القواعد العامة للإثبات في الميدان الزجري
حرية الإثبات إحدى خصائص نظرية الإثبات في المسائل الجنائية, و ذلك على عكس الحال في المسائل المدنية حيث يحدد القانون وسائل الإثبات و قواعد قبولها و قوتها, و مرجع الاختلاف أن الإثبات المدني ينصب في الغالب على أعمال قانونية, بينما يتجلى الإثبات الجنائي بوقائع مادية و نفسية مما جعل المشرع في أغلب التشريعات المبدأ العام في الإثبات في الشق الجنائي هو الحرية,و مع ذلك نجد أنه هناك استثناء على مبدأ حرية الإثبات و الذي نؤكد على محدوديته (المطلب الأول).كما أنه حينما نقرر هذا المبدأ تقررت معه مجموعة من المبادئ الجوهرية على مستوى هذا الموضوع و الأمر يتعلق “بقرينة البراءة”, مما يحيلنا على موضوع الإثبات و الجهة الملقى على عاتقها و خصوصيات هذا العبء (المطلب الثاني).
المطلب الأول : القواعد العامة للإثبات في الميدان الزجري
سنتطرق خلال هذا المطلب إلى الحديث عن تحديد مفهوم حرية الإثبات في الميدان الزجري في مفهوم قانون المسطرة الجنائية (أ),على أساس التطرق إلى مستثنيات هذه القاعدة و المبدأ (ب).
-أ- نطاق الحق في اللجوء لوسائل الإثبات المختلفة في المادة الجنائية:
ينص الفصل 288 من قانون المسطرة الجنائية على أنه:”يمكن إثبات كافة الجرائم بأية وسيلة من وسائل الإثبات ما عدا الأحوال التي يقضي القانون فيما بخلاف ذلك…” فالمبدأ إذا بحسب مضمون النص القانوني أن الإثبات في الميدان الجزري-خلاف المدني- حر بمعنى أن كل وسائل الإثبات التي يقرها القانون يمكن الاستدلال بها أمام القضاء الزجري الذي لا يجوز له أن يرفض-ما لم ينص القانون بذلك- لأحد الأطراف أي دليل يراه منتجا في إقناع المحكمة بوجهة نظره. و يتأسس المبدأ الذي نحن بصدد دراسته على كون الإثبات في الشق الجنائي يرتكز على وقائع إجرامية مادية و ليس على تصرفات قانونية تستلزم نوعا معينا من الأدلة, لذلك وجب السماح بإثباتها أي الوقائع الإجرامية بجميع وسائل الإثبات المعروفة من:”شهادة وخبرة و قرائن و محررات و اعترافات…”
لكن بالرجوع إلى الفقرة الثانية من ذات الفصل نجدها تقرر مبدأ أخر و الأمر يتعلق”بحرية الاقتناع” بما طرح على القاضي الحكم من وسائل مختلفة بشأن قضية معينة,و ذلك بقوله: ” و يحكم القاضي حسب اقتناعه الصميم ” . ” فإذا قرر أن الإثبات غير قائم قرر عدم إدانة الشخص و حكم ببراءته ” فقرة ثانية.
فالقاضي يحكم بما اقتنع ضميره على أساس أن يبرر اقتناعه و هذا ما أكدته المادة 286 من ق.م.ج بقوله:” و يحكم القاضي حسب اقتناعه الصميم, و يجب أن يتضمن المقرر ما يبرر اقتناع القاضي وفقا للبند 8 من المادة 365 “. و إن تقييد القاضي بوجوب تبرير اقتناعه,هو أمر استحدثه قانون المسطرة الجنائية النافذ في فاتح أكتوبر لسنة 2003,و الحالة على البند8 من المادة 365 تتعلق بوجوب اشتمال الحكم على الأسباب الواقعية و القانونية التي ينبني عليها الحكم أو القرار أو الأمر,و لو في حالة البراءة.و في هذا الصدد جاء في قرار للمجلس الأعلى ما يلي:” يجب أن يكون كل حكم معلل من الناحيتين الواقعية و القانونية,و إلا كان باطلا,وأنه إذا كان من حق القضاة أن يكونوا اقتناعهم في جميع الأدلة المعروضة عليهم, فيجب أن تؤدي تلك الأدلة منطقيا و عقلا إلى النتيجة التي انتهوا إليها” .
و بالتالي فالأصل هو حرية الإثبات و الذي يقابله الحرية في الاقتناع الذي يجب أن يكون مبررا و هي مجموعة من المبادئ التي تطبق في المادة الجنائية.على أنه يبقى لكل قاعدة استثناء,و الاستثناء حاضر وواضح في نص الفصل 286 الذي أكد بقوله “…. ما لم ينص القانون بخلاف ذلك” مما يعني أن المبدأ السابق له مستثنيات عمل المشرع الجنائي الإجرائي من خلالها على تلطيف القوة الاطلاقية لمبدأ الحرية في الإثبات.فما مضمون هذه المستثنيات؟
-ب- التلطيف من عمومية مبدأ الحرية في الإثبات في المادة الجنائية:
الاستثناء على المبدأ السابق مفاده أن صلاحية وسائل الإثبات الاستدلال بها أمام المحاكم الزجرية قد تتعطل بإرادة المشرع في بعض الحالات المحدودة جدا,الذي فرض هذا الأخير(أي المشرع) الإثبات فيها بوسائل محددة فقط,أو يمنع أصلا الاستدلال بوسيلة معينة.و من أمثلة الاستثناءات نذكر ما يلي : الفصل 290 من قانون المسطرة الجنائية الذي يقرر بأنه:” إذا كان إثبات الجريمة متوقفة على حجج جارية عليها أحكام القانون المدني فيراعى عن القاضي في ذلك قواعد القانون المذكور”.
والمثال التقليدي المعطى لتوضيح هذه الحالة الاستثنائية التي تقام فيها الدعوى العمومية على شخص باعتباره خائنا للأمانة,حيث لا يجوز و الحالة هذه إثبات هذه الجريمة إلا بمقتضى قواعد القانون المدني التي تستلزم التأكد من قيام عقد من عقود الأمانة (الوديعة أو الوكالة أو الحراسة).
بحسب قواعد القانون المدني التي غالبا ما توجب أن يكون مكتوبا,حيث لا يكفي و الحالة هذه الشهادة في إثبات قيامه,و في هذا المقال جاء قرار للمجلس الأعلى بأن: “المحكمة لما اعتبرت شهادة الشهود لإثبات تسلم المتهم لمبلغ140.000 درهم و هو ما لا يجوز إثباته بغير الكتابة الذي نازع فيه هذا الأخير(أي المتهم الطاعن) لم تراع قواعد الإثبات المدنية و عرضت بذلك قرارها للنقض”.
-و من الأمثلة أيضا الفصل493 من مجموعة القانون الجنائي الذي يوجب في معرض إثبات الجرائم المنصوص عليها في الفصلين490 و491,و الأمر هنا يتعلق بكل من جريمتي الخيانة الزوجية, و الفساد. أن يتم إثباتها بإحدى الفرضيات التالية كوسائل لإثبات تقيد حرية اقتناع القاضي و مبدأ الحرية في الإثبات,إما بمحضر رسمي يحرره أحد ضباط الشرطة القضائية في حالة التلبس أو بناء على اعتراف تضمنته مكاتب أو أوراق صادرة عن المتهم أو اعتراف قضائي.
– كذلك الفصل295 من قانون المسطرة الجنائية الذي يقرر:”بأن الحجة الكتابية لا تنجم عن المراسلة المتبادلة بين المتهم و وكيله”.و غيرها من الاستثناءات الواردة على سبيل الحصر كما أكدنا في المادتين 294و325و193.و الحكمة من هذه الاستثناءات هي تحقيق بعض الضمانات الهادفة إلى إظهار الحقيقة,أو حماية حقوق الدفاع,أو الحفاظ على بعض الاعتبارات الاجتماعية أو الأسرية(3).
يبقى السؤال المطروح ماهي الجهة التي يقع عليها الإثبات هل تكون دائما قضائية,أم غير قضائية سواء في شخص المدعي بتعرضه لفعل مجرم في القانون الجنائي أم المشتبه فيه ؟ و هل نفسر الحرية فــــي الاقتناع من قبل القاضي الجنائي أن التشريع الجنائي يأخذ بمرجعية محددة بخصوص القيمة الإقناعـيـة لوسائل الإثبات المثارة أمامه؟
كلها تساؤلات تحيلنا بالإحالة عليها في مضمون المطلب الثاني و ذلك على التوالي:
المطلب الثاني : عبء الإثبات في المادة الجنائية و القيمة الإقناعية لمختلف أدلة الإثبات
يترتب على قرينة البراءة القائمة على مبدأ”المتهم بريء حتى تثبت إدانته”أثار بالنسبة لعبء الإثبات (أ),و كذلك على مستوى دور القاضي في الاقتناع بما قدم أمامه من وسائل في إطار سلطة التقديرية,وحدود هذه السلطة التقديرية (ب).
-أ- دور النيابة العامة و حدوده في إثبات الجرائم:
نزولا على المبدأ المشهور الذي يقضي بأن الأصل هو براءة المتهم,فإن عبء الإثبات يتحمله من يدعي خلاف هذا الأصل,لأنه لا معنى لأن يكلف الشخص المراد مساءلته جنائيا بإثبات أنه بريء و هو كذلك بحسب الأصل,وبالتالي فإن أهم ما يترتب على قرينة البراءة,أن المتهم لا يتحمل عبء إثبات براءته,لأنها مفترضة,و يترتب أيضا عن هذه القاعدة أنه في حالة العجز عن إثبات ما وقع الإدعاء به بالدليل القاطع فما على القاضي الجنائي إلا إعلان براءة المتهم المفترضة أصلا.بل له أكثر من ذلك,أن يعلن البراءة حتى لو قدم دليل في القضية لم يتمكن معه القاضي من تكوين قناعته التامة في الجريمة المنسوبة إلى المتهم بسبب الشك الذي بقي مساورا لعقيدته بصددها لأن الشك كما هو معلوم يفسر لصالح المتهم.
و بما أن النيابة العامة تعتبر في القانون مبدئيا الطرف المدعي في الدعوى العمومية فإن عبء الإثبات يقع على عاتقها مستعينة بطبيعة الحال بالحجج التي يتقدم بها المطالب بالحق المدني إن وجد,لذلك مبدئيا أن تقدم الدليل على توافر كل عناصر الجريمة المادية و ظروف تشديدها إن وجدت,وإسنادها إلى المتهم باعتباره إما فاعلا أصليا أو مساهما أو مشاركا فيها كما يقضي بذلك النص الموضوعي, و يمكنها أن تستعين في إثبات وقوع فعل مجرم و نسبته إلى المتهم أو العمل على تبرئة ساحته إذا ما اقتنعت ببراءته بكل الوسائل الإثباتية المعروفة من اعتراف أو شهادة شهود أو قرائن قوية و منطبقة…,أما هي إن عجزت عن ذلك لا يجوز لهما أن تنقل عبء الإثبات إلى المتهم, و يكلف بإثبات أنه بريء ما دام هو المستفيد من قرينة البراءة و بالتالي قد يكتفي بإنكار التهمة الموجهة إليه أو أن يلوذ بالصمت فقط حيث لا يلزمه ذلك بشيء, اللهم إذا أراد تقديم الدليل على براءته بمبادرة إرادية منه فله ذلك.
إلا أنه و على سبيل الاستثناء قد يحدث بأن تقوم النيابة بممارسة اختصاصها بالإثبات في القضايا الزجرية إما بالإثبات الإدانة أو عدم وقوع الفعل المجرم المتابع به و المنسوبة إليه الأفعال. و نأخذ في مثالنا الحالة الأولى,حالة العمل على إثبات إدانة المتهم بجريمة معينة,كجريمة القتل العمد ويتدخل المتهم بشكل إرادي كما أسلفنا الذكر ليزيل ويحيد عن هذه التهمة و في معرض ذلك يدلـــي بدفع يبغي من ورائه التحلل عمليا من المساءلة الجنائية و بالتالي العقاب و يتمسك بوجه من أوجه الدفاع,كتوفر مانع من موانع المسؤولية(عذر مخفف أو معفي من العقاب, سبب تبرير,واقعة تقادم..) فهل في هذه الفرضية المطروحة يكلف بإثبات الوقائع التي دفع بها بقصد الإعفاء أو التخفيف,أم إن إثبات العكس يكون على عاتق النيابة العامة؟
الإجابة عن هذا السؤال إتخد وجهتين , الأولى و هي للفقيه كارو, فيها يرى على أن النيابة العامة بالإضافة إلى تحملها لعبء إثبات أركان الجريمة و أدلى المتهم بدفع يدلي فيه بسبب تبرير لقيامه بها, أن تقوم بإتمام اختصاص عبء الإثبات و ذلك بإثبات عدم صحة دفع المتهم, بعد أن تثبت أركان الجريمة بعنصريها كما هي محددة في النص الموضوعي.ورأيه هذا مؤسس على كون إثارة مثل هذه الدفــوع, تثير حالة من حالات الشك و التي ينبغي تفسيرها لمصلحة المتهم,و على النيابة العامة إزالة هذا الشك و يكون ذلك بإثبات نقيض المدفوع به.و بالتالي فالموقف يستند على قاعدة متأصلة مفادها”الشك يفسر لمصلحة المتهم”.
الوجهة الثانية,هي لموقف الفقيهين دونديو ,دي فابر. و مقتضاها أن على المتهم الذي أثـبتت جهـــة الإدعاء(النيابة العامة) نسبة الجريمة إليه أن يقوم بإثبات صحة دفعه المتعلق إما بوجود سبب تبرير أو عذر مخفف أو معفي…,وإلا وجب عقابه إن هو عجز عن ذلك,و تأسيس موقفهم هذا ينبني على أساس المتهم المدلي بالدفع يصبح في الحالة هذه مدعيا بما ادعى به و ما عليه إلا أن يقوم بإثباته لأن البينة على من ادعى.و منه نستنتج بأن الموقف الثاني يذهب إلى التلطيف من ثقل عبء الإثبات الملقى على جهــة الاتهام ليلقي على الأقـل بجزء منه على ساحة المتهم في حالة إثـارته لدفع يفيد به عدم تحقـق أركـان الجريمة,و يطعن في ملابسات ظروفها كما أثبتتها النيابة العامة .
و لمنطقيته رجحه الفقه المغربي المتهم بمسألة الإثبات في المادة الجنائية. وقد حكم المجلس الأعلى في هذا الصدد في القرار الجنائي عدد 1309 و بتاريخ 14 /10 /1963,بما يلي:” على مدعي العذر المخفف,المتمثل في الاستفزاز,أن يقيم الدليل على توفره” و في نفس الاتجاه ذهبت المحاكم الزجرية السورية, بناءا على ما تقرر في إطار اجتهاد محكمة النقض السورية في قرار نقض سوري صادر بتاريخ 3 /5/ 1966 على أنه:”إن على من يدعي بدفع أن يتقدم بأدلته عليه,دونما حاجة إلى تكليف من المحكمة بذلك.
-ب – نظام الإقناع في المادة الجنائية محدداته و شروطه:
تتحدد القيمة الإقناعية لوسائل الإثبات المختلفة المقدمة أمام القضاء الجنائي بحسب طرق أو نضم الإثبات التي يلتزم هذا الأخير بإتباعها لتكوين قناعته في القضية الجنائية, و عندما نتحدث عن النظم في هـــــــذا المقام نتحدث عن نظامين, نظام الإثبات القانوني و نظام الإثبات القضائي أو الوجداني,فما مدى تقـــيـــد القاضي الجنائي بأحد هذين النظامين,و ما هي حدود تقيده بأحدهما دون الأخر, و ما هي الشروط التــي ينبغي التقيد بها في إطار النظام المعمول به؟
*نظام الإثبات القانوني :
الإثبات القانوني نظام و طريق لإثبات يقوم على تحديد المشرع مسبقا لنوع الدليل و قيمته الإقناعية بحيث لا يكون القاضي و هو بصدد إصدار الحكم في القضية المعروضة أمامه قبول الاستدلال بغير الطرق التي حددها المشرع سلفا و لا أن يجيد عما رصده من قيمة إثباتية للدليل الذي أوجب الاستدلال به في الخصومة الجنائية و من الأمثلة على أخد المشرع عندنا بنظام الإثبات القانوني نشير في هذا الصدد إلى الفصل 493 من القانون الجنائي الخاص الذي أوجب إثبات الجرائم المنصوص عليها في الفصلين 490 (الفساد),و 491 (الخيانة الزوجية) إما بمحضر يحرره أحد ضباط الشرطة القضائية في حالة التلبس أو بناء على اعتراف تضمنته مكاتيب أو أوراق صادرة عن المتهم أو اعتراف قضائي. و في هذا الصدد جاءت مجموعة من قرارات المجلس الأعلى منبهة قضاة الحكم بنظام الإثبات الواجب الأخ دبه بناء على ما نصت عليه القانونين الخاصة أو القانون الجنائي أو الإجرائي و منها قرار صرح بأنه “… حيث أنه إذا كان إثبات الجريمة متوقفا على حجة جارية عليها أحكام القانون المدني فيراعي القاضي في ذلك أحكام القانون المذكور,و أن المحكمة لما اعتبرت شهادة الإثبات تسلم المتهم مبلغ 140.000 درهما الذي نازع فيه هذا الأجير لم تراع قواعد الإثبات المدنية و عرضت بذلك قضاءها للنقض”.
ذلك أن إثبات كل تصرف تجاوزت قيمته 250 درهم لابد أن يجرى بالدليل الكتابي,كما هو الشأن بالنسبة لبيع أو رهن أصل تجاري الذي يجب أن يجرى كتابتا و في محرر تابت التاريخ. وقيمته الإثباتية فيما إذا كان محررا بالطرق الرسمية المنصوص عليها في المواد 418 إلى 424 من قانون الالتزامات و العقود. و كذلك قرار أخر صادر عن نفس المجلس حينما قرر”لئن كانت المحكمة قد استمعت إلى شهادة الشهود بإثبات أن الطاعن تسلم من الضحية مبلغا يفوق 250درهما” فإن ذلك لم يكن من أجل إثبات دين أو إنما لتعزيز اعتراف الطاعن بجريمة النصب, و كذلك في قرار آخر:”لما كان الأمر يتعلق بواقعة يتوقف حجة جارية عليها أحكام القانون المدني فقد كان على المحكمة أن تسلك المسطرة التي يقررها الفصل 290 من المسطرة الجنائية حيث تتأكد من ثبوت حيازة المشتكين للملك مما سيسفر عنه البحث و بالتالي التحقق من توفر عناصر الفصل 570 من القانون الجنائي المطبقة على النازلة. ونفس النظام سارت عليه معظم التشريعات المقارنة منها العربية,أن تنص المادة 225 من قانون المرافعات الجنائية المصري على أن:”تتبع المحكمة الجنائية في المسائل غير الجنائية التي تفصل فيها تبعا للدعوى الجنائية طرق الإثبات المقررة في القانون الخاص تلك المسائل”.
و من أحكام محكمة النقض المصرية فيما يخص تطبيقات المادة 225 من قانون الإجراءات المصري نقض 24/2/1974 في الطعن رقم 127 لسنة 44 و الذي جاء فيه:”الأصل في المحاكمات الجنائية أن العبرة في الإثبات هي باقتناع القاضي بناء على التحقيقات التي يجريها بنفسه واطمئنانه إلى الأدلة التي عول عليها في قضائه بإدانة المتهم أو براءته, فقد جعل القانون من سلطته أن يأخذ من أية بينة أو قرينة يرتاح لها دليلا لحكمه إلا إذا قيده القانون بدليل معين ينص عليه, كما هو الشأن بالنسبة لإثبات عقد الأمانة في جريمة خيانة الأمانة حيث يتعين التزام قواعد الإثبات المقررة في القانون المدني.أما واقعة الاختلاس أو نفي حصوله فإنه واقعة مادية يجوز إثباتها بكافة طرق الإثبات بما فيها البينة رجوعا إلى الأصل و هو مبدأ حرية اقتناع القاضي الجنائي.أما بخصوص نظام الإثبات القضائي و مدى اعتماد القاضي الجنائي عليه وفقا لنصوص القانون,و محدداته و شروطه سنتطرق لها كما يلي:
*نظام الإثبات القضائي أو الوجداني:
هو نظام الإثبات يتحرر بمقتضاه القاضي الجنائي من التقيد سلفا بوسيلة محددة في إثبات الوقائع المنظورة أمامه,كما يترك له كامل الحرية في تقدير الدليل بحيث لا رقيب عليه في ذلك عند تكوين اقتناعه بالحجج سوى ضميره.فنص الفصل 286 من قانون المسطرة الجنائية السابق ذكره واضح على أنه”…يحكم القاضي بحسب اقتناعه الصميم”,فقاضي الحكم يأخذ بنظام الإثبات القضائي الوجداني,و نفس الشيء بالنسبة لكل من قاضي التحقيق عندما يقوم بوزن الحجج أثناء بحثه, و على قاضي النيابة العامة عند إعماله لسلطة الملائمة,إلا وفق ما اقتنع به من أدلة سواء كانت في مصلحة المتهم أو ضده,بحيث يكون له أن يأخذ بالقرائن عوض الشهود فيما يتعلق بشهادتهم,بل له أن يترك شهادة شهود أدوا اليمين القانونية و يأخذ بشهادة أناس لم يؤدوها,و يؤيد هذه المعلومات الاجتهاد القضائي الصادر عن المجلس الأعلى إذ جاء في حيثيات قراراته ما يلي : “تكون محكمة الموضوع قد بنت قناعتها على أساس صحيح من المرافع و القانون عندما اعتمدت فحوى محضر الضابطة القضائية المتضمن لاعتراف المتهم و أهملت المحضر الثاني المتضمن لإنكاره في مادة لم يحدد القانون صراحة اعتماد وسائل إثبات معينة فيها,خاصة و أن المحكمة عززت ذلك باستخلاص عناصر الإدانة من مختلف الوسائل الأخرى التي نوقشت أمامها.”لكن على القاضي و هو في سبيل تكوين اقتناعه عملا بالنظام الوجداني مراعاة بعض الضوابط و سنبرزها كما يلي :
1ـــ لابد من طرح الدليل في الجلسة لمناقشة شفاهيا و بحضور الأطراف حتى يدلـي كل واحد برأي فيه,و بالتالي لا يجوز للقاضي الفصل في الدعوى اعتمادا على دليل وصل إلى علمه الشخصي مـن غير أن يطرح المناقشة في جلسة المحاكمة.
2ـــ لابد من بناء الحكم الجنائي على الجزم و اليقين لا على مجرد الترجيح و التخمين, و الذي تعتـبـر في منزلة الشك و الذي يفسر لجهة مصلحة المتهم وفقا للقاعدة المأثورة,و إلا وقع نقض الحكم المشوب بعيب الشك و التخمين,و في هذا الصدد قرار للمجلس الأعلى(صادر بتاريخ 19/11/70,رقم 49 بمجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 20م40).
و فحواه ما يلي : ” فإذا كانت المحكمة قد صرحت بأنها لم يوضع تحت يديها دليل مادي قاطع يثبت الجريمة,و رغم ذلك فقد قررت إدانة المتهمة فهذا يكفي لنقض حكمها إذ الأحكام يجب أن تبنى على الجزم و اليقين لا على الشك و التخمين”.
3ـــ لابد أن يكون اقتناع القاضي مبني على وسيلة الإثبات مشروعة و صحيحة.والمشروعية في البحث عن الأدلة الجنائية,يشمل مطابقة العمل للقانون و مطابقة للضمير و الاستقامة و النزاهة,من لدن المكلف بجمع الأدلة, و خرق المشروعية في مجال الأدلة قد يتخذ شكل دليل محصل عليه بارتكاب جــريمـة كالخبرة المقامة بعد تقديم رشوة,أو الاعتراف المنتزع بعنف و إكراه…
4ـــ لابد أن تكون الأدلة المعتمد عليها في تأسيس الحكم واقعية و قانونية مؤيدة إلى النتيجة التي أعلنها الحكم و معللا بذلك تحليلا واقعيا و ماديا.وجاء في هذا الصدد قرار المجلس الأعلى مفاده: ” يجــوز إثبات الجرائم بأية وسيلة من وسائل الإثبات,إلا في الأحوال التي يستوجب القانون فيها أو يحضر وسيلة معينة من هذه الوسائل.و يحكم القاضي….,و يتعين أن يتضمن المقرر الأسباب الواقعية و القانونية التي تبرر اقتناع القاضي و لو في حالة البراءة.
اترك تعليقاً