القانون الجنائي ومسألة تكريس قيم المواطنة
قد يعتقد البعض أن القانون الجنائي بطبيعته الزجرية الرادعة و بشكل ملموس، لأهم مظاهر الانحراف في المجتمع، إنما يتموقع في الجانب الذي يضمن للدولة قوتها كحامية للمجتمع من خطر الجريمة، وكمعين ضروري تتقوى الحاجة إليه عند فشل القوانين الأخرى عن ضمان الحماية. إلا أنه، و على الرغم من مما يحوزه هذا الاعتقاد من صحة معتبرة تحاول أن تلامس في تقنيات التجريم والعقاب إمكانيات توظيفها الواقعية والمستجيبة بشكل مباشر لردود الفعل المجتمعية، يبقى للقانون الجنائي هامشا من الاشتغال الخفي – إن صحت هذه العبارة – كآلية قانونية تملك من الاستقلال ما يكفي سواء لقراءة الواقع المجتمعي بكل تناقضاته، أو لاستشراف المستقبل بصعوباته و تحدياته. و ليس غريبا أن يحشر القانون الجنائي نفسه في مثل هذه الموضوعات الحيوية، بل لم يعد خاف على أحد اليوم التقاطع الحاصل بين مختلف فروع القانون، إلى حد أنه أصبح من اللازم إعادة التفكير في توزيع الأدوار بينها، بشكل يضمن لكل مكونات المجتمع تعايشا مسؤولا يحكمه منطق القيم كغاية مثلى ينبغي أن تسخر المنظومة القانونية لخدمتها.
إن السؤال المحير الذي كان دائما يطرحه القانون الجنائي، ونعتقد أن الإجابة عنه اليوم صارت مطلوبة و أكثر من أي وقت مضى، هو إلى أي حد يمكن أن يعول عليه لإرساء دعائم التعايش الاجتماعي؟ ولا نعتقد أن طرح مثل هذا السؤال قد يوحي بالإجابة، لأن صعوبة ذلك تنبع من الإشكاليات الجزئية و الدقيقة التي تحيط بأية رغبة صادقة في البحث للعثور على الإجابة السليمة أو على الأقل الواقعية؛ و لعل طرح أهم هذه الإشكاليات يحيل بالدرجة الأولى على منطق التعايش الاجتماعي نفسه. من دون الادعاء أو بالأحرى التطاول على معرفة المتخصصين في هذا المجال، نستحضر فقط في المادة الجنائية الصعوبات الموضوعية التي تواجه المشرع الجنائي في احتواء هذا التعايش، فاختزال التناقض الذي يبرره إنما يفرض و في أحسن الأحوال هامشا من الاجتهاد في قراءة الواقع المجتمعي، والخلوص بداية و قبل الحسم في انتقاء المصالح الأولى بالحماية، إلى معادلة تكفل لكل مكونات المجتمع مواقع حقيقية تسمح لها بأن تلعب دورا واضحا في واقع يفرض نفسه. بيد أن الصعوبة القصوى تنطلق من القراءات المتعددة التي يجود بها الواقع بحركيته وتنوعه أولا، و بسرعة تحول مراكز القوة بين مكوناته ثانيا، من دون أن نغالط أنفسنا بالقول الذي يحسم المعادلة بالتركيز على افتراض ترجيح موقع الدولة باعتبارها مالكة لحق العقاب، لأن تدبير هذا الحق يفرض عليها من الناحية الواقعية الدخول في علاقات جد معقدة مع المكونات الأخرى، الشيء الذي يتطلب و بالبداهة تحكيم نظرة مركبة وشمولية لقراءة الواقع المجتمعي، أي ليس من منظور الدولة فحسب، وإن كان يبقى لها في مفهوم المجتمع المنظم الحضور المناسب الذي يسمح لها بتجسيد الموقع الذي تلتقي فيه كل المطالب والطموحات المجتمعية.
إن المتأمل في واقع المجتمع المغربي يلاحظ جيدا أنه أصبح يعرف حركية غير مسبوقة يقف وراءها بطبيعة تطور الأشياء هامش من الطموح المشروع لاستشراف مستقبل أفضل، إلا أن هذه الحركية وبحكم وتيرتها المتسارعة لم تكن لتنجو من عثرات الاصطدام بمحدودية القدرة على تحقيق الانسجام المطلوب بين ما يقوم به المجتمع من حيث طبيعة بنيته وما تتجذر به أصالته و بين الهامش الذي يسمح له بالتحول، و لعلها الإشكالية التي ساهمت مع الأسف في إكساب ظاهرة الجريمة نوعا من القدرة على المقاومة غير الطبيعية، نرجعها بالأساس إلى الفهم المختزل لدور القانون الجنائي في مكافحتها: فمهما علقت الآمال على موقع الدولة للنهوض بالتزاماتها إزاء الأفراد لضمان المقومات الأساسية للتعايش الاجتماعي، ومهما وقع الاجتهاد في تبرير هامشها المشروع في استثمار القانون الجنائي لتصحيح مظاهر الاختلال التي يشكو منها الواقع المجتمعي، تظل العبرة بالنتائج، حيث وفي مجال مكافحة الجريمة بالذات تظل الآمال الحقيقية معقودة على مدى تمكن القانون الجنائي من تزكية مصداقية الدولة في قراءتها للواقع المجتمعي، وتزويدها بالوضوح الكافي ليس فقط لاحتواء هذا الواقع بتناقضاته الدالة على حركيته، ولكن أيضا للتحصن بما يكفي من آليات التواصل الضرورية تجاه المكونات المجتمعية الأخرى باعتبارها هي أيضا تتحمل نصيبها من المسؤولية في مكافحة ظاهرة الجريمة، فيصبح حسم النتيجة رهان مشروع مجتمعي توحده إرادة مشتركة، كما ترغب في إيجاد الحلول الزجرية المفعلة لسياسة التطهير، فهي تهتدي أيضا وانطلاقا من نبل الغاية التي يستهدفها الخطاب الزجري إلى تكريس أهم القيم التي لا قيام للمجتمع بدونها: ولعلها القراءة الأقرب إلى تخليص الواقع من عقدة الاصطدام بظاهرة الجريمة لأنها على أية حال جزء من إفرازاته.
إن قوة الدولة لا يمكن أن تلمس في المنظور الجنائي إلا باجتيازها للاختبار الصعب الذي تمر منه في محاولة ضمانها للأمن والاستقرار، و لا يمكن أن نغالط أنفسنا بالقول بأن هذا الالتزام المصيري إنما هو مقرر فقط لمصلحة الأفراد، ما دام أن ظاهرة الجريمة كما تتهدد هؤلاء، يمكن أن تتهدد الدولة في كيانها، نظامها و مؤسساتها؛ بل يمكن القول إن موقع الدولة كمالكة لحق العقاب و كمدبر لتصريف كل أدوات الحماية المقررة للمصالح المجتمعية بما فيها مصالح الأفراد، إنما يضعها في خانة الخصم الأول لظاهر الجريمة؛ و لعلها المعادلة الصعبة التي تدخل القانون الجنائي في مواجهة معقدة لا يمكن التغلب عليها سوى باختيار المنهجية الملائمة، سواء للحسم في المصالح الأولى بالحماية أو في توزيع نسب هذه الحماية، بحيث و في خضم احتمال التواجه المنطقي بين مصلحة الدولة و مصالح الأفراد، لا بد من أن ينجح القانون الجنائي في إيجاد الصيغ المقبولة لاحتواء هذا التواجه، وإعطائه أكبر حظ من الاهتمام القائم على تصحيح كل المفاهيم المغلوطة و التي قد تستغل – بشكل سلبي – لترجيح هذه المصلحة أو تلك.
لقد ظل القانون الجنائي، وحتى في المجتمعات الأكثر ديموقراطية وإيمانا بحقوق الإنسان، رهين نظرة مختزلة تؤمن فقط بدوره الاستنجادي المألوف كلما لوحت في الأفق بوادر أزمة تقف وراءها ظاهرة الجريمة، فلم يخرج استثماره عن تقديم الحلول المسكنة للظاهرة، و الحال أن اجتثاثها يحتاج إلى تشخيص ملامس لعمق تجذرها في الواقع، حتى لا يقع تفاوت غير منطقي بين آليات الحماية الزجرية كما يتصورها المشرع الجنائي، وبين الإمكانيات الفعلية لضمان تشغيلها قياسا بتمظهرات السلوك الإجرامي من الناحية الواقعية.
يستفاد مما ذكر أن المكافحة الحقيقية لظاهرة الجريمة لا يمكن أن تختزل في اختبار مدى قدرة الدولة على ضمان الأمن و الاستقرار، لأنها ليست الجهة الوحيدة المسؤولة عنه؛ كما لا يمكن للمشرع أن يتنصل من مسؤوليته الكاملة في تشخيص الظاهرة لأنه القلب النابض للمجتمع والمعبر الرسمي عن حجم وأنواع ردود فعله، بحيث لا بد أن ينتهي منطق التجريم و العقاب إلى التحرر من كل التصورات المتبدلة و المعطلة لمدى قدرته على الاشتغال: ولعل أول وأهم محاولة لإنجاح ذلك تتمثل في الإيمان العميق بما يمكن أن يحمله الخطاب الزجري من دينامية محصنة للقيم المجتمعية سواء لتكريسها وتجذير ثوابتها، أو لخلق الفرص الحقيقية التي تساعدها على الانفتاح على قيم جديدة من شأنها أن تساهم في تطور المجتمع.
إن قليلا من التأمل في نصوص التجريم والعقاب إن كان يترك لدى المخاطب بها تصورا مبدئيا لنماذج السلوك المحظورة عليه جنائيا، فالحكمة من ذلك هي ليست لتخويفه بهدف تطويع سلوكه ونمذجته، بل لتحفيزه على قبول فكرة التعايش مع الآخر، والارتقاء بسلوكه إلى المستوى الذي يجعل منه فعلا يتقاسم الشعور العام السائد في المجتمع، بغض النظر عن الخصوصيات المتحكمة في تناقضاته، لأنها تبقى – وليس في كل الأحوال – ثمن احتمائه بمناعة المجتمع المنظم؛ فتصبح فكرة حماية المصالح المجتمعية مجرد ضوابط منهجية موجهة لنصوص التجريم والعقاب، فيها تحمى الدولة بسمو رمزيتها ومصداقية عملها، وشرعية حرصها على تماسك المجتمع، وتحقيق طموحاته المشروعة، وبفضلها يسمح للفرد باستثمار كل طاقاته واستغلالها وفق الشكل الأمثل الذي تلطف فيه أنانية الاستفراد بالنفع، حتى تأخذ هذه الأخيرة حجما مقبولا لا تضيع معه كرامة الإنسان باعتباره مواطنا تفرز له الممارسة و يعترف له الواقع المجتمعي بموقع يلائمه كمكون محوري له اعتباره الخاص داخل المنظومة القانونية.
مما لا شك فيه أن الحفاظ على قيم المواطنة يبقى بنظرنا المتواضع المجال ذو الأولوية الذي يحرص فيه القانون الجنائي على تقديم الأجوبة الملائمة التي تساهم في خلق الفرص الحقيقية للدفاع عن نماذج السلوك الضامنة لتماسك المجتمع؛ ولعلها المقاربة الأضمن للسمو بمنطق التجريم والعقاب ليلامس في ضرورة مكافحة ظاهرة الجريمة جوهر ما يشكو منه الواقع المجتمعي من اختلالات، مهما اختلفت تسمياتها وتفاوتت نسبة حدتها فهي لا تخرج عن تجسيد نوع من التفكك على مستوى الروابط الموضوعية والمنطقية التي ينبغي احترامها في تصور العلاقات القائمة بين مكونات المجتمع المنظم. و قد يعتقد البعض أن نصيب القانون الجنائي في الحفاظ على قيم المواطنة لا يتعدى الخوض في مواجهة تجليات أزمة الانتماء، أي ما يسفر عنه تمرد الفرد من سلوكات إجرامية ماسة إما بهامش حماية الدولة، نظامها ومؤسساتها، أو بهامش حماية المجتمع كفضاء مؤطر بالقانون تتشابك فيه العلاقات وتتنوع فيه المصالح؛ إلا أننا نرى للقانون الجنائي منظورا أكثر شمولية من ذلك، لأن الحماية التي يقدمها سواء للدولة أو للمجتمع ما هي إلا منهجية يكرسها الخطاب الزجري في الاتجاه الذي يبحث به ومن خلاله على الطريقة الأنجع لتصحيح مفهوم الانتماء، واستخلاص أهم القيم التي ترسي و تثبت دعائمه. ومن ثم يصبح للسلوك الإجرامي تفسيرا أعمق من تحجيمه داخل التمظهرات السطحية لفكرة التمرد على الواجبات التي يساءل بها الفرد كمواطن، لأن هذه الصفة إن كانت تأخذ في القانون الجنائي توظيفات تطهيرية شتى تنتهي في أغلبها إلى الحفاظ على المكانة السامية للدولة كمرجعية فاصلة في تحديد مفهوم الاندماج داخل المجتمع، فإنها لا تعفي الدولة من ضرورة التجاوب مع هامش الاستياء المشروع والمحفز لها على تهييء الشروط الموضوعية للاندماج، باعتباره هذه المرة مزيجا من امتثال الفرد المطالب بالحق ومسؤولية الدولة الملتزمة بالقانون، ولعلها الغاية النبيلة التي جعلتنا نراهن على ما يمكن أن يقدمه القانون الجنائي من مساهمة في تثبيت قيم المواطنة، ليس فقط كأسلوب متحضر يمكن الدولة من أخذ موقعها كمؤتمن أول على تدبير الشأن العام، ولكن أيضا كميثاق ثقة يستشرف المواطن من خلاله مستقبل مصيره المدعوم بطموحاته المشروعة.
إن تثبيت قيم المواطنة لا يمكن أن يتحقق في المنظور الجنائي إلا بتوزيع عقلاني لنسب الحماية التي تضمن لكل مكونات المجتمع حدا أدنى من التعايش الملطف لمختلف التقاطعات المحتملة بين مصلحة الدولة ومصالح الأفراد، أي لا يمكن أن يصبح حقيقة مجتمعية إلا بخلق فرص الثقة كلما ظهرت بوادر التشكيك في مصداقية هذا التعايش؛ و لعله المنطق نفسه الذي يجعلنا نرى في الدولة الطاقة المولدة لنماذج سلوك المواطنة واجبة الإتباع، بحيث لا بد وأن يستثمر الخطاب الزجري في تقليص مساحات الظل التي تبعث على عدم الارتياح في سلوك هذه الجهة أو تلك، ولعلها الحقيقة الثابتة التي تسعى إلى ربط مفهوم المواطنة بغايته المثلى التي تجسدها فكرة دولة الحق الملتزمة بالقانون.
إن طموحات المواطن مهما كانت مشروعة، لا بد وأن تعكس الغاية النبيلة التي تحركها، بغية الاطمئنان على سعيه الحثيث وراء البحث عن فرص الاندماج التي يسمح بها الواقع بإكراهاته و تناقضاته؛ كما أن توجه الدولة لا بد وأن يسعى إلى تحصين المواطن ضد كل التيارات المشككة في قدرته على الاندماج، فتصبح بالتالي مصلحة الدولة ومصلحة المواطن متقاربة إلى حد التماثل، خصوصا في غايتها، يحركها منطق التعايش الاجتماعي الرافض لفكرة التمرد، والمعزز بقبول الدولة لفكرة الانتساب لنفس المرجعية التي تؤطر سلوك المواطن: هنا بالضبط يتمكن القانون الجنائي من الانفتاح على آليات أسمى من توظيف تقنيات التجريم والعقاب في الاتجاه الردعي فقط، مادام أنه سيصبح مطالبا في تدخله أيضا بتكريس الوعي بالمفهوم الشمولي لفكرة المواطنة كمحصن للمجتمع ضد التفكك، وكقيمة مرجعية تسعى إلى اختزال التناقضات بتطهير الواقع المجتمعي من خطر الاستياء العابث بالقدرات الحقيقية التي يولدها الشعور بالانتماء، ذلكم أملنا للارتقاء بامتلاك حق العقاب إلى مستوى الالتزام الحضاري المجتهد في خلق الحد الأدنى من الانسجام بين حق الدولة في الحفاظ على ثوابتها الضامنة لاستقرار المجتمع، وطموحات المواطن المحصنة برغبته في الاندماج المسئول، والمنبعث مما تخلفه فكرة المواطنة من ثقة متبادلة لا بد وأن ينطلق منها أي استشراف لمستقبل أفضل.
د. فريد السموني
أستاذ التعليم العالي بكلية الحقوق بالمحمدية
اترك تعليقاً