“المدونات القضائية” كيف تدعم منظومة الاستثمار؟
عبدالعزيز محمد العبيد
باحث ومستشار قانوني
في ظل تحول المملكة إلى الاستثمار كورقة رابحة لتنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على النفط واستيعاب النمو المتسارع لأعداد البطالة وتحفيز الصناعة وتشجيع المنتج الوطني رغم تحديات التحول ومعتركات التنمية حتى يتم تذليل العقبات في طريق الهدف الاستراتيجي الأبرز الذي يخلق من المملكة قوة استثمارية رائدة ومحور ربط للقارات الثلاث؛ يصبح تطوير البيئة القضائية من أهم المهمات التي تتسق مع التسارع المذهل للمستجدات القضائية في بيئتي المال والأعمال، وفي أنشطة توليد الوظائف وقطاعات الطاقة والصناعة والشراكات النوعية الجاذبة للاستثمارات الأجنبية التي تضمِّن عقودها عادةً شرط التحكيم لتتحاشى اللجوء إلى المحاكم فيما قد يندلع من منازعات، بسبب طول مدد التقاضي وغموض أو تباين أحكامه في بعض الأحوال، وهو ما يفتح شهية المنافسين لسحب البساط من تحتها إذ يعد عنصر السرعة ومرونة التعامل مع الأطراف المختلفة في السوق مبدأً مستقراً في نجاح المشاريع واستدامة الأعمال التجارية التي تنظر إلى أي تمدد في مواعيد الجلسات القضائية إزاء حل القضايا العالقة كنوعٍ من التهديدات المؤثرة على مركز التاجر وتعاملاته التجارية بل واستدامة أنشطته.
ومن هنا تنبع أهمية “المدونات القضائية” امتداداً لدور القضاء في تطوير منتجاته وتحديث مراجعاتها القياسية لتحقيق عناصر الجذب والشفافية والاستقرار في البيئة الاستثمارية إذ يعد (تعزيز وتمكين الأنظمة واللوائح) من أهم أدوات التمكين التي رسمتها منظومة التجارة والاستثمار، ويعتبر التدوين القضائي واحداً من الأساليب التي تطور نتاج الاجتهاد القضائي وتسهم في تأصيل التطبيق الصحيح لنصوص الأنظمة – الجديدة خاصة- وقواعد الفقه وتقريب الاجتهادات المتباينة في الوقائع المتماثلة، علاوةً على تسارع وتيرة العمل القضائي وحجم القضايا والمطالبات الحقوقية وكثرة المستجدات في مجتمع الأعمال، مما يتطلب إثراء الموضوعات القضائية وتحليلها بأسلوب علمي معاصر يجمع بين عمق المفهوم وحداثة الطرح، وتتأكد الحاجة إلى تطوير المنتجات القضائية وتنقيحها نظير الزخم الهائل لتوارد النوازل والمستجدات الفقهية والقانونية وانعكاس ذلك على الوقائع القضائية المنظورة وارتباطها المباشر باستراتيجيات الشركات والمستثمرين وحقوق والتزامات المساهمين ومصالحهم ومآلات مطالبهم؛ ما يستدعي تحري الدقة قدر الإمكان في تصويب التكييفات ومطابقة النصوص لمناطاتها وضبط السوابق والأحكام المتشابهة.
وحتى يتحقق استقرار الأحكام في القضايا التي تغدو الحاجة ملحة لشفافيتها، ولكي تسهم “المدونات القضائية” في تعزيز الموقع الاستثماري للمملكة وتحسين جاذبية الفرص التجارية وعدالتها، ولتتمكن البيئة الاستثمارية من تقديم المفاهيم القضائية والتحليل الفقهي للأنظمة والقوانين والاتفاقات النافذة إلى المستثمرين والشركاء الدوليين بصورة مثلى، فإنه من المهم أن تراعي المؤسسات العدلية في إصداراتها عند إعداد “المدونات القضائية” ما يلي:
أولاً: إثراء المعرفة المتخصصة من خلال (التسبيب) فهو زبدة الحكم القضائي وخلاصته، ولأهميته فقد تناوله المنظم تنصيصاً وتضميناً في عدد من الأنظمة ومن ذلك المادة 163 من نظام المرافعات الشرعية حيث نصت على أنه (بعد قفل باب المرافعة والانتهاء إلى الحكم في القضية يجب تدوين الحكم في ضبط المرافعة مسبوقاً بالأسباب التي بني عليها ثم يوقع عليه القاضي أو القضاة الذين اشتركوا في نظر القضية)، ويساعد فهم التسبيب على فهم غايات الحكم وآثاره فالحكم المبني على القرائن يختلف عن المبني على الإقرار، كما أنه يحفز الأذهان على مناقشة ما توصل إليه الفقهاء والقضاة في السوابق القضائية والتسبيبات الفقهية والقواعد والاستنباطات والنوازل والمستجدات والمبادئ المقررة من المحكمة العليا، فتدوين التسبيب القضائي سواءً كان على شكل إصدارات خاصة بالتسبيبات، أو مضمّناً في الأحكام القضائية المنشورة، يعكس واقع القضاء المرن والمتسع لاحتواء النوازل والمستجدات والمتغيرات الزمانية والمكانية.
ثانياً: الترجيح والاختيار بين اجتهادات القضاة في السوابق القضائية: لتؤدي المدونات دورها في انسجام نَسَق الأحكام قدر المستطاع ولتلافي تضارب الاجتهادات في الواقعة الواحدة المنسكبة على المحل الواحد والمستند الواحد، وإذا كان هناك شيءٌ من الاختلاف فمن المهم إيضاح الفوارق وأسبابها، ويحسن كذلك أن يراعى العمل بقواعد الترجيح واختيارات المحققين من الفقهاء وشراح القوانين والتطبيقات الدولية في فهمها للأعراف والأنظمة التجارية الحديثة التي استُنبطت -أثناء إعدادها- من أمثل التجارب والممارسات الدولية.
ثالثاً: مراعاة ما استقرت عليه المسألة المدوّنة، فإذا كان المدوَّن حكماً قضائياً فمن المهم أن يراعى كونه قطعياً ومستكملاً لإجراءات وشروط صدوره بصيغته النهائية، وإذا كان متضمناً واقعة مستجدة فيراعى ما استقر عليه الرأي الفقهي المعمول به وما قررته المجامع الفقهية المعتبرة في الحالات التي تقتضي ذلك؛ حتى يؤدي التدوين دوره الفعلي في تقديم مفاهيم القضاء المعاصر وقواعده الفقهية والقانونية لمجتمع الأعمال بصورة متَّسقة وقابلة للتطبيق.
رابعاً: مراعاة (التنوع والشمول) في منتجات التدوين، أما (التنوع) فمن أجل أن يؤدي التدوين غايته العلمية والقضائية بإثراء المعرفة وخدمة الاجتهادات الفقهية المعاصرة وتقديم المفاهيم القضائية لتحليل النصوص النظامية ومفردات الأنظمة التجارية، ولنقل التجربة القضائية في المملكة بأصالة مرتكزاتها ومرجعيتها للشريعة الإسلامية إلى العالم الذي يتطلع لفهم المدرسة القضائية السعودية ولذا فإن من الجميل أن يراعي التدوينُ القضائي التنوّعَ في إصدارات التدوين، من ذلك (تدوين السوابق القضائية، تدوين مسائل الإجراءات القضائية، تدوين المسائل الفقهية والأحكام القضائية التي تتكرر أمثالها ونظائرها، تدوين النوازل والمستجدات، تدوين التسبيب القضائي، تدوين التفسير القضائي) وهكذا ينبغي أن يتسع أفق التدوين ليستوعب زخم العمل القضائي وحجم الثراء الفقهي والعلمي الذي أسهم به المتمرسون من القضاة المتميزين خلال عملهم القضائي عدةَ عقود مضت، وأما (الشمول) فليشمل سائر أبواب القضاء وموضوعاته كالقضايا والأحكام التجارية والجنائية والإدارية وقضاء الأحوال الشخصية وأعمال القاضي الولائية كالنظر في الأوقاف والوصايا، وغير ذلك.
عموماً، تظل بيئتنا الاستثمارية بحاجة إلى تنويع الحلول والمقاربات التي تحقق مبدأ الشفافية والاستقرار في الأنظمة والقرارات والأقضية والأحكام والسوابق والمستجدات وكل ما تمليه واجبات القضاء ومسؤولياته في تعزيز جاذبة البيئة الاستثمارية التي لطالما كنت مؤمناً ومتفائلاً بوصولها إلى الريادة العالمية خلال سنواتٍ قليلة قادمة مع الإصرار المستمر على تطويع التحديات ومع النمو المتصاعد لمبادرات المنظومتين العدلية والاستثمارية التي تتخلق شيئاً فشيئاً كجزر متناثرة تملأ مناخنا التجاري الرحب الذي لم يزل حقلاً خصيباً وفضاءً غنياً وجاذباً متى ما وجد المبادرات المثمرة والضمانات الفعَّالة.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً