مخاطر جريمة تبييض الأموال
قد يتراءى للبعض بأن تبييض الأموال لها أثار إيجابية خاصة في حالة اتخاذ عمليات التبييض الصورة العينية، مثل تأسيس شركات الاستثمار ، وتوفير العديد من فرص العمل، والمساهمة في علاج مشكلة البطالة ، وتوفير قدر إظافي من السلع باستقرار الأسعار المحلية إلا أن ذلك يمكن الرد عليه ببساطة بان عدم مشروعية الدخل الذي تجري عمليات تبييض الأموال عليه ، يمثل قوة شرائية غير ناتجة عن نشاط اقتصادي حقيقي، مما يؤدي إلى أثار سلبية على الأسعار المحلية ويساهم في حدوث ضغوط تضخمية تهدد مستقبل التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
إن بعض الإيجابيات التي تتحقق من استخدام الأموال المبيضة لا يمكن إن يبرر أو يتعادل مع فداحة الآثار السلبية الناتجة عنها على الأقل من وجهة نظر تخصيص الموارد الاقتصادية بشكل أمثل .
ولظاهرة غسيل الأموال مخاطر وآثار ضارة بالمناحي الاقتصادية والسياسية والاجتماعية باعتبارها من الظواهر المقلقة لعالم في الآونة الأخيرة، وسوف توضح بعض هذه المخاطر فيما يلي:
المطلب الأول : المخاطر الاقتصادية لتبييض الأموال .
تعرضت اتفاقية فيينا لعام 1988 في مقدمتها للأضرار التي يمكن أن تلحق بالأسس الاقتصادية والمؤسسات التجارية والمالية نتيجة الأرباح والثروات الطائلة التي يدرها الاتجار غير المشروع وسنتعرض لهذه المخاطر الاقتصادية في خمس فقرات كما سيأتي :الفقرة الأولى : انخفاض الدخل القومي:
يعرف الدخل القومي لبلد ما بأنه ” مجموع الفوائد التي يحصل عليها أصحاب عناصر الإنتاج من المواطنين مقابل استخدام هذه العناصر في إنتاج السلع والخدمات سواء داخل البلد أو خارجه خلال فترة معينة من الزمن عادة سنة أما الناتج القومي فهو ” مجموع السلع والخدمات النهائية التي أنتجت باستخدام عناصر الإنتاج الوطنية خلال فترة معينة من الزمن عادة سنة .
من المعروف أن القائمين على تخطيط وإدارة النظامين المالي والمصرفي في الدولة يعتمدون على مقدار السيولة المتوفرة لدى البنوك في رسم السياسة المالية والائتمانية والأموال القذرة تتحرك في سبيل تطهيرها من دولة إلى أخرى بمبالغ كبيرة وبشكل فجائي ، فتنقص من مقدار السيولة في الدولة المحول منها لتزيد من السيولة فجأة من الدولة المحمولة إليها الأمر الذي ترتب عنه نزيف في الاقتصاد القومي لمصلحة الاقتصاديات الأجنبية الخارجية ، إذ يحول المال الذي تم الحصول عليه بطريق غير مشروع ، مما يمثل اقتطاعا من جانب هام من الدخل القومي الحقيقي المشروع الذي اكتسبه المجتمع وأفراده تم يستمر هذا الجزء ليعود نظيفا وفي ذلك حرمان للبلاد من العوائد الإيجابية التي كان من الممكن الحصول عليها عند استثمارها متمثلا في القيمة المضافة للدخل القومي كما أنه غالبا لا يتم دفع الضرائب عنه الأمر الذي يعني حرمان خزانة الدولة من موارد مالية كان يمكن الاستفادة منها. وقد تلجا الدولة في سبيل تعويض نقص الدخل القومي الناتج عن عمليات غسيل الأموال إلى الزيادة في معدلات الضرائب أو فرض ضرائب جديدة من أجل تغطية الفجوة بين الموارد المتاحة واحتياجات الاستثمار القومي بعد تهريب الأموال إلى الخارج وهو ما يعني زيادة الأعباء على أصحاب المداخيل المشروعة في المجتمع الشيء الذي يؤدي إلى تعطيل تنفيذ السياسات المالية العامة عن طريق التهرب من الضرائب مما ينعكس سلبا على ميزان المالية العامة وبالتالي على موارد الحكومة المتاحة لمقابلة التزامها وعلى أدائها الاقتصادي والاجتماعي .
وقد أثبتت إحدى الدراسات التي أعدت بالولايات المتحدة أن غسيل الأموال يؤدي إلى انخفاض الإنتاجية في الاقتصاد القومي بنسبة 27 % في المتوسط حيث ينمو القطاع الاقتصادي غير الرسمي بمعدل أسرع من معدل نمو اقتصاديات القطاع الرسمي . هذا يعني مسؤولية الدخول غير المشروع والدخول المرتبطة بعمليات تبييض الأموال عن هذا الانخفاض .
هكذا تؤدي عمليات غسيل الأموال إلى هروب الأموال إلى الخارج وخسارة الإنتاج لأحد أهم عناصر وهو الرأسمال مما يعيق إنتاج السلع والخدمات فينعكس بشكل سلبي على الدخل القومي بالانخفاض.
الفقرة الثانية : انخفاض معدل الادخار .
يعتبر تبييض الأموال دربا من دروب الفساد المالي والاقتصادي ، لذلك فإن تأثيره على انخفاض معدل الادخار بدرجة ملموسة في الكثير من الدول النامية التي يمكن وصفها بالدول الرخوة كما أسماها الاقتصادي ميردال Myradal التي تشيع فيها، الرشاوي والتهرب الضريبي وانخفاض كفاءة الأجهزة الإدارية وفسادها وقد أوضح ميردال بصفة عامة ان الفساد يؤثر سلبا على معدل الادخار بشكل ملحوظ ، وأعرب عن أسفه لتجاهل كتب ومقالات التنمية والتخلف الاقتصادي لهذا العنصر الهام .
إن انخفاض معدل الادخار ينتج عن تبييض الأموال بسبب هروب رأس المال إلى الخارج عندما تقترب به التحويلات المصرفية بين البنوك المحلية والبنوك الخارجية، وفي مثل هذه الحالة تعجز المدخرات المحلية عن الوفاء باحتياجات الاستثمار ويتسع نطاق الفجوة التمويلية حيث يتم إيداع المدخرات في البنوك الخارجية دون أن توجه إلى قنوات الاستثمار داخل البلاد .
وفي حالة اللجوء إلى تبييض الأموال عن طريق شراء أصول ذات قيمة كالذهب والتحف الفنية، وبعض السلع تتجه الأموال إلى طريق الاستهلاك ، ومن ثم يقل القدر الموجه إلى الادخار المحلي، مما يعني أن هناك علاقة عكسية بين تبييض الأموال والادخار المحلي ، إذ في الغالب ما تلجأ الدول في هذه الحالة إلى تعريض النقص في احتياجات الاستثمار الإجمالي عن طريق تدفق الموارد الأجنبية، حيث تغذو مشكلة المديونية الخارجية عبئا تقيلا على كاهل الاقتصاد القومي؛ الشيء الذي يؤثر على مركز الدولة أمام الهيئات الدولية المانحة للمساعدات والقروض، ذلك أن انتشار الفساد السياسي والإداري وما يصحبه من تهريب للأموال بقصد الغسل، دفع صندوق النقد الدولي إلى إعلان رغبته في تغيير سياسته الاقتراضية للدول النامية بحجة أنها لم تستفد من عمليات الاقتراض على نحو كامل بسبب انتشار الفساد .
الفقرة الثالثة : ارتفاع معدل التضخم .
لا تخلوا عمليات تبييض الأموال من تدفق نقدي في تيار الاستهلاك سواء في حالة التبييض عبر البنوك أو القنوات المصرفية أو عن طريق السلع وغيرها، وهذا يعني الضغط على المعروض السلعي من خلال القوة الشرائية لفئات يرتفع لديها الميل الحدي للاستهلاك، وذات نمط استهلاكي يتصف بعدم الرشد أو العشوائية ، ولا تقيم وزنا للمنفعة الجدية للنقود ولا تقارن بينها وبين المنفعة الحدية للسلع والخدمات المعروضة في الأسواق ، وبذلك تساهم عملية تبييض الأموال في زيادة المستوى العام للأسعار أو حدوث تضخم من جانب الطلب الكلي في المجتمع مصحوبا بالتدهور القوة الشرائية للنقود ونظرا لأن عملية تبييض الأموال وما ترتبط بها من حركة الأموال عبر البنوك المتعددة وهي على مستوى العالم فإنها تؤذي أو تساهم بشكل ملحوظ في التوسع في السيولة الدولية ومن ثم يمكن أن تنتج عنها ضغوط تضخمية .
الفقرة الرابعة : تدهور قيمة العملة الوطنية وتشويه صورة الأسواق المالية
تؤثر عملية تبييض الأموال تأثيرا سلبيا على قيمة العملة الوطنية نظرا لارتباط الوثيق بين هذه العملة وتهريب الأموال إلى الخارج، وما يعنيه ذلك من زيارة الطلب على العملة الأجنبية بهدف تهريبها إلى الخارج بقصد الإيداع في البنوك أو بغرض الاستثمار وهو ما يؤدي إلى تدبدب سعر الصرف وإلى عدم استقرار الأسواق المالية كما يقلل من ثقة المتعاملين فيها، وحرمان الدولة المحور منها المال من الاستفادة منه، ولا شك أن النتيجة الحتمية لذلك هي انخفاض قيمة العملة الوطنية مقابل ارتفاع العملات الأجنبية .
بعبارة أخرى نتيجة لاعتماد عمليات الغسل على النقد الأجنبي لسهولة تحريكه من دولة إلى أخرى يزداد الطلب على العملات الأجنبية التي يساء استخدامها مما ينعكس سلبا على قيمة العملة الوطنية ويؤدي إلى عجز في ميزان المدفوعات وحدوث أزمة في سيولة النقد الأجنبي مما يهدد احتياطات الدولة لدى البنك المركزي من العملات الأجنبية المدخرة .
إذا كان هذا هو التأثير الذي تمارسه عملية تبييض الأموال على العملة الوطنية فماذا عن تأثير ما على الأسواق المالية؟
لا تخلو الأسواق المالية هي الأخرى من أضرار نتيجة لهذه العملية، ذلك أن تعرض أسواق المال وبورصة الأوراق المالية لأزمات قد تؤدي إلى انهيارها ، عن طريق الأموال غير المشروعة التي يجري تبييضها من خلال المصاريف وغيرها من المؤسسات المالية والتي تمثل عائقا أمام تنفيذ السياسات الرامية إلى تحرير الأسواق المالية من أجل اجتذاب الاستثمارات المشروعة وبالتالي نشوة صورة تلك الأسواق .
الفقرة الخامسة : تشويه المنافسة وإفساد مناخ الاستثمار.
تؤدي عملية التبييض إلى تشويه المنافسة داخل القطاع المالي: وتبقى بصورة مصطنعة على نشاط بعض المؤسسات المالية الضعيفة التي تتأثر بإغراءات المبيضين والمنظمات المافياوية لتكون النتيجة تحويل هذه المؤسسات إلى محل لتبييض الأموال وتقوم بمنافسة المؤسسات المالية الأخرى بطريقة غير مشروعة، حيث إن الشركات التي يتم تأسيسها بأموال قدرة مغسولة تكون قادرة على عرض سلعها وخدماتها باسعار أقل من الشركات المنافسة وهو ما يؤدي إلى فقدان استثمارات هذه الأخيرة، ويمكن غاسلي الأموال غير المشروعة في النهاية من التحكم في الأسواق بلا منافس لتحقيق مصالحهم كمثال واضح على ذلك شركة المنتجات الغذائية السعودية في المملكة العربية السعودية تبيع علبة المكرونة ” وفرة” بسعر 22 ريالا وتكلفته الخاصة الرئيسة -وهي القمح والتي تمثل 60% من إجمالي التكلفة- قدرها 22 ريالا للجوال ( فسعر البيع مدعوم من قبل المملكة في حين أن إحدى الشركات في دبي تبيع في المملكة مكرونة مماثلة وبنفس الوزن سعر 12 ريالا رغم أن تكلفه القمح لديها قدرها 45 ريالا تقريبا للجوال .
كما أن عدم مشروعية الدخل الذي تجري عليه عملية التبييض بمثل قوة شرائية غير ناتجة عن نشاط اقتصادي حقيقي وهذا ما من شانه إفساد مناخ الاستثمار داته ذلك أن غاسلو الأموال لا يهتمون بالجدوى الاقتصادية لأي استثمار يقدمون عليه باعتبار أن اهتمامهم ينصب على إيجاد الغطاء عبر عمليات التوظيف التي تسمح بشرعنة هذه الأموال، الأمر الذي يفسد مناخ الاستثمار حيث إن إدخال المال غير المشروع إلى الدورة المالية يؤدي حتما إلى إخفاء مصدر هذه الأموال وشرعنتها كما يضح بكميات كبيرة من النقود في الدورة النقدية والمالية بصورة عشوائية وغير مدروسة الأمر الذي ينعكس سلبا على كبار رجال الأعمال المستثمرين من جهة، وعلى النمو الاقتصادي من جهة أخرى.
لا يقف تأثير هذه الجريمة على ما سبق ذكره بل الأكثر من ذلك قد يؤدي إلى انهيار البورصات التي تستقبل الأموال الناتجة عن الجرائم الاقتصادية حيث يكون اللجوء إلى شراء الأوراق المالية من البورصة ليس بهدف الاستثمار ولكن من اجل إتمام مرحلة معينة من مراحل غسيل الأموال ثم يتم بيع الأوراق المالية بشكل مفاجئ مما يؤدي إلى حدوث انخفاض حاد في أسعار الأوراق المالية بشكل عام في البورصة، ومن ثم انهيارها بشكل مأساوي كذلك يؤدي تنامي هذا النوع من الجرائم إلى زيادة نفقات الأمن والدفاع على حساب بقية القطاعات ولا سيما الاجتماعية منها فعمليات تحقيق الأمن العام تنقسم إلى عدة مجالات أكثرها أهمية الأمن الاقتصادي والأمن الاجتماعي حيث سلامة المرافق الاقتصادية ومكافحة التهرب الضريبي والجمركي وحماية المال العام والمرافق الأخرى. وتشير البيانات المتاحة إلى أن نفقات الأمن والدفاع تستحوذ على ما نسبته 27,4 % من إجمالي الاتفاق الجاري في الدول العربية لعام 2000
هذا على مستوى تأثير جريمة تبييض الأموال على المستوى الاقتصادي فمادا عن تأثيرها على المستوى الاجتماعي؟
المطلب الثاني : المخاطر الاجتماعية بجريمة تبييض الأموال.
تؤثر عملية تبييض الأموال على المجتمع من ناحية ارتباطها بالجرائم الاجتماعية والسياسية فهي تمثل نوعا من الآمان بالنسبة للحاصلين على مداخيل غير مشروعة مثل تلك الناتجة عن تجارة المخدرات والناتجة عن تهريب الأموال والتهرب الضريبي وغيرها.
ولا يخفي على أحد أن لتبييض الأموال مخاطر اجتماعية ومن بين هذه المخاطر ما يلي :
الفقرة الأولى : البطالة
لعمليات غسيل الأموال علاقة وثيقة بانتشار البطالة في المجتمع حيث إن تهريب الأموال إلى الخارج عبر القنوات المصرفية وغيرها وغسلها يؤدي إلى نقل جزء من الدخل القومي إلى الدول الأخرى، ومن ثم تعجز الدول التي هرب منها الرأسمال عن الإنفاق على الاستثمارات اللازمة لتوفير فرص العمل للمواطنين. ومن ثم تواجه خطر البطالة في ظل الزيادة السنوية في أعداد الخريجين من المدارس والجامعات ، فضلا عن الباحثين عن العمل من غير المتعلمين ، الأمر الذي يؤدي إلى تفاقم مشكلة البطالة لذلك لا يمكن الفصل بين عمليات تبييض الأموال ومعدلات البطالة سواء في الدول المتقدمة أو النامية ، وإن اختلفت أنواع وأساليب البطالة بين هاتين المجموعتين من البلدان.
وتشير الدراسات والتقديرات الاقتصادية إلى أن خلق فرصة العمل الواحدة يحتاج إلى استثمارات كبيرة ناتجة عن تعبئة المدخرات المحلية وتبلغ هده الكتلة حاليا 250 دولار أمريكيا في الولايات المتحدة الأمريكية؛ والاستثمار لكل عامل في اليابان يبلغ ثلاثة أمثال الاستثمار الأميركي، وضعف مثيلة في أوربا .
وتجدر الإشارة إلى أن جانبا هاما من الأموال التي يجري تبييضها في الخارج، إنما هي مداخيل غير مشروعة ناتجة عن الفساد الإداري والسياسي وما يرتبط بذلك من تشرب قدر كبير من أموال القروض الخارجية والمنح والتبرعات والتسهيلات الأجنبية التي تتحملها خزانة الدولة والشعب كله ، في صورة ضرائب إضافية مباشرة وغير مباشرة وهذا يعني عدم اتجاه الأموال المنهوبة إلى القنوات الطبيعية لإنفاقها بشكل مباشر ، فلا يتيح للحكومة التغلب على مشكلة البطالة .
ومن هنا لا يمكن القول ببعض الآراء التي تذهب إلى أن عودة الأموال بعد إجراء عملية التبييض إلى الوطن الأصلي بشكل مشروع يمكن أن يساهم في علاج مشكلة البطالة ذلك أن نمط الإنفاق للأموال غير المشروعة لا يمكن أن يتساوى مع نمط الأموال المشروعة حيث يتصف النمط الأول بكونه في الغالب نمطا شيطانيا يتجه إلى المضاربة في العقارات والمضاربة في الأموال والأوراق المالية ، من أجل تحقيق الربح السريع، وليس الاستثمار الإنتاجي الذي يعطي الاقتصاد الوطني قيمة إنتاجية مضافة والتي تساهم بشكل فعال في خلق فرص عمل جديدة للمواطنين وتخفف من حدة البطالة كما أنه حتى اتجاه النمط الأول إلى الاستثمار فهو سرعان ما يتوقف عدد تحقق الغاية المرجوة منه في إخفاء أو تمويه المصدر غير المشروع للأموال .
وتوضح الدراسات أن معدلات البطالة مرتفعة في الدول التي يرتفع فيها حجم عمليات تبييض الأموال باستثناء اليابان، وتتراوح المعدلات بين 12,6% في فرنسا و 6,1% في أمريكا، أما الدول التي ينخفض فيها حجم تبييض الأموال فتتراوح معدلات البطالة فيها بين 9,6% في الدانمارك و 4,8% في النرويج .
الفقرة الثالثة : تدني مستوى المعيشة :
تؤثر عمليات تبييض الأموال في توزيع الدخل على أفراد المجتمع بشكل سيء وزيادة أعباء الفقراء واتساع الفجوة بينهم وبين الأغنياء ، وهو ما يعني وجود آثار اجتماعية سلبية لتوزيع الدخل ، ومن ثم وجود علاقة عكسية بين تبييض الأموال، واختلال الهيكل الاجتماعي ومشكلة الفقر وتدني مستوى المعيشة.
للغالبية العظمى من المواطنين في المجتمع ، وذلك أن الثمرة التي يجنيها بعض أصحاب المداخيل غير المشروعة، بنجاحهم في تهريب الأموال وتبييضها واستخدامها وانعكاس ذلك على تصرفاتهم الاستهلاكية ومستوى مداخلهم ومراكزهم الاجتماعية تؤثر سلبا على القيم الاجتماعية الإيجابية ، ذلك ان تسرب الأموال غير المشروعة إلى المجتمع يقلب ميزان البناء الاجتماعي في البلاد بصعود المجرمين إلى هرم المجتمع في الوقت الذي يتراجع فيه مركز المكافحين إلى أسفل القائمة، إذ أصبح المال هو معيار القيمة للأفراد في المجتمع بصرف النظر عن مصدره الأمر الذي يؤدي إلى اهتزاز القيم الاجتماعية المستقرة في المجتمع الذي ينعم بالسلام الاجتماعي، كما تؤدي عمليات غسيل الأموال إلى انهدام الروابط بين أفراد المجتمع فاستمرار ممارسة الأنشطة غير المشروعة التي تقتضي مجهودا وبقاء عائداتها الضخمة في مأمن عن المصادرة واستغلالها في أنشطة أخرى، يؤدي إلى العزوف عن القيام بالأنشطة المشروعة وبخاصة من جانب الشباب؛ وهو ما يؤدي إلى تفشي ظاهرة الأنانية وتصبح مصلحة الوطن الانتماء إليه في الدرجة الثانية .
الفقرة الثالثة : الحيلولة دون تبوء الكفاءات مجالات العمل – المناصب –
إن تبييض الأموال وما ينتج عنه من وجود أشخاص يمتلكون رؤوس أموال ضخمة غير مشروعة ، يؤدي إلى سيطرة هذه الأقلية على المراكز الاقتصادية والسياسية، ويمنعون بالتالي أصحاب الكفاءات من الوصول إلى المراكز العليا، إما خوفا من كشف حقيقة مصدر أموالهم غير المشروعة وإما خوفا من تهديد مركزهم الذي وصلوا إليه بفضل تلك الأموال غير المشروعة . كما تساهم عمليات غسيل الأموال إلى شيوع ظاهرة تمدي القانون وروح التمرد لدى الشباب والاستهانة بالسلطة الشرعية وعدم الرغبة في التمسك بالأنظمة والقوانين المعمول بها نتيجة عدم التوازن الاقتصادي والاجتماعي .
الفقرة الرابعة : استغلال اليد العاملة المتدنية الأجر .
لقد أوضح النائب السويسري جان زعلر في كتابه ” سويسرا تحت الشبهات” -خاصة وان سويسرا تعد مركزا عالميا يستقطب الأموال المبيضة من جميع أنحاء العالم- كيفية استثمار الأموال القذرة من قبل الشركات الرأسمالية العالمية وكيف تقوم تحت شعار إنشاء المشاريع الجديدة في دول العالم الثالث، باستغلال اليد العاملة المتدينة الأجر لتصنيع معدات وأدوات وبضائع كي تبيعها فيما بعد بأسعار منافسة للطبقات الغنية والمتوسطة محققة بذلك أرباحا طائلة مضافة إليها الأموال المبيضة من أجل تمويه مصدرها . هذا على المستوى الاجتماعي فماذا عن تأثيرها على المستوى السياسي ؟
المطلب الثالث المخاطر السياسية لجريمة تبييض الأموال :
تؤدي عمليات تبييض الأموال إلى العديد من المخاطر السياسية التي تؤثر بشكل سلبي على كيان الدول واستقرارها ومن هذه المخاطر نذكر :
الفقرة الأولى : السيطرة على النظام السياسي للدولة .
إن الثروات والمداخيل غير المشروعة والنجاح في إخفائها وتمويه مصدرها وإضفاء المشروعية عليها في إطار عمليات تبييض الأموال ، تؤدي إلى جعل أصحاب هذه الثروات والمداخيل مصدر قوة وسطوة وسيطرة على النظام السياسي وإلى احتمالات فرض قوانينهم وإرادتهم على المجتمع ككل، حيث يجد محترفو غسل الأموال مرتعا خصبا لهم في وسائل الإعلام المختلفة حيت يمولونها في شكل إعلانات أو يشترونها، ثم يسيرونها في الحالتين على هواهم لخدمة مصالحهم حتى لو تعارضت مع مصالح المجتمع، مع ما لهذه الوسائل من تأثير بالغ على الشعوب بعبارة أخرى إن هذه الأموال ترتبط ارتباطا وثيقا بالفساد والخروج على القانون، إذ تسعى دائما إلى اختراق أجهزة الدولة السياسية والمالية والإدارية والنفاذ إلى مراكز اتخاذ القرار في الدولة والتأثير عليها مستغلة ما يوفره المال من نفوذ وسطوة وهو ما يضعف هذه الأجهزة ويجعل من الصعب عليها ان تؤدي دورها في مكافحتها ، كما تساهم الرشوة التي يدفعها غاسلو الأموال في تدمير النسيج القيمي والأخلاق في المجتمعات حيث تقدم الرشوة لرجال الامن والسياسة لكي يغضوا أبصارهم عن أنشطة جماعات الإجرام غير المشروعة كما هو حاصل الآن في روسيا ودول أوروبا الشرقية وإيطاليا وعدد من الدول الأفريقية .
فماذا عن تأثيرها على هياكل بعض الحكومات ؟
الفقرة الثانية : اختراق وإفساد هياكل بعض الحكومات
تؤثر هذه الأموال أيضا على البنيان السياسي ونوابه حيث تمول الدعايات الانتخابية الهادفة إلى تولي الوظائف النيابية، مما يدفع بهم إلى المجالس النيابية التي عملها الأساسي وضع التشريعات ومراقبة أعمال الحكومة ليؤثروا في أعمال تلك المجالس لخدمة مصالحهم وليكتسبوا حصانة برلمانية فيكونوا في مأمن من المساءلة الجنائية، وتعد قضية القروض في مصر الدليل الواضح على ذلك بصيغة أخرى، إن عملية غسيل الأموال تؤدي إلى تشويه المناخ الديمقراطي في المجتمع، حيث يصعد أصحاب المداخيل غير المشروعة إلى البرلمان والمجالس الشعبية واتحادات التجارة والصناعة وتعلوا نجومهم إعلاميا في جميع وسائل الإعلام ولكنهم يعمدون إلى استثمار جميع ما سبق للتغطية على عمليات غسيل الأموال والاستمرار في مزاولة الأنشطة الإجرامية والاستفادة بما ينتج عنها من ثمار مالية .
وقد توسعت ظاهرة تبييض الأموال على الصعيد الدولي لتصبح خطرا عالماي يهدد سلامة واستقرار النظم السياسية وهياكل الحكومات، مما يتطلب تدابير مضادة من جانب المجتمع ككل. ومن أجل حرمان المجرمين وإيراداتهم غير المشروعة من أية ملذات آمنة .
الفقرة الثالثة : تمويل النزاعات الدينية والعرقية.
أشارت الأمم المتحدة في دورتها التي انعقدت في 8 حزيران 1998 إلى أن الأرباح الناتجة عن تبييض الأموال تمول بعض أعنف النزاعات العرقية والدينية حيث يقوم المبيضون ببت الخلافات الداخلية وإشعال الفتن الدينية والعرقية يعمدون إلى تمويلها بالسلاح والمساعدات وغيرها بواسطة الأموال القذرة.
فقد أثبتت الدراسات والأبحاث التي أجريت وجود علاقة بين غسيل الأموال وحركات الإرهاب والتطرف والعنف الداخلي فضلا عن نشاط المافيا العالمية ودورها في حدوث الانقلابات السياسية في بعض الدول مما قد يزعزع أمن واستقرار المجتمعات .
ومن أجل إلقاء الضوء على حجم خطورة الأموال الناتجة عن عمليات التبييض وقدرتها على السيطرة على القطاعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية نعرض الجدول التالي :
تقديم حجم عمليات الأموال في بعض دول العالم
عام 1991 بالمليون دولار
محتوى الجدول:
الــدولــة حجم عمليات تبييض الأموال
1-استراليا 6195.2
2-النمسا 2558.2
3-بلجيكا 6614.9
4-كندا 23294.1
5-الدانمارك 2909.0
6-فنلندا 1584.5
7-فرنسا 21587.1
8 -ألمانيا 24559.3
9-الهند 22103.7
10-إيرلندا 538.5
11- اليابان 24208.5
12-إيطاليا 51773.2
13-النرويج 1710.1
14-إسبانيا 6325.5
15-السويد 6316.1
16-سويسرا 2227.2
17-بريطانيا 14203.5
18-أمريكا 28274.3
19-روسيا 8369.5
عرضنا في هذا المبحث جانبا من الآثار الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المرتبطة بعمليات غسيل الأموال وبينا خطورة هذا النوع من الجرائم الاقتصادية على مسيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية في العالم، وخاصة دول العالم الثالث العربية منها، فقد حذر الخبراء من انتكاسة أسواق الأسهم الخليجية أو انفجار فقاعة الأسعار إذا ما واصلت ارتفاعاتها بهذه الصورة مشيرين إلى أن الانهيار قد يبدأ من إحدى البورصات قبل أن يعم الأسواق الأخرى ، كما حذروا من لجوء كثير من المستثمرين إلى إبرام الصفقات باتباع سياسة ” القطيع ” بانجرافهم خلف مستثمرين آخرين مما يعرفهم لنتائج غير مرضية . كما أعرب رئيس وحدة التحليل المالي والمعلومات بسوق البحرين للأوراق المالية “عبد الحميد عبدالفقار ” عن قلقه من النشاط المحموم في أسواق الأسهم الخليجية وارتفاع معدلات التداول فيها بشكل لا فت جدا مشيرا إلى انه لا يستبعد أن يؤدي هذا النشاط غير المألوف إلى فقاعة أو انتكاسة مستشهدا بأمثلة عالمية وقال بحسب ما نشر في جريدة “الشرق الأوسط اللندنية” الاثنين 9/01/2006 إنه من الصعب التكهن بمثل هذه التوقعات إلا أن احتمالات حدوثها واردة وهناك علامات يمكن أن تشير إلى ذلك ومنها ارتفاع معدلات تمويل البنوك للأفراد لشراء أسهم ومن جانبه قال الأمين العام “لمركز البحرين للدرسات والبحوث” الدكتور “البستكي” إن سوق الأوراق المالية يمثل نبض الاقتصاد والمعبر عن صحته وعافيته إلا أن هذه الآلية عادة ما تكون معطلة أولا تشتغل بطاقتها القصوى في العديد من الدول النامية لأسباب بنيوية وهيكلية وتنظيمية.
وعلى صعيد متصل كشف مسح أجرته “رويترز” أن اقتصاديات دول الخليج العربي ستتباطأ قليلا هذا العام لكن إيرادات النقط القياسية ستحافظ على ازدهار المنطقة في 2006 بالرغم من مخاطر التضخم ونمو مبالغ فيه لبعض أسواق الأموال.
_______________________________
– د.نادر عبد العزيز الشافي، تبييض الأموال، مرجع سابق، ص 187.
– صبحي تادرس قريعة ، د عبدالرحمان يسري احمد مقدمة في الاقتصاد دار الجامعات المصرية 1971 ص 331.
– د.عبدالرؤوف قطيش النقود والتشريع المصرفي في لبنان 1994 ص 205.
-غسيل الأموال أثار وضوابطه ومكافحته المؤسسة العربية لضمان الاستثمار سلسلة الخلاصات المذكرة الكويت الإصدار 5/عام 2005 ص 4.
– عملية غسيل الأموال وانعكاساتها على المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية ؟، سيد شوربجي عبدالمولى ،المجلة العربية للدراسات الأمنية والتدريب / الرياض العدد 28 أكتوبر 1999 ص 327.
– Myrdal G : challenge of the world poverty allen lane and penguin press (1970) p, p 208-252
– د.نادر عبدالعزيز شافي، تبييض الأموال ، مرجع سابق ، ص 193.
– محمد عبدالفقار ” تناقص الادخار المحلي في مصر خلال فترة( 81/82 – 93/94 ) بحث مقدم إلى المؤتمر العلمي السنوي الأول لكلية التجارة جامعة الزقازيق فرع بنها مايو 1995 ص 21-23.
– أحمد عبدالخالق ” الأثار الاجتماعية والاقتصادية لغسيل الأموال ” مجلة البحوث القانونية والاقتصادية لغسيل الأموال ص 25.
– فؤاد مرسي : الرأسمالية تجدد نفسها عالم المعرفة الكويت 1990 ص 216.
– د.رمزي زكي ، التاريخ التقدي للتخلف عالم المعرفة الكويت 1987 ص 257 – 299.
– د.أشرف توفيق شمس الدين ، تجريم غسيل الأموال في التشريعات المقارنة ، مرجع سابق ، ص 6.
– د. عبد الفتاح سليمان :” مكافحة غسيل الأموال ” مرجع سابق ص 19
– د.طارق سروره :” الجريمة المنظمة ” ( دراسة مقارنة) دار النهضة العربية (2000) ص 123.
– United nations, Economical and social council , vienna , 16-3 –1998.
– ناذر عبدالعزيز الشافي، تبييض الأموال ، مرجع سابق ، ص 195.
– د.عبدالفتاح سليمان ” مكافحة غسيل الأموال ” ص 20 مرجع سابق .
-التقرير الاقتصادي العربي الموحد صندوق النقد العربي وآخرون أبو ظبي أيلول 2001 ملحق 317 ص 330. – محمد الجوهري وآخرون :” الاقتصاد والمجتمع في العالم الثالث : دار المعرفة 1998 ص 144.
– لسترتاور والصراع على القيمة، ترجمة أحمد فؤاد بليغ، عالم المعرفة الكويت 1995 ص 250
– مساعد وزير العدل المصري لقضايا التشريع ” عماد النجار” ووزير الاقتصاد السابق ” حامد السايح” ” جريدة النهار” بتاريخ 8/4/1999.
– د.نادر عبدالعزيز شافي ، تبييض الأموال ، مرجع سابق ص 202.
– د. فؤاد مرسي : الرأسمالية تحدد نفسها ، عالم المعرفة 1990 ص 216.
-د.نادر عبدالعزيز شافي ، مرجع سابق ، ص 203.
– غسيل الأموال : أبو ظبي ، جامعة الدول العربية ، مركز زايد لتنسيق والمتابعة آذار 2002 ص 14-19.
– عمليات غسيل الأموال وطرق مكافحتها الموسم الثقافي الثالث ، اكاديمية محمد محي الدين عوض ، نايف للعلوم الامنية الرياض 1997 ص14.
– د.نادر عبدالعزيز الشافي ، تبييض الأموال ، مرجع سابق ، ص 204.
-الدكتور حسين توفيق إبراهيم ، ” الجريمة المنظمة :” دراسة في مفهومها وأنماطها وآثارها وسبل مواجهتها ، مجلة الفكر الشرطي المجلد 9 العدد 4 يناير ( 2001 ) ص 160
الدكتور محمد كبيش، ” السياسة الجنائية في مواجهة غسيل الأموال ” (2001) رقم 2 ص 18
الدكتور سيد احمد عبدالخالق، الأثار الإقتصادية والاجتماعية لغسيل الأمول مرجع سابق ص 7
– عمليات غسيل الأموال وطرق مكافحتها ” محمد محي الدين عوض ص 14 مرجع سابق .
– د عبدالفتاح سليمان ، مكافحة غسيل الأموال ، مرجع سابق ، ص 21.
– غسيل الأموال مركز زايد للتنسيق والمتابعة جامعة الدول العربية مرجع سابق ص 14.
– United nations . Economic and social counocial sep 1992.
– د .نادر عبدالعزيز شافي ، تبييض الأموال، مرجع سابق ، ص 206.
– غسيل الأموال أثارة وضوابطه ومكافحته المؤسسة العربية لضما ن الاستثمار، سلسلة الخلاصات المركزة ، الكويت،الإصدار 5/ عام 2000 ص 4و5.
-Vito tanzi , the underground Economy , Finance ans development Dec 1983p 13.- عبدالحارتي ، غسيل الأموال خطر يهدد اقتصاديات العالم، الاقتصاد السعودي مجلس الشوري يدرس ألية محاربتها ، 2003 العدد 10944 جدة
اعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً