المميزات القانونية للنظام البرلماني عن الانظمة الاخرى
النظام البرلماني والدستور الأردني والملكية الدستورية .. أ.د محمد الحموري
أصبح مطلب كل واحدة من الثورتين المنتصرتين في تونس ومصر، الأخذ بالنظام البرلماني (ويسمى أيضاً النيابي)، وذلك بعد أن عاش البلَدَان لعقود من الزمن، في ظل أبشع صورة وممارسة للنظام الرئاسي. والنظام البرلماني الذي تطالب به الثورتان، يحكمه دستور واضح المعالم، متكامل البنيان، لا يعطي صلاحيات أو سلطات لرئيس الدولة، وبالتالي أصبح هذا النظام البرلماني مطلباً لثوار تونس ومصر، حتى لا يتمكن رئيس الجمهورية القادم من الاستناد إلى صلاحيات دستورية يتطرف في ممارستها نظرياً وواقعياً، ويصبح حاكماً مطلقاً أوحداً تدور الدولة وباقي السلطات ومعها الشعب حوله، لتكون طوع بنانه، وبعدها ينطلق الشعر والنثر والإعلام في التسبيح بحمده، والتأييد المطلق له، أملاً في رضائه ورضا عائلته وأنسبائه، ويسكت الجميع كاتمين غيظهم وهم يرون بأم أعينهم، كيف يستبيح الرئيس وأتباعه أراضي الدولة بقرارات حكومية، وكيف تنهب أموال الخزينة بسطوة رئاسية تباركها الحكومات والمناصب التي يصنعها، وتصبح أجهزة المخابرات والأجهزة الأمنية العلنية منها والخفية أدوات لتكميم الأفواه، وتسهيل النهب والسطو، ومصادرة الحقوق والحريات، وانتهاك الحرمات.
إن الصورة البشعة للنظام الرئاسي الذي قاد تطبيقه في تونس ومصر إلى ما سبق، ليست من طبيعة هذا النظام، وليست مما فكر أو يفكر فيه قانوني أو سياسي درس أو درّس هذا النظام، أو بحث في أصوله وتطوره نظرياً وواقعياً. لكن الرئيس في الدولتين، بموجب بعض الصلاحيات التي يعطيها له النظام الرئاسي، استطاع الزحف تدريجياً خارجها وتوسيعها، ثم تمكن من تعديل نصوص الدستور وبعض القوانين ليزيد من سلطاته، حتى أصبح الصنم الأوحد الذي يتوجب على الجميع عبادته وطاعته. لننظر إلى أمريكا وفرنسا اللتان تأخذ كل منهما بالنظام الرئاسي الذي يعطي للرئيس صلاحيات وسلطات بموجب الدستور، وعندها سنجد أن ذات الوسائل الرقابية المنصوص عليها في الدستور الرئاسي تمكنت من إيقاف الرئيس عند حدوده. لكن الرئيس في كل من مصر وتونس تمكن من تدجين الوسائل الرقابية الدستورية، والاستحواذ على أشخاصها، والوصول بوطنه حدوداً أدت إلى الانفجار الشعبي والمطالبة بالنظام البرلماني.
والحقيقة أنه بمعزل عن نظام الجمعية الذي ظلت بواقيه في بعض المقاطعات السويسرية قائمة حتى الآن، فإن الفقه الدستوري في الوقت الحاضر يعرف نوعين من عوائل النظم السياسية، أولهما عائلة النظام البرلماني، وثانيهما عائلة النظام الرئاسي. وتعتبر بريطانيا النموذج البارز والمصدر التاريخي للنظام البرلماني، في حين تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية نموذجاً للنظام الرئاسي. وبالنظر الى أن الدستور الأردني ينتمي إلى عائلة النظام البرلماني، فسوف أورد الحقائق التالية المستقرة عن هذا النظام:
1. نشأ النظام البرلماني في بريطانيا، وقد احتاج حتى وصل إلى المرحلة التي استقر عليها حوالي (600) سنة، وهي الفترة الممتدة من تاريخ صدور الماغنا كارتا عام 1215 حتى أواخر القرن الثامن عشر. وقد تكاملت ملامح هذا النظام في عهد جورج الثالث الذي حكم من عام 1760 حتى عام 1820. وبالنظر إلى هذا التشكل التدريجي للنظام، فإن القواعد التي تحكمه، أي القواعد الدستورية، تشكلت تدريجياً أيضاً، وهذه القواعد بعضها مصدره أعراف وتقاليد فرضها الواقع، وبعضها مصدره أحكام أصدرها القضاء، والبعض الثالث مصدره نصوص لها طبيعة دستورية أصدرها البرلمان الإنجليزي.
2. أخذت بلجيكا بالنظام البرلماني بعد أن استقلت عن هولندا عام 1830، وأصدرت أول دستور برلماني مكتوب عام 1831، وهو عبارة عن تدوين للقواعد الدستورية التي تحكم النظام الإنجليزي. وقد أعادت بلجيكا مراجعة هذا الدستور وإجراء بعض التعديلات عليه في الأعوام 1893، 1899، 1921، 1980، 1988، 1992، 1993، 1996.
3. وعندما أصبحت الدول تأخذ بالنظام البرلماني الإنجليزي، وجدت نصوصه مكتوبة في بلجيكا، فاستقت نصوص دساتيرها البرلمانية من هذا الدستور. ومن هذه الدول مصر والأردن، حيث استقت مصر دستورها لعام 1923 من نسخة الدستور البلجيكي لعام 1921، وكذلك الأردن في دستورها لعام 1952، حيث تأثرت ببعض الصياغات المصرية.
4. وبالنظر إلى أن النظام البرلماني قد نما وترعرع وتكامل في ظل نظام ملكي، فقد أخذت بهذا النظام البرلماني النظم الملكية، في أوروبا، والعديد من الدول الملكية الأخرى في العالم، على مدى القرن التاسع عشر والقرن العشرين، فضلاً عن العديد من الدول التي أخذت بالنظام الجمهوري، كما سنرى.
5. وبذات الطريقة الدستورية التي وفّقت فيها بريطانيا بين قاعدة توارث المُلْك الدستورية وبين قاعدة الشعب مصدر السلطة الدستورية، أخذت الدول التي عمدت النظام البرلماني، واستقرت تلك الطريقة فيها. وهذه الطريقة تقوم على الفصل بين السلطة وبين المُلْك، بمعنى أن ممارسة الشعب للسلطة تكون عن طريق نواب ينتخبهم ليشكلوا مجلساً يسمى مجلس النواب، أو مجلس الشعب، أو مجلس العموم … الخ، وهذا المجلس الذي يمثل الشعب مصدر السلطة، يمنح الثقة للحكومة، لتمارس الحكم كسلطة تنفيذية تحت رقابة المجلس نفسه، فضلاً عن رقابة القضاء ورقابة الرأي العام. وبالنظر إلى أن رئيس الدولة يتولى موقعه بالتوارث وليس بالانتخاب، فإنه يصبح رمزاً للدولة ووحدتها، دون أن يمارس سلطة، لأن الذي يتولى السلطة هو الشعب وفقاً للآلية سابقة الذكر. وبصفته رمزاً للدولة، فإن الملك هو الذي يوقع على القرارات الحكومية التي تحتاج إلى توقيع رئيس الدولة، وهو الذي يوقع على التشريعات التي تتخذها السلطة التشريعية، وهو الذي تصدر الأحكام القضائية باسمه.
6. وانطلاقاً من قاعدة أن الملك لا يمارس سلطة في النظام البرلماني، فقد أصبح لا يتحمل مسؤولية، وبالتالي لا يجوز نقده أو المساس به، لأن النقد يوجه إلى من يمارس السلطة، ومن يقوم بهذه الممارسة يمكن أن يخطىء وبالتالي يحق للناس توجيه النقد واللوم له، وتغييره. وقد ولدت هذه القاعدة عام 1770 في ظل الملك جورج الثالث في بريطانيا، واستوجبت النص في قانون العقوبات على جريمة إطالة اللسان لكل من يصدر عنه أي مساس بالملك. ومنذ العام المذكور، استخلص الفقه قاعدة تلازم السلطة والمسؤولية، أي أن من يمارس سلطة يتحمل مسؤولية هذه الممارسة، ومن لا يمارس السلطة لا يتحمل مسؤولية.
7. ويقوم النظام البرلماني على ركائز أساسية منها:
– وجود رئيس دولة يملك ولا يحكم أو يمارس على شعبه سلطة، لأن الشعب هو صاحب السلطة ويمارسها عن طريق مجلس منتخب يمثله.
– حق المجلس الممثل للشعب (النواب) في منح الثقة للحكومة من أجل توفير مشروعية لوجودها وممارسة صلاحياتها.
– حق المجلس في سحب ثقته من الحكومة، ليصار إلى تشكيل حكومة بدلاً منها.
– حق الحكومة في حل مجلس النواب، وفي هذه الحالة يتوجب على الحكومة أن تستقيل، ليصار إلى تشكيل حكومة جديدة لإجراء الانتخابات للمجلس الجديد.
– يتوجب على الحكومة التي تحل مجلس النواب بيان أسباب الحل، حتى لا تلجأ الحكومة اللاحقة إلى حل المجلس الجديد لذات السبب.
– مسؤولية الحكومة التضامنية أمام مجلس النواب عن كل عمل تقوم به، وحق مجلس النواب في محاسبة الحكومة عما يصدر عنها.
8. وخلال القرن العشرين، أصبحت تأخذ بالنظام البرلماني الدول التي يوجد فيها نظام جمهوري وليس ملكي، كالهند وإيطاليا على سبيل المثال، وأصبح رئيس الجمهورية لا يمارس سلطة.
9. ومن أجل أن يصبح رئيس الدولة في النظام البرلماني رمزاً للدولة، ومجسداً لوحدتها الوطنية، فقد استوجب الدستور في النظام البرلماني توقيع رئيس الدولة، كما أسلفنا، على ما يصدر عن الحكومة والبرلمان.
ولعل ما أخذ به الدستور البلجيكي عن النظام الإنجليزي يجسد واقع الحال في هذا النظام البرلماني عندما نص على أن:
– الملك هو رأس الدولة، وهو مصون من كل تبعة ومسؤولية (المواد 37، 88 من الدستور البلجيكي).
– السلطة التشريعية يباشرها الملك وسلطة التشريع (مادة 36).
– السلطة التنفيذية يختص بها الملك.
– الملك يصدق على القوانين ويصدرها ويأمر بوضع الأنظمة اللازمة لتنفيذها (مواد 36، 108، 109)
– الملك هو القائد الأعلى للقوات المسلحة وله أن يصدر الأوامر لها (114).
– الملك يدعو مجلس التشريع للانعقاد ويؤجل جلسته ويفض دورته (44-45).
– الملك يحل المجلس التشريعي (46).
– الملك يعين الوزراء ويقيلهم (96 ، 104).
– الملك ينشىء ويمنح ويسترد الرتب والألقاب الشرفية (113).
– الملك يصدر العفو ويخفض الأحكام القضائية.
– أوامر الملك الخطية أو الشفوية لا تخلي الوزراء من مسؤولياتهم.
– يجب توقيع الوزير أو الوزراء المختصين على القرارات التي يوقعها الملك، ويتحمل الوزراء المسؤولية وليس الملك.
وفي هذا الصدد، فقد صدر في بريطانيا عام 1992 مدونة بالقواعد الدستورية التي تحكم النظام البرلماني الإنجليزي، وقد جاءت هذه المدونة على شكل نصوص وضعها الفقه الإنجليزي، للتسهيل على الباحثين عن المعرفة بأحكام الدستور الإنجليزي من خلال الرجوع إليها. ووفقاً لما ورد في الفصل (31) (Section 31) من المدونة، فإن هذه القواعد لا تخرج عن الأحكام الوارد ذكرها في الدستور البلجيكي. وذات الأحكام التي يحتويها الدستور الإنجليزي والبلجيكي، وردت في المواد (24-49) من الدستور الهولندي وفقاً لمراجعته الأخيرة عام 2008، والمواد (56-65) من الدستور الإسباني لعام 1978، الذي عاد بموجبه الحكم الملكي إلى اسبانيا وفقاً للنظام البرلماني، بعد زوال حكم الجنرال فرانكو.
10. ويترتب على ما سبق، بالنسبة لموضوعنا، أنه ما دام أن توقيع الملك وحده لا يكفي لصدور قرار أو قانون، وأن هذا الصدور يستوجب توقيع الوزير أو الوزراء من أجل تحمل المسؤولية، فإن من حق الوزير ومن واجبه أن يمتنع عن التوقيع إن وجد في الأمر مخالفة للدستور أو القانون أو المصلحة العامة. وفوق ذلك، فما دامت أوامر الملك الخطية أو الشفوية لا تخلي الوزير الذي يستجيب لها من المسؤولية، فمن واجب الوزير عندما يتبين أن في أوامر الملك ما ينطوي على مخالفة لدستور أو قانون أو مصلحة عامة، أن يعلم الملك بذلك، وعندها، فإن من الطبيعي أن يتراجع الملك عما أمر به. فإن أصر على ذلك، فمن حق الوزير أن لا يستجيب، لأنه هو وليس الملك، سيكون محلاً للحساب وتحمل المسؤولية.
11. لقد اكتفينا بذكر القواعد الواردة في دستور كل من مملكة بلجيكا، ومملكة بريطانيا ومملكة هولندا، ومملكة اسبانيا، كنماذج لأعرق الملكيات التي تأخذ بالنظام البرلماني في العالم. ونضيف، أن كل قاعدة واردة في نصوص تلك الدساتير، قد سالت من أجلها أنهار من دماء شعوب أوروبا من أجل الحصول عليها. وفوق ذلك، فإن كل نص من نصوص تلك الدساتير قد تحدد مدلوله على مدى ما يقرب القرنين، بموجب أحكام صادرة عن أرقى المحاكم وأعلاها، وبموجب مجالس تشريعية ملتزمة ومنتمية لأوطانها، فضلاً عن تفسيرات صادرة عن أكبر فقهاء القانون في العالم. واستقر مدلول تلك النصوص على نحو متكامل ومتوازن، بحيث إذا أُعطي بعضها مدلولاً مختلاً، سيؤدي ذلك إلى إلحاق الخلل بالبعض الآخر. ومن هنا، فقد أصبحت الدول التي تأخذ بنصوص تلك الدساتير، تلجأ إلى البحث عن المدلول الذي استقر لتلك النصوص، عندما تحتاج إلى معرفة المعنى المتعلق بأي نص يستشكل عليها مدلوله.
12. وبمراجعة النصوص من (24-27) و (30-40) من الدستور الأردني، نجد أنها متطابقة تماماً مع نصوص دساتير الملكيات العريقة التي أخذت بالنظام البرلماني، على النحو الذي سبق ذكره. واصطلاح الملكية الدستورية الذي أصبح محل تداول في الأردن، ليس من الاصطلاحات التي تستخدمها كتب القانون أو يستعملها الفقه الدستوري، لكن تداوله من قبل فئات وأطياف سياسية لا يعني أكثر من أننا في الأردن دولة ملكية يحكمها دستور يأخذ بالنظام النيابي – أي البرلماني – وأن هذا الدستور واجب التطبيق. والمادة الأولى من دستورنا تنص على أن “نظام الحكم نيابي ملكي وراثي”. وبالنظر إلى أننا دولة تأخذ بالنظام الملكي وفقاً لدستور واجب التطبيق، فقد استوقفني ما صدر عن الدكتور معروف البخيت رئيس الوزراء عندما خاطب النواب في جلسة الثقة وقال: “وبنفس الصراحة والوضوح، فإن الحكومة ترى في طروحات ما يسمى بـ “الملكية الدستورية” في هذه المرحلة إخلال بتوازن وأسس نظامنا السياسي وبدستورنا الأردني (دستور 1952) وهو كما نراه وترونه أنتم بالتأكيد لغو، طرح يتجاوز الدستور الذي نلتزم به جميعاً ويتعدى أهداف الإصلاح وتعزيز وتعميق المسيرة الديمقراطية …”.
يا دولة الرئيس، فما دمنا دولة ملكية يحكمها دستور يجسد النظام البرلماني، فإنه يصبح من حق كل مواطن فيها أن يؤكد أن هذا الدستور واجب التطبيق، فإذا استخدم المواطن اصطلاح الملكية الدستورية للتعبير عما ينادي به، فهذا من حقه، ولا نستطيع إلزامه بالإصطلاحات الفنية التي تستخدمها كتب الفقه، ولا أظن أن من بمثل تأهيلك يخفى عليه هذا اللزوم الدستوري. ولثقتي بوطنيتك وانتمائك وإيمانك بالإصلاح، فقد قدرت أن لديك معلومات تفيد بأن من ينادي بالملكية الدستورية، يستهدف أموراً خارجة على الدستور أو لا يقرها الدستور. فإن كان الأمر كذلك، فأرجو أن تثق بأن كل أردني سيكون بجانبك في الدفاع عن دستورنا. وأضيف، علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن جميع ما سبق أن أوردته عن النظام البرلماني والملكيات الدستورية، هو معلومات واقعية مكتوبة ومدونة في الدساتير وفي تاريخ نشأتها وتطورها، ولا يخضع ما أوردت لأي اجتهاد مني أو من غيري. بعبارة أخرى، المعلومة تبقى معلومة معطاة، ولا يغير من وجودها إنكارها أو القفز عنها.
13. إن النظام البرلماني الذي نأخذ به، قد ارتبط عند الدول التي طورته بوجود أحزاب تتناوب على الحكومات، ورئيس الدولة في هذا النظام يكلف بتشكيل الحكومة رئيس حزب الأغلبية أو رئيس ائتلاف الأغلبية، ولا يكلف غيرهم، لأن هذا الغير لا يستطيع الحصول على الثقة المطلوبة من مجلس النواب. لكن الذي جرى عندنا في الأردن، أن الأحزاب مُنعت لعقود من الزمن وأصبحت الحزبية جريمة. ومن هنا فلم ينشأ عندنا حتى الآن حزب أغلبية. ولذلك، فإن الملك أصبح يطلب من أي شخص يثق به أن يشكل الحكومة، وأن يطلب منه تقديم استقالته، وذلك دون قيود أو شروط وفي أي وقت. وهذه الممارسة جعلت فهم رؤساء الحكومات والوزراء أن تقلدهم لمناصبهم واستمرارهم فيها، يتطلب إرضاء الملك، ومن هنا أصبحنا نرى الكثير ممن يتقلدون هذه المناصب يعتقدون أن تقربهم من الملك هو وسيلة بقائهم، فأدى ذلك بهم إلى أن ينسبوا ما يقومون به إلى الملك، تقرباً ووسيلة للبقاء. بل واستتبع ذلك، التقرب من المحيطين بالملك اعتقاداً بأن ذلك يجلب رضاء جلالته عن طريقهم. وهكذا غدا صاحب الجهاز بالتدريج مطاعاً وأصبح صاحب سلطة على الحكومات اعتقاداً منها بأنه يعبر عما يريده الملك، فتنازلت له الحكومات بشكل واقعي عن صلاحياتها الدستورية، وتفاقم الأمر، وصار بتوجيه منه يُعيَّن الوزراء وأصحاب المناصب، بل وحتى رؤساء الجامعات والعمداء، وعلى الحكومات التوقيع على القرارات بصفتها المسؤولة دستورياً، في حين أن صاحب السلطة في كثير من الأحيان هو، وليس غيره، ويكون على هذه الحكومات في النهاية أن تجد السند الدستوري أو القانوني لما توقع عليه. ومن أجل إسباغ الصفة الدستورية على ما تقوم به الحكومات باسم الملك، أصبحت هذه الحكومات تغطي نفسها باستشارات قانونية تفصل حسب الرغبة والطلب، بأجر تدفعه الحكومات من المال العام. وبموجب هذه الاستشارات، أصبحت القوانين المؤقتة المخالفة للدستور مشروعة، وغدا تغييب مجلس النواب مشروعاً، وأصبح الانحراف عن الدستور مغطى بفتاوى تبرره، بل أكثر من ذلك، فقد أصبح من يحتل موقعاً اجتماعياً أو سياسياً، يصدر الفتاوى الدستورية رغم عدم تأهيله القانوني، اعتقاداً منه أن ذلك يسبغ عليه الرضا المطلوب. ورغم تكاثر أعداد أعضاء نادي رؤساء الوزارات، والتزايد في تعاقب رؤساء الديوان الملكي، فإني أظن، وليس كل الظن إثم، أنهم لم ينبهوا جلالة الملك إلى أوجه الخلل التي زحفت بشكل تدريجي على نظامنا الدستوري البرلماني، وأوصلتنا الى ما نشكو منه الآن، حتى يقوم جلالته بوضع الأمور في نصابها. بل إن بعض رؤساء الوزارات تعودوا على القول، إن جلالة الملك فوق الدستور، في حين أن جلالته لا يمكن أن يقبل بذلك. وأعتقد أن كل من قصّر في هذا الأمر، فإنه يكون قد حنث بيمين الإخلاص للملك وللدستور في آن معاً.
14. لقد حزنت وتألمت كثيراً، وأنا أقرأ آخر الفتاوى التي أصدرها نائب وازن في مجلسنا النيابي حيث يقول، أن الوزراء في دولتنا، يحكمون وفقاً للمادة (26) من الدستور بتفويض من الملك!!، لأن المادة المذكورة تنص على أن “تناط السلطة التنفيذية بالملك ويتولاها بواسطة وزرائه وفقاً لأحكام الدستور”. أتمنى على من قال ذلك أن يتمهل مستقبلاً، حتى لا يفتي بما لا معرفة له به، ويتذكر، أنه ما كان سيقول ما قال، لو أعطى نفسه فرصة ليسأل عن حقيقة وواقع النص المماثل لنص دستورنا، والمستقر نظرياً وعملياً على نحو متواتر على مدى قرنين من الزمان في بريطانيا وبلجيكا وغيرها من الملكيات الدستورية، راجياً أن يعلم أن التفويض له مدلوله القانوني، ويعني أن من يقوم بالتفويض يكون مصدراً للسلطة والصلاحيات التي سيمارسها من فوضه، وهذا غير قائم في دستورنا أو في دساتير العالم المتحضر عموماً، لأن الشعب هو مصدر السلطة. وأتساءل، ماذا سيكون ردة فعل الحكومات في دول أوروبا البرلمانية عندما يقال لهم، رغم أنكم حصلتم على ثقة أغلبية أصوات ممثلي الشعب، فإن مصدر سلطة الوزراء عندكم هو الملك/الملكة، وهؤلاء الوزراء يحكمون بتفويض منه أو منها، وقد أفتى بذلك نائب وازن دكتور في الأردن!! في ظني أن كل وزير في هذه الدول، سوف يسكت برهة وهو كاتم غيظه، وبعدها يقول، لا حول ولا قوة بالله على هذا النائب الوازن الدكتور الأردني، ألا يعلم بأن دول أوروبا قدمت الكثير من الضحايا لتصل إلى عكس ما يقوله هذا الأردني، ثم ألم يطلع هذا الأردني على المواد (45، 47، 51) من دستور وطنه التي أخذت بحروفها من النصوص الدستورية التي تحكم نظمنا البرلمانية!!
لا يا أبناء وطني، إن الدستور ينبغي أن يحظى بأقدس درجات الاحترام، وكل نص فيه ملزم للسلطات والمواطنين على حد سواء، ومن ثم فلا يجوز لأحد مهما علا موقعه الوظيفي أو الاجتماعي، أن يتعاطى مع نصوص الدستور على هواه، أو يعطي لها مدلولات ليست منها. ويكفي ما سبق أن أُعطي لنصوص الدستور من تفسيرات تم تفصيلها على مقاس الحكومات أو أجهزتها أو غيرهم من أصحاب النفوذ، تقرباً لنيل الرضى أو متاجرة لقبض الثمن، وقادتنا إلى ما نحن فيه من سوء حال.
15. وعود على دستورنا الأردني، فقد كان عند صدوره عام 1952 نموذجاً للدستور البرلماني، لكن التعديلات التي أجريت عليه، زادت من سلطة الحكومات، ومكنتها من التغول على ما عداها، وألحقت به التشويه، وأخلت بالتوازن الذي كان قائماً بين أحكامه عند صدوره. وحتى الحقوق والحريات التي لم يطالها التعديل في دستورنا، أفرغت من مضمونها بموجب تفسيرات على المقاس، أو بموجب قوانين مؤقتة أو دائمة صدرت على نحو مخالف لهذا الدستور. وتحولنا إلى دولة أمنية بدلاً من أن نكون دولة مدنية. وصاحب هذه الردة عن الدستور، خلق بيئة اجتماعية وسياسية يسيطر عليها الخوف، وطفا على السطح إعلام يتقن الهتاف والمديح، فدجنت الأقلام، واهتزت قيم المجتمع، وغُيّب الرأي الناقد لسلوك الحكومات، بعد أن تم تصنيف المواطنين إلى موالين وغير موالين، وحرم الوطن من كفاءات الكثير من أبنائه، فانتشر الفساد، واستشرى عند من يتسترون بجلباب الولاء، واستبيحت أراضي الدولة ونهب المال العام، وغدت المفاتيح المحركة لمسار السياسة حكراً على الأمني والمناسبين لمقاساته، لنصبح دولة أشخاص وليس دولة قانون ودستور. ولولا الرياح العاصفة القادمة من بلاد الثورات العربية، لبقي صوت من يجأر بالشكوى صوتاً نشازاً يوصف صاحبه بأنه صاحب أجندة خاصة، أو يعاني من البطالة السياسية، أو له علاقات مشبوهة مع الخارج، إلى غير ذلك من التهم الجاهزة التي كانت تتكرر صباح مساء، وتقتات على تكرارها أقلام وأبواق بعينها لا تعرف غير الانتماء لجيوبها ومصالحها.
إن الإصلاح الذي طلب جلالة الملك من الحكومة أن تقوم به، شامل لجميع المجالات، وينبغي أن نبدأ دون تأخير، نبدأ بإعادة نصوص جوهرية كما كانت إلى دستورنا، وحذف النصوص التي تكفلت بتشويهه، وإصدار قوانين جديدة للحريات، بمضامين تعكس حقيقة ما أوجبته النصوص الدستورية، واتخاذ الخطوات اللازمة لإعادة الأموال العامة التي نهبت ومحاسبة الفاسدين. ينبغي أن نبدأ بثورة بيضاء تنفذها الحكومة بتوجيه من جلالة الملك، لنصبح دولة مدنية يحكمها دستور وقانون، ونسبق أية سقوف للمطالبات القادمة مضامينها من بلاد هبات وانتفاضات، رغم اختلاف واقع نظام الحكم عندنا عن أنظمتها السياسية والدستورية.
يكفي أن نعلم بأن تلك الهبات والانتفاضات تطالب بنظام حكم برلماني، في حين أن نظامنا في الأردن برلماني، دستوره عريق وأصيل، لكننا استسهلنا الإساءة إليه. وقد آن الأوان لنطوي صفحة الماضي، ونعيد دولتنا إلى الحيوية التي يستحقها شعبها، والعود إلى الحق فضيلة.
اترك تعليقاً