المبادئ القانونية التي تحكم حل مجلس النواب
المادة 74 من الدستور والمبدأ الذي يحكم حل مجلس النواب /أ.د. محمد الحموري
يعتبر توازن العلاقة بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية من أهم الأسس في النظام البرلماني, وقد استقر هذا التوازن, منذ أن تكاملت عناصر النظام المذكور وأركانه, لكن التوازن بين السلطتين لم يكن من إنتاج باحث أو فقيه, وإنما أفرزته التجربة والواقع, حتى بلغ نضجه, وأصبح ركناً أساسياً لا يستقيم من دونه النظام البرلماني, ولا تتوافر مقومات الديمقراطية في هذا النظام من غير وجوده. ويقوم التوازن على إعطاء كل واحدة من الجهتين سلطة دستورية تقرر مصير السلطة الأخرى. فالسلطة التشريعية المنتخبة من الشعب لها صلاحية سحب الثقة من الحكومة, وفي هذه الحالة, يكون على الحكومة أن تستقيل وجوباً, والحكومة لها سلطة حل المجلس التشريعي كذلك, ويكون عليها أن تستقيل وجوباً أيضاً, لتجري بعد ذلك انتخابات نيابية تقوم بها حكومة انتقالية محايدة, غير منحازة لأي من الجهتين, لكن حل مجلس التشريع/النواب, لا يفترض حدوثه في حياة الدول إلا إذا وصل الخلاف وعدم التعاون بين الجهتين حداً يهدد استقرار شؤون الدولة ومصالح شعبها. وبغير تعارض من هذا النوع, يصبح حل مجلس النواب لعبة سياسية, تحكمها أهواء عبثية مغلفة بأثواب ديمقراطية زائفة, تقود إلى اختلالات متتابعة في أداء النظام السياسي وبنيانه.
1- تاريخ المبدأ والواقع الذي فرض ضرورته:
لقد استقر المبدأ الدستوري السابق في بريطانيا في عهد الملك جورج الثالث “حكم من 176 حتى 182”, حيث فرضه الحزبان القائمان في ذلك الوقت, حزب الأحرار وحزب المحافظين. وعندما أصبحت الدول فيما بعد تأخذ بالنظام البرلماني وفقاً للأسس التي يقوم عليها هذا النظام في بريطانيا, وشرّعت تلك الدول دساتير مكتوبة لذلك, لم تكن الحالة الحزبية فيها مثل بريطانيا, فأخذت هذه الأحزاب في النمو وبعضها في النشوء لاحقاً, لأن المتطلب الأساسي لعمل هذا النظام هو وجود أحزاب بعضها يحكم والآخر يراقب ويعارض, من خلال طروحات يعتقد أنها الأفضل. وخلال فترة النمو الحزبي, كانت الحكومة عندما يصل الاختلاف مداه بينها وبين المجلس المنتخب لينوب عن الشعب, تقوم بحل المجلس النيابي وتستقيل من الحكم, لتتم العودة بعد ذلك إلى الشعب مصدر السلطة للطرفين للإحتكام إليه. والشعب هنا وفقاً للمبدأ, يكون وحده الحكم, فإما أن يعيد انتخاب ذات النواب أو أغلبيتهم, وفي هذه الحالة تكون الحكومة في خلافها مع النواب على خطأ, وإما أن لا يعيد ذات النواب أو أغلبيتهم, فتكون الحكومة على صواب.
وحتى يستقيم حكم الشعب بنزاهة ومن دون مؤثرات, فقد استقرت القاعدة الدستورية التي توجب أن تجري الانتخابات حكومة انتقالية محايدة عن الخلاف بين الطرفين, ويكون على هذه الحكومة أن تستقيل بعد الانتخابات, فإن لم يقم الشعب بإعادة انتخاب النواب, ليعني ذلك أن الحكومة كانت على صواب, فإنه يمكن لرئيس تلك الحكومة, تشكيل حكومة جديدة لتتقدم بطلب الثقة من المجلس الجديد. وإن عاد النواب وفقاُ لما سبق, فإن عودة رئيس الحكومة تعني عودة المشكلة والخلاف مرة أخرى, وبالتالي, فإن الواقع يفرض نفسه بعدم قيام رئيس الدولة بتكليف هذا الرئيس بتشكيل الحكومة.
وهكذا, على النحو السابق تشكل المبدأ ليعالج معطيات واقعية يحتاجها تكامل النظام البرلماني, ويلاحظ هنا أنه عندما تصل الدولة إلى حزب أغلبية يحكم وحزب أقلية يعارض, فإن الحكومة لا تحتاج إلى حل مجلس النواب, لأن الحزب الذي انبثقت عنه, له الأغلبية في مجلس النواب, لكن هذه الحكومة عندما يكون لها أغلبية على الحافة, وتشعر أن الشعب بعد فترة من الحكم راضٍ عن أدائها, تستطيع إجراء انتخابات مبكرة بهدف زيادة عدد أعضاء حزبها في المجلس النيابي. وانطلاقاً من هذا, فإن آخر مرة تم فيها حل البرلمان في بريطانيا, كانت عام 1831 ، أي قبل “81” سنة.
على أنه بعد أن فرض المبدأ نفسه في التطبيق, فإن نمو الأحزاب وما استتبعها من عراقة التجربة الديمقراطية وتطورها, قاد إلى تطور في الواقع السياسي والاجتماعي لتصبح نزاهة الانتخابات في بعض الدول قيمة سلوكية واجتماعية يصعب انتهاكها, وانعكست هذه القيمة إيجابياً على الأدوات والوسائل الدستورية التي يستخدمها المبدأ. ففي بريطانيا مثلاً, فإن الذي يقوم على الانتخابات البرلمانية أجهزة ومؤسسات يمارس كل شخص فيها عمله تحت سقف القانون والالتزام بأحكامه, ولا يتأثر التزامه هذا بتغير الحكومات أو الرئاسات التي تتناوب عليه, ولا يساور الشك أي حزب أو مواطن انجليزي بأنه يمكن أن يحدث تزوير في الانتخابات, ولذلك فإنه لو حدث أن تقرر حل البرلمان لإجراء انتخابات جديدة, فإن نزاهة الانتخابات لا تتأثر, حتى لو بقيت الحكومة التي قامت بالحل. ولهذا, فإن تشكيل حكومة انتقالية لإجراء الانتخابات يصبح أمراً لا قيمة له. ومن هنا, فإن القاعدة في بريطانيا, على فرض حل البرلمان, هي أن تبقى الحكومة التي قامت بالحل كحكومة تسيير أعمال.
أما الحكومات التي ليت لها أغلبية حزبية في المجلس النيابي, وتكونت من إئتلافات أحزاب وقوى سياسية, فهي التي تحدث فيها حالة الاختلافات مع المجلس النيابي, ويصبح حل المجلس ضرورة للعودة إلى الشعب والاحتكام إليه, بحيث تجري الانتخابات حكومة انتقالية وفقاً لما سبق.
2- الدستور الأردني أخذ بالمبدأ السابق لمدة أربع سنوات و”17″ يوماً فقط:
أخذ الأردن بالمبدأ سابق الذكر بموجب تعديل دخل إلى دستورنا بتاريخ 17/4/1954 ليشكل الفقرة الثانية من المادة “74”, ينص على ما يلي:
“الحكومة التي يحل مجلس النواب في عهدها تستقيل من الحكم خلال أسبوع من تاريخ الحل, على أن تُجري الانتخابات النيابية حكومة انتقالية.”
ورغم أن الحكم الذي جاء به النص, أخذ بأفضل ما استقر عليه الفكر الدستوري, لعلاج ظروف الواقع الأردني, وفرْض التوازن بين الحكومة ومجلس النواب, عن طريق تحديد الكيفية الدستورية التي يتم فيها الخروج من مأزق الخلاف الذي يمكن أن يحدث بين الجهتين من خلال اللجوء إلى الشعب مصدر السلطة, إلا أن هذا الحكم أُلغي من الدستور الأردني, بموجب تعديل جرى على المادة “74” من هذا الدستور, بتاريخ 4/5/,1958 أي أن حكم هذا النص عاش عندنا أربع سنوات و”17″ يوماً فقط, واستمر الحال على هذا النحو منذ عام 1958 ، حتى هذا العام “2011”. وعندما دخلنا موسم الإصلاح, تفاوتت اقتراحات التعديل على المادة “74” بين نص يعوزه النضج والسلامة في تحقيق المطلوب, من شأنه أن يلغي دلالة تحديد موقف الشعب في الانتخابات الجديدة من إمكانية عودة رئيس الحكومة الذي تم حل المجلس في عهده إلى الحكم أو عدمه, وبين نص فج يفتقد إلى اللياقة وإدراك الدلالات التي تحرص الدساتير على عدم الخروج عليها, ونتبيّن ذلك من الفقرة اللاحقة.
3- خروج الحكم الجديد الذي جاء به الإصلاح الدستوري عن مراعاة المطلوب:
كانت الفتاوى السائدة تؤكد صباح مساء, على أن تعديل الدستور خط أحمر, وتوجه الاتهامات إلى من ينادون بهذا التعديل, وبالتالي لم تجد المناداة بضرورة عودة الحكم السابق للمادة “74/2″ الذي عاش أربع سنوات و”71” يوماً أي استجابة, رغم أنه أطلق على العشرين سنة الماضية العهد الديمقراطي, لكن الربيع العربي فرض على السلطة, ظاهرة كانت أم حكومة ظل خفية, أن تسمع. وهنا نجد أن الإصلاح بعد السماع سار على النحو الغريب التالي:
أ- ما قامت به اللجنة الملكية والحكومة:
لم تستطع اللجنة الملكية لمراجعة الدستور تجاهل الضغط العام والالتفات عن عودة الحكم المطلوب إلى الدستور, فأعادت باقتراحاتها نص عام ,1954 لكن بصيغة ناقصة, إما قصداً وإما جهلاً بالحكم الدستوري, عندما اقترحت إضافة فقرة ثانية إلى المادة “74” بالنص التالي:
” الحكومة التي تحل مجلس النواب في عهدها تستقيل من الحكم خلال أسبوع من تاريخ الحل” فهذا النص, لا يمنع رئيس الحكومة المستقيلة من إعادة تشكيلها وإجراء الانتخابات النيابية, لأن الجزء الجوهري الذي أنقصته اللجنة من النص هو:
“على أن تجري الانتخابات حكومة انتقالية”.
ويترتب على عدم إجراء الانتخابات من قبل حكومة انتقالية, وفتح الباب أمام الرئيس المستقيل لتشكيل حكومة لإجراء الانتخابات أمران مهمان: الأول: أن اللجنة قررت باقتراحها أن مجلس النواب المنحل أو الذي يتم حله, دائماً على خطأ, وأن رئيس الحكومة دائماً على صواب, وبالتالي ألغت دور الشعب في أن يقول من كان على خطأ ومن كان على صواب, كمحصلة لما تسفر عنه الانتخابات. الثاني: انه ما دام اللجوء إلى حل مجلس النواب يفترض وجود خلاف بين رئيس الحكومة المعني ومجلس النواب أدى إلى حل المجلس, فإن رئيس الحكومة وفقاً للمبدأ والمرحلة التي نعيشها في ظروف الواقع الأردني, لم يعد محايداً حتى يكون الباب مفتوحاً دستورياً أمامه, لإجراء الانتخابات النيابية. وهكذا جاء اقتراح اللجنة متعارضاً مع المبدأ, ومع ذلك وافقت عليه الحكومة كما هو, وأرسلته إلى مجلس النواب.
ب- ما قرره مجلس النواب ووافق عليه مجلس الأعيان:
عندما ناقش مجلس النواب الاقتراح الوارد من الحكومة, أبقى المجلس على الحكم الذي يقضي بضرورة استقالة الحكومة التي يحل مجلس النواب في عهدها, لكن لم ينص على تشكيل حكومة انتقالية لإجراء الانتخابات, ووضع بدلاً من ذلك حكماً يجافي اللياقة الدستورية التي تعرفها دساتير النظام البرلماني, فجاء النص كالتالي:
” الحكومة التي يحل مجلس النواب في عهدها تستقيل من الحكم خلال أسبوع من تاريخ الحل, ولا يجوز تكليف رئيسها بتشكيل الحكومة التي تليها”.
واضح هنا, أنه ما دام أنه سيعقب حل مجلس النواب انتخابات جديدة بحكم اللزوم الدستوري, فإن المجلس وضع النص على النحو السابق, حتى لا يقوم الرئيس المستقيل بتشكيل الحكومة التي سوف تجري الانتخابات, لكن مجلس النواب وضع عبارة مسيئة نصت على أنه ” لا يجوز تكيلف رئيسها… “. ذلك أن الذي يقوم بالتكليف هو الملك, ومن ثم فإن العبارة تخاطب الملك وتقول له, لا يجوز لك أن تكلف, بأسلوب ينطوي على المنع والتحريم, وعلى نحوٍ يخرج عن اللياقة والسلامة التي تنتهجها الدول في صياغة دساتيرها, عندما تخاطب رئيس الدولة.
وفي حدود إطلاعي ومعرفتي, فإنني لم أجد دستوراً يخاطب رئيس الدولة على هذا النحو. لقد كان المجلس النيابي بالصياغة التي وضعها يستهدف إبعاد رئيس الحكومة المستقيل عن تشكيل حكومة تجري الانتخابات, لأنه طرف في الخلاف مع المجلس المنحل, وبالتالي تحقيق الحيادية, وكان بمقدوره استعادة نص عام “1954”, وهو نص موزون, ويتحدث بطريقة لائقة عن إجراء الانتخابات من قبل حكومة انتقالية, ويحقق الغاية المطلوبة, أما استخدام صياغات فجّة وغير لائقة على النحو الذي جاءت به صيغة النص المستحدث, فإنه, وإن لم يكن من وضعه أو صاغه يقصد أي إساءة, إلا أن النص أصبح يشكل وصمة في جبين الدستور والدولة.
ومما يدعو للأسف أن القانونيين في مجلس الأعيان, لم يُعطوا الفرصة لتجنب الخلل الذي ورد في النص السابق أو غيره من النصوص الأخرى, وإزالة العيوب التي لا تغتفر فيها, فوافقوا على النص كما هو. وهكذا صدر النص الدستوري بالشكل المعيب كما وضعه مجلس النواب, وأصبح الآن جزءاً من دستورنا. وأعتقد أن من الضروري تعديل النص.
وأمام ما سبق, فإنني اقترح إعادة الفقرة الثانية من المادة “74/2” من الدستور, كما كانت موجودة يوم 17/4/1954 بذات الحروف والكلمات.
اترك تعليقاً