العقوبات السالبة للحرية بالجمهورية الليبية
لقد برزت أهمية العقوبات السالبة للحرية في ملاءمتها لتنفيذ التوصيات الجنائية في محاربة الجريمة، من خلال تحقيق أغراض العقوبات في الردع العام والردع الخاص وتحقيق العدالة، كما أن المؤسسات العقابية التي تنفذ فيها هذه العقوبات أصبحت نموذجية لإصلاح وتأهيل المحكوم عليهم ومراقبة سلوكهم ليعودوا أكثر إصلاحا وانتماءً لمجتمعاتهم دون الخشية من طرقهم أبواب الجريمة وترويع المجتمع مرة أخرى.غير أن تجربة التطبيق أثارت الشكوك حول مدى قدرة العقوبات السالبة للحرية خصوصا تلك التي تنفذ لمدة قصيرة على مكافحة الإجرام وذلك لعجزها عن تحقيق وظيفة الردع العام إذ يستهين المجتمع بها نظراً لقصر مدتها وكذلك قصور تلك العقوبات في تحقيق الردع الخاص في نفوس الجناة خصوصاً أولئك الذين احترفوا الإجرام..ومن ناحية أخرى فإن قصر المدة التي يقضيها المحكوم عليهم في المؤسسة العقابية لا تسمح لبرامج الإصلاح والتأهيل أن تؤتي أكلها، بل على العكس يمكن المحكوم عليه من اكتساب خبرات سيئة من خلال اختلاطه مع أرباب السوابق ومحترفي الإجرام، وبدلاً من أن تكون المؤسسات العقابية مركزاً للإصلاح والتأهيل تتحول إلى أوكار لتبادل الخبرات الإجرامية وتعلم فنون ارتكاب الجريمة وهو ما كشفت عنه نسبة العود (( التكرار)) المرتفعة بين المفرج عنهم.
كما أكدت نتائج الدراسات الإحصائية في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية أن السجن قد صار مدرسة لاكتساب فنون الإجرام المتطورة بالاختلاط مع عتاة المجرمين وهذا أهم الآثار السلبية للسجن علاوة على تكدس السجون بنزلائها فيترتب على هذا التكدس نقل المحكوم عليهم بعقوبة سالبة للحرية قصيرة المدة إلى السجون المخصصة للمحكوم عليهم بعقوبات طويلة المدة، واختلاط المحكوم عليهم بعقوبة سالبة للحرية قصيرة المدة بعتاة المجرمين واتخاذهم من تجاربهم نبراساً على خطى حياتهم.
وقد يصل الأمر لانتظام المحكوم عليهم بعقوبة سالبة للحرية قصيرة المدة مع عتاة المجرمين في تنظيمات عصابية تتحين الفرصة لممارسة أنشطتها الإجرامية عقب انتهائهم من تنفيذ عقوبتهم.
كما يمارس عتاة المجرمين دوراً هاماً في إسكات صوت الضمير والإحساس بالخطيئة لدى المحكوم عليهم بعقوبة سالبة للحرية قصيرة المدة، كما يساهمون بدور فعال في إحباط كل محاولة من محكوم عليهم بعقوبة سالبة للحرية قصيرة المدة للسير في الطريق القويم.
ويرى بعض الفقهاء أن أهمية عقوبة الحبس هي التلويح والتهديد بها، أما فرض العقاب على الجاني وإيداعه السجن، فعند ذلك تعمل رذائل السجن عملها جانية على أسرته، وقاضية في الوقت نفسه على رهبة السجن ووظيفته الكبرى في الردع والتخويف وعلى ذلك فإن مأساة عقوبة السجن أنها كما يبدو- إن كانت ناجحة أحيانا في التأثير بالمواطن العادي عن طريق الترهيب والتهديد ولا توفق إلا في القليل فإنها في نفس الوقت لا تمنع من أجرم مرة واحدة ودخل السجن من أن يصبح مجرماً عائداً، فالسجن الذي يراد به أن يكون أداة من أدوات الكفاح ضد الجريمة إنما يعد في ذاته عاملاً لا يستهان به من عوامل انتشارها ومهما قال دعاة إصلاح السجون ومهما تناولها المصلحون، فإنها على أية حال تضمن أناساً كان من الخير لهم ومن البر بالمجتمع ألا يوجدوا فيها وخير دليل على ذلك ارتفاع نسبة العود للجريمة بين المفرج عنهم حيث تصل في غالبية الإحصائيات إلى 70 % من نزلاء السجون بالولايات المتحدة الأمريكية التي تعد أكثر بلدان العالم اهتماماً بالجوانب الإصلاحية، وفي بريطانيا وصلت نسبة العود إلى 50 % من الرجال المساجين و40 % من النساء المسجونات، و65 % من الشباب المسجونين و80 % ومن الأحداث المسجونين يعودون مرة أخرى إلى الجريمة في غضون سنتين من خروجهم من السجن.
وتأكيداً لما سبق أشارت إحدى الدراسات العلمية إلى أن أغلب ما يسمى بجرائم الصدفة تتحول إلى جرائم الاحتراف فعلى سبيل المثال لوحظ إن 29 % من أصحاب الجنح الأخلاقية تحولوا إلى جرائم السرقة ومن هؤلاء 29 % تحولوا إلى جرائم المخدرات و40 % تحولوا من جرائم القتل إلى السرقة.
وكل ذلك يعود إلى مجتمع السجن وثقافته التي تعلم أساليب الإجرام. ومن الملاحظ أن هناك اتجاها في الدراسات الجنائية المقارنة يدعو إلى الاستغناء عن السجن اعتمادا على دعامتين الأولى مساويء النظام العقابي، والثانية إمكانية الاستغناء عن النظام العقابي وذلك كما يلي:-
أولاً – مساويء النظام العقابي يقر هذا الاتجاه أن النظام العقابي يحتوي على الكثير من المساوئ فهو يسلب القرار من يد الأفراد ولا سيما المجني عليه، ويحل محله في مواجهة الجاني الأمر الذي قد يؤدي في نهاية النزاع دون شفاء غيض المجني عليه، كما أن النظام العقابي بصورته الحالية يتسبب في إصابة الجاني وأسرته والمجتمع بأضرار عديدة، ويتكلف مبالغ مالية باهظة ولا يحقق أي مساواة بين الأفراد في تحمل تبعاته، وإنما يفلت منه الأقوياء وينزل ألمه بالضعفاء.
ثانياً- إمكانية الاستغناء عن النظام العقابي لأنه لم يعد قادراً على تحقيق الردع وتوفير الطمأنينة للمجتمع ويمكن الاستغناء عنه بحلول اجتماعية بالقضاء على المشكلات المسببة للجرائم والاستعانة بجماعات طبيعية يمكنها تقريب وجهات النظر بين الخصوم وعند فشلها يمكن تدخل الدولة بطريقة مدنية لا ينتج عنها إيلام وفي كل الأحوال يجب استبعاد فرض أي إيلام لا يكون مقصوداً به سوى تحقيق المعاناة الاجتماعية أو الخدمة العامة أو إيقاع عقوبة الغرامة بحقهم كما أن فرض هذه العقوبات البديلة محاولة للتخفيف من أعباء التكلفة الباهظة للسجون والتقليل من مستويات الاكتظاظ بها، بالإضافة إلى الأخذ بالمبادئ الدولية والإنسانية في مجال تطوير آليات العقوبة بهدف حماية أمن المجتمع والأسرة والفرد على حد سواء.
كما ان تطبيق العقوبات السالبة للحرية لا يقتصر مداها ونطاقها على المحكوم عليه بل تتخطاه لتصل لمن تنقطع منها الجريمة المقترفة كأفراد لأسرهم وعائلاتهم يضاف إلى ذلك ما كشف عنه تطبيق تلك العقوبات ومن عدم فاعليتها في إصلاح المحكوم عليه بها وفي ردعه من سلوك درب الجريمة مرة أخرى بعد انتهائه من تنفيذها…
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً