التشريع الإلهي و القوانين الوضعية
بواسطة باحث قانوني
التشريع الإلهي
لقد شرع الله لعباده الشرائع وفصّل لهم الأحكام تحقيقًا لمصالحهم العاجلة والآجلة في الدين والدنيا، و وضع لهم القوانين السامية تحقيقًا لأهدافهم المقصودة و غاياتهم النبيلة، وقرّر لهم مبادئ الحياة الرائعة والمساواة العادلة والأخوة الصادقة ، وحذّرهم من العودة إلى مساوئ الجاهلية ، وجعل لهم الشريعة الإسلامية خيرًا وبركة ، بحيث تصلح لكل زمان ومكان ، وتنتظم بأحكامها جميع جوانب حياة الناس ، وترشدهم إلى أقوم السبل ، وهي الشريعة الكاملة التي تعطي كل ذي حق حقه ، وتفرض معايير قانونية ملزمة للجميع لايستطيع أن يمتلكها أو يسيطر عليها أحد . («وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُلٰئِكَ هُمُ الظّٰلّمُونَ») هذا هو التشريع الإلهي الكامل الذي يسمو فوق كل تشريع وضعي عرفه البشر في القديم والحديث ، والذي هو أعدل المبادئ الإنسانية السامية التي لم و لن يشهد التاريخ حتى اليوم أسمى و أنفع منه للإنسانية .
الشريعة والتشريع ، وكذلك الشِّرعة والشرع كلها ألفاظ راجعة إلى أصل واحد ، هو مادة «شرع» ومعنى شَرَعَ وضع الأحكام وحدّدها ، فالذي يضع الأحكام للناس ويحدد لهم ما يفعلون ومالايفعلون ، ويحددلهم كيف يفعلون ، يقال عنه مشرع .
قال الإمام القرطبي: الشِرعة والشريعة «الطريقة التي يتوصل بها إلى النجاة»، والشريعة في اللغة : الطريق الذي يتوصل إلى الماء ، والشريعة ما شرع الله لعباده من الدين .
أما مفهوم «الشريعة» من حيث مضامينها ومجالات أحكامها ، فمن العلماء من يجعله شاملاً لكل ما أنزله الله لعباده ، أي لكل ما وضعه لهم وأرشدهم إليه ، من معتقدات وعبادات وآداب ، فالشريعة عندهم مرادفة أو مطابقة للدين والملة ، فالدين والملة والشريعة في هذا المفهوم الواسع ألفاظ مترادفة تؤدي إلى غاية واحدة .
ومما يستدل به على هذا المعنى قوله تعالى : «شَرَعَ لَكُمْ منَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ، وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيْمَ وَمُوْسَىٰ وَعِيْسَىٰ أَنْ أَقِيْمُوا الدِّيْنَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ» ( الشورى ).
وكما يذكر في أصول الفقه أن تشريع الأحكام ما قصد به تحقيق مصالح الناس أي جلب نفع لهم أو دفع ضرر أو رفع حرج عنهم ، فالمصالح التي شرع الشارع أحكامًا لتحقيقها ودلّ على اعتبارها عللا صلى الله عليه وسلم لما شرعه ، يقال عنها في اصطلاح الأصوليين: «المصالح المعتبرة من الشارع» مثل حفظ حياة الناس ، شرع الشارع له إيجاب القصاص من القاتل المتعمد ، وحفظ مالهم الذي شرع له حد السارق والسرقة ، وحفظ عرضهم الذي شرع له حد القذف للزاني والزانية ، فالعقوبة في الإسلام تتجه إلى العدالة وحماية المجتمع وصيانة نظامه من الضياع و حماية الفضيلة وإصلاح حال البشر وحمايته من المفاسد ، واستنقاذهم من الجهالة، وإرشادهم من الضلالة ،
وكفهم عن المعاصي وحضهم على الطاعة ولم يرسل الله رسوله للناس ليسيطر عليهم أو ليكون عليهم جبارًا ، وإنما أرسله رحمةً للعالمين وذلك في قوله تعالى : «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ» (الغاشية) «وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) (ق) «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِيْنَ» كما أن قانون المساواة يوجب أن تتساوى العقوبة مع الجريمة، وأن يتساوى الأذى الذي نزل بالمجني عليه مع الأذى والضرر الذي ينزل بالجاني عقوبة له على ما اقترف من جرائم ، وإنما العقوبة تتدرج بحسب الجرم ويهدف من ورائها إصلاحُ الجاني لا الانتقام منه .
ويقول أحدهم : «الحدود زواجر وضعها الله للردع عن ارتكاب ما خطر وترك ما أمر ، لما في الطبع من فعالية الشهوات المنهية عن وعيد الآخرة ، بعاجل اللذة ، فجعل الله تعالى من زواجر الحدود ما يردع به ذا الجهالة حذرًا من ألم العقوبة ، وخيفة من نكال الفضيحة، ليكون ما خطر من محارمه ممنوعًا وما أمر به من فروضه متبوعًا ، فتكون المصلحة أعم والتكاليف أتم».
ويقول آخر في ذلك أيضًا : «العقوبات الشرعية إنما شرعت رحمةً من الله تعالى بعباده ، فهي صادرة عن رحمة الله للخلق ، وإرادة الإحسان إليهم ؛ ولهذا يبغي لمن يفرض العقوبات على جرائم الناس وجناياتهم ، أن يقصد بذلك الإحسانَ إليهم والرحمةَ بهم ، كما يقصد الوالد تأديبه ولده ، وكما يقصد الطبيب معالجةَ المريض.
والتشـريع الإلهي الذي ترك الأثر العظيم في نفوس العرب ، وأدّى إلى معالجة المفاسد والأمراض الاجتماعية المنتشرة فيما بينهم ، حيث قضى على كل فساد، واستأصل كل جريمة من نفوسهم ، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس ، فملكوا الدنيا و سادوا العالم كله .
ولكننا نرى اليوم أن الجرائم المتنوّعة المروّعة من سرقة ـ في وضح النهار ـ للبيوت والبنوك والمحلات الكبيرة وخطف للفتيات والفتيان ، وانغماسهم في الشهوات الجنسية وإسرافهم في المفاسد والمفاتن تزداد كل يوم في المجتمع المتمدن «المجتمع الغربي» والمجتمعات غير الإسلامية مع وجود التشاريع البشرية والنظم الأرضية وصرامة العقوبات المشروعة عنهم بالحبس والسجن أو الإعدام بالشنق .
وأصبحنا نسمع عن وجود عصابات خطيرة تهدد الأمن وسلامة الناس؛ لأن مقنني التشاريع الوضعية يراعون مصالحهم في كل الأحوال ومايضر خصومهم في كل الأحوال ، وكذلك التشريع الذي يشرعه البشر لبشر مثلهم لايخلو من الإجحاف أو غياب المصلحة في المستقبل ، فلا يشك عاقل أن مشرعاً غاب عنه أمر المستقبل ، يقصر تشريعه عن تحقيق متطلبات الإنسان ، والمشرع الذي خلق الإنسان ويعلم دخائله ، والمستقبل عنده كالماضي والحال ، فإن تشريعه يحقق للإنسان إنسانيته من غير أن يتعدى أحد على أحد ، فلذلك حقق الإسلام الأمن والسلام وقضى على كل جريمة في مهدها .
ذلك هو الفرق بين التشريع الإلهي الرصين وتشريع الإنسان الناقص المجوّف ؛ ولكن أكثر الناس لايفقهون.
فلو تمسكت هذه الأمة بالمبادي القرآنية الحقة السليمة دستورًا ومنهجًا وطريقًا لكان لها حياة العز والشموخ بقوة دينها وعقيدتها ولسادت الأمم الأخرى بقوة أخلاقها .
اترك تعليقاً