نظرية الظروف الطارئة
ان اساس نظرية الظروف الطارئة بحسب فقهاء القانون هو: ( اذا استجدت خلال تنفيذ العقد حوادث او ظروف طبيعية كانت ام اقتصادية او من عمل غير المتعاقدين لم تكن بالحسبان او لايمكن التنبؤ بها عند ابرام العقد ومن شانها ان تلحق خسائر فادحة تخل اخلالا جسيما بالتوازن المالي للعقد فان المتعاقدين ملزمان بالمشاركة في تحمل نصيبهما من الخسارة التي احاقت باحدهما طوال فترة الظرف الطارئ ضمانا لتنفيذ العقد ).
وتقوم نظرية الظروف الطارئة على اساسين هما : انه ليس من العدل والانصاف وحسن النية في المعاملات ان يترك احد المتعاقدين رهن بظروف سيئة ناتجة عن قوة خارجية لادخل له فيها لمجرد الحرص على تحقيق الربح او تنفيذ العقد على حساب المتعاقد الاخر ، والاساس الثاني هو ان عدم تعويض المتعاقد في حالة الظروف الطارئة يؤدي الى عزوفه عن الاشتراك باي عقد لصالح الدولة في المستقبل او خروجه من سوق العمل نهائيا ويؤدي ذلك الى حلول متعاقدين غير اكفاء محلهم مما يؤدي الى وقوع منازعات ومشاكل لا تنتهي وتعطيل عمل المرافق العامة ، او اللجوء الى رفع اسعار عطاءاتهم للاحتياط ضد الظروف المتغيرة بعد التعاقد التي قد تؤدي الى الحاق الخسائر الفادحة بهم مما يفوت على الادارة الحصول على انسب العطاءات باقل الاسعار مما يؤدي الى الاضرار بالمصلحة العامة .
لقد كانت من نتائج الشكلية المتبعة في القانون الروماني لاسيما في مجال المعاملات المدنية انها لم تدع للقاضي اي سلطة على العقد او المتعاقدين في تفسير مضمون العقد او الاجتهاد فكان عليه الحكم بما يقتضيه العقد من دون ان يكون له مجال في تعديل الاجحاف المالي الذي يلحق باحد المتعاقدين طالما ان العقد صب في شكلية معينة ارادها القانون وبطبيعة الحال ان اي غبن يلحق باي من المتعاقدين جراء التزامهم لن يزال طالما ان المتعاقدين كانوا على بينة من امرهم وقت التعاقد فاذا كان القانون الروماني لم يعترف بالغبن في وقت ابرام العقد فانه من باب اولى لن يعترف به وقت تنفيذ العقد وهكذا نجد ان نظرية الظروف الطارئة لم تجد مجالا للتطبيق في القانون الروماني على الرغم من ان الفلاسفة الرومان الذين كانوا متاثرين بالفلاسفة اليونان المؤسسة على فكرة العدالة والقانون الطبيعي فكان نتيجة ذلك انهم دعوا الى اعتماد نظرية الظروف الطارئة ومنهم شيشرون و سبيدنيك الذي يقول ( أنا لا أعتبر حانثاً لعهدي, ولا يمكن اتهامي بعدم الوفاء إلا إذا بقيت الأمور على ما هي عليه وقت التزامي ثم لم أنفذه والتغير الذي يطرأ على أمر واحد يجعلني حراً في أن أناقش التزامي من جديد ويخلصني من كلامي الذي أعطيته ويجب أن يبقى كل شيء على حالته التي كان عليها في الوقت الذي تعهدت فيه لكي أستطيع المحافظة على كلامي) .
ولكن لم يبق الامر على ماهو عليه ازاء الموقف من نظرية الظروف الطارئة فقد اصبحت تلك الكتابات مبادئ كان لها عظيم الاثر على الافكار الفقهية الرومانية وانعكاساتها الايجابية على القانون الروماني فلم تعد الشكلية تحمل طابعا قدسيا طالما ان الغاية النهائية للقانون هي منفعة الناس واسعادهم وتوفير الرخاء لهم ولاجناح من ان تؤدي تلك الغايات الى الخروج قليلا عن الشكلية التي يتطلبها القانون ولذلك اصبحت القاعدة ان المتعاقدين لا يسألان عن تنفيذ التزامهما الا اذا استمرت نفس الظروف التي تم في ظلها ابرام العقد اما اذا حصلت مستجدات في تلك الظروف ادت الى اخلال التوازن المالي في العقد فللمتعاقدان حينئذ تغيير او تعديل العقد وفقا لتلك الظروف وهذا اتاح للارادة ان تبرم عقودا لم يكن لها وجود في القانون الروماني كما اتيح للقاضي شيئا من المرونة والحرية في تطبيق نصوص القانون .
ولم تكن نظرية الظروف الطارئة حكرا على القانون الروماني وانما ايضا نجدها جلية في القانون الكنسي فبعد انتشار الديانة المسيحية في اوربا لاسيما في العصور الوسطى الذي لم يقتصر على الجانب الديني فقط وانما كان يتدخل حتى في المجالين السياسي والقانوني فتعالت الاصوات التي طالبت بتحرير العقود من الشكلية الى جانب تبني مبادئ العدالة وازالة كل ما من شانه الحاق الاذى بالمتعاقدين نتيجة التزامهما التعاقدي فكان من نتيجة ذلك ان تبنى القانون الكنسي مبادئ نظرية الظروف الطارئة وذلك استنادا الى ان من مبادئ الدين المسيحي ان العقد وقبل كل شيء هو التزام اخلاقي مصدره نية المتعاقدين وارادتهما الحرة فكل عقد تلتقي فيه ارادة العاقدين يصبح شريعة لهما وملزما على اساس مبدا الوفاء بالوعود كما انه اي العقد ومن جهة اخرى رابطة اخوية تقوم على اساس الرحمة والعدالة والتسامح الذي يبديه الدائن مع مدينه بحيث لا يستغل حاجته او جهله ليحصل منه على ما لا يستحق ، وتلك بالضبط المبادئ التي تستند اليها نظرية الظروف الطارئة والتي وجدت لها مجالا رحبا في التشريعات التي كانت سائدة في تلك الحقبة من الزمن .
اما في الفقه الاسلامي فقد اجتهد الفقهاء المسلمين في البحث عن اساس لهذه النظرية في كتاب الله وسنة نبيه ( ص ) وايراد بعض القيود على مبدا سلطان الارادة لاسيما في العقود المدنية المبنية على اساس قاعدة العقد شريعة المتعاقدين مسترشدين بتلك النصوص كما في قوله تعالى في سورة البقرة ( لايكلف الله نفسا الا وسعها ) وكذلك (يريد الله بكم اليسر ولايريد بكم العسر ) والتي يستفاد منها ان الله تعالى لايرضى لعباده الارهاق والضرر وكذا الحال في احاديث الرسول (ص) حيث قال ( لاضرر ولا ضرار ) او قوله ( وان بعت من اخيك ثمراً فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً بمَ تأخذ مال أخيك بغير حق ( وهذه الايات والاحاديث كلها تؤكد على الاخذ بنظرية الظروف الطارئة التي كانت تحمل مسميات عديدة كالفسخ والاعذار او وضع الجوائح والتي استنبط منها فقهاء المسلمين عدة مبادئ هي: ( الضرورات تبيح المحظورات ) و ( درء المفاسد اولى من جلب المنافع ) و ( الضرر الاشد يزال بالضرر الاخف ) .
وفي كل الاحوال فان نظرية الظروف الطارئة يستوجب تطبيقها توفر ثلاثة شروط وهي : ان تكون هناك حوادث او ظروف استثنائية عامة لم يكن بالامكان توقعها عند ابرام العقد و ان تكون تلك الظروف اجنبية اي ليست ناتجة عن عمل احد المتعاقدين والشرط الاخير هو ان تلك الظروف يجب ان تؤدي الى الاخلال بالتوازن المالي للعقد وعند توفر هذه الظروف مجتمعة فان للمتعاقد الحصول على التعويض الجزئي عن الخسارة المحققة التي لحقت به جراءها وفي كل الاحوال فان على قاضي الموضوع النظر الى العقد كوحدة واحدة اذ قد يكون هناك من عناصره مايعوض عن خسارة المتعاقد بالتالي فان نظرية الظروف الطارئة لا تجد لها مجالا للتطبيق في هذه الحالة .
المحامية / ورود فخري
اترك تعليقاً