المواطنة في القانون بين التنظير والتطبيق
محمد بن عبدالله السهلي
تمر الدول والمجتمعات في مسيرة حياتها بمراحل وتطورات عدة، فمنها المستقرة التي تنعم بالرخاء والرفاهية لفترات طويلة، ومنها التي تتعرض لكوارث أو محن أو تعصف بها أزمات وقلاقل، وقد تنجو منها وقد لا، وذلك تبعاً لعوامل عدة. ومن أهم عوامل استقرار الدول ورفاهيتها مبدأ المواطنة وما يتعلق به.
فالدولة ظاهرة اجتماعية لا يمكن أن تنتج وتبني مقوماتها وتنهض بمقدراتها وتحافظ على مكتسباتها إلا على أسس معينة أهمها مبدأ المواطنة، فهي مكون أساسي من مكونات الدولة وجوهر التفاعلات التي ينتجها المجتمع ويحيا بها. فما هو مفهوم المواطنة، وكيف يمكن للأنظمة والقوانين أن تكرس وتعمق هذا المفهوم للمواطنين؟ المواطنة هي علاقة بين الفرد والدولة يحددها الدستور بما ينص عليه من حقوق وواجبات للمواطن. ومؤداها حب وإخلاص المواطن لوطنه وخدمته له في أوقات السلم والحرب، وتشمل المواطنة مفهوم الانتماء والذي يعني انتساب الفرد لكيان ما، يكون منصهراً فيه شاعراً بالأمان في أرضه، محباً له ومعتزاً بهويته، فخوراً بالانتساب له، وفي ذات الوقت منشغلاً بقضاياه وعلى إدراك بمشكلاته، ملتزماً بقوانينه وقيمه، مراعياً للصالح العام محافظاً على مصالحه وثرواته، غير متخلّ عنه حتى في أوقات الأزمات والمحن. لذا فالمواطنة هي البوتقة التي تنصهر فيها جميع الانتماءات لصالح انتماء واحد فقط هو الوطن، دون أن يعني ذلك إلغاء الانتماء للقبيلة أو الأسرة أو المنطقة أو خلافه، وإنما يعني عدم تعارض هذه الانتماءات للانتماء الأكبر للوطن.
ورغم تحفظ البعض على مفهوم المواطنة لاعتقاده بتقاطعه مع الدين في عدة أوجه، إلا أن قضية البحث في أسباب الضعف بالإحساس بالمواطنة لدى بعض المواطنين السعوديين، تشكل مصدر تحدّ للدولة وإن لم تشكل ظاهرة مقلقة بعد ولله الحمد، وذلك للحفاظ على اللحمة والتكاتف بين المواطنين من جهة وبين المواطنين والدولة من جهة أخرى. لذا تثار قضية الانتماء للوطن وخصوصاً في السنوات الأخيرة من عدة أوجه دينية واجتماعية وسياسية وقانونية، فبحسب التعريف السابق للمواطنة وعند تطبيقه على أرض الواقع لدينا، نجد هناك فجوة بين المفهوم والتطبيق، حيث لا يزال يشوب المفهوم لدينا الكثير من القصور إدراكاً وعملاً، لذا نحتاج إلى عمل مضنٍ وشاق من أجل الوصول إلى أعلى درجات المواطنة الإيجابية. وللدلالة على ذلك نضرب هنا بعض الأمثلة حول ما نقصده من قصور في تطبيقات مبدأ المواطنة في المملكة، ومنها:
تعرض المملكة لأعمال إرهابية مؤلمة من مواطنين منتمين لها للأسف الشديد، مع وجود أعداد غير بسيطة من المواطنين المنتمين أو المتعاطفين مع الفئة الضالة.
لا يزال الانتماء للقبيلة أو المنطقة بل وحتى المذهب محدد رئيسي لدى أغلب فئات المجتمع في تقسيم المواطنين إلى درجات، على حساب الانتماء للكيان الكبير، فأصبح التنابز بالألقاب والنظرة الدونية والإقصاء للآخر بسبب انتماء لقبيلة أو منطقة ما من عدمه ظاهرة لا يمكن لأحد أن ينكرها.
إحساس المواطن بالولاء والحب لهذا الوطن والانتماء الحقيقي له يكتنفه الشك في بعض الحالات ويعود ذلك إلى أسباب عدة منها إحساس البعض بعدم المساواة في تكافؤ الفرص في مجالات كثيرة في الحياة. والشعور بأن الانتماء لقبيلة أو منطقة ما هو العامل الرئيسي لحياة أفضل لا الكفاءة والقدرة خاصة في ظل وجود ظاهرة الواسطة والفساد الإداري والمالي، وتفاوت مستوى التنمية بين مدن ومناطق المملكة.
لا تزال ثقافة الحقوق والواجبات غائبة عن الكثير من المواطنين، مع إيمان البعض منهم بعدم وجود المساواة في الحقوق والواجبات خاصة حين يرون نصوص الأنظمة تطبق على أشخاص دون غيرهم.
في كثير من الحالات لا يشعر المواطن بالهم العام أو بالصالح العام لأسباب عدة، والمواقع والمنتديات في شبكة الإنترنت تكشف عن هذه الحقيقة المرة.
غياب الوعي لدى الكثير من المواطنين بأهمية الحفاظ على مصالح وثروات البلاد.
والحق يقال أن الدولة بأجهزتها لم يغب عن ذهنها مسألة تكريس وتعميق المواطنة والانتماء لدى الشعب السعودي، وتسعى لذلك بطرق عدة إلا أن هناك حاجة لبذل المزيد من الجهد في عدة مسارات، منها الديني، والتربوي وخصوصاً للنشء من خلال تنشئتهم منذ الصغر على مبدأ المواطنة كقيم وممارسة، ولعل إقرار تدريس مادة التربية الوطنية دلالة على أهمية ذلك. وهناك المسار الاجتماعي كالواجب الذي يقع على الوالدين تجاه غرس المفهوم لدى أبنائهم، والمسار السياسي وما يستلزمه من توسيع المشاركة الشعبية في الحكم ومشاركة المواطنين في الشأن العام وهو التوجه القائم من القيادة كما حصل مثلاً في الانتخابات البلدية. وأخيراً هناك المسار القانوني، وهو ما يهمنا هنا.
إن أول دور يقوم به القانون في تعميق المواطنة هو النص على إقرار مبدأ المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات أمام أحكامه. لذا تحرص دساتير أغلب إن لم يكن كل دول العالم على اعتبار جميع المواطنين متساويين في الحقوق والواجبات دون تمييز بينهم تحت أي مبرر كان. والنص على حقوق وواجبات المواطن في الدساتير والعمل بها هو جوهر المواطنة والضامن الأساسي لنتائجها، فلا مواطنة بدونها، وفي المملكة نص النظام الأساسي للحكم (الدستور) على جملة من الحقوق والواجبات الأساسية والتي تعزز المواطنة الحقة، دون نسيان حقيقة أن أحكام الشريعة الإسلامية بمصادرها المختلفة هي المصدر الأساسي لهذا النظام وغيره من الأنظمة. وحقوق المواطنين الواردة في النظام الأساسي للحكم تُعدُّ في المقابل بمثابة واجبات على عاتق الدولة بأجهزتها المختلفة. والحقوق الأساسية للمواطنين والواردة في هذا النظام هي على النحو التالي:
1- قيام الدولة بتوثيق أواصر الأسرة والحفاظ على قيمها العربية والإسلامية ورعاية جميع أفرادها وتوفير الظروف المناسبة لتنمية ملكاتهم وقدراتهم (م/10)
2- قيام الدولة بتعزيز الوحدة الوطنية ومنع كل ما يؤدي إلى التفرقة والفتنة والانقسام (م/12)
3- أن يهدف التعليم إلى غرس العقيدة الإسلامية في نفوس النشء وإكسابهم المعارف والمهارات وتهيئتهم ليكونوا أعضاء نافعين في بناء مجتمعهم محبين لوطنهم معتزين بتاريخه. (م/13)
4- حرية الملكية الخاصة وحرمتها وحظر مصادرة الأموال إلا للمصلحة العامة مع التعويض العادل (م/18)
5- عدم فرض الضرائب والرسوم إلا عند الحاجة وعلى أساس من العدل (م/20)
6- تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية وفق خطة علمية عادلة (م/22)
7- حماية الدولة لعقيدة الإسلام وتطبيق شريعته والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام بواجب الدعوة إلى الله، وإعمار الحرمين الشريفين وخدمتهما وتوفير الأمن والرعاية لقاصديهما (م/ 23- 24)
8- حماية الدولة لحقوق الإنسان وفق الشريعة الإسلامية (م/26)
9- كفالة الدولة حق المواطن وأسرته في حالة الطوارئ والمرض والعجز والشيخوخة ودعم النظام الاجتماعي (م/27)
10- قيام الدولة بتيسير مجالات العمل لكل قادر عليه، وسن الأنظمة التي تحمي العامل وصاحب العمل (م/28)
11- رعاية الدولة للعلوم والآداب والثقافة، وتشجيع البحث العلمي (م/29)
12- توفير الدولة للتعليم العام ومكافحة الأمية، والعناية بالصحة وتوفير الرعاية الصحية لكل مواطن (م/ 30- 31)
13- عمل الدولة على المحافظة على البيئة وحمايتها وتطويرها ومنع التلوث عنها(م/32)
14- توفر الدولة الأمن لجميع مواطنيها والمقيمين على إقليمها، ولا يجوز تقييد تصرفات أحد أو توثيقه أو حبسه إلا بموجب أحكام النظام (م/36)
15- حرمة المساكن فلا يجوز دخولها بغير إذن صاحبها ولا تفتيشها إلا في الحالات التي يبينها النظام (م/37)
16- العقوبة شخصية ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناءً على نص شرعي أو نص نظامي (م/38)
17- المراسلات البرقية والبريدية والاتصالات الهاتفية وغيرها من وسائل الاتصال مصونة، ولا يجوز مصادرتها أو تأخيرها أو الاطلاع عليها أو الاستماع إليها إلا في الحالات التي يبينها النظام (م/40)
18- مجلس الملك ومجلس ولي العهد مفتوحان لكل مواطن ولكل من له شكوى أو مظلمة، ومن حق كل فرد مخاطبة السلطات العامة فيما يُعرض له من الشؤون (م/43)
19- حق التقاضي مكفول بالتساوي للمواطنين والمقيمين في المملكة (م/47)
هذه هي جملة الحقوق الأساسية التي تم النص عليها في النظام الأساسي للحكم، والتي يجب أن يتمتع بها أي مواطن مهما كانت ضرورة أو كيفية استخدام هذا الحق أو الانتفاع به. وهي حقوق تتمتع بسمو على ما عداها لورودها في أسمى الأنظمة وأعلاها، فهو النظام الذي يُعدُّ المصدر لباقي الأنظمة بحيث لا يمكن أن يصدر أي نظام عادي مخالفا لما جاء في النظام الأساسي للحكم وما نص عليه من حقوق. وفي مقابل هذه الحقوق من الطبيعي أن تكون هناك واجبات، فليس من العدل أو المنطق بأي حال من الأحوال أن يتمتع الشخص بحقوق ويكون في منأى عن تحمل الواجبات، والواجبات على المواطنين المنصوص عليها في النظام الأساسي للحكم – وهي في المقابل حقوق للدولة – هي:
1- مبايعة الملك على كتاب الله وسنة رسوله وعلى السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره (م/6)
2- تربية أفراد الأسرة على أساس العقيدة الإسلامية وما تقتضيه من الولاء والطاعة لله ولرسوله ولأولي الأمر، واحترام النظام وتنفيذه وحب الوطن والاعتزاز به وبتاريخه المجيد (م/9)
3- تعزيز الوحدة الوطنية وعدم القيام بما يؤدي للفرقة والفتنة والانقسام (م/12)
4- واجب المحافظة على الأموال العامة (م/16)
5- الدفاع عن العقيدة الإسلامية والوطن (م/34)
6- الالتزام بالتعبير بالكلمة الطيبة في وسائل الإعلام وبأنظمة الدولة، وحظر ما يؤدي إلى الفتنة والانقسام أو مس أمن الدولة وعلاقاتها العامة، أو الإساءة إلى كرامة الإنسان وحقوقه (م/39)
بعد استعراض الحقوق والواجبات الأساسية للمواطن والتي كما أسلفنا الذكر أنها جوهر مبدأ المواطنة، يمكن القول أن الدور القانوني اللازم لتحقيق المواطنة ونعني به الحماية التشريعية موجود وقائم من الناحية النظرية، ولكن هذا لا يكفي ما لم يصاحبه تطبيق فاعل. وفي سبيل مواجهة التحدي الذي تواجهه الدولة لتكريس المواطنة في المسار القانوني -دون تجاهل باقي المسارات التي تمت الإشارة لها من قبل- نذكر هنا بعض المقترحات:
أولاً– نشر ثقافة الحقوق والواجبات في المجتمع بجميع الوسائل الممكنة، وإقرار تدريسها في مادة التربية الوطنية في جميع مراحل التعليم العام، خاصة وأن نصف الشعب السعودي تقريباً هم من الفئة العمرية ما دون العشرين.
ثانياً- التأكيد على جميع الجهات الحكومية بالتطبيق الجاد قدر المستطاع بكل ما أتت به هذه الحقوق والواجبات، حتى يشعر المواطن أن الحماية القانونية لحقوقه قائمة وحقيقية وليست شكلية، وأنه لا تمييز بين المواطنين لأسباب غير شرعية أو قانونية.
ثالثاً- المسارعة في إصدار نظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية لتكون الإطار القانوني لعمل مؤسسات المجتمع المدني، وهي المؤسسات التي تأخذ على عاتقها استيعاب طاقات المجتمع وقدراته.
رابعاً- سن عقوبات إما في حال تقنين نظام للعقوبات أو بالتعزير من قبل القضاة في المحاكم الشرعية للأفعال أو الأقوال التي تدخل في نطاق العنصرية أو تؤدي للفرقة والفتنة والانقسام بين مكونات المجتمع وأطيافه، فالعنصرية في المجتمع والنظرة الدونية لبعض الفئات والمناطق من الأسباب المؤدية لشق وحدة الصف في الداخل. ونأسف حين نرى قوانين الدول الغربية تجرم أي قول أو فعل يدل على العنصرية بين فئات المجتمع ونحن لا يوجد لدينا ذلك رغم تحريم الدين الإسلامي له.
خامساً- زيادة فاعلية دور هيئة حقوق الإنسان والجمعية الوطنية لحقوق الإنسان.
وختاماً فإن المواطنة والانتماء لهذه البلاد المباركة مطلب ملح للحفاظ على وحدته وتلاحم شعبه مع قيادته الحكيمة، وبما يتطلبه تحقيق هذا الهدف من بذل الغالي والنفيس. فمهما تعددت مناطق أو قبائل المملكة ومهما تعددت الانتماءات، يجب أن نجمع على أمر واحد وهو أن الوطن للجميع وأن الانتماء الأكبر يجب أن يكون له، تحت حكم الشريعة الإسلامية والقوانين الموافقة لها، وفي ظل المساواة التامة بين أفراده حيث لا تمييز بينهم إلا لسبب شرعي أو قانوني.
@ باحث قانوني
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً