محاضرة
المحاماة في نظر القاضي
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
نص المحاضرة التي ألقاها حضرة القاضي محمد مختار عبد الله على المحامين تحت التمرين بقاعة محكمة الاستئناف الأهلية يوم 10 ديسمبر سنة 1931
تفضل سعادة النقيب في محاضرته الأخيرة بتوجيه الدعوة إلى القضاء ليساهم في هذا البحث الممتع عن مهنة المحاماة وقد أقدمت على الاستجابة لتلك الدعوة وأنا عالم بخطورة الموضوع ولولا العلاقة الوثيقة المتجددة التي تربط القضاة والمحاماة والتي تجعل القاضي والمحامي كاهنين يقوم كل منهما بما خصصته الهيئة الاجتماعية لكليهما من طقوس في هيكل العدالة ذلك الهيكل المفتح الأبواب للجميع والذي يقصده الجميع على اختلاف العقيدة والرأي والمثل الأعلى، لولا ذلك يا حضرات السادة لترددت كثيرًا، بل لا حجمت عن قبول الدعوة، والواقع أن القضاء، وإن سبق المحاماة في الظهور وكان في ولادته مرتبطًا بجلال الملك ومظهره حيث كان دوامًا بيد صاحب التاج والصولجان إلا أن المحاماة كانت وليدة عاطفة نبيلة في الهيئة الاجتماعية تبغي تحقيق المساواة بين الخصوم وتمكين الضعيف من الوقوف في نفس المستوى الذي يسهل على القوي الوصول إليه أمام منصة القضاء فترون إذن أن ما امتاز به القضاء من حيث طيب الذوق قد عادله ما اختصت به المحاماة من حيث نبل المولد وشرف المطمح، وقد عاشت الهيئتان بعد ذلك سويًا وكما أسلفت القول انتهى الأمر إلى توثيق تلك العلاقة الشريفة بينهما حتى جعلت من كليهما دعامة أساسية لهيكل العدالة.
وأريد أن أقرر هنا أن ذلك الهيكل أصبح من ضروريات النظام الاجتماعي بل هو من دعائمه المكينة، وهو مفتوح على مصراعيه ليقصده كل ذي ظلامة متقدمًا بما كسبت يداه ويخرج منه وقد حلت السكينة في قلبه محل الخوف لعلمه أن كهنة الهيكل لا يصدرون إلا عن عقيدة هم مسؤولون أمامها فقط، ننتقل بعد ذلك إلى تعريف المحامي فنجد العلامة جارسونيه نقول عنه بأنه الشخص الذي بعد أن حصل على إجازة ليسانس الحقوق وقام بأداء القسم الذي يفرضه القانون مع الاشتراطات الأخرى الواردة باللوائح يتولى الدفاع شفويًا وكتابةً أمام المحاكم عن شرف مواطنيه وحياتهم وحرياتهم وأموالهم (جارسونيه جزء 1 صـ 412)، وهذا التعريف يشمل المحامي بمصر طبعًا من حيث طبيعة عمله ومؤهلاته المتطلبة – في الوقت الحاضر – وإن كان المحامي لا يؤدي قسمًا وحبذا لو اتبع هذا النظام ويقول لابر بير la bruyére في صدد أعمال المحامي (أنه يتكلم في يوم واحد أمام محاكم مختلفة في دعاوى مختلفة وليس منزله ملجأ لراحته ولا بعاصم له عن مضايقة المتقاضين إذ يقصده كل من يريد أن يحمله أعباء مشاكله وشكوكه ولا ينتهي المحامي من خطاب طويل إلا ليعالج مذكرات أطول فكل عمله محصور في تنويع المتاعب والمشاكل وأجرأ على القول بأنه بين مواطنيه يمثل الرجال الأولين الذين قاموا بتبليغ الرسالة الإلهية) (جارسونيه جزء 1 صـ 413)، وقد يكون من الأنسب أن آتي بتعريف أحد أعلام القضاء القديم في فرنسا لتلك المهنة أقصد المستر agusseau حيث قال (بين أحكام تلك الظروف ظهر نظام قديم كالقضاء نبيل كالفضيلة لازم كالعدالة يتميز بصفة اختص بها دون غيره فهو وحده في جميع الظروف يحتفظ دوامًا في غبطة وهدوء باستقلاله وهو في حريته جزيل الفائدة للوطن مكرس نفسه لخدمة الجمهور بدون أن يكون عبدًا له…، ومهنة المحاماة في تجردها عن القيود تسمو إلى أرفع منزلة بدون أن تفقد شيئًا من حريتها الأولى وهي كالفضيلة في ترفعها عن التبرج تستطيع أن تجعل المرء نبيلاً بغير ولادة غنيًا بلا مال رفيعًا من غير حاجة إلى لقب، سعيدًا بغير ثروة) آبلتون مهنة المحاماة صـ 21.
هذه المهنة هي التي حمل لواءها قديمًا بريكليس وديموستين وشيشرون وغيرهم من العظماء والتي تخرج للدول دوامًا وفي كل العصور زعماء قادرين وقادة نابهين ولذا كانت بحق في طليعة المهن المنتجة الشريفة نستطيع بعد ذلك الانتقال إلى مسابرة المحامي في طريقه الطويل المنهك للقوى لنرى ما يجب أن يتزود به ذلك الرحالة حتى يصل من مرحلته إلى منتهاها وبدء الرحلة على ما أعتقد تكون في معهد الدراسة القانونية حيث يتلقى الطالب المعلومات القانونية وهي الخامات التي يحتاج إليها المحامي في صناعته ولئن كانت مستلزمات الحياة العملية تستدعي موادًا أخرى غير هذه الخامات فإنه مما لا شك فيه أن محصول الطالب في معهد القانون إن كان طيبًا يسهل عليه الحصول على المواد الأخرى ويجعلها أقرب إلى متناوله بحيث يستطيع أن يقوم بإتمام النسيج اللازم لصناعته في وقت أقصر وبطريقة أكثر إتقانًا، ومعهد الدراسة بطبيعة الحال يلقن الطلبة المعلومات النظرية والحلول العلمية التي يستنبطها المشتغلون بالقانون من الفقهاء وقد تكون هذه النظريات في مآخذها بعيدة عن الاعتبارات العملية لتلك الاعتبارات التي تصدم جماعة المشتغلين بتطبيق القانون والمترافعين أمامهم.
وقد يكون حرص المعهد على حشو رؤوس الطلبة بشتى الدراسات مانعًا لهم عن التزود من الدراسة التي هي ألزم لهم في حياتهم العملية وقد يكون جو المعهد النظري بعيدًا عن جو الهيكل العملي كل ذلك نسلم به ولكننا نريد للطالب الذي يبغي الاشتغال بالمحاماة أن يغادر معهده وقد ألم تمام الإلمام بالوسائل التي يلجأ إليها لمعالجة مشكلة قانونية بحيث يستطيع إبان حياته العملية الرجوع إليها بسهولة وسرعة وبديهي أنه لا يتيسر له معرفة تلك الوسائل إلا إذ كان على علم تام بأسماء المؤلفات القانونية والموسوعات العلمية والقضائية نريد له وقد عرضت له مشكلة ما أن يعرف أين يصل إلى أعماقها وكيف يتيسر له التنقيب على الحلول التي وجدت لها إن كانت قد عرضت من قبل والتي قد تستنبط إن لم تكن قد عرضت نريده على ثقة من طريق يسلكه مباشرةً بدون أن يضل بين الموسوعات بحيث يمد يده حالاً إلى ما يريده من عديد المجلدات وهذا ما لا يتأتى لكل طالب إذ لا يستطيعه قارئ المذكرات والمختصرات العديدة التي في متناول الطلبة بل يستطيعه من اعتمد على نفسه واتخذ من محاضرات أستاذه عونًا له على البحث والتنقيب بين تلك المجلدات العديدة التي وضعت في متناوله بمكتبة المعهد وبالاختصار يجب على المتطلب للمحاماة أن يغادر المعهد وهو على علم تام بأسماء أمهات الموسوعات والمؤلفات في مختلف القوانين وكيفية بنائها وتركيبها وطريقة الاستعانة بها يجب أن يغادر المعهد وقد كون له عقلية علمية مستقلة يستطيع بها أن ينظر إلى أية مشكلة من جميع زواياها ويوازن بين حجج كل رأي ليستخلص لنفسه ما يراه الحل الصحيح نريد أن تكون تلك العقلية علمية بمعنى ألا ترضخ إلا لما يقوم عليه الدليل غير عابئة بأي اعتبار آخر ومن حُسن حظ المشتغلين بالقانون أن مجال التفكير والاستنباط أكثر اتساعًا أمامهم من غيرهم، فعلم القانون لا يقوم على حقائق حسابية (أي لما تماتيكه) تستلزم التسليم والرضوخ فهو من هذه الوجهة يفسح المجال للرواد بغير أن تشل مجهودهم أو يقلل من دائرة أبحاثهم ومع ذلك كله فمتى تزود الناشئ بذلك فلا يعتقدن أن فيه الكفاية وهنا أترك الكلمة للأستاذ النقيب ألبرت سال albert salle في جلسة افتتاح محاضرات المحامين أمام محكمة باريس بتاريخ 3 ديسمبر سنة 1921 (أن فن المحاماة لمن الصعوبة بمكان فهو لا يكتسب بأداء القسم ولكن بالدراسة الطويلة وبالدأب على العمل مع شيء من الاستعداد الطبيعي ولكن هذا الاستعداد مهما كان عظيمًا
فلا يكتفي لأن يقوم مقام علم المتفقهين وأن إجازة الليسانس التي حصلتم عليها تظهر أنكم قلبتم صحائف القوانين وأن عندكم بعض المعلومات العامة عن حقوق الارتفاق وعن العقود وأن لديكم الكفاءة لدراسة بعض المسائل القانونية وهذا على وجه التقريب كل ما تعلمون ولكنكم لا تعرفون أن تفرقوا بين الإنذار والتكليف بالحضور وهيهات أن تكشف لكم صورة الحكم عن أسرارها حيث تضلون بين مجاهل صفات الخصوم ولا تستطيعون أن تستوعبوا الصيغة الخطيرة لمنطوق الحكم) آبلتون صـ 513، وقد مر علينا جميعًا ذلك الدور وأذكر أنني عند ما انتقلت من النيابة إلى القضاء كانت ملفات القضايا المدنية ألغازًا فكم أضعت ثمين الوقت في تقليب الأوراق العديدة لأصل إلى صحيفة الدعوى أو لصحيفة الاستئناف حتى أتفهم محتوياتها وكم كان من العسير أن أصل إلى موقع الأمر بالحجز التحفظي ومحضر حصوله.
ثم كم كان من الشاق أن أصل إلى حصر النزاع بين الخصوم داخل حدوده وأن أجرده من الحواشي العديدة المرتبطة به وأذكر أنه عرضت على الهيئة التي جلست فيها لأول مرة قضية استئنافية عن دعوى استحقاق عقارية وكان النزاع حول ميعاد الاستئناف وهو يتوقف طبعًا على ما إذا كانت الدعوى فرعية أوقفت الإجراءات أم لا ولما رجعت إلى الدوسيه وتعلمون حضراتكم أنه يكون منتفخ الأوداج عادةً في قضايا تثبيت الملكية فبالأولى إذا أضيف إلى النزاع أخيرًا دعوى استحقاق ضللت طريقي فتفضل زميلي القديم بحمله عبء الدوسيه عني ولشد ما كانت دهشتي عند ما وجدته كالطبيب الماهر عثر حالاً بين صحائف محاضر الجلسات العديدة المكتوبة بخط عسر القراءة على تدخل المستحق أثناء إجراءات البيع ودفعه للأمانة المتطلبة حتى ترتب على ذلك إيقاف البيع، هذا مثل لبعض الصعوبات المادية التي تجابه المحامي في بدء اشتغاله وكثير مثلها وإن كانت من نوع آخر تقابله عندما يضطر إلى تكييف النزاع الذي عهد به موكله إليه وإلباسه الثوب القانوني متقدمًا إلى القضاء ليطلب موافقته على صلاحية الثوب وكم يجب عليه من اليقظة خشية أن يلج خصمه من ناحية قد تكون فضفاضة في الثوب وهذه الخبرة التي يكتسبها المحامي قد يتلقاها بين أعمدة هيكل العدالة وقد يتلقاها من مناقشة زملائه أمام منصة القضاء وقد يتلقاها في بطون المؤلفات القانونية وبين صفحات المجلات القضائية والزمن له حكمه في إتمام الإنضاج،
ومن العبث وضع قواعد عامة يستطيع المبتدئ أن يصل إلى النجاح في مهمته إذا راعاها فلا بد أن يكون لديه شيء من الاستعداد الفطري ولنحاذر المغالاة في ذلك، فلقد قطعت المحاماة منذ أمد بعيد وعلى الأقل في المسائل المدنية الشوط الذي كانت فيه فصاحة التعبير كل شيء وأصبحت الآن تعتمد في معظم الأحوال على المذكرات الكتابية حيث يكون القول الفصل للحجة القانونية مهما وضعت في عبارة سقيمة ومهما كانت بعيدة عن طلاوة التعبير وسهولة الأداء، ويمكن أن نجمل شروط النجاح في أربعة مجاراةً للأستاذ النقيب آبلتون (صـ 515).
أولاً: الثقافة العامة.
ثانيًا: حب المهنة.
ثالثًا: تنظيم العمل.
رابعًا: المواظبة.
ولنبدأ بالشرط الأول وهو الثقافة العامة بمعنى أن محصول المحامي يجب أن يكون متنوعًا، فهو بطبيعة عمله تعترض له من المشاكل اليومية ما يستلزم إلمامًا تامًا بمختلف المعلومات والمعارف فهو بحاجة إلى التاريخ، بحاجة إلى الأدب، بحاجة إلى الطب مثل حاجته إلى الرياضة والعلوم البيولوجية، أما افتقاره إلى تفهم الإنسانية فليس بأقل شأنًا وأقصد الإنسانية في جميع بيئاتها في البيئات العالية والواطئة حتى إذا مازجت به المهنة يومًا بين حوادث درايته كانت الصورة التي يصفها أمام القضاء طبق الأصل من تلك الحياة التي يجهلها الكثيرون وكانت ألوانها قاتمة حيث يجب أن تكون قاتمة زاهية حيث يجب أن تكون زاهية بعيدة عن التفاصيل المملة التي تجعل الناظر إليها ينسى الجوهر مجسمة لما يريد أن يحملها من معنى يبعث إلى أفئدة القضاة صحة التقدير وسلامة الحكم، فالمحامي من هذه الوجهة فنان يعتمد في أحوال كثيرة على مهارته في التصوير وهو إذن بحاجة إلى أن يتسامى إلى الذرى العالية بعيدًا عن مشاغبات الخصوم وحيلهم في هدوء العلياء يشرف إلى أسفل من جميع الزوايا متجردًا عن زلل الشهوة وضلال المصلحة، ولا أشك في أنه يستطيع إذ ذاك أن يكون رأيًا صائبًا يسهل عليه جدًا أن يوحي به إلى القضاة، لأنه يكون في هذه الحالة القاضي الذي عالج الأمر بنزاهة وإنصاف قبل أن يكون المحامي الذي اندفع في الطريق تحت تأثير النظرة القريبة التي تضلل كثيرًا،
هذا إلى أن الاشتغال دوامًا بالقانون وتقليب صحائف مجاميعه ومصاحبة المفسرين والانتقال من دالوز الدوري إلى دالوز العملي، ومن كاربنتيه إلى باسيكر يرى، ثم من المجموعة الرسمية إلى المحاماة، كل ذلك يورث السآمة إلى الذهن وقد يبعث إليه الجمود، فالذهن البشري يجب أن يأخذ نصيبه أيضًا من الرياضة، يجب أن يعطي من وقت لآخر جرعات مختلفة من بعض العقاقير الاجتماعية والجواهر الفلسفية أو التمارين الماتماتيكية حتى يمكن أن يظهر في تمام رونقة وحتى يستطيع أن يمد صاحبه بالضياء الذي يبدد الغياهب والظلمات التي تعرض له في طريقه وألا تعرض الذهن إلى الجمود الناشئ من العمل في دائرة واحدة، أو بعبارة أخرى يصبح الذهن آلة ديناميكية فقط وإذ ذاك هيهات له الصعود إلى العلياء يمكننا إذن أن نفهم تلك العبارة البليغة التي وجهها الأستاذ النقيب ألبيرت سال إلى المحامين المبتدئين في خطابه بتاريخ 3 ديسمبر سنة 1921 (أشير عليكم أن تتبعوا ما يوحيه إليه ذوقكم واختياركم، باشروا الرسم أو النحت، قوموا بالتأليف أو قرض الشعر، وليكن ما تقدمون عليه مسحة الطلاوة والرونق واحرصوا على أن تنفضوا ولو ساعة في اليوم غبار الملفات واستنشقوا هواء آخر خلاف ما تجدون في قاعات الجلسات ومع كتبة المحاكم إذ ذاك تتوسع مدارككم وتسمو عقولكم وتنفتح صدوركم فيمكنكم أن تستأنفوا مطالعة دالوز بهمة وعزيمة، وإذا كان ما تصبوا إليه قبل كل شيء وأن تنتصر الحقيقة أمام القضاء فلا تنسَ أن لها رفيقان الجمال والرحمة وأنكم تصلون بلا مشقة إلى المثل الأعلى للرجل الشريف إذا زرعتم جميلاً وفعلتم الخير واحترمتم الحق، ومتى كنتم رجالاً شرفاء كنتم محامين نابهين) آبلتون صـ 517.
وإذا كنا نطالب المحامي بوفرة ثروته من الثقافة العامة بسبب ما يضطر له أحيانًا من مواجهة الفنيين من مختلفي المهن ومناقشتهم والتعليق على آرائهم، فإن ذلك ليس من شأنه أن يقلل من قيمة محصول المحامي من المعلومات القانونية يجب أن يكون مجهود المحامي في بدء حياته موجهًا إلى زيادة ذلك المحصول إلى جعله وافيًا وهذا لا يتأتى إلا بالاطلاع المستمر ومتابعة حركة الفقه والقضاء وليكن اطلاعه شاملاً لفروع القوانين المختلفة فقد يجد نفسه وهو يترافع في قضية جنائية مثلاً مضطرًا إلى معالجة موضوع مدني وهو معرض في كل وقت إلى الإجابة على اعتراضات متنوعة تشمل جميع ميادين النشاط القانوني،
فإذا لم تكن معلوماته جامعة وقوية فإنه يتعرض إلى الهزيمة أمام خصمه ومهنته قاسية تستلزم أن تكون بضاعته حاضرة تحت طلب زميله أو طلب القاضي في أي وقت شاء خصمه ولربما أمكنه أن يحتمي وراء طلب التأجيل للاستعداد أو التأجيل لتقديم مذكرة ولكنه لا يضمن إجابته إلى هذا الطلب فضلاً عما يشعر به من حرج بين زملائه والقضاة والمترددين على قاعات الجلسات على أن هناك حالات كثيرة تضطره إلى المبادرة بتقديم ما لديه من دفوع وقد يستطيع أن يحضرها في مكتبه ولكنه عرضة لأن يفاجأ أثناء المرافعة بدفع إذا لم يتحرز في الإجابة عليه تضيع عليه حق موكله وقد يكون مطمئنًا على حق موكله اعتمادًا على مناصرة الأحكام السابقة له غافلاً عن تطور حديث للقضاء هنا أو في فرنسا فإذا به أمام خصمه ضعيف الجانب حليف الخسران والمحاماة في مصر أشق منها في أي بلد آخر بسبب الأوضاع التاريخية والاجتماعية التي استلزمت تعدد جهات الاختصاص وتعدد القوانين فهناك محاكم الأحوال الشخصية العادية والاستثنائية وهناك المحاكم القنصلية ثم المختلطة والأهلية وهناك الشريعة الإسلامية وقانون نابليون مصدر التشريع المصري فيما عدا الأحوال الشخصية وهناك التشريع المختلط ثم التشريع الأهلي، والمحامي مطالب بأن يكون على بينة من أمر هذه الجهات، لأن لها وظائف قضائية وهذه القوانين لأنها قد تثار في أي وقت أمامه هذا إلى أن تفاعل هذه القوانين المختلفة يسبب ازدياد المصاعب وتنوع المشاكل ولا تنسوا أن النشاط التشريعي قد جارى النهضة الحديثة إذ القوانين ليست إلا وليدة الحاجات الاجتماعية ونسجل باغتباط أن حاجاتنا الاجتماعية قد تضاعفت بفعل التقدم الذي قطعنه مصر في عهدها المبارك منذ أبدت رغبتها في التحكم بمصيرها، والحق يقال إن المشرع المصري كان كثير النشاط دائم الحركة لم يترفق بزبائنه من قضاة ومحامين بل إنه يمطرهم دوامًا بالقوانين والمراسيم ويطلع عليهم بالتعديلات الكثيرة للقوانين الأصلية والقوانين الحديثة تلك التعديلات التي تمليها ظروف الحياة العملية،
وإذا أردتم مثلاً ظاهرًا فعليكم بمقارنة المجلدين اللذين لقانوني المرافعات والعقوبات قبل سنة 1919 بالمجلدين اللذين صدرا في الأيام الأخيرة منتفخي الأوداج متضاعفي الصفحات وطبعًا تضاعف الصفحات يستلزم تضاعف الجهد لقراءتها وتفهم أحكامها وتثبتها في الذاكرة ولم تكن ظروف الوطن وحدها العامل في ذلك ولكن الظروف العالمية وما قطعته الإنسانية من أشواط بعيدة عقب الحرب العظمى واندفاع النشاط الإنساني في ميادين كانت عذراء من قبل، كل ذلك حتم على المشرع متابعة ذلك التطور وحتم على أولئك الذين يسيرون في ركاب المشرع أن يسرعوا الخطى، فترون من ذلك أن الأعباء الثقيلة الملقاة على عواتق المحامين بسبب أوضاع الوطن الخاصة قد ازدادت ثقلاً في السنين الأخيرة ولكن هل تنوء أكتاف الجيل الحاضر عن حمل تلك الأعباء أم هل يقبل بابتهاج تلك الأعباء على أنها الواجبات التي في عنقه كهمزة الوصل بين ماضٍ تثير ذكرياته الألم ومستقبل تبعث بوارده على الرجاء ؟ وهل يتاح لهذا الجيل أن يضيف إلى التقاليد السامية لأبطال المحاماة الذين سموا بردائها في مستهل هذا القرن ؟ هذا ما استميح لنفسي الرد عليه بالإيجاب، لأننا نلمس من قريب المجهودات العظيمة التي يقدمها عن طيب خاطر أفراد ذلك الجيل وأعتقد أن علم المحاماة سيظل مرفوعًا في الطبقات العالية التي سمت به إليها عزيمة أولئك الأمجاد الذين كابدوا الأهوال في سبيل الرفعة به، قلنا إن أول شرط لنجاح المحامي وفرة محصوله من الثقافة العامة وبينا الضرورات الاجتماعية التي تستلزم زيادة ذلك المحصول في الوقت الحاضر وعلى الأخص في مصر ويمكننا أن ننتقل الآن إلى الشرط الثاني الخاص بحب المهنة.
والواقع أن مهنة المحاماة جديرة بكل محبة كيف لا والمشتغل بها يرى دوامًا في عنقه حريات مواطنيه وأموالهم وهو منهم مستودع أسرارهم ومناط آمالهم، وهو في الهيئة الاجتماعية كالطبيب تعرض له العلل الغير جسمانية فيشخصها ويصف دواءها ثم يتقدم إلى القاضي ليصرف ذلك الدواء، حقًا إن القاضي غير مقيد بهذا التشخيص ولكن في الأحايين التي يكون التشخيص فيها مبنيًا على غير الاعتبارات الشخصية ويكون مستمدًا من ملاحظة دقيقة بعيدة عن هوى التحيز يجد القاضي نفسه مسوقًا لاعتماد التذكرة الطبية وصرف الدواء المطلوب وحب المهنة هو الذي يلهم محترفها الصبر على شدائدها ويعده إلى تحمل مغارمها، قليل جدًا من المهن الحرة تماثل المحاماة في فداحة أعبائها وعلى قدر فداحة تلك الأعباء تكون المحبة المتطلبة وإذا أحب المحامي مهنته وجب عليه أن يصوغ لنفسه مثلاً عاليًا يكون أمام ناظريه بحيث يحافظ على كرامة تلك المهنة ويؤدي لها ما تتطلبه من احترام وإعزاز وأن أهم ما يحرص عليه هو استقلاله في مهنته يجب أن يكون مستقلاً أمام الخصوم فلا يرضى لنفسه أن يكون آلة بين أيديهم يستعملونه في مشاكساتهم ويسخرونه لمشاغباتهم، بل يسمو بتلك المهنة عن عبث المشاغبة وضيق النطاق،
يجب أن يسمو بها فوق الاعتبارات الفردية والحزازات الشخصية، يجب ألا يساء استعمال تلك المهنة للخروج بها عما وضعت له فلم تكن ولادتها إلا لتحقيق أنبل المقاصد بإعطاء الجميع الفرصة المتماثلة أمام هيئة القضاء ولتمثيل مصالح الضعفاء فكانت إذن رسالة للسلام لا للقتال ووسيلة لفض المنازعات لا لخلقها، وبديهي أن القيام بالواجب يستلزم التضحية فليقم بها عن طيب خاطر إذا أحب مهنته صبر على مصاعبها في البداءة فالنجاح بطيء يأتي دوامًا بخطى متمهلة فعليه ألا يستسلم لملل الانتظار بل فليشغل نفسه بالعمل الدائم المتنوع ويستطيع الكثيرون أن يوجدوا لأنفسهم مجالات كثيرة له فهناك مجال الكتابة والنشر في المجلات والجرائد القانونية وهي تذخر دوامًا بالأبحاث المبتكرة التي تقدم لها ومن دواعي السرور أن يجد أمامه مجلة محترمة كالمحاماة التي تصدرها النقابة يستطيع أن ينتفع ببعض صحائفها، بل ليس ما يمنعه أن يشترك مع بعض زملائه في إخراج مجلة قانونية إذ العهد الحاضر يستتبع ازدياد النشاط من جميع الطوائف، وقد تعاضدت معاهد الدراسة النظرية أو التطبيقات العملية بالقوانين مع النقابة في إحياء لغة للقانون سهلة الأداء دقيقة التعبير،
ومع كثرة عدد المشتغلين بالقانون فإن المجلات والجرائد القضائية التي تظهر في الوقت الحاضر ليست كافية لسد الحاجات المتزايدة كل يوم بل هناك أرض طيبة للإنتاج الصالح، هناك أيضًا قضايا المعافاة وهي من دواعي السرور كثيرة يجد فيها الفرصة اللازمة للعمل لإظهار مواهبه بل إن قضايا المعافاة هي المظهر الباقي على نبالة أصل المهنة، فهناك الكثيرون لا تسمح له أحوالهم المادية بتقدير مجهودات المترافعين وقد يكون ما وصلوا إليه من حال نتيجة لحق مهضوم أو قد تكون المقادير قد طوحت بهم بين براثن اتهام جائر فليس أشرف من أن تتقدم المحاماة للأخذ بناصر هؤلاء وعند ذلك يجد المبتدئ ما يريد من فرصة فليحضر لقضيته بذمة وأمانة وليلم بأطرافها وليتقدم بها إلى القضاء في أسلوب مقنع لطيف وأنا الكفيل له بأن عهد انتظاره للنجاح لن يطول ولقد نسمع أحيانًا كثيرة من الواقفين على الشاطئ حملات قد تشتد في مناسبات خاصة على المهنة لمساعدتها للمجرمين الذين يعكرون السلام الاجتماعي وأود أن أعتبر في هذا العمل من المهنة داعية من دواعي الحاجة إليها تستطيع أن تفخر بها بحق فالمجرم في العهد الحاضر ليس ذلك الشيطان الذي حقت عليه آية (خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسة ذرعها سبعون ذراعًا فاسلكوه)، ولا كانت فكرة العقاب مبناها أن السن بالسن والعين بالعين، المجرم ليس إلا ظاهرة من الظواهر البيولوجية تمخضت عنه الجماعة وكلما ازداد النشاط الاجتماعي وشمل ميادين كثيرة كلما أنبت المحبط أنواعًا كثيرة من الإجرام، وليس هناك أشخاص يولدون مجرمين بطبعهم كما كان ينشر بذلك لمبروزو بل هناك أشخاص قد يولدون متأثرين بنقائص خلقية يبعث عليها الوسط الذي عاش فيه آباؤهم فإذا حالت الهيئة الاجتماعية بين هذه الطبائع التي قد يكتسب بعضها وبين الظهور، إذا لم تعطَ الفرصة للذيوع والانتشار فإنها لا تلبث أن تزول لأنها ليست غرائز أصلية بل طبائع مكتسبة تزول بفعل عدم الاستعمال، هؤلاء الأشخاص بحاجة إلى من يتقدم بهم إلى القضاء يناشده النظرة الواسعة، يناشده التحرر من شهوة التنكيل، يناشده أن يرد المجرم إلى الجماعة التي خرج عليها تائبًا مستغفرًا،
لا ساخطًا منتقمًا، صدقوني أن القضاة بحاجة إلى التذكير بذلك من وقت لآخر، فقيام المحامي بهذا الواجب يزيد من أكاليل الفخار التي تتوج بها هامه، فلندع إذن جماعة الشاطئ في حديثهم حتى يقع أحدهم في المحظور لنرى ما يقوله حينذاك عن العمل الذي كان يحنق على المحامي من أجله، حب المهنة يستلزم أن يستلهم المحامي منها الجزاء على متاعبه غير منتظر جزاءً أو شكورًا ممن كرس نفسه لخدمتهم فكم من الطبائع جافة جاحدة لو نيط بأصحابها وحدهم المكافأة الأدبية لكانت خيبة الأمل محققة وقد يكون هؤلاء الأفراد قليلين ولكن هذا لا يمنع من أنهم موجودون وأن تعليق المحامي لأسباب غبطته عليهم قد يسبب له مرارة الخيبة بعكس ما لو استلهم الغبطة والرضا من ضميره فقط فلا يكون محل لشعور بخيبة أو مرارة حسبه إنه أدى واجبًا للجماعة في عنقه للشخصية المعنوية لتلك الجماعة المستقلة عن أفراد هذه الجماعة حسبه ذلك وكفى، وأخيرًا فليكن في حبه للمهنة ما يهون عليه مشاعر الألم عند ما يرى انتصار ما يعتقد أنه الباطل.
القسم الثاني
وأود أن أقرر في غير مواربة أن القضاء غير معصوم عن الخطأ وأن نتيجة الخطأ قد تكون انتصاف باطل على حق إلا أن ذلك من حسن الحظ قليل الوقوع وقد تكفل المشرع بتبيان الأدوية التي يلجأ إليها في مثل هذه الأحوال هذا من جهة ومن جهة أخرى فليذكر المحامي نفسه بطبيعة عمله فهو يمثل مصلحة جانب ويتلقى معلوماته من هذا الجانب، وقد يكون فيما يتلقاه ما لا يتفق مع الواقع وقد يكون عرضة لتكوين اعتقاده تحت هذا التأثير وقد ينطق هو بالحكم الذي يعتقد أنه ناصر باطلاً لو كان في مجلس القضاء يسمع للخصمين ويرجح ما يعتقده الحق والصواب، ثم ليتذكر أخيرًا أن طبيعة النظام الاجتماعي التي توجب ضم الملايين سويًا لتكوين حياة مشتركة لدولة واحدة طبيعية ذلك النظام تستلزم افتراض انتصار الباطن أحيانًا وقد يكون ما يعتقد أنه باطل بعيد كل البعد عن ذلك ولا أدل على صحة ما نقول من تفاوت وجهة النظر بين شخص وآخر، وبين أمة وأخرى فقد ترى أمة من الأمم تحقق العدالة بالأخذ بأسباب نظام ترى أمة أخرى أن الدعوة إليه جريمة تستوجب العقوبة وإذن فليكن في حب المهنة ما يعينه على احتمال جميع تلك الآلام وحسبه أنه يحظى في القيام بمهنته كما قال فليكس ليوفيل في مؤلفه عن paillet أو المحامي (صـ 16) أنه يستمتع بثلاث مسرات في أداء مهنته:
أولاً: مسرة المصالحة.
ثانيًا: مسرة المرافعة.
ثالثًا: مسرة كسب الدعوى.
وبطبيعة الحال يجد في تلك المسرات جميعًا ما يخفف عليه مرارة المهنة وكما قال النقيب الأستاذ آبلتون بحق (صـ 520) (إن حب المهنة يشد أزر المحامي في جهاده ويحمل حياته ويضاعف اغتباطه بالنجاح ويخفف أثر الفشل).
ننتقل إلى الشرط الثالث وهو تنظيم العمل، وهذا يختلف تبعًا لما إذا كان المحامي يشتغل مستقلاً أو يمضي مدة التمرين عند زميل، ولكنه على كل حال يحسن صنعًا إذا نظم عمله بحيث يوزع وقته على ما هو مطلوب منه، وأول ما يجب عليه أن يتذكره أن يكرس وقتًا طويلاً كل يوم إلى العمل فلا تدهشوا إذا قدر فيلكس ليوفيل أن أقل ما يلزم المحامي من وقت للعمل اليومي عشر ساعات، ولذا فقد قال لاروش فلانتن عن المحاماة في القرن السابع عشر (إن مهنة المحاماة تعالج المرء من داء الكسل إذ صيرورتك محاميًا وقيامك مبكرًا في الصباح شيئان لا يفترقان)، وقال لوازيل (إن مهنة المحامي تفرض عليه أن يكرس لها كل مجهوده (آبلتون صـ 520)، والمحامي يمضي الصباح في مباشرة عمله أمام الهيئات القضائية المختلفة، وخير له أن يحرص على المحافظة على مواعيد الجلسات، فإذا كانت قضيته في بدء الرول استطاع أن ينتهي منها ليتفرغ لغيرها، وليعلم أن تأخيره قد يضايق زميلاً له يحرص على المواظبة كما يضايق القاضي الذي يريد التخلص من رول طويل أمامه بتنجيز القضايا أولاً بأول منصة وأظنكم في هذا المقام وقد وصلنا إلى منصة القضاء تطالبوني بإبداء الرأي عن المرافعة وسأحاول أن يكون رأيي مبنيًا على غير مصلحتي الشخصية وأظننا نذكر أن جميع أسباب الاحتكاك بين القضاء والمحاماة منشؤها في الغالب رول طويل مر بك يبغي القاضي أن ينجزه من جهة، ومن جهة أخرى رغبةً حارة في القيام بإرضاء الذمة بعرض كل شيء أمام القضاء حتى يريح المحامي ضميره، ولا يمكن التوفيق بين الطرفين إلا إذا قدر كل طرف منهما وجهة نظر الآخر وكان في أدائه واجبه مخلصًا في مساعدة الطرف الآخر أيضًا على مثل ذلك وقد يكون حماس المحامي باعثًا له على أن يبالغ في الاهتمام بأشياء يرى القاضي المثقل بالرول الطويل أن الوقت لا يتسع للإنصات إليها كما قد يبلغ القاضي في الرغبة في الإنجاز بحيث يحرج مركز المحامي أمام ضميره وهذه الصعوبة تشعر أنها في ازدياد كل يوم،
فالإحصائيات القضائية تدل على اضطراد الزيادة في عدد القضايا وبعد أن كانت مائة العدد الذي لا يحلم بوصول رول القاضي الجزئي إليه أصبح مشحونًا في بعض الأحيان بعدة مئات وليس من المنتظر أن يزداد عدد الجلسات والقضاة إلى أكثر مما هو في الوقت الحاضر على الأقل حتى مستقبل غير قريب وإذن لا مفر من التعاون الفعلي بين القضاء والمحاماة ليرضي كل ضميره، والواقع أن المرافعة الشفوية في المسائل المدنية والتجارية على الأقل فقدت كثيرًا من أهميتها السابقة،
فقد كان عون المحامي في الأزمنة القديمة على بلاغة التعبير، ومن الخطأ أن يلجأ المحامي في الوقت الحاضر إلى الاستعانة بالأساليب الخطابية التي كانوا يلجأون إليها حتى قبيل الحرب العالمية التي تعتبر مبدأ تطور المحاماة واستقرارها على أسس علمية من مشاهدات نفسانية وتجارب بسيكولوجية وتمت إلى كثير من العلوم بصلات وثيقة وتبيان الحقائق العلمية لا يحتاج بطبيعة الحال إلى أساليب خطابية بقدر ما يحتاج إلى السهولة والوضوح وحرفة المحاكم لا يتفق معها القيام بحركات وأساليب مسرحية لأنها أبعد الأشياء عن التأثير على القضاة بحكم ما ينطوي تحتها من الاصطناع، وليس معنى هذا أن يترافع المحامي بدون عاطفة فإن العاطفة لازمة لكي يصل الإقناع منه إلى القضاة، ولكن ليحرص على أن تكون عاطفة غير مبالغ فيها متئدة بعيدة كل البعد عن التهيج إذ أن التهيج يثير التمرد في نفوس السامعين فبدلاً من أن ينفعل القاضي تحت تأثير التهيج يجد ذهنه متمردًا بل قد تدفع به عدوى التهيج إلى الناحية المعاكسة لرغبة المحامي وقد يكون من سوء حظ المحامين هنا أن مصر لم تأخذ بنظام المحلفين،
وهم جماعة يسهل التأثير عليهم بالأساليب الخطابية المنمقة والحركات الملازمة لذلك، أما والجالسون على المنصة بمصر قوم من رجال القانون الذين صاحبوه مدة غير قصيرة فهم أدرى بما يفرضه على المشتغلين به من البعد عن نزق الهوى وعدم الاستسلام إلى حجج العاطفة فإن المهنة تحرم هنا فرصة من الفرص الكبيرة التي يبلغ المحامي فيها إلى النجاح السريع وأهم ما اشترط توافره في المرافعة أن تكون صادرة عن إخلاص ومختصرة وجذابة ولكي تكون جذابة يجب أن تكون سهلة رشيقة بعيدة عن الاصطناع،
الحق يا حضرات السادة أن المحاماة ليست إلا فن نقل الحقائق العلمية من مكامنها المختلفة وعمل لوحة منها تقدم إلى القضاء كما أن الذوق العالمي اتجه في الفنون نحو البساطة والبعد عن التعقيد فكذلك يجب أن تكون ريشة المحامي ماهرة في تجميل اللوحة ما يريد أن يضمنها من معنى بدئه الاستعانة بالتفاصيل المشوهة أو المبالغة في التلميح فليستلهم قلبه وذهنه ما يريد أن يبث فيها من مشاعر في بساطة الوضع والتعبير واثقًا أنه يكون أقرب إذ ذاك إلى النجاح وسهولة التعبير وبساطة الأسلوب لا يقدر عليها إلا من تمكن من فنه وهو ما يصل إليه بالمطالعة والمران ولكن ليحذر الاعتماد على تلك الموهبة فقط بدون أن ينميها دوامًا بالجديد من المعلومات وإلا أصبح بعد قليل من الوقت عقيمًا وأصبحت مرافعته لا تمثل إلا بعض المظاهر السطحية التي لا تقوى على استرضاء حتى الغلمان، وكلما كان المحامي واسع الاطلاع غزير المحصول كلما سهل عليه الأداء هذا مع افتراض أساس قليل من الموهبة الطبيعية وقد يعترضه أثناء المرافعة مقاطعة جانبية أو أمامية، وهنا تسعفه البداهة الحاضرة،
يجب عليه أن يعرف كيف يتخلص من المقاطعة بدون إيلام من قاطعه فليكن رده قصيرًا مؤديًا إلى غرضه بدون سخرية لاذعة حتى لا يثير حفيظة زملائه أو المنصة التي يترافع أمامها وقد تسعفه البداهة في مواطن حرجة ولكن إذا لم يكن الذهن ممتلئًا بشتى المعلومات والمعارف التي تنتظر الخروج من مكامنها تعطلت عنده هذه الموهبة أو كانت سببًا للعبث والمهاترة، هناك ملاحظة أخرى يحسن ألا يغفل أمرها أثناء المرافعة ذلك أن يبتعد عن موقف تلقين القضاة المعلومات القانونية فإن ذلك الموقف يجلب له عدم عطفهم، وصعوبة إقناعهم، وهم معذورون بحق إذا اعتقدوا أنه لم يفترض فيهم تلقي الدراسات القانونية في قاعات الجلسات وأن أكثر ما يثير سخطهم أي عمل يعتقدون أن خطأ أو صوابًا أن به مساسًا لكرامتهم والمحامي بحاجة إلى عطف القاضي ذلك العطف المبني على التقدير المتبادل لا على الاستجداء والمبني على إخلاص كل منهما لواجبه لا على غير ذلك من العوامل وإذا بدا له أن ينتقد حكمًا أو يفند أحكامًا يتمسك بها خصمه فلتكن عبارته بعيدة عن التجريح والتقريع مراعيًا في ذلك آداب اللياقة وهو إذا اتبع هذا الأسلوب يكون أقرب إلى غرضه من الإقناع مما لو استعمل أسلوبًا ليس فيه مجاملة كذلك يستحسن أن يكون بعيدًا عن العنف في مرافعته لأنه إذا كان عنيفًا يعطي لخصمه الماهر فرصة فريدة للنيل منه إذا أنه عرضة أثناء ثورة العنف إلى نسيان وقائع هامة أو نقط جوهرية لمصلحته وهو على الأقل يكون في تلك الحالة بعيدًا عن الحالة الطبيعية التي هي ألزم إليه إذا أراد النجاح في مهمته إذ لا يخفي أن المحامي أثناء النضال كالجندي يحتاج إلى هدوء الأعصاب والحذر حتى يستطيع أن يحدث ثغرة ينفذ منها إلى الخصم وإذن هذا شأن المرافعة الشفوية،
ولدى المحامي سبيل آخر وهو الاستعانة بالمذكرات وواجبه هنا كما في المرافعة الشفوية تمامًا يجب أن تكون مختصرة جذابة وصادرة أيضًا عن إخلاص، أما الاختصار فيمكن القاضي من الإلمام بجميع محتوياتها بدقة وبحشد المحامي حججه في أسلوب مشوقٍ لطيف متجنبًا المغالطة أو المبالغة في التعبير وأظن أن حضراتكم توافقوني جميعًا على أن العهد الحالي يقدر قيمة الوقت وقد يكون أجدى على المحامي أن يوفر عليه وقته فيشتغل بما هو أنفع من إطالة لا نتيجة لها إلا تنفير القارئ وأنكم لتوافقونني على معذرة القاضي إذا نظر إلى المذكرة المطولة نظرة الامتعاض وإلى المختصرة نظرة الترحيب وحذار من إساءة فهم ما أقول فلا أقصد أن يضحي المحامي بحجج موكله ومصالحه إرضاءً لشهوة القاضي في الاختصار وإنما عليه أن ينسق تلك الحجج في أقصر عبارة وأن يستعرضها بجلاء، غير مستعمل إلا العبارات الدقيقة المؤدية إلى ما يريد من معاني أما الإسهاب في التدليل والإفاضة في الشرح فذلك محله المعاهد الأكاديمية والقضاء ليس إلا مهنة تحتم على صاحبها وفرة الإنتاج في الوقت المناسب على أن يكون إنتاجًا بعيدًا عن النقص متصفًا بالكمال وفق ما تخوله مؤهلاته وبطبيعة الحال تكون مجهودات المحامي في مساعدته على هذا الإنتاج مرحبًا بها تمامًا وجلي أن القدرة على التوضيح مع مراعاة الاختصار ليست في ميسور كل فرد وأن الذين يقدرون عليها هم الذين سلمت اللغة لهم أزمتها والذين يجدون عقولاً مرتبة نيرة، ومهما كان الأمر فلو أجهد المحامي نفسه وراضها على ذلك فإنه يكتسب تلك الموهبة في غير طويل من الوقت، وأظن أن فيما أسلفنا القول عن المرافعة ما يكفي لإعطاء حضراتكم صورة مختصرة لما يحسن أن يضعه المبتدئ في المحاماة نصب عينيه إذا ما انتهى المحامي من المرافعة وعاد إلى منزله ولا أظنه يعود إليه في أغلب الأحايين إلا بعد مواعيد الغذاء للعائلة فإنه يستأنف في المساء أعمال المكتب ويحسن أن يهتم شخصيًا بمكاتباته وألا يتركها للكتبة،
فبعض المكاتبات قد تحوي أسرارًا لا يصح اطلاع غيره عليها وأن يحدد وقتًا للزيارات بحيث يتصل بموكليه ويطلعهم باستمرار على الأدوار التي تمر عليها قضاياهم فإذا ما انقضى وقت الزيارة فعليه أن يجد الوسيلة للوحدة المطلقة حتى لا يقطع عليه عمله زائر غير مرغوب فيه أو كاتب لحوح ومتى خلا لنفسه يقبل على مطالعة قضاياه ووضع خطة السير لكل منها وخدمتها بما يحتاج من تدليل مخبوء في بطون مجاميع الأحكام أو المؤلفات الفقيهة، فإذا ما انتهى من ذلك العمل الشاق وكانت لديه فرصة للترويح عن نفسه فلينتهزها وليس كمهنة المشتغلين بالقانون في الحاجة إلى الرياضة الجسمية والعقلية،
أما الأولى فيستطيعها إذا التحق بإحدى نوادي الألعاب الرياضية وليمارس أي رياضة كلعب التنس أو كرة القدم أو الجولف أو التجديف أو المشي،
أما الثانية فيجدها في الاستماع إلى برنامج موسيقي أو التردد على المسارح وهو إن لم يتعهد جسمه وروحه من وقت لآخر بهذا الغذاء لا يقوى على الجهاد طويلاً بل يتعرض إلى التخلف عن الصفوف، وإذا قلنا الرياضة فلا نقصد أن يزج المحامي بنفسه في معمعان التقاتل من أجل بطولتها فيكفيه القتال المستمر الذي يقوم به في دور القضاء بل الاعتدال في الرياضة لقصد المحافظة على صحته، وفي الحق أن الاعتدال في كل شيء من مستلزمات المهنة أكثر من أي شيء آخر، ومتى قام المحامي بتنظيم عمله بهذه الكيفية يكون قد وضع دعامة قوية لنجاحه.
بقي الشرط الرابع: وهو المواظبة بمعنى أن يكون المحامي دائم الاتصال بالمحاكم وبالوسط القانوني عمومًا وأن في تردده على دور القضاء حتى في الأيام التي لا يكون لديه قضايا للمرافعة لما يمكنه من مقابلة زملائه ومقابلة القضاة، وكثير من المناقشات القانونية ما يدور بين أعمدة السراي أو في غرفة المحامين وأن في تبادله الرأي المستمر ما يجعله على اتصال دائم بحركة التطور في القانون، ونحن نعلم جميعًا أن القانون يتطور وفقًا لتطور الجماعات وأن في تطوره هذا الضمانة الكافية لعدم جموده فهو في حركة مستمرة وهذه الحركة لا يشعر بها إلا من يتردد على هيكل العدالة فإذا كانت البرلمانات هي مهد القوانين فإن هياكل كل العدالة هي محل نموها وحياتها، والمحامي كما قدمنا من كهنة ذلك الهيكل فرض عليه السعي إليه وليس من المستغرب إذا كانت هناك أشياء كثيرة لن يلم بها إلا في ذلك الوسط فأين يتاح له الاقتراب من أفلام الكتاب والمحضرين وكيف يصل إلى تسيير حركة أعماله إلا إذا كان على معرفة بأولئك الذين يقومون بتنفيذ الأحكام وقد يكون هناك بعض الحالات التي يستحسن ألا يترك لموظفي مكتبه بل يحسن أن يشرف هو بنفسه على عمل الترتيب اللازم لتنفيذها حتى يصل إلى تحقيق ما أجهد نفسه كثيرًا حتى حصل عليه،
وإذا كانت لديه قضية فليقم بالمرافعة فيها بنفسه ولا يتركها لغيره من زملائه مهما كانت ثقته في كفاءته لأن صاحب القضية قد حباه هو بثقته فعليه أن يحقق تلك الثقة فإذا كانت أعماله لا تسمح بحضوره فيلفت نظر صاحب القضية في بداءة الأمر وأظن أن حضراتكم تشاطرونني الأسف على ما يحدث أحيانًا من ترك ملفات القضايا بين يدي الكتبة يفاجئون بها أحد حضراتكم بعد مرافعته في قضيته بورقة مختصرة وملف لا يحتوي على شيء ما سوى التصميم على الطلبات أو طلب التأجيل وكم يكون المركز حرجًا عند ما يتقدم القاضي إليه بسؤال عن موضوع تلك القضية أو عند ما يستفسره عن صفات الخصوم إذ ذاك يسقط في يده ويكون في موقف حرج أمام القضاء وأمام الجمهور فضلاً عما يتعرض له من تسويء مكانته والمحامي بحاجة قصوى إلى أن يوجد لنفسه مكانة سامية تجعل القاضي يقبل على الاستماع إليه والثقة فيما يقرره، وتلك المكانة لها مطالب كثيرة أهمها الابتعاد عن القضايا التي يكون مركز المحامي فيها مجرد آلة للقمة بين يدي الخصوم وتكون ماكينة القانون غير مقصود بها إلا التنكيل إطفاء لشهوة شخصية، يستطيع المحامي إذا عرضت عليه قضية كهذه أن يستعمل نفوذه لإنهائها صلحًا فيوفر على موكله المصاريف الباهظة ويحقق رسالة السلام الذي أؤتمن على أدائها، كذلك تستلزم المواظبة أن يكون المحامي دائم الاستعداد في القضايا
وليحاذر الإسراف في طلب التأجيل فإنه يعطي القاضي صورة غير مستحبة عن عمله وإذا اضطر إلى طلب التأجيل فليطلبه بنفسه مبينًا أعذاره التي لا يستطيع معها القيام بواجبه كما يجب وإذا وجد أن أعمال مكتبه كافية لأن نشغل جميع وقته فيحسن أن يكتفي بها وألا يقبل قضية جديدة حتى ينتهي مما لديه منها كذلك من ألزم الواجبات محافظة المحامي على المواعيد في مكتبه فلا يتغيب عنه في الساعات المحددة للمقابلات وإذا وجد عنده عذر للتغيب فليخطر أحد الكتبة هناك حتى لا يجعل الموكلين يضيعون وقتهم سدى في الانتظار كذلك عليه أن يحيط أصحاب القضايا كتابةً بما تم في كل جلسة وليكن متصلاً بهم يستمع إلى ملحوظاتهم ويبادلهم الرأي فيما يحتاج إلى التنوير فيه وعلى العموم فليكن في جميع أعماله الحريص على إنجازها في وقتها المحافظ على المواعيد وليشرف بنفسه على تحرير الأوراق الهامة مثل صحيفة الدعوى وصحيفة الاستئناف فقد يعرض حقوق موكله في الدهر إذا لم تكن تلك الأوراق الهامة من صنع يده.
لي أن أعتقد يا حضرات السادة أن المحامي إذا باشر أداء مهنته مراعيًا تلك الشرائط محاسبًا نفسه حسابًا عسيرًا على الاستمساك بها فإن النجاح يكون حليفه في آخر الأمر ومهما لاقى من المشاق في القيام بواجباته فليذكر نفسه دوامًا أنه يمرح في نعمة الاستقلال فهو سيد نفسه لا يقبل إلا ما يختار من عمل ولا يسأل إلا أمام ضميره وقد تكون مأمورية المحاماة شاقة في مصر من جهة أن المحامي وكيل الخصوم بينما الأصل في المدافع في فرنسا وغيرها أنه مستشار لهم فقط ليس عليه إلا المدافعة أمام المحاكم ولا شأن له بتحرير العقود وتحضير المستندات فكل ذلك متروك للموثقين avoués لهذا كانت واجبات المحامي في مصر أكثر تعقيدًا وأشد مسؤولية ويقدر ما يتحمل من مسؤولية بقدر ما يتطلب منه من مجهود وأريد أن أنقل ما قاله الأستاذ النقيب هنري روبير مختتمًا الفصل السادس من كتابه القيم حياة المحامي (والمحامي يستمتع بالاغتباط التام لضميره وكرامته ومكانته حقًا أن حياته ملتهبة إذ يشتغل خمس عشرة ساعة في اليوم يكون فيها مشغول الذهن بالقضايا التي يباشرها ووقته موقوف على ممارسة مهنة تحتم عليه أن يتفرغ إليها بجميع جوارحه وهي كرداء نسيس nessus تستنفد كل قواه وتشغل كل حياته حتى لا تتركه إلا عند مفارقته للروح وقد ذكر في المتيولوجيا اليونانية أن رداء نسيس هو الذي كان السبب في وفاة البطل هيركيل فقد حاول السنيور خطف زوجة البطل dèjanire ديجانير فأخفق في مسعاه وكان جزاؤه القتل وقبل وفاته أعطى ديجانير رداءه المصبوغ بدم مسموم وأفهمها أن فيه ضمانة وفاء البطل فلما وجدت البطل قد أعرض عنها وشقت يول قلبه حبًا أرسلت له الرداء هدية منها وما لبسه هيركيل حتى شعر بآلام مريعة في جسمه ومات محترقًا، هذا هو رداء نسيس الذي أراد الأستاذ النقيب هنري روبير أن يشبه به المهنة التي إن تكلم عنها فعن أتم خبرة.
ولي كلمة ختامية أرجو أن توسعوا صدوركم لسماعها، ولست أريد بها التطفل على ما هو خارج عن عملي بل أبغي بها أن يمكن كل من درس القانون من الاشتغال بتلك المهنة فالطريقة الحالية التي بمقتضاها يعين خريجو كليات الحقوق في النيابة مباشرةً ثم ينقلون بعدها إلى القضاء عقيمة مثل تعيين حديثي العهد بمهنة المحاماة في القضاء مباشرةً وأرى أن نتبع النظام الألماني فهو كفيل بأن يظهر الكفاءات المستورة وأن يرفع من مستوى المهنة والقضاء فبعد أن يحصل الطالب على إجازة علمية تعادل الليسانس ويسمونها referendai يبدأ مدة التمرين وتستمر أربع سنوات يقضي شطرًا منها في مكتب محامٍ وشطرًا آخر في الدوائر القضائية والشطر الثالث في الدوائر الإدارية وبعد تلك المدة عليه أن يقضي امتحانًا غاية في الصرامة إذا أجازه يخول له الالتحاق بالنيابة أو القضاء أو بالمحاماة بأن يقيد اسمه في الجدول، ولا شك أن في التمرين المتنوع مدة الأربعة أعوام ثم إجازة الامتحان بعد ذلك ما يكفل للقضاء بمعناه الواسع وللمحاماة مستوى رفيعًا، لهذا لا غرابة إذا سمعنا خبر صاحب طاحونة سانسوس عند ما قال للإمبراطور فردريك وهو يهدده بالاستيلاء عنوة عليها بعد أن أقلق مضجعه أزيزها المستمر يا صاحب الجلالة أن لدينا محاكم في برلين.
اترك تعليقاً