مدى ثقافة الناقل الجوي حول مسؤوليته التعاقدية
سعيد بن ناصر الحريسن*
كثيرة هي العقود التي نجريها ضمن تعاملاتنا اليومية، متنوعة من بين عقود رضائية وعقود شكلية، ومن عقود ملزمة لجانب واحد وأخرى ملزمة للجانبين، تصطبغ الخدمية منها بصبغة الإذعان (عقود الإذعان كما أسماها السنهوري واشتهرت هذه التسمية من بعده) والمسماة في الفقه القانوني الفرنسي بعقود الانضمام.
ولعل اصطباغها بصبغة الإذعان، أكسب مقدمها تجاهل المسؤولية، عند فوات الخدمة المتعاقد عليها.
ويلوح لنا هذا التجاهل بشكل تعاملي من خلال موظفيه، ولا أعتقد أننا نتحدث بمبالغة عندما نقول إن كثيرا من موظفي القطاعات الخدمية – سواء عامة أو خاصة – لا يعلمون مدى مسؤولية قطاعاتهم في حال عدم تنفيذ الخدمة المتعاقد عليها للمستفيد، فتغيب عنهم تلك الثقافة القانونية التي هي صميم كل عقد (المسؤولية).
بالفعل ليس حديثنا مبالغة ولكن واقع أمثالته كثيرة، لعل أقرب مثال له هذه الأيام (عقود النقل الجوي) التي يرى كثير من الباحثين أنها عقود رضائية تغلب عليها روح الإذعان، فعرفوا عقد النقل الجوي بأنه عقد بين طرفين الناقل والمستفيد سواء أكان راكبا أو طالبا لخدمة الشحن، على أن يتم نقله من جهة إلى أخرى تحدد في العقد، بشروط وقيمة وضعة مسبقا ولا يمكن التفاوض عليها.
ومع وجود هذه الصبغة في العقد نجد في المقابل غيابا حقيقيا لثقافة المسؤولية لدى الناقل الجوي، التي هي أساس المعاهدات الدولية للطيران المدني التي أكدتها أخيرا معاهدة مونتريال عام 1999م، وجاء التأكيد عليها في نظام الطيران المدني السعودي الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/ 44 وتأريخ 1426/7/18ه، حيث أفرد لها الفصل الأول من الباب العاشر، حيث قررت المادة (134) بتحديد طبيعة مسؤولية الناقل الجوي وأنها مسؤولية عقدية.
تلك المسؤولية التي تقضي بضرورة التعويض عن الضرر متى ما توافرت أركان قيامه، ولكن ما نلاحظه أن كل مقدم خدمة – عموما – يتجاهل تلك المسؤولية متى وقعت على عاتقه، لعلمه أنه الطرف القوي في هذا العقد.
أليس التأخير أو التقديم في مواعيد الرحلات أيه الناقل الجوي وعدم إعلام الركاب بذلك، وتفويت الفرص عليهم، سواء في القيام بأعمال رسمية أو تجارية، حتى وإن كانت مناسبات اجتماعية للراكب أنشأ عقد السفر لأجلها، أليس ذلك كله من أهم جوانب قيام المسؤولية العقدية في جانب الناقل الجوي.
إن مجرد تحديد تأريخ ووقت معينين في عقد النقل الجوي وحضور الراكب فيهما، هو التزام من قبل الناقل بضرورة تنفيذ ذلك العقد، فإذا ما أخل بذلك على نحو يلحق الضرر بالمسافر سواء أكان الضرر مادي أو معنوي، وقعت تلك المسؤولية في جانبه، واستحق المسافر التعويض عن ذلك الضرر، إلا إذا أقام الناقل الدليل أن ذلك الإخلال في تنفيذ العقد يرجع إلى القوة القاهرة أو الخلل الفني، ونحوها.
وأرى كما يرى بعض من الباحثين أن تقديم موعد الرحلة مساوٍ لتأخيرها، إذ تقديمها من دون إخطار المسافر من المؤكد أنه سيوقع الضرر في جانبه، فعندما يتهيأ على موعد معين للذهاب إلى المطار ويفاجأ بمقولة (الرحلة قدمت) وهذه أظنها من جديد صناعة النقل الجوي!! لماذا يحرص موظف الحجز على إبلاغك بآخر موعد لشراء التذاكر وتنهال رسائل الجوال لتخبرك بذلك، ولكن بعد شرائها، وقدمت الرحلة، أو أجلت (أين ذهب ذلك الحرص على الإخطار والإعلان) هذا.. وفي ظل ميكنة حجوزات الطيران، وبلوغ وسائل التواصل مبلغا تقدميا، إلا أننا لا نجد لها أثر في تقديم أو تأخير مواعيد الرحلات.
وقد أعطى المنظم السعودي الحق للمتضرر من عقود النقل الجوي التظلم أمام ديوان المظالم وحدد لذلك مددا لقبول دعوى التعويض حيث جاء في (150) من ذات النظام (يجب على الشخص المتضرر رفع دعوى التعويض على مشغل الطائرة المسئول أو إعلانه بها خلال ستة أشهر من يوم وقوع الحادث الذي سبب الضرر وإلا انحصر حقه في التعويض في الجزء الباقي من التعويض المسؤول عنه المشغل بعد الوفاء بجميع المطالبات التي قدمت في خلال هذه المدة).
بحق لقد استبشر الناس بشركات الطيران الاقتصادي عند دخولها للسوق، بقية (ظاهرة التأخر والإلغاء للرحلات) هي السمة الرئيسية، وبات المسافر في ترقب (هل سيقال له في المطار، الرحلة ألغيت قدمت تأخرت…).
إنما تتعرض له تلك العقود من تقديم أو تأخير أو إلغاء، في ظل غياب (مسؤولية الناقل الجوي) وعدم الحرص على معالجة أي ضرر ناتج عن تقصيره، باتت ظاهرة، وقضية يعاني منها الكثير. وتحتاج إلى معالجة ورقابة من الجهات المسئولة، وتأتي في مقدمتها هيئة الطيران المدني، وجمعية حماية المستهلك التي لا بد أن تجعل ذلك من ضمن اهتمامتها، فنحن أمام خدمة مقدمة للجمهور، ويسعى مقدمها (شركات الطيران) من وراء ذلك إلى الربح. وضرورة تثقيف المستهلك حول ذلك، وأحسن بما قرره المنظم السعودي من خلال تنظيم جمعية حماية المستهلك، وهو امتداد حماية المستهلك في جانب تقديم الخدمات، وهذا ما أوضحته المادة (الأولى) من التنظيم، والتي جاء فيها عرض للتعريف بالمصطلحات الواردة في التنظيم، حيث نص على (الخدمة: كل عمل تقدمه أي جهة للمستهلك، سواء كان بأجر أو دون أجر) فالذي يتبادر إلى ذهن المستهلك للوهلة الأولى أن الجمعية لا تعالج إلا حالات الاستغلال والغش التجاري الواقعة في السلع المادية، فما أجمل أن يدرج (معنى حماية المستهلك في جانب عقود الخدمات) ضمن المبادئ التثقيفية للمستهلك، خاصة ونحن نعيش الآن مرحلة طفرة خدماتية، في جميع المجالات، ومنها عقود النقل عامة.
*مستشار قانوني
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً