هل غرامات التستر التجاري كافية ورادعة؟
عبد الحميد العمري
كشفت وزارة التجارة والاستثمار خلال الأسبوع الماضي، عن أن حجم التستر التجاري في السعودية يراوح وفقا للتقديرات بين 300 و 400 مليار ريال سنويا في جميع القطاعات، وأن قيمة الغرامات التي تم فرضها على المتسترين ووردت للوزارة من المحاكم خلال عامي 2017 و2018 بلغت نحو 10.5 مليون ريال، ولا تشمل تلك القيمة للغرامات قيمة التشهير في الصحف المحلية بعد صدور الأحكام القضائية من المحاكم المختصة في هذه القضايا، ووفقا لبيان الوزارة ينتظر أن يتم الإعلان عن تفاصيل البرنامج الوطني لمكافحة التستر التجاري قريبا.
وهو البرنامج – إحدى مبادرات برنامج التحول الوطني 2020 – الذي يستهدف تمكين المواطنين من التملك وممارسة الأعمال في مختلف القطاعات التجارية والاستثمارية، وتهيئة الظروف المناسبة، وتقديم الدعم والمساندة لهم، وإتاحة حلول تمويلية مختلفة وميسرة، كما سيلزم البرنامج المنشآت التجارية بتطبيق الحلول التقنية، ما يسهم في تنظيم التعاملات المالية، ويحد من خروج الأموال بطريقة تضر بالاقتصاد السعودي. ويهدف إلى إيجاد حلول لمكافحة التستر التجاري من خلال تطوير الأنظمة والتشريعات، وتكثيف الرقابة، وتعزيز التوعية، بتوحيد جهود عشر جهات حكومية (وزارات التجارة والاستثمار، والداخلية، والعمل والتنمية الاجتماعية، والشؤون البلدية والقروية، والهيئات العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة، والزكاة والدخل، والاستثمار، ومؤسسة النقد، ومجلس الجمعيات التعاوني، وبنك التنمية).
وحسب بيان التجارة، فقد تم تشكيل لجنة تنفيذية للبرنامج الوطني لمكافحة التستر، وتحديد مهام كل جهة. وتصل العقوبات في قضايا التستر التجاري إلى السجن لمدة سنتين وغرامة تصل إلى مليون ريال للمخالف الواحد، وإبعاد غير السعوديين عن المملكة وعدم عودتهم إليها، إضافة إلى التشهير بأسماء المخالفين في الصحف المحلية على نفقتهم الخاصة بعد صدور الحكم القضائي وتحصيل مبالغ إعلانات التشهير، وفرض العقوبات الأخرى المتضمنة إغلاق النشاط وتصفيته وشطب السجل التجاري والمنع من ممارسة النشاط التجاري.
بالنظر إلى التقديرات الكبيرة والمقلقة جدا، التي وصلت إليه بخصوص حجم التستر التجاري في اقتصادنا (300 إلى 400 مليار ريال)، أي ما نسبته 21 في المائة من إجمالي الناتج المحلي غير النفطي، ثم تصطدم بمفاجأة تدني الغرامات والعقوبات تجاه المتورطين في ارتكاب تلك الجريمة بحق الاقتصاد الوطني والمجتمع، أنها لم تتجاوز 10.5 مليون ريال كمجموع خلال عامين متتاليين (0.003 في المائة من الحجم المقدر للتستر التجاري)، ما يؤكد في حقيقته أن الطريق إلى التورط في أي شكل من أشكال التستر التجاري مفتوح أكثر من كونه مسدودا.
وحين الحديث عن المطالبة بإيقاع أقسى العقوبات والغرامات على المتورطين في جريمة التستر التجاري، فليس الهدف منه هنا هو الانتقام فقط من أولئك المتورطين، بقدر ما أنه يستهدف بالدرجة الأولى وضع أعلى درجات الحماية والوقاية لمقدرات الاقتصاد الوطني والمجتمع، إنها الأولوية الكبرى للمطالبة باتخاذ أقوى التدابير والإجراءات والعقوبات المحاربة للتستر التجاري، وأهم الشروط اللازمة للوقاية مبكرا من تفاقم أشكاله وتغلغله اقتصاديا واجتماعيا، ولهذا يجب أن يكون الردع المبكر أقوى مما سيفسره أصحاب النوايا الإجرامية في هذا الشأن، على أنه تساهل وعدم جدية في تجريم هذه الآفة الخطيرة.
إنها مطالب مشروعة جدا، تستند إلى الضرورة القصوى للتعرف على حقيقة الآثار والنتائج المدمرة للتستر التجاري، التي يأتي منها للذكر على سبيل المثال لا الحصر: (1) حرمان مقدرات الاقتصاد الوطني من إيجاد الوظائف للمواطنين، وتسببها في زيادة معدلات البطالة.
(2) زيادة التسرب الاقتصادي والمالي للخارج، عدا أنها تعد من أخطر مهددات معايير الجودة، ومستوى الإنتاجية داخل الاقتصاد، ومن ثم إضعاف النمو الاقتصادي وزعزعة مستويات التنمية.
(3) تفاقم دورها الأشد ضررا تجاه محاربة رؤوس الأموال الوطنية وتحديدا الصغيرة والمتوسطة منها، وتضييق الخناق على المدخرات الوطنية، وتقليص الفرص والمجالات الاستثمارية المتاحة والمطلوبة لتتحول إلى استثمارات يتم توظيفها في خدمة الاقتصاد والوطن.
(4) زيادة معدلات الفقر بين أفراد المجتمع بسبب انعدام التوظيف.
(5) زيادة عمليات التستر التجاري وما يتبعها بالضرورة من تفاقم أشكال الغش والتدليس، وامتداد أخطارها الكبيرة إلى ما يهدد مختلف جوانب الصحة والبيئة.
(6) هذا عدا آثاره الاجتماعية الأخرى السلبية، حينما تتحقق الآثار الاقتصادية والمالية السلبية السالفة الذكر، فلا شك أنه يتبعها كثير من الآثار السلبية اجتماعيا.
ختاما؛ لا بد أن ترتقي العقوبات والغرامات المفروضة على جرائم التستر التجاري، إلى المستوى الذي يعادل ما جمعته من مكاسب غير مشروعة، وهو المستوى الذي تسببت من خلاله في إهلاك الزرع والنسل، وامتد ضرره الخطير إلى مقدرات البلاد والعباد بغير وجه حق، وليس مقبولا بأي حال من الأحوال أن نظن أن فرض غرامات ببضعة آلاف من الريالات، مقابل حصاد عشرات أو مئات الملايين من الريالات من المتورطين، سيكون كافيا ورادعا لكل من تسول أو سولت له نفسه ارتكاب مثل هذه الجرائم، وهو الأمر الذي لا حاجة إلى إثبات ضخامة خلله وعدم استقامته، بل لا يمكن حتى مقارنته بغرامة قطع إشارة مرور، رغم أنه ثبت للجميع أن المخاطر الكبيرة جدا للتستر التجاري لا تقارن بمخاطر قطع إشارة أحد التقاطعات.
إننا نتطلع جميعا إلى البرنامج الوطني الجديد لمكافحة التستر التجاري، الذي تم إقراره أخيرا من الجهات العليا، أن يتضمن العقوبات والغرامات الكافية والرادعة، التي ترتقي إلى توفير الحماية والصيانة الكاملتين لمقدرات البلاد والعباد، وتتوافر فيها الاشتراطات اللازمة للتصدي مبكرا لأية نوايا محتملة باختراق اقتصادنا الوطني ومجتمعنا، وأن تصل بضراوة جزاءاتها إلى هدم الكيانات القائمة في أسسها ونشاطاتها على آفة التستر التجاري خلال الفترة الراهنة، وهي الكيانات التي تصاعدت تقديراتها حسبما أوضحت وزارة التجارة إلى نحو 400 مليار ريال.
إننا باختصار شديد جدا؛ بحاجة ماسة إلى برنامج قوي يردع كل من تسول له نفسه ارتكاب جريمة التستر التجاري، وفي الوقت ذاته يخوف المتورطين الآن فيها، ليأتوا مذعنين مقرين بجرائمهم، بعد فتح مهلة زمنية محددة لهم، تكون فيها العقوبات أقل مما لو تمت مداهمتهم وكشفهم. والله ولي التوفيق.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً