مفهوم المدد في الدستور العراقي والآثار المترتبة عنها في ضوء قرارات المحكمة الاتحادية العليا
القاضي سالم روضان الموسوي
مفهوم المدد في الدستور العراقي والآثار المترتبة عنها
في ضوء قرارات المحكمة الاتحادية العليا
وردت في دستور العراقي لعام 2005 النافذ عدة مدد وتصنف هذه إلى عدة أصناف منها مدة ابتداء العمل وأخرى بانتهاء نشاط دستوري معين كما ورد تاريخ واحد ومحدد في نص المادة 140 من الدستور وأخرى تواريخ انجاز نشاط معين قرره الدستور، وهذه المدد لها أثار دستورية وقانونية مهمة وأثار بعضها الجدل بين الأوساط السياسية والقانونية والاجتماعية مما دعا بعض المؤسسات الدستورية والعناوين السياسية في الدولة العراقية إلى اللجوء إلى المحكمة الاتحادية العليا لتفسير النصوص المتعلقة بها وبيان آلية العمل بها لعدم وضوح النص الدستوري لطالب الاستفسار او للبحث عن آلية التطبيق لتلك النصوص الدستورية وكان للمحكمة الاتحادية العليا القول الفصل في ذلك والذي أسهم كثيراً بترسيخ مبادئ العمل الديمقراطي وحفظ الحقوق الدستورية للشعب كما أسهم في رسم شكل الدولة ونظام الحكم فيها بما ويتفق مع أهداف وغايات دستور العراق لعام 2005 وللوقوف على أنواع وأصناف هذه المدد و سأعرض لها وعلى وفق الآتي :
أولا : التاريخ الوارد في المادة 140 من الدستور العراقي
يعتبر التاريخ الوارد في المادة 140 تاريخ لانجاز، ويقصد به التاريخ الذي وضعه الدستور للانتهاء من الأعمال المكلفة بها السلطة التنفيذية وعلى وفق ما جاء في نص المادة اعلاه التي جاء فيها الآتي (أولا : تتولى السلطة التنفيذية اتخاذ الخطوات اللازمة لاستكمال تنفيذ متطلبات المادة (٥٨) من قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية، بكل فقراتها. ثانياً : المسؤولية الملقاة على السلطة التنفيذية في الحكومة الانتقالية، والمنصوص عليها في المادة (5٨) من قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية، تمتد وتستمر الى السلطة التنفيذية المنتخبة بموجب هذا الدستور، على أن تنجز كاملةً (التطبيع، الإحصاء، وتنتهي باستفتاء في كركوك والمناطق الأخرى المتنازع عليها، لتحديد إرادة مواطنيها) في مدةٍ أقصاها الحادي والثلاثون من شهر كانون الأول سنة ألفين وسبعة) وفي هذا النص الزم الدستور السلطة التنفيذية بانجاز عملية التطبيع والإحصاء في المناطق المتنازع عليها ومنها محافظة كركوك بمدة لا تتجاوز 30/12/2007 إلا أن السلطة التنفيذية ولغاية الان لم تنجز هذه المهمة الدستورية رغم وجود تاريخ دستوري محدد لها وأثارت هذه المادة الجدل الواسع حول بقائها واعتبراها نافذة وبين انتهاء العمل بها لانتهاء التاريخ المحدد فيها وتجاوزه منذ سنوات وكان للمحكمة الاتحادية القول الفصل فيها والذي عالج هذه المشكلة الدستورية بروح وطنية حيادية خالصة وبقراءة دستورية استلهمت روح الدستور ومراميه وغاياته التي وضع من اجلها وعلى وفق ما جاء في قراراها العدد 71/ اتحادية/2019 في 28/7/2019 واعتمدت المحكمة الاتحادية العليا في تفسيرها للنص الدستوري الوارد في المادة (140) استنباط غاية الدستور عند وضع وكتابة تلك المادة إذ أشارت إلى أن الهدف من وضع وتشريع المادة (140) من الدستور مطلوباً وواجب التنفيذ من الكافة كما أكدت على ان التاريخ المحدد في تنفيذ المادة (140) من الدستور قد وضع لأمور تنظيمية لغرض حث المعنيين والمكلفين بتنفيذها وهم أعضاء السلطة التنفيذية (الحكومة) على انجازها وان هذا التاريخ لا يمس جوهر تلك المادة أو يعارض تحقيق هدفها ولغرض الوقوف على رأي الفقه الدستوري تجاه التاريخ الذي تحدده المواد الدستورية اعرض للموضوع على وفق الآتي:
1 هل انتهاء التاريخ المحدد دون الانجاز يعتبر إلغاء للمادة الدستورية؟
ان المادة الدستورية عندما يتم وضعها والمصادقة عليها بواسطة طرق التصويت على الدساتير وفي الدستور العراقي تم الاستفتاء عليه من الشعب العراقي وبنسبة النجاح المحدد له فانها تكون فعالة وسارية المفعول ولا يجوز تعديلها اوالغائها الا بموجب الاليات الدستورية المنصوص عليها في الدستور ذاته، وفي دستور العراق قد حدد الية تعديله على وفق احكام المادة (126) والمادة (142) وفي كلا النصين لم نجد أي اشارة الى اعتبار النص الدستوري ملغى او معطل او معدل اذا لم ينجز في التاريخ المحدد له وإنما حصرت التعديل والإلغاء على وفق ما ورد في تلك المادتين حصراً وهي ذات الطريقة التي تم فيها المصادقة على الدستور وهذا المبدأ قد اقره فقه القانون الدستوري اذ جرى العمل به في البلاد ذات الدساتير المكتوبة مثل أمريكا وفرنسا والتأكيد على قاعدة عدم جواز تعديل الدستور إلا على وفق الإجراءات المنصوص عليها في الدستور ذاته وهو يتوافق مع ما نادى به جان جاك روسو صاحب نظرية العقد الاجتماعي وعلى وفق ما ذكره الدكتور محمد علي آل ياسين في كتابه الموسوم (القانون الدستوري والنظم السياسية ـ مطبعة المعارف في بغداد طبعة اولى عام 1964 ـ ص56) ، ومن ذلك القول فان عدم انجاز المهام الدستورية المكلفة بها السلطة التنفيذية لا يعد إلغاء للنص الدستوري الوارد في المادة (140) من الدستور .
2 هل يجوز للسلطة التنفيذية إلغاء النص الدستوري ؟
كما أسلفت فان إلغاء النص الدستوري لا يجوز إلغائه او تعديله الا على وفق الآليات الدستورية ، لكن احيانا تقوم السلطة التنفيذية بتجاهل بعض النصوص الدستورية ولا تعمل بموجبها وتهملها سواء جميع النصوص الدستورية او بعضها والمثال الشائع في الفقه الدستوري الثورات والانقلابات التي تحدث في البلدان فان القوى المسيطرة الجديدة تعلق العمل بالدساتير سواء بإعلان صريح او بعدم العمل به فان الفقه الدستوري يرى بان الدستور يبقى نافذاً إلا إذا تم إلغائه بشكل صريح لان عدم العمل بها لا يعد إلغائها حتى وان كان للقوى المسيطرة على زمام الأمور في البلاد وعادة تكون السلطة التنفيذية كان لها رأي وعقيدة تجاه أحكام الدستور تختلف عن تلك الواردة فيه فان الرأي الراجح للفقه الدستوري يرى الدستور يبقى نافذ ومن الممكن العمل به في أي وقت لأنه لم يلغى بموجب دستور جديد او نص دستوري لاحق وأشار إلى ذلك الدكتور محمد علي آل ياسين في كتابه المشار إليه آنفاً في الصفحة 31، لذلك فان عدم قيام السلطة التنفيذية بواجبها الذي التزمت به بموجب الدستور لا يمكن ان يكون سببا لتعطيل النص الدستوري ، وإنما من الممكن أن يكون سبباً لخضوع تلك السلطة إلى المساءلة الدستورية والقانونية وعلى مجلس النواب بوصفه صاحب السلطة الرقابية على أداء السلطة التنفيذية ان يحاسبها على خرقها للدستور، لا ان يكافئها على ذلك ويعتبر ذلك انجاز لها.
3 الآثار المنسحبة على بقية النصوص الدستورية؟
إذا ما أخذنا بالرأي الذي يقول بان انتهاء تاريخ المهلة والمدة المحددة في الدستور بمثابة تعطيل للمادة الدستورية واعتبرها منقضية ومنتهية الصلاحية فان ذلك الرأي سينعكس على نص المادة (142) من الدستور التي منحت مجلس النواب مهلة ومدة لا تتجاوز الاربعة أشهر لانجاز التعديلات الدستورية اعتبارا من تاريخ انعقاد اول جلسة في عام 2006 الا ان ذلك لم يحصل لغاية الآن وتنسحب الآثار محل البحث عليها ومن الممكن ان نعتبرها ايضاً منتهية الصلاحية على نفس المبررات التي ساقها أصحاب هذا الرأي وبالنتيجة سوف لن نتمكن من تعديل أي نص دستوري مستقبلاً على خلاف نص المادة (126) من الدستور. لذلك فان عدم انجاز المهمة الدستورية من قبل السلطة التنفيذية لا يعني تعطيل أو إلغاء النص الدستوري لان تلك المدة هي للأمور التنظيمية ولا تمس جوهر المبدأ الدستوري الوارد في المادة (140) من الدستور
ثانياً : مدد ابتداء المهام الدستورية:
جاء في دستور عام 2005 النافذ تحديد مدة ابتداء لبعض الأعمال والمهام التي تقوم بها المؤسسات الدستورية وسأعرض لبعضها على وفق الآتي :
1 ابتداء دورة مجلس النواب النيابية: حيث جاء في الفقرة (أولاً) من المادة (56) من الدستور تحديد مدة دورة مجلس النواب بأربع سنوات تبدأ من تاريخ أول جلسة لها وعلى وفق النص الآتي (تكون مدة الدورة الانتخابية لمجلس النواب أربع سنواتٍ تقويمية، تبدأ بأول جلسةٍ له، وتنتهي بنهاية السنة الرابعة) إلا أن أعضاء ورئاسة مجلس النواب اختلفوا في تحديد تاريخ الجلسة الأولى التي تكون أساس الاحتساب لمدة الدورة الانتخابية وتم طلب التفسير الدستوري من المحكمة الاتحادية العليا حول هذا الموضوع وكانت لقرار المحكمة القول الفصل في ذلك إذ جاء في قراراها التفسيري الملزم للكافة العدد 29/اتحادية/2009 في 13/5/2009 حيث اعتبر تاريخ انعقاد جلسة مجلس النواب الأولى بعد توجيه الدعوة إليه للانعقاد بعد المصادقة على الانتخابات هو تاريخ ابتداء مدة الدورة البرلمانية أو النيابية والتي مدتها أربع سنوات تقويمية والمشار إليها في الفقرة (أولاً) من المادة (56) من الدستور
2 ابتدأ مدة انتخاب مجلس النواب الجديد: وأشارت الفقرة (ثانياً) من المادة (56) من الدستور إلى أن وجوب إجراء انتخاب مجلس النواب الجديد خلال خمسة وأربعون يوم اعتباراً من تاريخ انتهاء عمل مجلس النواب السابق وعلى وفق النص الآتي (يجري انتخاب مجلس النواب الجديد قبل خمسةٍ وأربعين يوماً من تاريخ انتهاء الدورة الانتخابية السابقة) وكان لمجلس النواب رأي باتجاه إصدار قانون يتم فيه تأجيل موعد الانتخابات النيابية وبخلاف النصوص الدستورية، فكان للمحكمة الاتحادية أن تصدت له بموجب قراراها التفسيري العدد 8/اتحادية/2018 في 21/1/2018 الذي حال دون وقوع ذلك الخرق الدستوري.
3 ابتداء المدة الدستورية لرئيس الجمهورية لدعوة مجلس النواب المنتخب للانعقاد: أشارت المادة (54) من الدستور إلى صلاحية رئيس الجمهورية بدعوة مجلس النواب المنتخب خلال خمسة عشر يوم وتبدأ هذه المدة اعتباراً من تاريخ المصادقة على النتائج الانتخابية من المحكمة الاتحادية العليا.
4 ابتداء المدة الممنوحة لرئيس الجمهورية في المصادقة على الاتفاقيات الدولية وعلى القوانين: حيث في نص الفقرة (ثانياً) من المادة (72) من الدستور البالغة خمسة عشر يوم اعتباراً من تاريخ تسلم رئاسة الجمهورية مشروع الاتفاقية التي وافق عليها مجلس النواب، كذلك المصادقة على مشاريع القوانين التي يسنها مجلس النواب خلال خمسة عشر يوم وتحسب هذه المدة اعتباراً من تاريخ تسلم رئاسة الجمهورية لها وعلى وفق نص الفقرة (ثالثاً) من المادة (72) من الدستور ومن الآثار المهمة التي تترتب على ابتداء هذه المدة ان المعاهدة أو القانون يعتبر مصادق عليهما عند انتهائها
ثالثاً : المدد التي تمثل الحظر الزمني:
يقصد بالحظر الزمني هو القيد المانع من تعديل بعض مواد الدستور خلال مدة محددة في صلبه يهدف من خلالها إلى حماية أحكام الدستور من التعديل خلال هذه المدة أما لغرض ترسيخ مبادئ معينة أو لأنها ضرورة تتطلبها المرحلة الانتقالية بعد نفاذ الدستور وجاء في دستور العراق لعام 2005 حيث لا يجوز تعديل المبادئ الأساسية الواردة في الباب الأول من الدستور والواردة في المواد (1ـ13) الا بعد انقضاء دورتين انتخابيتين متعاقبتين بمعنى أن تمضي مدة لا تقل عن ثمان سنوات على نفاذ الدستور وعلى وفق النص الواردة في الفقرة (ثانياً) من المادة (126) من الدستور التي جاء فيها الاتي (لا يجوز تعديل المبادئ الأساسية الواردة في الباب الأول، والحقوق والحريات الواردة في الباب الثاني من الدستور، إلا بعد دورتين انتخابيتين متعاقبتين، وبناءاً على موافقة ثلثي أعضاء مجلس النواب عليه، وموافقة الشعب بالاستفتاء العام، ومصادقة رئيس الجمهورية خلال سبعة أيام) والغاية من هذه الحظر الزمني هو حماية هذه المبادئ التي تعد أساس قيام دولة القانون وبيان شكل الدولة العراقية ونظام الحكم فيها ومنح الدستور هذه المدة الزمنية الفرصة لبيان الآثار التي تظهر من خلال التطبيق في العمل السياسي ومنح الفرصة لقراءة نصوص الدستور بشكل متأني ومعرفة مواطن الخلل في طبيعة هذه المبادئ ومن ثم التوصية بمعالجتها ويذكر ان الدستور قد أوصى بتشكيل لجنة لتعديل أحكامه خلال مدة لا تتجاوز أربعة أشهر من تاريخ انعقاد أول جلسة لأول دورة برلمانية الا انه استثنى المبادئ الأساسية الواردة في المادة (126) من الدستور ويبقى الحظر الزمني عليها قائم لدورتين انتخابيتين وعزز هذا الاتجاه ما جاء في قرار المحكمة الاتحادية العليا العدد 54/اتحادية/2017 في 21/5/2017
رابعاً : مدد الطعن بقرارات مجلس النواب المتعلق بصحة العضوية:
ان مدة الطعن في قرار مجلس النواب حول صحة العضوية والوارد في المادة (52) من الدستور فإنها تعتبر من مدد سقوط الحق في الاعتراض إذا لم يتقدم بها المعترض إلى مجلس النواب خلال تلك المدة والبالغة ثلاثون يوماً من تاريخ صدور قرار المجلس برفض الطلب وعلى وفق ما جاء في الفقرة (ثانياً) من المادة أعلاه التي جاء فيها الآتي (يجوز الطعن في قرار المجلس أمام المحكمة الاتحادية العليا، خلال ثلاثين يوماً من تاريخ صدوره) وكان للمحكمة الاتحادية القول الفصل في ذلك في قرارات عديدة آخرها قرارها العدد 217/اتحادية/2018 وموحداتها 15/اتحادية/2019 في 20/5/2019
خامساً : تاريخ النفاذ
ورد في الدستور العراقي لعام 2005 تحديد لتاريخ نفاذ أحكامه والعمل به حيث حدد تاريخ نشره في الجريدة الرسمية (الوقائع العراقية) هو تاريخ نفاذه على وفق أحكام المادة (144) من الدستور التي جاء فيها الآتي (يُعدُ هذا الدستور نافذاً، بعد موافقة الشعب عليه بالاستفتاء العام، ونشره في الجريدة الرسمية، وتشكيل الحكومة بموجبه) ويذكر انه نشر في الوقائع العراقية العدد 4012 في 28/12/2005
ومن خلال ما تقدم فان المدة الدستورية وان كانت حتمية لا يجوز الاتفاق على خلافها إلا أنها لا يمكن أن تكون معدلة أو معطلة للنص الدستوري إذا لم تلتزم السلطة المكلفة بتنفيذها وإنما يعتبر ذلك خرق دستوري تخضع للمساءلة عنه تلك السلطة الخارقة للدستور والمارقة لأحكامه وكان للمحكمة الاتحادية العليا الدور البارز والكبير في صيانة الحقوق الوارد في تلك المواد الدستورية التي تضمن مدد معينة وتاريخ محدد وكانت العين الحارسة على الدستور من أي خرق ومن أي سلطة كانت وهذا ما لمسناه طيلة عملها في مجال القضاء الدستوري وهذا عهدنا بها لان من يتولى القضاء فيها هم من أفاضل القضاة علماً وفقهاً وأدبا.
القاضي
سالم روضان الموسوي
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً