المفهوم القانوني لمصطلح التكنوقراطية
يطلق مصطلح التكنوقراط على النخب المثقفة الأكثر علماً وتخصصا في مجال المهام المنوطة بهم، والتكنوقراط كلمة ويعود مصطلح “التكنوقراطية”، إلى الأصل اليوناني ” تكنو” بمعنى فني أو تقني، و”قراط “بمعنى السلطة، وباعتبارها شكلاً من أشكال الحكومة، تعني حرفياً حكومة الفنيين، وبذلك يكون معنى تكنوقراط هو حكم الطبقة العلمية الفنية المتخصصة المثقفة.
ومثال على ذلك بأن يتم اختيار دكتور متخصص في العلوم السياسية يسند له منصب رئاسة الحكومة، وطبيب خبير في الطب ينال وزارة الصحة، ودكتور متخصص في الاقتصاد يتولى وزارة الاقتصاد، وآخر متخصص في التكنولوجيا والاتصالات لتولي وزارة الاتصالات وهكذا…
وبذلك تكون الحكومة التكنوقراطية: هي الحكومة المتخصصة غير الحزبية التي تتجنب الانحياز لموقف أي حزب كان، وتستخدم مثل هذه الحكومة في حالة الخلافات السياسية، وهم غالباً يكونون من غير المنتمين للأحزاب.
ويعود تاريخ استخدام هذا الاصطلاح إلى عام 1932 عندما بدأت حركة التكنوقراطية أو التقنوقراطية في الولايات المتحدة، وكان التكنوقراطيون يتكونون من المهندسين والمعماريين والاقتصاديين المشتغلين بالعلوم، ودعوا إلى قياس الظواهر الاجتماعية ثم استخلاص قوانين يمكن استخدامها للحكم على هذه الظواهر، كما دعوا إلى أن اقتصاديات النظام الاجتماعي هي من التعقيد بحيث لا يمكن أن يفهمها ويسيطر عليها رجال السياسة ويجب أن تخضع إدارة الشؤون الاقتصادية للعلماء والمهندسين، وكانت هذه الدعوة نتيجة طبيعية لتقدم العلوم والتكنولوجيا.
ويورد أحد المحللين السياسيين والمفكرين * في بحث عن “الثورة والتكنوقراطية” يتحدث مؤلفه “جان وليم لابيير” فيه عن دورالتكنوقراطية في صياغة هوية المجتمع الفرنسي عبر ثلاث جمهوريات متناوبة، وحول حكومة التكنوقراط ما يلي:
من هو التكنوقراطي؟
دعونا نحدد أولا من هو التكنوقراطي؛ التكنوقراطي هو كما يقول جان وليم لابيير ” هو الخبير المدعو الى المشاركة في صياغة القرارات التي يفيد منها في ممارسة السلطة الفعلية ،إما بتاثيره الغالب على أصحاب السلطة الشرعية، أو بالنيابة عنهم في حلوله محلهم، أو – أخيرا- باستيلائه على السطة الصريحة باسم الشرعية العقلية”.
ولننتبه إلى مفهوم ” الشرعية العقلية” التي هي من امتيازات التكنوقراطي وهي الشرط الأساس الذي يقوم عليه أي تصور لتحديث المجتمع باعتبار أن التكنوقراطي هو “عقل مُؤَسس” وليس شخصاً يحتل مركزا أو وظيفة، ويملك بحكم “عقله “شرعية دستورية وقانوية لأن يكون حاكماً. فوجود البنية العقلية المجربة والممارسة الميدانية التي تولد الخبرة كشرطين أساسيين في توصيف مهمة التكنوقراطي المعاصرة هما اللتان ترجحان كفة مسؤول عن آخر.
كما علينا أن ننتبه إلى أن التكنوقراطي يُدعى لشغل منصب ما من قبل السلطة،بمعنى أن كيانه المعنوي دائماً هو خارج السلطات، وكلمة “يُدعى”، تعني أنه يكلف بمهمة ما محددة ضمن وقت؛ ولذا لن يكون التكنوقراطي منتمياً لأي حزب أو ايديولوجية كما أنه لن يكون طامحاً باحتلال منصب دائم في الدولة لأنه وهو يشغل منصب وزير مثلاً فتوزيره جاء بناء على كفاءته وليس على منصبه الحزبي أو العشائري أو القومي؛ فالتكنوقراطي شريحة اجتماعية اكتسبت الخبرة والكفاءة عن طريق العمل والعقل والانتظام والشرعية القانونية والتعليمية والخبرة الميدانية.
وتتحدث إحصائيات كثيرة أن من بين ثلاثة آلاف شخص يتخرجون من كليات الادارة لا يكون من بينهم تكنوقراط إلا بحدود 250 متخرجا، وهذا يعني أن ليس كل من تخرج من كلية متخصصة يمكنه أن يكون تكنوقراطيا. فالشهادة ليست إلا عتبة لمدخل غير مأمون العواقب إذا لم تصاحب المتخرج تجربة في الأعمال الميدانية والخبرات العملية والاجتهاد والبحث، والفشل والنجاحات.
والسلطة السياسية هي التي تدعو التكنوقراطي للقيام بمهمة ما ضمن سياقها. وبالطبع ستكون الدعوة للتكنوقراطي مفتوحة أومؤقتة، ليمارس عبرها سلطته المعرفية بالأمور التي كلف بها مرحلياً إنه الخبير الذي يوظف خبرته لصياغة قرارات تتلاءم وسياسة الدولة في هذه المرحلة وربط هذه القرارات بالمراحل السابقة لتطور ميدانه ثم فتح آفاق أخرى للمستقبل قياساً على نتائج بحوثه.
ومن هنا ونتيجة لكونه مرتبطاً بعجلة التطور يمكنه أن يحل محل القادة في شرح القرار الذي تم اتخاذه، وعليه لا يمكن لرئيس وزراء أن ينصب وزيراً للداخلية في مرحلة ما، ثم يجعله وزيرا للمالية في مرحلة لاحقة لا تفصل بينهما إلا بضعة أيام دون أن يصطحب معه في قفزته المارثونية هذه خبراء اداريين وعسكريين وماليين واصحاب شركات ناجحة بغض النظرعن إنتماءاتهم السياسية والدينية والقومية كي يكون – بهم – وزيراً للمالية، حيث إن الوزير ليس شخصاً بل فريق عمل متكامل يستثمر العقول والخبرات والكفاءات. فالتكنوقراطي رجل دولة، وخبير بعمله يوظف قدراته العقلية والمهنية من اجل إنجاح خطة واضحة المعالم.
“التكنوقراط والسلطة”
ببداية الدراسة, يقول الكاتب: “يكشف واقع العلاقات عن الدور البارز والكبير الذي بات يضطلع فيه العلماء والفنيون، لا سيما في مجال مواجهة الأزمات والمشكلات التي تفرض بتفصيلاتها على الواقع. ومن هذا المعطى الشديد الموضوعية, بات من المهم النظر إلى إعادة النظر في مجمل العلاقات السابقة، التي كانت تخضع لهيمنة العامل السياسي، حيث توزيع الأدوار صار شديد الارتباط بالتفاصيل التي تحددها، حالة التوسع الهائل والكبير لدور التكنولوجيا وتوسع إسهاماتها في المجال الاجتماعي. ولم يقف الأمر عند مستوى الحاجات المباشرة التي تفرضها العلاقات الاجتماعية، بل أن التفصيلات المرتبطة بالمفاصل الإدارية والتنظيمية التي تقوم عليها بنية وهيكلية الدولة، صارت تفصح عن هذا الجانب الذي يبرز أهمية التكنولوجيا في الحياة وبطريقة الزيادة الهندسية, حتى غدا أمر الاستناد إلى التكنولوجيا والفنيين الذين يقودونها، بمثابة الأصل الذي لا يمكن الاستغناء عنه أو حتى المس به”.
لم تعد التقانة مجرد عامل إتمام إنشاطي، قوامه المساهمة الجادة والمباشرة في ترسيخ وتحقيق معدلات النمو وتوسيع معطيات الجانب الإنتاجي، في سبيل تحقيق الطفرات النوعية على المستوى الاقتصادي, بل إن الأثر لهذا العامل صار, برأي الكاتب, ينبئ عن “الأهمية القصوى التي تفرزها مقومات التفاعل بين العوامل الاقتصادية والاجتماعية إلى الحد الذي صارت فيه دالة العلاقة تقوم على الوعي الجديد, المستمد من التطور الهائل والواسع للتقانة في صميم الواقع. إذ لم تعد مجرد أداة ووسيلة غايتها السيطرة على الطبيعة، بل تحولت إلى فاعل شديد الرسوخ في تنظيم وتحديد مجال العلاقات الأشد حضورا وأهمية”.
إن الخضوع لمؤثر النفوذ والسيطرة المالية والإدارية، لم يعد لوحده كافيا في تحديد وترسيم القرار الذي يسعى إليه مجمل المتطلعين, نحو ترصين وجودهم داخل حلقة السلطة. “فالتطورات التي فرضتها التقانة جعلت من مسألة توزيع العلاقات، تتخذ طابعا شديد الاختلاف، قوامه الاستناد إلى سلطة المعرفة بشكل متزايد، إلى الحد الذي توسعت فيه سلطة الفنيين من خبراء وعلماء وتقانيين في صنع القرار السياسي، حتى أن الصورة العامة باتت تفصح عن اللمسات الواضحة للتكنوقراط في صميم القرار الذي تصدره المؤسسة السياسية”.
لم يعد من الممكن, يتابع الكاتب, الوقوع تحت إسار الهيمنة التي تفرضها سطوة القرار السياسي لوحده, بل “إن العامل الاجتماعي يظهر بجلاء، في طريقة تقديم التكنوقراط إلى الواجهة، خصوصا وأن الأمر بات متعلقا بالتفصيلات التي تفرضها تفاصيل الحياة اليومية، حيث التقانة التي ترسخت في مجمل المضامين والعلاقات السائدة، إلى الحد الذي باتت نظرة المجتمع تتوثق حول أهمية التكنوقراط في وضع الحلول الناجحة والمبتكرة لمجمل المشكلات والعوائق التي تفرضها وقائع الحياة”.
من هنا, يزعم الكاتب, تبرز للعيان “ملامح الشرعية” التي يحظى بها التكنوقراط، في بلوغهم إلى السيطرة, وملامح النفوذ على إصدار القرار السياسي, إن كان على مستوى امتلاك الخبرات والمعارف التي تؤهلهم نحو التصدي للمزيد من الموضوعات التي تعترض حياة الناس، أم كان على صعيد ثقة الناس في الخبرات التي يمتلكها التكنوقراط, لا سيما في معالجة المزيد من المشكلات والقضايا”.
إن توسيع دور التكنوقراط, بنظر الكاتب, إنما يعود إلى زيادة المشكلات والتداخلات التي تنوء بثقلها على الواقع, حيث يكون البحث عن وضع الحلول صعبا, لا سيما في الأحوال والأوضاع المضطربة. بمعن أنه إذا كانت السلطة السياسية تدار من قبل السياسيين المحترفين، حيث المباشرة الشديدة الوضوح في صنع القرار, “فإن الواقع الفعلي يكشف عن هذا الدور الذي لا يمكن أن يؤديه سوى أصحاب الخبرة المباشرة في صميم الظاهرة, وعلى مختلف المستويات الاقتصادية منها والإدارية”.
إن السمة الخاصة التي تقوم عليها حكومة التكنوقراط، يتابع الكاتب, إنما تجعل منها قائمة على الانتداب المباشر من قبل القادة السياسيين، وعلى هذا “تبرز الكفاءة حاضرة بكل قوة في هذا الشكل من الحكم، إذ تلعب العوامل الفنية في إبراز القيادات دورا بالغ الحسم، حيث التطلع نحو الإفادة القصوى من التخصصات، وجعلها الوسيلة الأصل في الاختيار. ومن هنا تتجلى أهمية الخبرة والمهارة والإمكانات الذاتية، في استقطاب هذا العنصر أو ذاك. فيما تنحسر أهمية العوامل الأخرى، ذات التأثير الفاعل في ترسيم معالم النظام السياسي”.
ثم إن سلطة التكنوقراط لا تقوم على أحادية الفعل أو الخضوع لشكل محدد من النشاط، بقدر ما تتمظهر المزيد من أشكال المساهمة في صنع القرار, والتي تكون المشورة الفنية جزءا راسخا وأكيدا فيها, بل تكاد تكون الأصل الأهم من بينها, حيث الارتباط الوثيق بين هذه النخبة الفنية وقدرتها على تقديم المعلومات ذات الأثر المباشر في استقراء ملامح الظواهر.
من جهة أخرى, يؤكد الكاتب أنه لا يمكن إغفال الجانب الاستشرافي الذي يتمتع به التكنوقراط، خصوصا وأن مدى المساهمة السياسية لديهم تقوم على قاعدة راسخة من البيانات والمعلومات. من هنا “تكون مجالات التنفيذ وقد اتخذت مرونة عالية في وضع التقديرات ذات السمة العلمية، الخالية إلى حد ما من الجوانب الحدسية والاستغراقات العاطفية أو الحماسية، أو حتى الانتماءات الفئوية والتخندقات الأيديولوجية”.
بالتالي, فإن السمة الأصل التي تميز التكنوقراطي تقوم على حالة الاستناد إلى التخصص الدقيق في مجال معرفي محدد شديد الوضوح. وقوام الاكتساب هذا إنما يستمد من تكثيف جانب التحصيل والتعلم والخبرة. ومن هذا المعطى فإن القراءات المناطة به تكون على قدر واسع من إمكانية مواجهة المشكلة، والقدرة على وضع المعالجات الموضوعية لها.
ومع أن دور الفني يرتبط بالحقل الإنتاجي أو الإداري المباشر من دون أن يكون له الإسهام الواضح في صنع القرار، إلا أن الاستشارة تبقى بمثابة الفيصل الذي يحدد العلاقة بصنع القرار. ومن هنا “تتبدى ملامح دور الخبرات والكفاءات الموزعة في العديد من المجالات، إن كان على صعيد الهندسة أم الاقتصاد أم الاختصاصيين في مختلف الميادين، حيث التطلع الحثيث نحو الوقوف على الآراء والمقترحات والمشورة, التي يمكن أن يقدموها إلى القيادات السياسية التي تضطلع بدور صنع القرار”.
بالمقابل, فإن الدور المفصلي الذي يقوم عليه التكنوقراطي، في تصميم وتوضيب ملامح وقسمات القرار، لا يجعل منه الأداة الحاسمة والنهائية في استصدار القرار. فالأمر يبقى منوطا بالقائد السياسي على صعيد تصنيع القرار الحكومي. إلا أن “الأهمية تكمن في هذا التصميم والإعداد الذي يجهد في صياغته وتوظيبه وتقديمه إلى أصحاب القرار من أجل الأخذ به. ولعل المفارقة الأشد حضورا في هذا الواقع، تتمثل في هذه الشعرة الرقيقة التي تمثل الفاصلة بين دور الفني والسياسي. إذ تقوم العلاقة على التكامل وليس الاستغراق في لعبة الإلغاء والتهميش. فلا يكون الفني مجرد أداة بيد السياسي، ولا السياسي مجرد ألعوبة بيد الفني. ومن هنا تحديدا تبرز ملامح سلطة صنع القرار, والتي تبقى منغرسة في مجال صانع القرار والذي يتمثل في السياسي”.
اترك تعليقاً