الاجتهاد القضائي
الاجتهاد la jurisprudence في اصطلاح فقهاء الشريعة الإسلامية هو بذل الجهد والوسع في استنباط الأحكام من أدلتها بالنظر المؤدي إليها.
وقد يقوم بالاجتهاد فقيه من الفقهاء فيكون اجتهاداً فقهياً، أو يقوم به القاضي عند النظر في النزاع المعروض عليه فيكون اجتهاداً قضائياً.
وفي مجال القانون يمكن القول، قياساً على تعريف الفقهاء للاجتهاد، إن الاجتهاد القضائي هو بذل القاضي جهده في استنباط الأحكام القانونية من مصادرها الرسمية. على أن مصطلح الاجتهاد القضائي يقصد به غالباً الرأي الذي يتوصل إليه القاضي في مسألة قانونية والذي يقضي به. وعلى هذا يقال اجتهادات المحاكم بمعنى الآراء التي أخذت بها هذه المحاكم في أحكامها.
ويطلق على الاجتهاد القضائي أيضاً اسم القضاء. وكلمة القضاء تفيد في أحد معانيها الحكم الصادر عن القاضي في قضية ما. والقاضي ليس في حاجة إلى أن يجتهد في كل حكم يصدره، بل إن عمله يقتصر في كثير من القضايا على مجرد تطبيق نصوص التشريع الصريحة الواضحة. ولذا فإن كلمة القضاء لايقصد بها هنا جميع أحكام المحاكم وإنما الأحكام التي تتضمن اجتهادات قضائية فقط.
ضرورة الاجتهاد القضائي
للاجتهاد القضائي في مجال القانون دور بالغ الأهمية والأثر لا يكاد يقل في أهميته عن دور التشريع نفسه. فالاجتهاد القضائي هو الذي يضفي على القانون طابعه العملي الحي، وهو الذي يحدد مداه وأبعاده.
وقد نادى بعض مفكري الثورة الفرنسية ورجالها بإلغاء كل دور للاجتهاد القضائي وبضرورة قصر عمل القاضي، في جميع الأحوال، على تطبيق أحكام التشريع تطبيقاً آلياً. فقال مونتسكيو «إن قضاة الوطن ليسوا سوى الفم الذي ينطق بكلمات التشريع…»، وقال روبسبيير «إن كلمة الاجتهاد القضائي يجب أن تمحى من لغتنا…» ولكن هذا الاتجاه الذي جاء ردَّ فعل على تدخل القضاء الفرنسي قبل الثورة في أمور التشريع لم يكتب له النجاح، وما كان ليكتب له أن ينجح. فلا يمكن بحال من الأحوال تجريد القاضي من سلطة الاجتهاد وإلا تعطل عمله وتعذّر عليه الفصل في الخصومات في بعض الأحيان.
والقاضي قد يجتهد إما من خلال النصوص التشريعية التي يلتزم تطبيقها أو من خارج هذه النصوص. فعند تطبيق النصوص التشريعية يضطر القاضي إلى أن يجتهد في حالتين أساسيتين: غموض النص أو إبهامه من جهة، والنقص في النص أو سكوته عن بعض المسائل من جهة ثانية.
وغموض النص يعني أن النص ليس له معنى واضح محدد وإنما هو يحتمل أكثر من تأويل. وعلى القاضي في هذه الحالة أن يجتهد في فهم النص وتحديد معناه، وهو حين يفعل ذلك إنما يحدد الحكم الذي يتضمنه هذا النص. ولذا قد تختلف الاجتهادات القضائية تبعاً لاختلاف القضاة في فهم النصوص وتفسيرها.
وأما النقص في النص فيقع عندما يتعرض المشرع لبعض المسائل مباشرة ويتناولها بالتنظيم، ويغفل في الوقت نفسه مسائل أخرى فلا يبين أحكامها. ويحاول القاضي في هذه الحالة أن يستخلص من نصوص التشريع أو التشريعات النافذة الحلول المناسبة للمسائل التي سكت عنها المشرع مستعيناً في ذلك بطرائق التفسير المتاحة له، ولاسيما طرائق الاستنتاج المختلفة.
ولا يقف القاضي في اجتهاده عند تفسير النصوص التشريعية محدداً معانيها أو مستخلصاً منها أحكاماً جديدة، بل قد يتخذ من التفسير أحياناً وسيلة لتغيير معاني هذه النصوص وتعديل أحكامها. فنصوص التشريع تمثل غالباً آخر ما وصل إليه في الوقت الذي وضعت فيه، ولكن هذه النصوص تبقى ثابتة، ويستمر المجتمع في تطوره فتنشأ فيه ظروف وأوضاع مادية واقتصادية واجتماعية جديدة، بل قد تتغير فيه المبادئ والمثل، فتصبح النصوص التشريعية، إذا لم تعدل، متخلفة عن مواكبة تطور المجتمع وتلبية حاجاته. ويحرص القضاء في مثل هذه الحالة على التوفيق بين نصوص التشريع الثابتة وأوضاع المجتمع المتغيرة، فيتجاوز، كما ترى المدرسة التاريخية في التفسير، إرادة المشرع الذي وضع تلك النصوص، ويعطي النصوص معاني جديدة تختلف عن معانيها الأصلية، وأحكاماً مغايرة لما أراده واضعوها كي تصبح أكثر ملاءمة لأوضاع المجتمع الذي تطبق فيه.
وإذا لم يجد القاضي في نصوص التشريع قاعدة يقضي بموجبها كان لابد له من البحث عن القاعدة خارج هذه النصوص، وذلك باللجوء إلى مصادر القانون الرسمية الأخرى.
ومن أهم هذه المصادر العرف. والقاضي لا يصنع العرف طبعاً كما أنه – خلافاً لما يراه بعضهم – ليس هو الذي يكسبه قوته الإلزامية، لأن العرف ملزم بذاته قبل أن يطبقه القضاء، ولكن للقاضي مع ذلك دوراً مهماً في الأخذ بالعرف لأنه هو الذي يتحقق من توافر شروطه ويثبت وجوده.
ومن المصادر الرسمية التي أحال عليها كل من القانونين المصري والسوري وبعض القوانين العربية الأخرى «مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة». وهذه المبادئ والقواعد ليست مدونة في مرجع معين أو قائمة محددة، فإذا احتاج القاضي إلى الرجوع إليها، ونادراً ما يحتاج إلى ذلك، كان عليه أن يحدد ما يراه موافقاً منها. لذا فإن إحالة القاضي على هذه المبادئ والقواعد إنما يقصد منها، كما تقول المذكرة الإيضاحية للقانون المدني المصري، «إلزام القاضي أن يجتهد رأيه حتى يقطع عليه سبيل النكول عن القضاء».
موقع الاجتهاد القضائي بين مصادر القانون
يختلف موضع الاجتهاد القضائي بين مصادر القانون باختلاف النظم القانونية. ففي النظم التي يمكن أن يضع القضاء فيها قواعد عامة وملزمة – كما كان الحال في القانون الروماني وفي القانون الفرنسي القديم في بعض الحالات وكما هو عليه حالياً في القانون الإنكليزي – يُعدُّ ما يصدر عن القضاء من قرارات أو اجتهادات من المصادر الرسمية للقانون. أما في النظم التي لا يجوز فيها للقضاء وضع قواعد عامة وملزمة، وإنما يرجع إلى اجتهاداته على سبيل الاستئناس – كما هو الحال في الفقه الإسلامي وفي القانون الفرنسي الحالي والقوانين العربية التي تأثرت به – فيعد الاجتهاد القضائي من المصادر غير الرسمية للقانون أو من المصادر التفسيرية.
ففي القانون الروماني أحدث منذ القرن الرابع قبل الميلاد منصب البريتور Préteur (أي الحاكم الشرعي) لتنظيم التقاضي في الأمور المدنية. وكان البريتور يعين لسنة واحدة ويصدر عند توليه منصبه منشوراً يبين فيه القواعد التي سيسير عليها في قبول الدعاوى والدفوع. وكان كل بريتور يستبقي من منشور سلفه القواعد التي يرى استبقاءها، ويعدل بعض القواعد الأخرى أو يضيف إليها، إلى أن نشأ من مجموع القواعد التي تكرر الأخذ بها والنص عليها ما أطلق عليه اسم «المنشور الدائم» وقد تم في أواخر القرن الثاني قبل الميلاد تجميع قواعد المنشور الدائم في قانون عرف باسم «القانون البريتوري».
ويصف الفقهاء الفرنسيون اليوم الاجتهادات القضائية التي تتضمن تعديلاً لأحكام القواعد القانونية أو تقريراً لمبادئ غير منصوص عليها بأنها «اجتهادات بريتورية» نسبة إلى ما كان يقوم به البريتور الروماني من وضع قواعد قانونية بنفسه.
وفي القانون الفرنسي القديم قبل الثورة كان للقضاء، ولاسيما المحكمة العليا في باريس التي كان يطلق عليها اسم «برلمان باريس» ويرأسها الملك، سلطة إصدار أنظمة أو لوائح تتضمن قواعد قانونية.
وفي القانون الإنكليزي يعدُّ الاجتهاد الصادر في قضية ما عن إحدى المحاكم، باستثناء بعضها، سابقة قضائية تلتزم المحكمة التي أصدرته، والمحاكم التي هي أدنى منها، السير عليه في القضايا المماثلة. وإذا صدر هذا الاجتهاد عن أعلى محكمة في الدولة، وهي اللجنة الاستئنافية بمجلس اللوردات، التزمت سائر المحاكم السير عليه. وكان مجلس اللوردات نفسه يتقيد أيضاً بما يصدر عنه من اجتهادات، ولكن سمح له منذ عام 1966 بالعدول عن اجتهاداته إذا دعت إلى ذلك أسباب قوية تقتضيها مصلحة العدالة.
وأما في الفقه الإسلامي فعلى الرغم مما كان للاجتهاد الفقهي والقضائي من دور كبير في إثراء هذا الفقه حتى عدّ أحد مصادره، فإنه لا يمكن عدّ الاجتهاد مصدراً رسمياً فيه. فالاجتهادات الفقهية ليست سوى آراء لأصحابها قد يؤخذ بها أو لا يؤخذ. والاجتهادات القضائية لا تتمتع بأية قوة إلزامية إلا في القضايا التي صدرت فيها، ومن الجائز للقاضي الذي صدر عنه اجتهاد ما، ولغيره من القضاة، عدم التقيد باجتهاده في القضايا المماثلة.
وفي القانون الفرنسي المعمول به اليوم، والقوانين العربية التي تأثرت به ومنها القانون السوري، لا يجوز للقاضي إصدار قواعد عامة وملزمة. كما عدّ رجال الثورة الفرنسية هذا الأمر من النتائج الحتمية لمبدأ الفصل بين السلطات. ولذا فالاجتهاد القضائي في هذه النظم، كما هو الحال في الفقه الإسلامي، ليست له قوة ملزمة إلا في القضية التي يصدر فيها.
أهمية الاجتهاد القضائي من الوجهة العملية
إذا لم تكن الاجتهادات القضائية في القانون الفرنسي والقوانين العربية التي سارت على خطاه تعد من الوجهة النظرية قواعد قانونية عامة وملزمة، فإنها في الواقع تتمتع من الوجهة العملية بقوة ملزمة تكاد لا تقل أهمية عما تتمتع به قواعد القانون الناشئة عن مصادره الرسمية. وكثير من الاجتهادات التي صدرت عن القضاء الفرنسي مثلاً منذ عشرات السنين قد استقرت في النظام القانوني الفرنسي ولاتزال تطبق حتى اليوم كأنها قواعد ملزمة مع أنها ليست قواعد قانونية. ولعل السبب الرئيس لهذه القوة التي يتمتع بها الاجتهاد القضائي من الوجهة العملية يكمن في تسلسل أنواع المحاكم من جهة، ووجود رقابة من محكمة النقض على أحكام المحاكم التي هي أدنى منها من جهة ثانية. فحين تتبنى محكمة النقض في أحكامها رأياً معيناً وتستقر عليه تتبنى بعدها سائر المحاكم هذا الرأي وتطبقه بانتظام. ولاشك في أن اجتهاد محكمة النقض ليست له، من الوجهة النظرية أية قوة إلزامية. ويمكن لأية محكمة مخالفته إذا شاءت، ولكن المحاكم التي هي أدنى من محكمة النقض تدرك أن لا فائدة من مخالفة اجتهاداتها المستقرة، لأن أحكامها ستنقض إن هي فعلت ذلك، لذا فهي تلزم نفسها غالباً تلك الاجتهادات سواء اقتنعت بها أم لم تقتنع، حتى لا تكون أحكامها عرضة للنقض. وعلى هذا تصدر عن محكمة النقض أحكام تتضمن مبادئ قانونية، يطلق عليها اسم «الأحكام المبادئ»، وهكذا ينشأ اجتهاد ثابت مستقر تطبقه جميع المحاكم كما تطبق قواعد القانون.
وليس ما يمنع محكمة النقض من تغيير اجتهادها الثابت إذا رأت حاجة إلى تغييره، ولاسيما إذا دعا إلى ذلك تغير ظروف المجتمع وأوضاعه، وعندئذ يقال: إنه حصل تحول في الاجتهاد، وينشأ اجتهاد جديد لدى محكمة النقض يغدو بعد حين اجتهادها المستقر الذي تتبعها فيه المحاكم الأخرى.
اترك تعليقاً