الموت الرحيم» بدافع الشفقة والمسؤولية الجزائية للطبيب في ضوء آفاق الطب الحديث
القتل بدافع الشفقة أو الموت الرحيم «أوتاناسيا»، كلها مترادفات بمعنى واحد هو : تخليص المريض من آلامه المبرحة التى لا يرجى لها شفاء , أو لتخليصه من تشوهات خلقية ولد بها سواء كان الفاعل طبيبا أو أحد أقارب المريض , وإن كان الغالب ارتكابها من الأطباء سواء بحقن المريض بمادة قاتلة أو رفع أجهزة الإنعاش الاصطناعية أو امتناعه عن تركيبها.
والملاحظ أن هذا الموضوع الشائك ما يكاد يهدأ الا سرعان ما يثور و يطفو إلى السطح , فيفرض نفسه على بساط البحث في كافة الساحات القانونية والأخلاقية والدينية والطبية والاجتماعية , والسؤال المركزي هل يباح هذا القتل بسبب هذا الباعث؟ من هنا اثار القتل بدافع الشفقة أو الموت الرحيم جدلا كبيرا , وانقسمت الآراء بين مؤيد ومعارض فمنهم من رفض رفضا تاما مناقشة المسألة حتى لو كان المريض على فراش الموت ينازع ويحتضر , مما شجع البعض الأخر على اتخاذ مثل هذا القرار لكونه حسب رأيه الحل الأنسب لوقف عذاب وآلام المريض وبالأخص ذويه.
ان تلك المسألة ليست جديدة , إذ أن الشعوب والقبائل البدائية كانت تمارسه , فكانت مثلا تقتل الكسيح لأنه يعيق القبيلة في تنقلاتها و تدفن اصحاب الأمراض المعدية أحياء لأسباب وقائية .
وباستعراض واقع الحال في البلدان المختلفة سواء اجتماعيا أو تشريعيا أوقضائيا, نجد مدى تعقد هذه المسألة وارتباطها بفلسفات المجتمعات المختلفة.
ففي بريطانيا تجدد الجدل حديثا بشأن القتل بدافع الشفقة بعد بث الفيلم الوثائقي الذي يروي قصة انتحار الاستاذ الجامعي الأميركي تريغ ايورت في عيادة متخصصة في سويسرا ليتخلص من آلامه المبرحة نتيجة مرض بالخلية العصبية الحركية .
وهذا وتحظر بريطانيا القتل بدافع الشفقة , وفي حالة ادانت أي شخص بذلك فانه قد يواجه عقوبة السجن لمدة 14 عاما , وقد أعاق مجلس اللوردات البريطاني مشروع قانون للقتل بدافع الشفقة أو الموت الرحيم , بينما نجد اتجاها آخر في القضاء البريطاني , حيث قضت محكمة ببراءة الوالد من تعمده قتله لابنته التي كانت تعاني من ألام مبرحة نتيجة لأصابتها بمرض ميؤس من شفائه، وقد برر إقدامه على فعله هذا بأنه لم يستطع تحمل رؤية ابنته تعاني الآلام المبرحة في الوقت الذي ينعدم فيه أي أمل في الشفاء، وقد بررت المحكمة تبرئتها للأب المتهم بأن الباعث الوحيد على قتلها هو وضع حد للعذاب التي كانت تقاسيه.
بينما تشتهر سويسرا بسياحة الموت فمنذ عام 1998 تمكن أكثر من 1700 أجنبي من الانتحار بالحصول على الموت الرحيم , بل هناك المئات من سجلوا أسماءهم على لائحة العيادات السويسرية ممن يرغبون بانهاء حياتهم هناك , ومن أشهر العيادات عيادة تدعى ” ريجنيتاس ” , حيث يجيز القانون السويسري ذلك بشرط إلا يكون الهدف من وراء ذلك الربح المادي , بل تنشط جمعيات للدفاع عن الموت الرحيم بداعي الحفاظ على كرامة الإنسان مثل جمعية ” كرامة ” , فسويسرا تفتح أبوابها للراغبين في الموت الرحيم .
ومما هو جدير ذكره بأنه هناك العديد من القضايا التي تنظرها المحاكم في الدول الأوربية تطالب باستعمال القتل بدافع الشفقة أو الموت الرحيم , فنجد في ايطاليا على سبيل المثال , وبعد أعوام من الجدل , وفي آب 2008 وبقرار من محكمة استئناف في مدينة ميلانو سمحت لأحد الآباء بوقف العلاج عن ابنته التي هي طريحة الفراش في غيبوبة تامة منذ عام 1999 , بينما في قضية أخرى يرفض قاض ايطالي طلبا تقدم به رجل يدعى بيير جيورجيو ويلبي 60 عام , يعاني من مرض لا شفاء منه , حيث يلازم فراشه طوال الوقت وتتم تغذيته بواسطة الأنابيب ويتحدث من خلال كمبيوتر يقرأ حركات عينيه , بأن يسمح له بوضع حد لحياته من خلال فصل أجهزة الإنعاش الطبي، وقد أثارت تلك القضية نقاشا حادا في ايطاليا وهي دولة ذات غالبية كاثوليكية تعتبر الموت الرحيم مسألة محظورة.
وفي الجانب الآخر نجد إن العالم الشهير نوبل قدم في القرن التاسع عشر ثلاثين مليون ليرة لايطاليا في مقابل بناء مؤسسات للموت الرحيم بالنسبة لأولئك الذين يعانون من آلام مبرحة وقد اقترح ان يتم إعطاء وجبات فاخرة لهؤلاء المرضى يتم بعدها إدخال النوم عليهم بروائح جذابة تحت سمع موسيقا هادئة .
أما في فرنسا فقد اثارت قضية انتحار ربة بيت ” شانتال سيبير ” في عام 2008 , بعد أن قدمت طلبا للقضاء لقتلها قتلا رحيما بسبب إصابتها بورم سرطاني شوه وجهها , وقد رفض الطلب , فأنقسم الرأي العام الفرنسي بين مؤيد ومعارض وقد علقت وزيرة العدل الفرنسية رشيدة داتي بالقول : تريد هذه السيدة من العدالة أن ترفع المسئولية الجزائية عن طبيبها , لكننا أسسنا تشريعاتنا على مبدأ الحق في الحياة , وهو مبدأ ذاته الذي يحكم الشرعة الأوروبية لحقوق الإنسان .
بينما نجد أن ذات القضاء الفرنسي وفي قضايا أخرى يحكم ببراءة من ساعد على استعمال القتل بدافع الشفقة أو الموت الرحيم , ففي عام 1966 برأت محكمة حيث قتلت هذه السيدة طفلها بمادة Gardinal لأنه كان مصابا بفقدان التوازن والصمم والبكم والعمى , وقد سألها رئيس المحكمة لو وجدت نفسك مرة أخرى في هذا الموقف فهل كنت تقدمين على نفس العمل ؟ فأجابت على الفور بأنها إذا وجدت في مثل هذا الموقف مرة أخرى كانت ستقدم على نفس الفعل , وإزاء هذه الإجابة برأتها المحكمة .
وفي عام 1925 برأت محكمة استئناف باريس فتاة من تهمة قتلها لخطيبها الذي كان يعاني آلاما مبرحة نتيجة مرضه الذي كان لا يرجى شفاؤه , وبررت المحكمة حكمها بقولها ” لا جناح على من يقتل نفسا بقصد تخليصها من عذاب داء عضال لا يرجى للمرء منه شفاء , وذلك بناء على أن نية القتل النفس غير موجودة , حيث حلت محلها النية بوضع حد لآلام طال عليها الأمد ولا أمل في الشفاء منها “.
ولكن وفي عام 2005 أجري تعديل على القانون الفرنسي , بجعله اكثر توازنا واكثر تسامحا في مواجهة المرضى الذين يطلبون الموت بحجة اليأس من الشفاء وعدم القدرة على الاستمرار في تحمل الألم، وهو ما يسمى بالموت الرحيم غير المباشر، بحيث يمكن للطبيب المعالج ايقاف التغذية الصناعية مثلا , لكنه لا يمكنه إعطاء المريض حقنة مميتة، وأصبحت الصورة غير المباشرة للموت الرحيم مباحة بشرط رغبة المريض في رفض العلاج .
وفي الولايات المتحدة الأمريكية لا يزال القتل بدافع الشفقة الفعال غير مسموح به قانونيا، بل يعاقب فاعله بمسئولية القتل العمد، وعلى العكس من ذلك نجد أن ولاية أوريجون سمحت بالقتل بدافع الشفقة المباشر منذ عام 1997، بأن يعطى المريض الميئوس من شفائه حقنة قاتلة بناء على طلبه، كما تجيز تشريعات كل من ولاية كاليفورينا وولاية الاسكا وتكساس حق المريض في رفض العلاج وإنهاء حياته، وفي عام 2005 سن الكونجرس قرارا بشأن حق الحياة لكل مريض لا يزال يتنفس مهما تكن استشارات الأطباء، بينما يستدل على إقرار بعض احكام القضاء لهذا القتل بدافع الشفقة بحكم للمحكمة العليا في نيوجيرس التي حكمت لصالح والد فتاة تدعى كارين التي تعيش على أجهزة الانعاش لفترة طويلة برفع تلك الأجهزة واستعمال الموت الرحيم بعد رفض الطبيب ذلك.
وعللت المحكمة حكمها بأن لا أمل من شفائها وتخليصها من آلامها ، وأن الواجب الذي يقع على عاتق الدولة لصيانة حياة الناس، يجب ان ينحى في هذه الحالة الشاذة أمام حقوق الافراد الخاصة، وبالتالي فانه لا يجوز إرغام كارين على أن تتحمل ما لا يمكن تحمله، لمجرد أن تظل في حياة اصطناعية بضعة اشهر اخرى، دون أن يكون لها أقل أمل واقعي في ان تعود الى حياتها. وفي الوضع الحالي، فانه يعود لولد كارين الشرعي أن يمارس باسمها هذه الحقوق .
وفي المانيا ثار الجدل حول قضية القتل بدافع الشفقة أو الموت الرحيم في عام 2008 وذلك جراء اعتراف روجركوش وزير العدل السابق بولايته هامبورج بأنه ساعد امرأة 79 سنة على انهاء حياتها بالرغم من انها لم تكن مصابة بمرض خطير، بالرغم من أن الوضع القانوني هناك يجرم المساعدة المباشرة في الاقدام على الموت، كأن يحقن الطبيب المريض بحقنة تحتوي على سم قاتل، أما المساعدة غير المباشرة فلا تقع تحت طائلة القانون، بمعنى الإحجام عن القيام بإجراءات قد تطيل الحياة كإجراء عملية معقدة في سن متأخرة، او اعطاء عقاقير طبية تخفف الآلام، لكنها تسبب آثارا جانبية قد تسبب الوفاة كالمورفين مثلا .
وفي الدنمارك يسمح قانون ممارسة المهنة الطبية للأطباء بعدم السعي للمحافظة على حياة مريض ميئوس من شفائه وغير قادر على التعبير عن إرادته , وبالتالي يحق للطبيب ان يمتنع عن معالجة أي مريض يرى أنه لا أمل في شفائه، وحتى لو لم يبد المريض رغبة بعدم الاستمرار في العلاج، وذلك بالرغم من أن قانون العقوبات الدنمركي يعاقب بموجب المادة 239 على المساعدة على الانتحار.
اما بالنسبة لهولندا فتعد أول دولة تشرع القتل بدافع الشفقة أو الموت الرحيم وذلك في عام 2002، وذلك بعد نقاش دام 25 عام في المجتمع الهولندي حول إمكانية السماح بالموت الرحيم، حيث نص القانون على اتباع إجراءات محددة، حين إبداء المريض رغبة واضحة , وان تكون معاناته كبيرة ولا شفاء منها , كما يتعين على الطبيب أن يطلب رأي زميل آخر له.
وعلى نهج هولندا مضت بلجيكا ولكنها وضعت اعتبارا جديدا يتمثل في السن القانوني، هذا وقد سبق القضاء البلجيكي التشريع في إقراره لاستعمال الموت الرحيم، ففي عام 1961 عرضت على القضاء البلجيكي حالة تتلخص وقائعها في أم رزقت بطفلة مصابة بتشوه فظيع عند ولادتها نتيجة مما كانت تتعاطاه الام من أدوية مهدئة للأعصاب , أثناء الحمل , فقام الطبيب البلجيكي , بناء عن توسلات الأم والحاحها، بقتل الطفلة بالسم، وصدر الحكم ببراءة الطبيب استنادا إلى قرار المحلفين الذي جاء بالإجماع أنه غير مذنب، رغم أن الأسباب التي بني عليه هذا الحكم لم تكن متسقة مع أحكام القانون البلجيكي الذي يعاقب على القتل أيا كان الباعث عليه في ذلك الوقت .
اما في البلاد العربية والإسلامية فيعتبر القتل بدافع الشفقة محظورا من الناحية القانونية والشرعية،وان كانت بعض البلدان العربية مثل لبنان وسوريا تعتبره في هذه الحالة ظرفاً مخفضاً للعقوبة، فوفقا للمادة 552 عقوبات لبناني ” يعاقب بالاعتقال عشر سنوات على الأكثر من قتل إنسانا قصدا بعامل الإشفاق بناء على الحاحه في الطلب “، وهو عين المادة 538 عقوبات سوري. ويبدو أن المشرعين البناني والسوري قد اعتنقا من باعث الشفقة في هذه الحال لتخفيف العقاب على القتل من بعض التشريعات العقابية الأوروبية مثال ذلك المادة 207 عقوبات الماني، المادة 57 عقوبات ايطالي .
ومن الأهمية بمكان الاشارة للتفرقة بين القتل بدافع الشفقة والموت الاكلنيكي، فعندما يقوم الطبيب بعمل فعال لموت المريض مثل اعطاء المريض جرعة عالية من بعض العقاقير المسببة للموت، نتيجة الحاح المريض وطلبه، فهنا يسمى بالقتل بدافع الشفقة. اما عندما يتدخل الطبيب برفع أجهزة الإنعاش عن المريض الذي اجمع الاطباء على انه لن يعود للحياة مرة اخرى بسبب موت جذع الدماغ، وهنا يسمى بالموت الاكلنيكي، فالفرق بينهما كبير.
وهذا وقد عرف مؤتمر جنيف الدولي المنعقد عام 1979 الموت بتوقف جذع المخ عن العمل بغض النظر عن نبض القلب بالأجهزة الصناعية، وهذا بالطبع عمل مشروع، ويتفق مع مقررات مجمع الفقه الإسلامي الثالث التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في عمان بالأردن عام 1987 حول أجهزة الإنعاش والموت الاكلنيكي، وقد نصت الفتوى الصادرة من المجلس الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته العاشرة في 24\2\1408 هجرية على أن : ” المريض الذي وضعت على جسمه أجهزة الإنعاش يجوز رفعها إذا تعطلت جميع وظائف دماغه نهائيا وقررت لجنة من ثلاثة أطباء اختصاصين خبراء أن التعطل لا رجعة فيه، وإن كان القلب والتنفس لا يزلان يعملان آليا , بفعل الأجهزة المركبة , لكن لا يحكم بموته شرعا الا اذا توقف التنفس والقلب، توقفا تاما بعد رفع هذه الأجهزة “.
ويؤكد ذلك ايضا الشيخ جاد الحق علي جاد الحق في كتابه ” بيان للناس ” أنه:” أما بالنسبة للموت الاكلنيكي فانه يمنع تعذيب المريض المحتضر باستعمال أية ادوات أو أدوية متى يتبين للطبيب ان هذا كله لاجدوى منه، وعلى هذا فلا اثم اذا أوقفت الاجهزة التي تساعد على التنفس وعلى النبض متى تبين للمختص القائم بالعلاج ان حالة المحتضر ذاهبة به الى الموت”. والحق أنه في تلك الحالة ليست هناك جريمة في حالة إيقاف أجهزة الإنعاش، لكون المريض قد فقد الحياة الإنسانية الطبيعية بموت خلايا دماغه، والجريمة تفترض وجود حياة إنسانية طبيعية .
اترك تعليقاً