القضاء الإداري عون ٌ وعينٌ على الفساد
محمد بن سعود الجذلاني
ناديت بضرورة تفعيل دور هيئة الرقابة والتحقيق عبر التنسيق بينها وبين ديوان المظالم بحيث يزودها الديوان بصور الأحكام التي تتضمن تعويضا أو إلغاء لقرار إداري معيب ومخالف للأنظمة، لتتولى الهيئة التحقيق مع الموظف أو المسؤول المتسبب على اعتبار قيامه بالتصرف المخالف للنظام مخالفة مسلكية تستوجب مساءلته تأديبياً عنها، وأكدت أن ذلك من أكثر وسائل محاربة الفساد المالي والإداري فاعلية وجدوى.
وسرّني كثيراً ما تناقلته بعض الصحف قبل أيام من أن لجنة الإدارة والموارد البشرية في مجلس الشورى أوصت في تقريرها الخاص بأداء هيئة الرقابة والتحقيق بقيام الهيئة بالتحقيق في كل حكم صادر من ديوان المظالم بصفة نهائية يرتب إلغاء لقرار إداري أو التعويض على الأجهزة الحكومية، وتحديد المسؤولية الإدارية والجنائية عن ذلك.
بناء على ما لاحظته اللجنة أن ديوان المظالم يصدر أحكاماً بإلغاء قرار إداري صادر عن إحدى الجهات الحكومية أو التعويض لشخص ما عن أضرار وقعت عليه جراء قرار لإحدى الجهات الحكومية أو خطأ ارتكبته جهة الإدارة أو بهما معاً، وقالت اللجنة: «مهما يكن سبب القرار أو الخطأ، فإنه بصدور الحكم ثبت بشكل نهائي مسؤولية جهة الإدارة المحكوم ضدها، وبتتبع المتسبب في ذلك، نجده في كثير من الأحوال مشارا إليه في الحكم الصادر بمركزه الوظيفي أو باسمه الشخصي، وفي كثير من الأحوال يكون ذلك ناتجا عن ارتكاب الموظف أو المسؤول مخالفة إدارية واضحة ومحددة أوصافها وتكييفها القانوني في الحكم ما يستوجب مساءلة هذا الموظف أو المسؤول وتأديبه وفقاً لنظام تأديب الموظفين أو إدانته جنائياً إذا تجاوز حدود صلاحياته الإدارية وارتكب جريمة من الجرائم المعاقب عنها شرعاً».
وسواء كانت تلك التوصية تفاعلاً مع ما تضمنه مقالي من اقتراح أو أنه محض مصادفة، إلا أنه أسعدني كثيراً أن يتم التنبه إلى هذا الجانب المهم الذي ظل طوال السنوات الماضية مغفلاً ومسكوتاً عنه. وفي هذا الجانب أعيد التأكيد أن القضاء الإداري ممثلاً في ديوان المظالم يعد من أهم وأوسع القنوات التي ستؤدي إن تم تفعيل دورها إلى محاربة الفساد والتقليل منه بكل أشكاله وصوره. وإذا ما أردنا الوصول ـ بإذن الله ـ إلى نتائج إيجابية ومثمرة في هذا الجانب فلا بد من التأكيد على عدة ملاحظات واقتراحات لا يمكن إغفالها ومنها:
أولاً: أنه يجب ألا يقتصر دعم ديوان المظالم على زيادة أعداد القضاة المعينين فيه، أو التوسع في افتتاح الفروع في المناطق، فهذا الجانب مع أهميته إلا أنه ـ في نظري ـ يأتي سابقاً عليه في الأهمية؛ العناية بجودة مخرجات الأحكام القضائية الصادرة من المحاكم الإدارية والسعي إلى رفع كفاءتها، فإن من الأخطاء المنهجية الجسيمة التركيز على الأحكام القضائية وإنجاز القضايا من حيث الكم مع إغفال الكيف، وأن تتبارى الدوائر القضائية للمسابقة في أيها يزيد على الأخرى في عدد الأحكام الصادرة سنوياً، مع عدم الالتفات إلى نسبة ما يتم نقضه من محاكم الاستئناف وإعادته إلى الدائرة التي أصدرته على وجه العجلة دون تأن ولا تأمل ولا بحث كاف للوصول إلى حكم متقن مؤصَّل، ليكون الضحية الأولى في ذلك هو صاحب الحق وكما يقول المثل «رُب عجلة تهب ريثا».
كما يجب التركيز على مستوى تأهيل من يتم تعيينهم في القضاء الإداري ومدى استعدادهم لفهم طبيعة هذا القضاء والتفاعل معها والإبداع والتميز فيها. وإن من المؤسف جداً أن يستمر الوضع على ما هو عليه في السابق من تعيين خريجي كليات الشريعة في القضاء الإداري ويباشرون فور تعيينهم المشاركة في إصدار الأحكام والدخول أعضاء أساسيين في تشكيلات الدوائر القضائية ويكون للمعين حديثاً صوت ورأي معتبر في إصدار الحكم بحيث قد يكون رأيه الفيصل في الحكم عند حصول اختلاف بين عضوي الدائرة الآخرين فيكون صوته هو المرجح، مع الضعف الكبير في تأهيله لأن كليات الشريعة لا تتضمن مناهجها أي مادة عن القضاء الإداري، ومع أن هذا النوع من القضاء يعد مجهولاً تماما لدى خريجي تلك الكليات ولا يعرفون من أبجدياته أي شيء، يصبح الواحد منهم قاضياً متخصصاً في هذا النوع من القضاء!. إن استمرار التعيينات الحالية بكثرة للقضاة في ديوان المظالم بهذا الأسلوب سيقود إلى كارثة لا تحمد عقباها بدأت بوادرها تطل عبر أحكام تصدر من بعض الدوائر لا تتضمن الحد الأدنى من الشكل المقبول للحكم القضائي الإداري من حيث صياغته وترتيبه ومضمونه ونتيجته.
ولمن أراد معرفة الفرق أن يرجع إلى أحكام ديوان المظالم التي كانت تصدر قبل قرابة عشر أو 15 سنة ليلاحظ الفرق الذي لا يمكن مداراته ولا مواراته بين عصرين وزمنين وجيلين من أجيال القضاء الإداري. ولا يمكن لنا أن نلوم القضاة المعينين حديثاً على هذا الضعف الذي لا يد لهم فيه, إنما يجب وبأقصى سرعة إعادة النظر في مناهج كليات الشريعة، كما يجب أيضاً أن يوجد نوع من التخصص في تلك الكليات ليكون فيها أقسام تعنى بالقضاء وعلومه وتركز على فرع من فروع القضاء كالقضاء الإداري، أو التجاري، أو الجزائي، لمواكبة سد حاجة المحاكم المتخصصة التي تضمنها نظام القضاء الجديد، فليس صحيحاً أن يقال إن خريج كلية الشريعة صالح للعمل في أي فرع من فروع القضاء ولا فرق.
ومن المنطقي أن نعترف أن ديوان المظالم في مرحلته الحالية يقف في مأزق بين سد حاجته الكبيرة من القضاة مع التوسع في افتتاح الفروع، ومع تطبيق نظام المرافعات الجديد الذي يتضمن مرحلتين من مراحل التقاضي، الذي يتطلب ترقية عدد كبير من القضاة الحاليين إلى محاكم الاستئناف ليكون الصف الأول من القضاة الابتدائيين في حالة نقص شديد في العدد مع ضعف وقلة في الكفاءات والخبرات القضائية.
وأنه في ظل هذا النقص ليس أمامه سوى خريجي كليات الشريعة أو المعهد العالي للقضاء لسد حاجة القضاء الإداري. لذا فإن من الأهمية بمكان اتخاذ عدة خطوات تساعد على رفع كفاءة أحكام القضاء الإداري، ولا أقل من المحافظة على المستوى الذي كان عليه قبل 15 سنة, فهذه نتيجة أعتبرها مرضية في المرحلة الحالية. ومن تلك الخطوات التي أقترحها لهذا الغرض ما يلي:
1- تكثيف دورات التدريب والتأهيل وورش العمل التي تركز على موضوعات من صلب تخصصهم في القضاء الإداري ما بين (الإثبات في الدعوى الإدارية، وإجراءاتها، وأحكام التعويض، والقرارات الإدارية، وأحكام دعوى الإلغاء، والعقود الإدارية .. وغيرها كثير), وكان ديوان المظالم في وقت سابق قد بادر إلى عقد مثل تلك الدورات بعضها كان المدربون فيها من قضاة الديوان المميزين وهم ـ بفضل الله ـ متوافرون، أو كان المدربون من غير قضاة الديوان من الخبرات القضائية المميزة خارج المملكة، وكانت تلك الدورات محل رضا وتفاعل من قضاة الديوان وكان لها آثار إيجابية كبيرة أتمنى لو عاد الديوان إلى الاهتمام بها لأنها بمنزلة الضرورة الملحة في هذه المرحلة مع التأكيد على الجوانب التي سبق أن عرضت لها في مقالات سابقة سواء في جانب عدم تأثير الدورات في سير وإنجاز القضايا، أو في طريقة التعامل مع القضاة في دعوتهم وإلحاقهم بتلك الدورات بما يتناسب مع مكانة القاضي وهيبته وكرامته واستقلاله.
2- ومن المقترحات التي أعتقد أهميتها في رفع مستوى القضاء الإداري في المرحلة الحالية والحد من آثار نقص التأهيل لدى القضاة المعينين حديثاً، أن يعود الديوان إلى تطبيق تجربته السابقة في الاستعانة بمستشارين غير سعوديين من مصر والأردن وسورية أو غيرها من الكفاءات القضائية المتخصصة في القضاء الإداري ليتولوا مساندة القضاة في دراسة القضايا وتحضيرها وإعطاء المشورة والرأي وبحث المسائل وتأصيلها وتكييف الوقائع بشكل صحيح والمساعدة على صياغة الأحكام. فهم سيكونون أكثر قرباً للقاضي المعين حديثا ومنقطعين لهذا الغرض ما سيجعل منهم جامعة متخصصة داخل الجهاز القضائي, ويتوقع أن يتخرج على يديهم أجيال من القضاة البارعين الحاذقين، إذ لا يجادل منصف أن المستشارين الذين كان ديوان المظالم يستعين بهم في السابق كان لهم أثر حسن في مخرجات الأحكام في تلك الفترة، وهذا لا يعني أن تميز القضاء الإداري في السابق منسوب إلى هؤلاء المستشارين فقط، بل كان في قضاة الديوان من يعدون كفاءات يشهد لها بالتميز والاقتدار والفهم الدقيق لطبيعة القضاء الإداري.
3- ومن المقترحات المهمة في هذه المرحلة السعي إلى تزويد القضاة بعدد كاف من الأعوان من المستشارين وكتاب الضبط الذين يخففون عن القاضي جزءاً كبيراً من الحمل الملقى عليه ليسهم ذلك في منحه فرصة لزيادة تأهيل نفسه وإعدادها ورفع كفاءتها عبر الإطلاع والقراءة والبحث المتأني في القضايا المعروضة عليه والقدرة على التصدي لها بتركيز بدل ما يواجهه القضاة في الديوان حالياً من حالة الاستنفار والضغط الذي لا يحتمله بشر لمواجهة سيل القضايا دون معين ولا مساعد لهم ودون توافر الحد الأدنى من أعوان القاضي والموظفين الذين لا غنى لأي مكتب قضائي عنهم, ما يؤدي إلى احتمال القاضي درجة من الضغط تمنعه من الإنجاز على الوجه المأمول.
ثانياً: أنه في سبيل تفعيل الخطوات العملية للربط بين أحكام ديوان المظالم وبين هيئة الرقابة والتحقيق لتكون تلك الأحكام منطلقاً نحو بسط الرقابة على كل صور الفساد في الجهات الحكومية لا بد من السعي إلى عقد دورات لقضاة ديوان المظالم لإطلاعهم على جميع صور وأساليب الفساد المالي والإداري المراد محاربتها، وإطلاعهم على خطورتها وأثرها السيئ في إعاقة حركة التنمية في الدولة، وكذلك ضرورة رفع مستوى التأهيل لدى محققي هيئة الرقابة والتحقيق للغرض نفسه وزيادة عددهم ودعمهم بكل صور الدعم لمواجهة أعباء هذه المهمة الجديدة عليهم نسبياً.
ثالثاً: وفي هذا المقام أؤكد كما أكدت سابقاً أن من أبشع صور الفساد، وأعظمها ضرراً، وأخطرها أثراً في الأمن الاجتماعي والاستقرار الاقتصادي، وفي شعور الفرد في الدولة بأن حقوقه مصانة، مسألة عدم تنفيذ الأحكام القضائية التي يصدرها ديوان المظالم في حق الجهات الحكومية، حيث تزايد في الآونة الأخيرة تعطيل تنفيذ تلك الأحكام وأصبحت بعض الجهات الحكومية لا تبالي أن تعلن عدم نيتها تنفيذ الحكم الصادر في حقها من الديوان، حتى وصل الحال في بعض الوقائع إلى إعلان مسؤول في إحدى الجهات عدم نية جهته تنفيذ حكم الديوان الذي اكتسب القطعية, وكان ذلك على صفحات الصحف!.
وبالتالي, فإن هذه الصورة من صور الفساد من أولى الصور بالمحاربة والمكافحة والسعي إلى محاسبة المسؤولين عنها، فإن شعور صاحب الحق بأنه منع من حقه الذي أكده له حكم قضائي قطعي، وأن من منعه هذا الحق جهة حكومية تخضع لرقابة الدولة، إن ذلك مما يقود إلى شرور كثيرة لا ينبغي التهاون فيها. ثم كيف نلوم الأفراد العاديين الذين يمتنعون عن تنفيذ أحكام القضاء، ويأتي النظام الجديد ليضع لهم قاضياً مختصاً بتنفيذ الأحكام، في حين تبقى جهات حكومية تتصدر القائمة السوداء في عدم تنفيذ الأحكام القضائية في حقها؟! فهل تحتاج الجهات الحكومية أيضاً إلى قاضي تنفيذ يتولى تنفيذ الأحكام القضائية الإدارية عليها بالقوة؟! إن هذا مما ينبغي الوقوف عنده طويلاً وطويلاً جداً, لكن وقوف معالجة وإصلاح لا وقوفاً على الأطلال للبكاء. والحمد لله أولاً وآخراً هو سبحانه حسبي ونعم الوكيل.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً