اعتبرت التشريعات الجنائية الحديثة صغر السن في سن معينة مانعا من المسؤولية الجنائية اقتناعا منها بان الإنسان قبل تجاوزه هذه السن يكون غير متمتع بملكة الادراك التي هي شرط لقيام المسؤولية الجنائية. وعلة امتناع مسئولية الصغير هي انتفاء التمييز لديه. وتعليل انتفاء التمييز انه يتطلب توافر قوى ذهنية قادرة على تفسير المحسوسات وإدراك ماهية الأفعال وتوقع آثارها. ولا تتوافر هذه القوى الا اذا نضجت في الجسم الاجزاء التي تؤدي العمليات الذهنية وتوافر قدر من هذه العمليات (1). وقد كان قانون العقوبات العراقي من ضمن هذه التشريعات، حيث جاءت المادة (64) منه تقول : (لا تقام الدعوى الجزائية على من لم يكن وقت ارتكاب الجريمة قد أتم السابعة من عمره). ذلك ان المشرع العراقي اعتبر من لم يتم السابعة من العمر لا ادراك له وبالتالي فلا مسؤولية عليه. ولم يكن المشرع العراقي في رأينا موفقا في صياغته لهذه المادة حيث كان عليه ان يبدأها صياغة بعبارة (لا يسال جزائيا…) تلك العبارة التي ابتدأ بها جميع نصوص موانع المسؤولية الأخرى.
ويبدو انه كان قد استعار نفس صياغة المادة المقابلة في كل من قانون العقوبات البغدادي (الملغي) وقانون العقوبات المصري دون دراسة وتعمق فوقع بنفس الخطأ الصياغي الذي وقع فيه القانونان المذكوران (2). والحقيقة ليس قانون العقوبات العراقي وحده حدد سن بداية المسؤولية الجنائية بتمام سن السابعة بل كان ذلك شأن اغلب قوانين العقوبات العربية والشريعة الإسلامية أيضاً (3). ونحن لا نتفق مع المشرع العراقي بشأن تحديد سن المسؤولية الجنائية ببلوغ الشخص السابعة من العمر؛ ذلك لأنننا نعتقد ان الطفل حتى بلوغه سن الثالثة عشرة هو صغير لا تجوز مساءلته جنائيا لعدم تكامل وعيه بسبب عدم نضوج الاعضاء الخاصة بالقوى الذهنية فيه. ويلاحظ ان اغلب التشريعات الحديثة كالقانون السوفيتي والقانون الفرنسي مثلا تجعل المسؤولية عند سن الثالثة عشرة. الا ان هذا لا يمنع من اتخاذ الاجراءات التربوية الضرورية اللازمة لمصلحة الصغار الذي عجز اولياؤهم عن تهذيبهم وتقويمهم وتوجيههم الوجهة الوطنية الصالحة. وعدم بلوغ تمام سن السابعة قرينة قانونية قاطعة على عدم الادراك لا تقبل الجدل ولا اثبات العكس بحكم القانون. فلا يسال الصغير في هذه المرحلة من حياته جنائيا ولو ثبت ان ادراكه قد سبق سنه وان عقله قد نضج قبل الاوان. مما يعني ان فقد الادراك قبل تمام السابعة مفترض قانونا افتراضيا قاطعا لا مجال بعده للبحث او المناقشة.
وحالة فقد الادراك هنا، بسبب صغر السن حالة طبيعية حتمية لابد ان يمر بها كل إنسان وهي بهذا تختلف عن حالات فقد الادراك الأخرى كحالة فقده بسبب الجنون او السكر او التخدير حيث انها حالات استثنائية شاذة وعارضة وغير طبيعية؛ لأنها تقع على خلاف الاصل في الإنسان. والعبرة في تقرير سن المتهم في هذه الحالة هي بوقت ارتكاب الجريمة لا وقت الحكم في الدعوى (4). و يكون تقدير السن في الاصل بوثيقة رسمية، ومع ذلك فلقاضي التحقيق والمحكمة ان يهملا الوثيقة اذا تعارضت مع ظاهر حال الحدث ويحيلاه الى الفحص الطبي لتقدير عمره بالوسائل الإشعاعية او المختبرية او بأية وسيلة فنية أخرى فيما اذا وجد ان الوثيقة لا تنطبق بالحقيقة. وصغر السن المانع من المسؤولية الجنائية هو ما لم يصل به السن بعد الى تمام السابعة من العمر سواء دخل الشخص في سن السابعة او لم يدخل فيها بعد. فان أتم السابعة من العمر زال ع نه مانع المسؤولية واصبح صاحبه مسئولا عن افعاله التي ارتكبها بعد تمام هذه السن او أثناء تمامها.
الا ان هذه المسؤولية تكون جزئية (مخففة)؛ لان ادراكه يكون فيها جزائيا وهي ما تسمى بمسؤولية الاحداث ولها نظام خاص سيأتي بحثه كل ذلك حتى بلوغ الشخص تمام سن الثامنة عشرة حيث يتم ادراكه للأمور، وعندئذ تصبح مسؤوليته الجنائية كاملة. ويراد بامتناع المسؤولية هنا هو امتناع مباشرة أي اجراء قبل الصغير، ذكرا كان ام نثى سواء كان عقوبة او تدبيرا احترازيا. لان عدم بلوغ السن يعتبر مانعا قانونيا من المساءلة عن آية جريمة سواء كانت جناية او جنحة او مخالفة. مما يعني ان أفعال الصغير غير المميز لا تعني قانون العقوبات بشيء. ومع ذلك فان امتناع المسؤولية الجنائية بسبب صغر السن لا يؤثر في مسؤولية الصغير المدنية اذ يبقى مسئولا مدنيا عن الاضرار المادية التي يحدثها ويلزم بالتعويض عنها طبقا لما هو وارد في المادة (191) من القانون المدني العراقي حيث تقول : (اذا أتلف صبي مميز او غير مميز او من في حكمها مال غيره لزمه الضمان من ماله. واذا تعذر الحصول على التعويض من أموال من وقع منه الضرر ان كان صبيا غير مميز او مجنونا جاز للمحكمة ان تلزم الولي او القيم او الوصي بمبلغ التعويض على ان يكون بهذا الرجوع بما دفعه على من وقع منه الضرر).
_________________
1-انظر الدكتور محمود نجيب حسني، المرجع السابق ن 612 ص614.
2-انظر قانون العقوبات البغدادي (الملغي) مادة 71 وقانون العقوبات المصري مادة 64.
3-انظر قانون العقوبات الاردني (مادة 94) واللبناني (مادة 237) والمصري (مادة 64) والسوداني (49) والسوري (مادة 236) والكويتي (مادة 18). وقد حددها قانون عقوبات البحرين بتسع سنوات والقانون التونسي بأقل من ثلاثة عشر سنة.
4-انظر المادة (74-1) عقوبات عراقي وكذلك نقض مصري 11/11/1946 مجموعة القواعد القانونية ج3 ن328.
المؤلف : علي حسين خلف – سلطان عبد القادر الشاوي
الكتاب أو المصدر : المبادئ العامة في قانون العقوبات
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً