ضمنية أو مفترضة في جانب الشخص الخاص بل أن كل ما ذهبت إليه في ذلك الحكم لتبرير أصباغ الصفة الإدارية على ذلك العقد وعلى حد تعبيرها ” أن لإنشاء الطرق الوطنية صفة الأشغال العامة وهو بطبيعته من شان الدولة ،وينفذ تقليديا من خلال الإدارة المباشرة ؛وانه نتيجة لذلك تكون العقود التي يبرمها رب العمل لهذا التنفيذ خاضعة لقواعد القانون العام ” مثل هذا القول يثير عدة مسائل قد لا يتسع المجال لتناولها في هذا البحث ولكن يمكن الإشارة إليها فيما يلي :-
• أن هذا القضاء قد يكون ردة من مجلس الدولة الفرنسي فيما يتعلق بمعيار تميز العقد الإداري والاكتفاء بمعيار أن يكون العقد متعلقا بتنفيذ مرفق عام أو يستهدف تحقيق نفع عام
( 1 ) الطعن رقم 1558 لسنة 7 ق جلسة 7/3/1964 السنة 9 -ص – 763 – مشار إليه – مؤلف الوسيط في شرح اختصاصات مجلس الدولة – الجزء الثاني – ط – 2000 – المستشار الدكتور / محمد ماهر أبو العنين
• أن هذا القضاء قد أراد أن يضع مبدأ عاما وتصورا خاصا في مجال القانون العام تغاير تماما فكرة النيابة والوكالة المقررة في القانون الخاص
• انه ليس بالضرورة أن يكون العقد متعلقا بأشغال عامة حتى يمكن القول أن هذا القضاء ليس إلا استثناء على القاعدة العامة ذلك أن الحكم وعلى حد تعبيره قد اعتبر أن صفة الأشغال العامة هي بطبيعتها من شأن الدولة وبالتالي فانه من المتصور أن تصور ذات المسألة بالنسبة لأي عقد أخر يكون من طبيعته شأن من شئون الإدارة وهو أمر غير مستبعد
• أن هذا القضاء وكما ذهب جانبا من الفقه أراد أن يمنح لنفسه سلطة تقديرية في تكيف العقد محل الاعتبار وفقا لظروف كل حالة على حده وعلى ضوء الاعتبارات التي تحيط بها وبطبيعة الحال فان لجوء الدولة في العصر الحديث في سبيل القيام بوظيفتها إلى صور وأشكال عديدة وفي بعض الأحيان ذات طبيعة غامضة لا يجعل وضع معيار أو ضابط قاطع ومحدد بالأمر الميسر في كل الحالات بالنسبة للقضاء فهذه السلطة التقديرية أراد القضاء أن يتزود أذن بفكرة مرنة تسعفه في مواجهة مختلف الحالات التي تعرض له ( 1 )
وهو اتجاه وان كان يبتعد عن تفسير ذلك القضاء استنادا لفكرة الوكالة الضمنية وما يعترضها من غموض إلا انه لا يقدم لنا تفسير مقنع لهذا السلطة التقديرية التي لا تستند لثمة ضابط يحدد ملامحها الأساسية
أيا ما كان الأمر فان المسألة اعتقد أنها تحتاج لمزيد من البحث والتأمل لتفسير موقف القضاء الفرنسي من فكرة التعاقد لحساب الإدارة والذي شايعه فيها
( 1 ) الأستاذ الدكتور / محمد فؤاد عبد الباسط – أعمال السلطة الإدارية – ص – 290 وما بعدها
مجلس الدولة المصري ونأمل أن تتاح لنا الفرصة لصبر أغوار هذه الفكرة والتي نعتقد أنها تصلح لان تكون محل بحث لاسيما مع تزايد تخلي الإدارة عن ممارسة وظائفها الإدارية لأشخاص القانون الخاص 0
[1] – الأستاذ الدكتور / سليمان محمد الطماوي – الأسس العامة للعقود الإدارية – ط – 1984 – مطبعة جامعة عين شمس – ص- 65
اترك تعليقاً