– المحل:
المحل اعتبارًا بأنه الشيء الذي يلتزم المدين بعمله أو بالامتناع عن عمله، يتمثل – في حقيقة الواقع – ركنًا في الالتزام إذ أن محل العقد هو ذات الالتزامات التي يولدها. ومع ذلك فقد درج الفكر القانوني، ليس فقهيًا فحسب، بل تشريعًا أيضًا، على أن ينظر إلى الفعل الذي يلتزم المدين بعمله أو بالامتناع عن عمله، باعتباره محلاً، لا للالتزام وحده، وإنما أيضًا للعقد الذي ينشئه. وهذه هي النظرة التي يرى المشروع أن يسايرها، وهو إذ يفعل، لا يعمد فقط إلى عدم القطيعة مع تقليد استقر من قديم، ولكن أيضًا لأنه يرى أن لتلك النظرة ما يبررها، فالعقد ينشئ الالتزام، فإن كان العمل الذي يلتزم المدين بفعله أو بالامتناع عن فعله، يتمثل محلاً مباشرًا للالتزام، فهو ينهض، في نفس الوقت محلاً للعقد الذي يولد هذا الالتزام، وإن كان ذلك بطريق غير مباشر. ومن هنا ساغ أن ينظر إلى محل الالتزام باعتباره ركنًا في العقد، وأيًا ما كان الأمر، فإن الغاية من العقد هي إنشاء الالتزام. فإذا تعذر عليه أن ينشئ الالتزام لأمر يخص محله، فإنه يكون غير ذي موضوع فيبطل بدوره.
ويعرض المشروع، في المادة (167) لأحد الشروط اللازم توافرها في محل الالتزام، وهو إمكان أدائه، وهذا شرط تمليه طبيعة الأمور ذاتها، إذ أنه لا يُتصور أن يلزم الشخص بعمل المستحيل. ومن هنا كان الأصل العام القاضي بأنه لا التزام بمستحيل، فإن التزم المدين بما هو مستحيل بطل التزامه، وبطل العقد الذي أُريد له أن ينشئه. على أن الاستحالة التي تمنع من قيام العقد هي الاستحالة الموضوعية، أي استحالة محل الالتزام ذاته، أو استحالته من حيث هو، وليست الاستحالة الذاتية المتعلقة بالمدين نفسه. فإن كان محل الالتزام ممكنًا في ذاته قام العقد، حتى لو كان المدين نفسه يستحيل عليه أن يؤديه، على أن تنشغل مسؤوليته حينئذٍ عن عدم الوفاء بالالتزام، وفقًا للقواعد القانونية العامة.
والاستحالة الموضوعية التي تؤدي إلى بطلان العقد هي تلك التي تكون قائمة عند إبرامه. فإن كان محل الالتزام ممكنًا عند إبرام العقد، ولكنه أصبح مستحيلاً في تاريخ لاحق، ما أثر ذلك في ذات انعقاد العقد، ولكن يكون له آثار قانونية أخرى، تختلف باختلاف الأحوال. والمشروع يستوحي نص المادة (167) من نص المادة (130) من قانون التجارة الكويتي، الذي هو مستمد بدوره من المادة (132) مدني مصري، وذلك بعد أن أدخل المشروع تعديلاً طفيفًا في الصياغة توخيًا للإيضاح. ويعرض المشروع في المادة (168)، للتعامل في الأشياء المستقبلة قاضيًا بجوازه، كأصل عام.
فإذا كان يتوجب لإمكان محل الالتزام، وبالتالي لقيام العقد، أن يكون الشيء الذي يتعلق به موجودًا عند إبرام العقد، فإن ذلك لا يتحتم إلا إذا نظر إلى الشيء على اعتبار أنه قائم فعلاً عندئذٍ، أما إذا نظر إلى الشيء على اعتبار أنه غير موجود الآن، ولكنه سوف يوجد بعد حين، فإن المحل يعتبر ممكنًا، طالما أن وجود الشيء مستقبلاً غير مستحيل استحالة موضوعية مطلقة فالشيء الذي يتعلق به الالتزام، إما أن يكون موجودًا بالفعل عند إبرام العقد، وإما أن يكون قابلاً للوجود في تاريخ تالٍ.
والمشروع إذ يجيز بحسب الأصل، التعامل في الأشياء المستقبلة، إنما يتجاوب مع ما تقتضيه المصلحة. وهو من بعد الحكم الذي تسايره كل التقنينات الحديثة في الدول المختلفة، ومن بينها دولة الكويت (المادة 131/ 1 والمادة 383 من قانون التجارة). وإذا كان الفقه الإسلامي يرسي الأصل العام في عدم جواز التعامل في الأشياء المستقبلة، إلا أنه يورد على هذا الأصل استثناءات عديدة بحيث أنه يمكن أن يقال أنه بات لا يحرم هذا النوع من التعامل، إلا إذا اقترن بالشديد من الغرر. وهذا ما أراد المشروع أن يتمشى معه، حيث أورد على التعامل في الأشياء المستقبلة تحفظًا، قوامه منعه، حينما يكون وجود الشيء رهينًا بمحض الصدفة، اعتبارًا منه بأن التعامل يكون عندئذٍ أقرب إلى المقامرة.
ويورد المشروع في المادة (169) استثناءً هامًا على مبدأ جواز التعامل في الأموال المستقبلة، فهو يحظر بحسب الأصل التعامل في التركات التي لما تفتح، لكون أصحابها لا زالوا على قيد الحياة. والمشروع إذ يحظر التعامل في التركات المستقبلة، يساير التقنينات الحديثة، سواء في بلادنا العربية أم في الدول الراقية الأخرى. وقانون التجارة الكويتي بدوره يأخذ بالحظر (المادة 131/ 2).
والمشروع يحظر بحسب الأصل، التعامل في التركات المستقبلة، أو الحقوق الاحتمالية الداخلة فيها، بغض النظر عن طبيعة التعامل أو نوعيته، ودون اعتبار لشخص المتصرف أو المتصرف إليه، وقد حرص على أن يصرح ببطلان التصرف في التركات المستقبلة، ولو تم من المورث المحتمل نفسه، أو تم من غيره ووافق عليه هو وارتضاه، وهذا هو الحكم السائد في التشريع المعاصر، ولم يشذ عنه إلا قليل من التقنينات، كمدونة الالتزامات السويسرية (المادة 636) وهو من بعد حكم تحتمه المصلحة. فالتعامل في التركات المستقبلة لا يتضمن فقط المضاربة على حياة المورث المحتمل، إذ أنه يقوم في العادة على استغلال المرابين حاجة الورثة الاحتماليين ونزقهم، فيسلبونهم حقوقهم المحتملة نظير مقابل بخس زهيد. وفضلاً عن ذلك فتصرف الشخص نفسه فيما عساه أن يخلفه عند موته من أموال يتعارض مع قواعد الميراث، زيادة على اتسامه بالغرر الشديد.
على أن المشروع، إذا كان يحظر التعامل في التركات المستقبلة، فقد حرص على أن يستثنِي من هذا الحظر الحالات التي يسمح بها القانون بهذا النوع من التعامل، وهو بهذا التحفظ يريد على وجه الخصوص، أن يشير إلى الوصية حيث أنها تقع جائزة في حدود ما يقضي به القانون.
وتورد المادة (170) قاعدة أساسية هامة مؤداها جواز التعاقد في شأن مال الغير أو فعله، فلا يوجد ثمة ما يمنع من أن يتعاقد الشخص بشأن شيء يملكه غيره، كما إذا باعه أو أجره أو رهنه، كما أنه لا يوجد ثمة ما يمنع من أن يتعاقد شخص مع آخر في شأن فعل يراد لثالث أن يؤديه، وقد درج الفكر القانوني على أن يطلق على هذا النوع الأخير من التعامل: التعهد عن الغير. وإذا كان التعهد عن الغير، قد لقي من الفكر القانوني القبول في سهولة ويسر، فقد لقي، على النقيض من ذلك التصرف في مال الغير جدلاً بالغ العنف، واختلف بصدده الحكم من النقيض إلى النقيض، اختلف بين البطلان والصحة، مرورًا بالقابلية للإبطال بل إن عنف الخلاف لم يقف عند الحكم على التصرف في مال الغير بوجه عام، بل إنه امتد أيضًا إلى نوعية التصرف ذاتها، بحيث لم يسلم الأمر من أن يُعطى بيع ملك الغير حكمًا يتغاير مع إيجاره أو مع رهنه.
وقد حرص المشروع على أن يحسم الخلاف العتيد الذي ثار حول التصرف في ملك الغير، قاضيًا بجوازه ما لم ينص القانون، في حالة خاصة، على بطلانه. وهو – إذ يفعل – يتمشى مع القواعد القانونية العامة، التي لا يوجد أدنى مبرر للتضحية بها، فالالتزام الذي يتعلق بمال الغير، لا يكون محله مستحيلاً استحالة موضوعية فالاستحالة – إن قامت لا تعدو أن تكون استحالة ذاتية، متعلقة بالمدين نفسه. ولا تخفى أهمية الحكم الذي تتضمنه المادة (170) فإلى جانب كونه يحسم الخلاف العتيد حول حكم التصرف في مال الغير، فإنه يوحد الحكم في صدد التصرفات المختلفة الطبيعية، بعد أن تغاير الحكم في شأنها في الفكر القانوني المعاصر، فكل تصرف يرد على مال الغير يقع صحيحًا، بغض النظر عن طبيعته، بيعًا كان أم إيجارًا أم غيرهما، وذلك، بطبيعة الحال، ما لم يقضِ القانون، بصدد عقد معين، ببطلان التصرف.
على أنه إذا وقع التعاقد في شأن مال الغير أو فعله صحيحًا، فإنه لا يترتب عنه أي التزام على هذا الغير، ما لم يقره، وهذا أمر بين الظهور، يقتضيه إعمال القاعدة الأساسية التي تقضي بأن العقود لا تنفع الغير ولا تضرهم، ومع ذلك فقد حرص المشروع أن يصرح به، دفعًا لأية مظنة. وإذا لم يستطع المدين، الذي التزم بصدد مال الغير أو فعله، أن يوفي بالتزامه، تحمل هو بالمسؤولية، وفقًا لما يقضي به القانون. وقد استوحى المشروع حكم المادة (170) من المادة 38/ 2 من مشروع تنقيح القانون الفرنسي (مجموعة أعمال لجنة التنقيح لعام 1948/ 1949).
وتعرض المادة (171) لتعيين محل الالتزام، وتُرسي الفقرة الأولى القاعدة العامة في هذا الصدد، حيث تقضي بوجوب أن يكون محل الالتزام معينًا تعيينًا دقيقًا نافيًا للجهالة الفاحشة، وإلا وقع العقد باطلاً. وكيفية تعيين محل الالتزام تختلف بالضرورة باختلاف طبيعته وباختلاف الظروف التي تحيط بالتعاقد – والمسألة مردها في النهاية لتقدير قاضي الموضوع، فهي مسألة واقع، على أنه لا يتحتم، بطبيعة الحال أن يحصل تحديد محل الالتزام بطريق مباشر. فيكفي أن يتضمن العقد أساسًا لتحديده، ما دام هذا الأساس سليمًا.
وإذا تعلق الالتزام بشيء، فإن تحديد محله يقتضي بالضرورة تحديد هذا الشيء تحديدًا كافيًا. وتختلف طريقة التحديد هنا باختلاف ما إذا ورد التعاقد في شأن شيء محدد بذاته أو محدد بنوعه، فإن كانت الحالة الأولى، لزم أن يتعين الشيء نفسه، تعيينًا يبرز ذاتيته ويحول بالتالي دون الخلط بينه وبين غيره. وإن كانت الحالة الثانية، توجب أن يتحدد الشيء بنوعه ومقداره ودرجة جودته. على أن المشروع آثر هنا أن لا يجعل لعدم تحديد درجة الجودة نفس الجزاء المترتب على عدم تحديد النوع أو المقدار، وهو بطلان العقد، فجاءت الفقرة الثانية تقضي في عجزها، بأنه إذا لم تُذكر في العقد درجة الجودة، ولم يتيسر للقاضي أن يستخلصها من ظروف الحال، فإن العقد لا يبطل، ويلتزم المدين بأن يقدم شيئًا من صنف متوسط، وقد حدا بالمشروع إلى تقرير هذا الحكم رغبته في عدم إهدار العقد بسبب أمر يمكن حسمه على نحو يوفق بين مصلحة الطرفين، سيما وأنه يغلب أن يتفق مع قصدهما المشترك.
وحكم المادة (171) متفق مع غالبية التقنينات الحديثة، فضلاً عن مسايرته للفقه الإسلامي، وهو مستوحى من نص المادة (127) من قانون التجارة الكويتي ومن نص المادة (133) مصري، مع تعديلات جوهرية في الصياغة، توخيًا للدقة والانضباط. وتعرض المادة (172) لمشروعية المحل، قاضية بوجوب أن يكون غير مخالف للقانون ولا للنظام العام ولا لحسن الآداب في الدولة. والحكم الذي تتضمنه ظاهر. وهو مستمد من المادة (129) من قانون التجارة الكويتي، الذي هو مستمد بدوره من المادة (135) مصري. وتعرض المادتان (173 و174) لنوع معين من الالتزامات، هو أكثرها شيوعًا في العمل إلى حد بالغ ساحق، وهو الالتزام بدفع مبلغ من النقود.
وتقضي المادة (173) في صدده، بوجوب أن يتحدد التزام المدين بذات القدر المحدد في العقد، دون أن يكون لتغيير قيمة النقود، ارتفاعًا أو انخفاضًا، أي أثر، وقد حرص المشروع على أن يصرح ببطلان أي اتفاق على خلاف هذا الحكم، حرصًا منه على دفع أية مظنة في أمر يمس الثقة في النقد، التي هي من صميم النظام العام في الدولة. وتجيء المادة (174) في فقرتها الأولى وتقرر مبدأ حصول الوفاء بالالتزام بدفع مبلغ من النقود بالعملة الكويتية، ثم تأتي الفقرة الثانية من هذه المادة فتجيز الاتفاق على أن يكون الوفاء بالعملة الأجنبية، وهكذا فإن جاء العقد خلوًا من تحديد العملة التي يقع بها الوفاء بالالتزام كان من اللازم أداؤه بالعملة الكويتية أما إذا تضمن العقد شرطًا صريحًا بوفاء الالتزام بعملة أجنبية معينة، لزم الوفاء بها، وذلك في المعاملات الداخلية والخارجية على حد سواء.
وقد جوز المشروع الاتفاق على الوفاء بالعملة الأجنبية، حتى لو حصل ذلك في المعاملات الداخلية، استشعارًا منه بما يتمتع به النقد الكويتي من بالغ القوة، بحيث لا يقلل من مكانته أو يضعف الثقة فيه أن يتفق على أن يكون الوفاء بغيره. وتتناول المادة (175) في فقرتها الأولى، الشروط التي يمكن للعقد أن يتضمنها، وترسي في ذلك أصلاً عامًا مؤداه إمكان أن يشتمل العقد على أي شرط يرتضيه المتعاقدان، طالما أنه غير ممنوع قانونًا، وغير مخالف للنظام العام وحسن الآداب، وسواء بعد ذلك أن يكون الشرط من مقتضيات العقد أو من ملائماته أو أن يكون فيه نفع لأحد العاقدين أو لشخص من الغير. وقد حرص المشروع على أن يقرر هذا الحكم، على غرار ما فعله قانون التجارة الكويتي (المادة 132) ومن قبله القانون المدني العراقي (المادة 131) ومن بعده القانون المدني الأردني (المادة 164)، برغم أنه قد يبدو أقرب إلى البداهة في الفكر القانوني المعاصر، وقد حدا بالمشروع إلى ذلك رغبته من وجه في حسم أمر احتدم حوله الخلاف في الفقه الإسلامي، ولدفع أية مظنة في شأنه، من وجه آخر.
وتعرض المادة (175) في فقرتها الثانية، للجزاء المترتب على عدم مشروعية الشرط، إما لأنه ممنوع قانونًا، أو لأنه مخالف للنظام العام أو لحسن الآداب، ويتمثل هذا الجزاء، كأصل عام، في وقوع الشرط لغوًا، حيث أنه يبطل، دون أن ينعكس بطلانه على العقد ذاته، فلا يمس صحته. فالشرط هنا، يقع فاسدًا غير مفسد. وإذا كان الشرط غير المشروع يلغى، دون أن يترتب عليه بطلان العقد، إلا أن من شأنه أن يؤدي إلى هذا البطلان، إذا أثبت المتعاقد أنه ارتضى العقد على أساسه، وأنه ما كان ليرتضيه بغيره، ففي مثل هذه الحالة، يقع الشرط فاسدًا مفسدًا في آن معًا. وهذا الحكم لا يعدو أن يكون تطبيقًا تشريعيًا لنظرية السبب، باعتباره ركنًا لازمًا لقيام العقد
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً