الميراث عند المسيحين في سوريا
المقدمة :
منذ أن صعد السيد المسيح إلى السماء مخلفاً على الأرض جمهوراً من المؤمنين .. أي منذ قرون وقرون مضت وانقضت .. وأجيال تعاقبت تتلوها أجيال .. وقضية الميراث لدى مسيحي الشرق مسألة خلافية تتقاذفها تشريعات وأنظمة تتبدل تبعاً لتبدل الأزمان والأوطان .
ومن خلال هذه المعاناة .. معاناة المسيحي المشرقي نعرض هذه المقدمة التاريخية لنرى كيف كانت تتوزع التركة فيما بين الورثة ومن هي السلطة المكلفة بإقرار الأنصبة الإرثية فيما بين المسيحيين .
بالأصل لم يرد في أي من الأناجيل ما يشير إلى موضوع الميراث , وإن قول السيد المسيح : “إن مملكتي ليست من هذا العالم ” (يوحنا 18/36)
وقوله أيضاً : ” أعطوا ما لقصير لقصير وما لله لله ” لوقا(20/25)
وما جاء في إنجيل لوقا (12/13) :
فقال له رجل من الجميع : (يا معلم مر أخي بأن يقاسمني الميراث فقال له ( يا رجل من أقامني عليكم قاضياً أو قساماً )
وهكذا فقد تحاشى السيد المسيح وضع تشريعات جديدة .. واكتفى بترسيخ المبادئ العامة المستوحاة من رسالته السماوية ومقاصدها السامية .
وعبر العور استوحت الكنيسة من هذه المبادئ السامية لوضع التشريعات المناسبة لكل زمان ومكان وثقافة ومجتمع .
أقوال السيد المسيح تؤكد بأن قضية الميراث والتوريث ليست من العقائد الدينية , لذا يقتضي بحث موضوع الميراث في ضوء التشريع المدني العلماني بمعزل عن تشريعات الأحوال الشخصية , إلا أنه لابد أولاً من العودة إلى قوانين الأحوال الشخصية ومعرفة مضمون هذه القوانين والمسائل التي تناولتها وما قد ورد فيها من نصوص تتعلق بالميراث وبالتالي بيان الصلة التي تربط الميراث بتشريعات الأحوال الشخصية . وهنا يبدو الفارق واضحاً ما بين طبيعة الميراث لدى المسلمين وبين طبيعة الميراث لدى المسيحيين.
إذ بالعودة إلى قانون الأحوال الشخصية لدى المسلمين في سورية نقرأ في أسبابه الموجبة أن المشرع اعتمد المذهب الحنفي.
وأن أصول الميراث لدى المسلمين مستمدة حصراً من القرآن الكريم وما أنزل فيه من آيات في سورة النساء والأنفال و الأحزاب ثم جاءت السنة النبوية مكملة ومتممة لما ورد بالقرآن الكريم وبموجب الآيات القرآنية يتضح بأن الميراث لدى المسلمين يتصف بالصفة الدينية لورود نصوص الميراث بالقرآن الكريم , وأما الميراث لدى المسيحيين فلم يرد عليه نص بالإنجيل .. لأن السيد المسيح – كما ذكرنا – تحاشى وضع تشريعات مدنية جديدة.
وعن ذلك نخلص بأن الميراث لدى المسيحيين لا يندرج بالأحوال الشخصية ذات الصبغة الدينية في حين ورد النص على الميراث لدى المسلمين بآيات من القرآن الكريم ويتصف بالصفة الدينية.
لما تقدم .. فإن ميراث المسلم تحكمه قواعد دينية ثابتة بنصوص قرآنية.
أما ميراث السيد المسيح فلا يعتبر من الثوابت الدينية بل تحكمه القوانين والأنظمة التي تسود المجتمع حيث يعيش الإنسان المسيحي ويقيم.
وهكذا يتضمن هذا الملف قسمين اثنين :
القسم الأول : سنعرض على صفحاته تاريخ الميراث المسيحي وتطور التشريعات والسلطات القضائية المتعلقة بمسائل الميراث.
القسم الثاني : يتضمن النصوص التشريعية التي نظمت قضايا الميراث المسيحي وتطورها ونشأة المحكمة الروحية وسلطاتها القضائية في سورية.
القسم الأول
التطور التاريخي لقضايا الميراث المسيحي ويتضمن خمسة فصول :
الفصل الأول : مرحلة ما قبل الإسلام.
الفصل الثاني : مرحلة العهد الإسلامي.
الفصل الثالث : مرحلة العهد العثماني.
الفصل الرابع : الانتداب الفرنسي.
الفصل الخامس : مرحلة الاستقلال وما بعده إلى العام 2010.
الفصل الأول :مرحلة ما قبل الإسلام
ظهر الدين المسيحي في فلسطين وعم انتشاره في المشرق ثم امتد إلى الغرب وانتشر في أرجاء العالم بفعل الموعظة والتبشير ..
وقد حارب أباطرة الرومان الدين المسيحي واضطهدواالمسيحيين .. مما اضطر الكنيسة إلى تنظيم نفسهامدنياً يكل يغني أتباعها عن اللجوء إلى مؤسسات الدولة الوثنية والاحتكام إليها .. ويومها تأسست السلطة القضائية الخاصة بالمسيحيين والمسماة حالياً (المحكمة الروحية ) أو المحكمة الكنسية وكان الفضل في إحداث المحاكم الكنسية إلى بولس الرسول .
وفي رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس يقول :
” رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس”.
الإصحاح السادس
” أيتجاسر منكم أحد له دعوى على آخر أن يحاكم عند الظالمين وليس عند القديسينألستم تعلمون أن القديسين سيدينون العالم . فان كان العالم يدان بكم افانتم غير مستاهلين للمحاكم الصغرى . ألستم تعلمون أننا سندين ملائكة فبالأولى أمور هذه الحياة فان كان لكم محاكم في أمور هذه الحياة . فاجلسوا المحتقرين في الكنيسة قضاة لتخجيلكم أقول اهكذا ليس بينكم حكيم ولا واحد يقدر أن يقضي بين اخوته لكن الأخ يحاكم الأخ وذلك عند غير المؤمنين. لكن الأخ يحاكم الأخ وذلك عند غير المؤمنين. فالان فيكم عيب مطلقا لان عندكم محاكمات بعضكم مع بعض“.
وهكذا أحدث القديس بولس المحاكم الكنسية لتقضي فيما بين المؤمنين ويومها لم تقتصر صلاحياتها على تنظيم علاقات الأسرة وما يتعلق بالأحوال الشخصية .. بل إن المحكمة الكنسية أنشأت أحكاماً لمختلف أنواع العلاقات القانونية الأخرى بين المؤمنين – وذلك بحكم الضرورة الناشئة عن وضع المسيحيين في بلاد وثنية تضطهدهم سلطاتها المدنية.
وقد استمد رجال الكنيسة هذه الأحكام من مبادئ القانون الطبيعي ومن قواعد العدالة ومن القوانين الوضعية المختلفة التي كانت سائدة في ذلك الحين بعد تعديلها بما يتفق مع المبادئ الأخلاقية التي نادى بها السيد المسيح في تعاليمه.
واستمر هذا الوضع إلى أن اعتنق الإمبراطور قسط نطين الدين المسيحي وأصدر عام 312/م (مرسوم ميلانو ) الذي منح المسيحيين حرية العبادة وبموجب القوانينالتي أصدرها الإمبراطور المذكور توسعت السلطة الكنسية وازداد تدخلها في شؤون التشريع والقضاء وفي قضايا الأحوال الشخصية والقضايا المدنية ومنها قضايا الميراث والتركات وما يتفرع عنها.
وعندما تعددت شيع المسيحيين , أصبح لكل من طوائفهم محاكمها الكنسية الخاصة بها وقوانينها الطائفية التي بها تنظم أمور رعاياها.
الفصل الثاني :مرحلة العهد الإسلامي
جاء الإسلام وأوصى المسلمين خيراً بالنصارى وأعطاهم الحماية في معتقداتهم وفي ممارسة شعائر دينهم.
وقد وردت تعاليم الإسلام وتوصياته فيما يتعلق بالنصارى في عدد من الآيات وفي عدد من الرسائل والعهود.
وتضمنت هذه الآيات والرسائل والعهود تأكيدات بأن الإسلام يعتبر النصارى أقرب الناس مودة للمسلمين ودعوة إلى احترام عقائدهم الدينية وحمايتها وضمان الحرية لهم في ممارسة عباداتهم وشعائرهم الدينية وعدم إكراههم على تغير دينهم هذا كله تحت طائلة اعتبار من يخالف ذلك خارجاً عن تعاليم الإسلام.
” لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ”.
وكما أن هناك عهوداً أعطيت بالأمان على جميع الرعايا المسيحيين وكهنتهم ورهبانهم وكنائسهم واديرتهم وأماكنهم المقدسة , ويشمل العهد كافة شيع المسيحيين
العهدة النبوية
هذا لأول عهد أعطاه النبي الكريم محمد ((ص)) إلى النصارى ورهبانهم ويعرف باسم العهدة النبوية .كتبه علي بن أبي طالب ووضع في مسجد النبي في السنة الثانية للهجرة , وحملت منه نسخ إلى الأديار . من ذلك نسخة كانت محفوظة في دير طور سينا الأرثوذكسي , ولكن السلطان سليم الفاتح العثماني نقلها إلى الأستانة في أوائل القرن السادس عشر , وترجمت إلى اللغة التركية , وابقوا النسخة التركية في الدير وحملوا النسخة العربية الأصلية إلى الأستانة . وهذا نص العهدة النبوية :
” هذا كتاب كتبه محمد بن عبد الله إلى كافة الناس أجمعين , رسوله مبشراً ونذيراً ومؤتمنا على وديعة الله في خلقه لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسول , وكان الله عزيزاً حكيماً , كتبه لأهل ملة النصارى ولمن تنحل دين النصرانية من مشارف الأرض ومغاربها ,قريبها وبعيدها ,فصيحها وعجمها ,معروفها ومجهولها ,جعل لهم عهداً ,فمن نكث العهد الذي فيه وخالفه إلى غيره وتعدى على ما أمره , كان لعهد الله ناكثاً ولميثاقه ناقصاً وبدينه مستهزئاً وللعنته مستوجباً , سلطاناً كان أم غيره من المسلمين . وإن احتمى راهب أو سائح في جبل أو واد أو مغارة أو عمران أو سهل أو رمل أو بيعة , فأنا أكون من ورائهم , ادب عنهم من كل غيرة لهم بنفسي و أعواني وأهلي وملتي وأتباعي , لأنهم رعيتي وأهل ذمتي , وأنا أعزل عنهم الأذى في المثون التي يحمل أهل العهد من القيام بالخارج إلا ما طابت له نفوسهم وليس عليهم جبر ولا إكراه على شيء من ذلك . ولا يغير أسقف من أسقفته ولاراهب من رهبانيته ولا حبيس من صومعته ولا سائح من سياحته ولا يهدم بيت من بيوت كنائسهم وبيعهم ,ولا يدخل شيىء من مال كنائسهم في بناء مساجد المسلمين ولا بناء منازلهم , فمن فعل شيئاً من ذلك فقد نكث عهد الله وعهد رسوله , ولا يخمل على الرهبان والأساقفة ولا يتعبد جزية أو غرامة . وأنا
أحفظ ذمتهم أينما كانوا من بر أو بحر في المشرق أو المغرب والجنوب والشمال ,وهم في ذمتي وميثاقي وأماني من كل مكروه . وكذلك من يتفرد بالعبادة في الجبال والمواضع الباركة لا يلزمهم مما يزرعونه لا خراج ولاعشر ولا يشاطرون لكونه برسم أفواههم ولا يعاونون عند إدراك الغلة , ولا يلزمون بخروج في حرب وقيام بجبرية ,ولا من أصحاب الخراج وذوي الأموال والعقارات والتجارات مما هو أكثر من اثني عشر درهماً بالجملة في كل عام , ولا يكلف أحد منهم شططا , ولا يجادلون إلا بالتي هي أحسن ويحفظونهم تحت جناح الرحمة يكف عنهم أذية المكروه حيثما كانوا وحيثما حلوا . وإن صارت النصرانية عند المسلمين فعليها برضاها ويمكنها من الصلاة في بيعها , ولا يحال بينها وبين هوى دينها , ومن خان عبد الله واعتمد بالضد من ذلك , فقد عصى ميثاقه ورسوله ويعانون على مرمة بيعهم ومواضعهم وتكون تلك مقبولة لهم على دينهم وفعالهم بالعهد . ولا يلزم أحد بنقل سلاح , بل المسلمون يذبون عنهم , ولا يخالف هذا العهد أبداً إلى حين تقوم الساعة وتنقضي الدنيا”.
(جرجي زيدان – تاريخ التمدن الإسلامي ج 4 ص 89 – منشور بكتاب حنا
مالك – الأحوال الشخصية ومحاكمها للطوائف المسيحية في سورية ولبنان )
العهدة العمرية
المعاهدة الموقعة بين الخليفة عمر بن الخطاب
وبطريرك بيت المقدس صفرونيوس
بسم اله الرحمن الرحيم ,
هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل أيلياء من الأمان , أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم , ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها .
أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها , ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم , ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم , ولا يسكن بايلياء معهم أحد من اليهود.
وعلى أهل ايلياء أن يعطوا الجزية كما يعطى أهل المدائن . وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص . فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم , ومن أقام منهم فهو آمن وعليه مثل ما على أهل ايلياء من الجزية . ومن أحب من اهل ايلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصلبهم فغنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم . ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل ايلياء من الجزية , ومن شاء سار مع الروم , ومن شاء رجع إلى أهله . وإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم.
وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية.
ثم شهد على ذلك خالد بن الوليد , وعمرو بن العاص , وعبد الرحمنبن عوف , ومعاوية بن أبي سفيان . وكتب وحرر سنة خمس عشرة.
(منشور في مجموعة الوثائق السياسية – محمد حميد الله )
وتبعاً لذلك كان المسيحيين يتمتعون بحرية العبادة وممارسة الشعائر والحكم بموجب قوانينهم وكانوا يرجعون في أمورهم ومعاملاتهم الدنيوية إلى رؤساء طوائفهم.
ومن الثابت أن الامتيازات التي كان يتمتع بها رؤساء الطوائف الدينية قد بقيت على ما كانت عليه ولم يحصل انتقاص منها , ولم يفرض على المسيحيين نظام قضائي جديد وظلوا يخضعون لقوانينهم الخاصة بهم , وكانت الامتيازات القضائية للرؤساء الروحيين المسيحيين وخضوع المسيحيين لقوانينهم معترفاً بها إما بشكل ضمني بعدم التعرض للوضع الراهن أو بشكل صريح في العهود التي تعطى لرؤساء طوائفهم.
ولم تكن النزاعات تخرج عن اختصاص المحاكم الطائفية للمسيحيين إلا في حالات معينة : إذا كان أحد الأطراف مسلماً , أو إذا كان الأطراف غير المسلمين مختلفين في الدين , أو إذا كانت القضية تتعلق بجرم جزائي , أو إذا اتفق الخصوم على عرض النزاع على قاضي المسلمين.
وبالطبع كان الرؤساء الدينيون لغي المسلمين , عند النظر في القضايا التي تعرض عليهم بوصفهم قضاة , يفصلون فيها حسب القواعد التشريعية الدينية المطبقة في طوائفهم.
وكانت قضايا الميراث فيما بين المسيحيين تفصل فيها المحاكم الكنسية والرؤساء الروحيون بموجب العهود والسلطات المعطاة لهم .
وجاء في كتاب (الأوضاع القانونية للنصارى واليهود في الديار الإسلامية حتى الفتح العثماني) للدكتور حسن الزين ما نصه :
” إن الشرع الإسلامي يقر حق الذمي بأن يرث لتباع دينه ,بالإضافة إلى تطبيق القوانين المذهبية الخاصة في موضوع الإرث”.
- تطبيق القوانين المذهبية الخاصة :
يتمتع الرؤساء الدينيون من أهل الذمة بسلطة تطبيق القوانين المذهبية الخاصة بهم , وصلاحيتهم في موضوع الإرث قائمة باستمرار . ولا تزول هذه الصلاحية إلا في حالة واحدة حين يرفض فريقا النزاع تطبيق قوانينها الخاصة , ويقبل القاضي المسلم النظر في النزاع , أما خارج نطاق هذين الشرطين مجتمعين فإن صلاحية القانون المذهبي الخاصة تبدو قاطعة وإلزامية . ويرى الإمام مالك أنه لا يمكن للقاضي المسلم أن ينظر في دعوى إرث بين فريقين من أهل الذمة إلا برضاهما .
- مصادر نظام الاستقلال القضائي الخاص بأهل الذمة :
يستمد هذا النظام شرعيته من القرآن الكريم ومن السنة الشريفة .
وبالإضافة إلى ذلك نجد في خطابات تنصيب الرؤساء الدينيين من أهل الكتاب وفي آراء الفقهاء ما يشير صراحة إلى هذا الموضوع .
وجاءنا القرآن الكريم ليؤكد استقلالية القضاء الكنسي :
سورة المائدة:
” وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ(47).”
الفصل الثالث:مرحلة العهد العثماني :
تبدأهذهالمرحلة بسقوط الإمبراطورية البيزنطية بيد العثمانيين في العام 1453 ميلادية.
وبعدها سارت الدولة العثمانية على ذات المبادئ التي كان معمولاً بها سابقاً من حيث معاملة الرعايا المسيحيين والمحافظة على حقوقهم الطائفية والاعتراف بها وفي حينه كان لكل طائفة كيان حقوقي مستقل , يديرها رئيس روحاني أعلى وفقاً لتقاليدها وقوانينها , وتنتخب الطائفة رؤساءها المحليين تحت إشراف الرئيس الأعلى.
وفي الأحوال الهامة يؤيد هذا الانتخاب أيضاً ببراءة من السلطان العثماني ويتمتع الرؤساء الروحيون بألقاب شرف ويجلسون في مجالس إدارة الولايات ويمارسون القضاء في كل ما له علاقة بالدين , وخاصة في المسائل الزوجية وما يتعلق بها , ويطبقون عليها قانونهم الديني.
وإن الوصايا المصادق عليها من قبلهم تنفذ تحت شروط , ويقضون النزاعات الناشئة عنها , ويقضون في التركات إذا اتفق الورثة على تحكيمهم ويطبقون عليها قانونها المحلي إذا وجد , وإلا فالشريعة الإسلامية.
وسئل البطريرك مكسيموس مظلوم (1779-1855) رئيس طائفة الروم الملكية .. هل يلتزم المسيحيون رعايا الدولة العثمانية بحفظ شريعة المواريث المحمدية ؟ فأجاب :
“نعم يلتزمون التزاماً آتياً عن قوة الشريعة الطبيعية والوضعية التي بموجبها أعطي للملوك الشرعيين أن يرسموا شرائع مدنية عادلة ويلزموا رعاياهم بحفظها ذمة وديانة تحت ثقل الخطأ اللاهوتي … فمن ثم يلتزم المسيحيون كافة ذمةً وديانة بحفظ الشرائع المقسطة متى لم يكن في هذه الشرائع شيء مضاد للمعتقد المسيحي . والحال أن شريعة المواريث المحمدية لا تضاد ولا حقيقة واحدة من حقائق الإيمان المسيحي … وان قيل أن الشريعة المذكورة قد فرضت بالوجه الأولوالأخص للمسلمين لا للنصارى أحبنا بان النصارى في بلاد المسلمين قد دخلوا في عهدتهم وذمتهم , ومن هذا القبيل لقب النصارى بذميين , فالتزموا بحفظ الشرائع المحمدية في كل ما لا يناقض معتقدهم … وكل مسيحي من رعايا الدولة يلتزم بخصوص المواريث بما يلتزم به كل مسلم التزاماً شديداً (55).
(كتاب المعين الرائق في خلاصة الحقائق ص (291) كما
جاء بمحاضرة المرحوم الأستاذ جان مظلوم عام 1947)
وهكذا أضحت مسائل الميراث والتركات تعود إلى المحاكم الشرعية.
أما باقي الأمور الأخرى المتعلقة بالأحوال الشخصية للمسيحيين التي لها صفة دينية فكانت تعود إلى الصلاحيات المعطاة إلى رؤساء الطوائف وتقضي بها المحاكم الروحية وتنفذ أحكامها بواسطة دوائر الدولة وللطائف ملء الحرية في ممارسة أمور الدين والتعليم والمؤاساة . وكلها متساوية في الحقوق.
وكان الاعتراف بحقوق الطوائف يتم بالعهود التي درج السلطان العثماني على إعطائها لرؤساء الطوائف.
وكان أول هذه العهود البراءة السنية التي أعطاها السلطان محمد الفاتح إلى بطريرك الروم الأنطاكي جيراسيموس, معترفاً له بالسلطة الدينية وبالتمتع بسائر الحقوق التي كان يتمتع بها البطاركة في السابق – أي في العهد الإسلامي.
وجاء بالبراءة السلطانية الممنوحة لبطريرك الروم عام 1302/ه (1884/م) :
الفرمان الشاهاني من السلطان عبد الحميد الثاني :
” إن حكم النيشان السلطاني الشريف العالي الشان والسامي المكان ,والطفراءخاقانية الغراء الشاملة الانام . هو هذا , بناء على اشعار ولاية سورية , أنه بداعي وفاة الراهب ايردينيوس بطريرك الروم لأنطاكية وشام شريف وتابعها , قد انتخب في محله انتخاباً موافقاً للأصول ولامثاله , الراهب جراسيموس مطران بيسان الذي هو من ارباب الدراية واللياقة الحامل براءتيالهمايونية . وبناء على تقديم المضبطة الانتخابية أيضاً بهذا الشأن , قد استنسب واستصوب مجلس وكلائي الفخام الخاص , ان يقوم الموما غليه بمأمورية البطريركية المذكورة . ثم لدى عرض الأمر إلى مقامي السلطاني الاشرف والاستئدان ,أصدرتإرادتي السنية الملوكانية المتعلقة بهذا الصدد , وأعطيت بموجبها براءتي الهمايونية هذه , المتضمنةمأمورية البطريرك المومى إليه , وأمرت ان يقوم الراهب جراسيموس مطران بيسان المومى إليه , بإدارةبطر كية الروم الأنطاكية وشام شريف وتوابعها السالفة الذكر . وإن طائفة الروم صغيرهم وكبيرهم , الساكنين في الأماكن التابعة منذ القديم لبطريركيته , أن يعرفوه بطريركا عليهم , وأن لا يتجاوزوا أقواله القويمة في الشؤون المتعلقة بأصولهم المذهبية , وأن كل ما للمطارنة والكهنة والقسوس والراهبات الذين يتوفون بالأماكن التابعة لبطريركيته , بأخذه بقبضه البطريرك المومى إليه أو مطارنته , وان لا يمانعه في ذلك خلافاً للعادة القديمة , بيت المال ولا القسامون ولا رجالهم ولا المتولون ولا سواهم . وإن الكنائس والأديار التي هي تحت تصرفهم في الأمكنة التابعة لبطريركيته لا يغتصبها أحد من أيديهم بلا أمر شريف , ولا يتداخل أحد في ترميمها الجاري بإذن الشرع وأوامري الشريفة طبقاً لوضعهم القديم . وإن الكهنة أو وكلائهم , الذين يعقدون زواجاً مخالفاً لأصولهم المذهبية بدون علم البطريرك الموماإليه وأذنه , تجري بحقهم التأديبيات اللازمة بمقتضى الشرع ,وان دعاويهم اللازمة المتعلقة بالشرع الشريف ترى في دار سعادتي ,وبحال تزويج احد افراد ملة الروم اوتطليقه منه زوجته بمقتضى مذهبهم , ليس لأحدأن يتدخل ويتداخل سوى البطريرك الموما إليه أو وكلائه . وان كل ما يوصى به حسب أصولهم المذهبية , أو طائفة الروم المتوفون الفقراء كنائسهم أو بطريركهم ,فهو مقبول ويستمع لذع الشرع بشهود روم .وان لا يتداخل احد عندما يؤدب البطريرك الموما إليه الأساقفة أو رؤساء الأديار أو القسوس التابعين لبطريركيته , ويحلق شعورهم ويسلم مراكزهم لآخرين بمقتضى الأصول المذهبية ,بحالة ظهور جرائم من قبلهم مخالفة للأصول المذهبية . وان يتداخل احدحينما ينصب البطريرك الموما إليه أويعزل بمقتضى الأصول المذهبية , من يستحق العزل أو التنصيب من الكهنة ورؤساء الأديار أو المطارنة المنضوين إلى بطريركية أنطاكية على الوجه المعروف منذ القديم , وحينما يسلم أماكنهم لسواهم من الرهبان . وإن عزل المطارنة الذين تحت رئاسته ونصبهم , لا يكون إلا بعرض حال مختوم بخاتم البطريرك الموما إليه , وإنه لا يجوز بإنهاء غيره أن توجه إلى فرد وظيفة المطرانية أو الأسقفية , ولا أن يضبطها ولا أن يتصرف بها . وان كل ما يعرضه البطريرك الموما إليه فهو معمول به , وكل ما يعرضه أو يصدر به إعلاماً من الشؤون المتعلقة المتعلقة بطقوسهم الدينية فليساعد عليه . وإن القسوس التاركين الدنيا في الأماكن التابعة لبطريركيته لا يتجولون في الأماكن التي يريدونها خلافاً لمقتضياتهم المذهبية , بل فليرسلوا إلى أديارهم التي كانوا يسكنونها منذ قبل , وأن يعطى أدلاء للبطريرك الموما إليه ولرجاله في الأماكن التي يعبرونها ويمرون بها , وحين تبديل حلتهم وكسوتهملأجل المرور على أحسن حال في الأماكن المخيفة , وحملهم أسلحة حربية لدفع الضرر عنهم وإنقاذ نفوسهم , أن لا يدع مأمور الباج والعقارات وسائر الضباط سبيلاً للمداخلة بش؟أنهم على الجسور والمعابر وبقية الأماكن خلافاً للقانون وللعادات القديمة . وأن لا يزعجهم أحد بطلب عائدات وهدايا خلافاً للشرع الشريف . وفي مواد عقد الزواج وفسخ الزواج , وإصلاح ما بين شخصين متنازعين برضاهما , وتحليف اليمين في الكنيسة , ولدى التأديب المعروف بالجرم حسب الأصول المذهبية , فلا يجرموا ولا يغرموا من قبل القضاة و النواب وأنه بدون معرفة واذن البطريرك الموما إليه أو مطارنته , لا يجوز للكهنة التابعين لهم أن يعقدوا لمسيحي زواجاً مخالفاً لأصولهم المذهبية , وأن لا يتعدىأحد من ذوي الاقتدار , قائلاً أعقد لهذه الفتاة على هذا , أو أعزل هذا الكاهن واعط كنيسة إلى هذا الكاهن , وأن لا يتداخل أحد بأوراق التأديب المعبر عنها بالجرم التي يصدرونها لاجل تأديب الملة المرموقة وتربيتها لدى الايجاب بمقتضى أصولهم المذهبية . وأن الذين يقتضي توقيفهم باذن الشرع من جماعة الكهنة والقسوس يجري توقيفهم بمعرفة البطريرك الموما إليه . وأن الكنائس المختصة منذ القيم بملة الروم و الأشياء المتعلقة بداخل الكنيسة وكل ما يؤديه سنوياً حسب العادة القديمة المطارنة أيضاً التابعون له , يضبطه بكامله البطريرك الموما إليه من دون أن تتداخلف بذلك بقية الطوائف . وأن يتعرض أحد لعصاه التي يحملها البطريرك الموما إليه في يده ولا لحيوانه الذي يركبه حسب العادة القديمة , وإنه إذا وجد في الأماكن التابعة لبراءة البطريرك الموما إليه بعض كم جماعة الرهبان الذين ليس لهم كنائس ولا أديار بل يتجولون من محلة إلى محلة عاملين على الفساد فليؤدبوا وليمنعوا من ذلك بمعرفة البطريرك الموما إليه . وأن لا يوضع أحد من العسكرية أو غيرهم جبرا في المنزل الذي يسكنه البطريرك الموما إليه , وإذا لم يرض فلا ينزعج ولا يتعدى عليه أحد بقوله نحن نصير خداماً لك جبرا . وأن لا يعارض الضباط البطريرك الموما إليه عند ذهابه إلى بيوت المسيحيين برضاهم واجرائه الخدم الروحية وحينما ينظر في محاسبة الرهبان المعينين حسب أصولهم المذهبية وكلاء على كنائسه وأدياره الذين اختلسوا وابتزوا الرسوم الحاصلةللبطيركية فلا يتداخل أإحد خلافاً للعادة القديمة وأن لا يدع الضباط مجالاً للانزعاج والتعدي بلا موجب بل لمجرد ابتزاز المال خلافاً للشرع الشريف و القانون في الأيام التي اعتادوا منذ القديم أن بقيموا فيها حفلاتهم الدينية , وأن لا يعطى سبيل لازعاج البطريرك الموما إليه خلافاً للشرع الشريفوذلك بالقول له لمجرد ابتزاز المال نحن اقرضناك نقوداً في حين لم يثبت عليه دين ولا كفالة ثبوتاً صحيحاً . وان كل ما يختص من القديم بكنائسهم حسب اصولهم المذهبية من كروم وبساتين وحوانيت وطواحين ومروج وحقول وبيوت ودكاكين أو أشجار مثمرة أو غير مثمرة وأماكن مقدسة وأديرة وسائر الحيوانات والأشياء الموقوفة على الكنيسة من هذا النوع , فلمطران بيسان الراهب جراسيموسالموما إليه أن يستولي عليها ويتصرف بها على مثال ما كان يستولي ويتصرف بها الذين وزجدوا حتى الآن بطاركة للروم على أنطاكية وتوابعها , وان لا يمنعه أحد على الإطلاق من الولاة وبقية مأموري الضابطة والمالية وغيرهم , ولا يتداخلوا ولا يتعرضوا له بأي وجه من الوجوه أوسبب من الأسباب”.
تحريرا في اليوم الرابع والعشرين من شهر شوال المكرم لسنة اثنين وثلاثمئة والف.
بمقام قسطنطينة المحروسة المحمية
اما بخصوص البطريرك الماروني فقد صدر الفرمان السلطاني عام 1333/ه (1914/م) التالي نصه :
الفرمان الشاهاني من السلطان محمد رشاد
استدعى بطريرك الموارنة الياس افندي إعطاءه فرماناً سلطانيا أسوة برؤساء طوائف الكاثوليك يتضمن تعيينه بطريركا على الطائفة المارونية.
وبناء على استدعائه فقد تحولت وزارة العدلية والمذاهب عريضته على مجلس وزرائي الفخام فقرر المجلس المشار إليه ما يأتي :
حيث رؤي بعد التدقيق أن انتخاب وتعيين الرؤساء الروحانيين تبعاً للأصول المرعية وتحميلهم عبء الوظائف المكلفين بها نحو دولتي العلية أسوة بالرؤساء الروحانيين للطوائف الأخرى مما يستوجب المحسنات الكثيرة.
وبناء على فقد جرت المذاكرة في مجلس وكلائي الفخام واستنسب إعطاء الياس أفندي الموما إليه بطريرك الموارنة فرمانا سلطانيا أسوة ببقية الطوائف الروحانيين . وعليه أصدرت ارادتي الملوكية بإعطائه براءة تتضمن جميع الشروط الآتية المدرجة بطاركة الرعايا العثمانيين من الكاثوليك . وأمرت بعدم اعتبار كل مطران ينتخب بطريركا عند انحلال هذه الوظيفة , وأن تكون جميع معاملات بيع وشراء وإدارة جميع الأموال المختصة للميراث العائدة للكنائس والأديار أو البطريركية تابعة للقوانين والأنظمة المتبعة في البلاد العثمانية.
وان كل مستشفى أو دار أو مدرسة أو غيرها ينشئها جماعات أو أفراد يجب أن لا يتداخل في أمورها أجنبي , كما أن جميع المشاكل التي تقع بين الباب العالي والبطريركية يجب أن تحل رأساً بينهما دون مداخلة احد طبقاً للقواعد على العموم , كما أنه يجب على الياس افندي ان يدير وظيفته البطريركية ضمن الشروط.
وقد أصدرت ارادتي بأن تكون وظيفته ما دام حيا إذا لم يستقل من تلقاء نفسه أو يأتي أمراً مغايراً لقواعد المذهب والقوانين والأنظمة المرعية في الدولة العثمانية , أو يخل بأحد الشروط المذكورة أعلاه . وأن على الرهبان والراهبات والمطارنة الذين كانوا تابعين من القديم إلى بطريركيته , وجميع أفراد هذه الطائفة كبيرهم وصغيرهم يجب عليهم اطاعته وإن يعتبروه بطريركا عليهم وإن يرجعوا إليه في كل ما يتعلق بالبطريركية وغن يناقدوا إليه في طريق الحق ويطيعوه في كل الأمور المختصة.
وعلى الموظفين وولاة الامور العثمانيين أن يهتموا دائماً بعدم ممانعة أحد للبطريرك أو رعاياه أثناء تأديتهم فرائضهم الدينية أو مزاحمتهم من قبل أي كان كما كانوا قبلاً , وأن لا يتداخل أحد في كنائسهم أو أديارهم الخاصة . وأن يسمح لهم باجراء النكاح بين أبناء طائفتهم طبقاً لقواعدهم الدينية وأن يترك لهم مجال خلاف ذلك . وأن يسوى كل نزاع بين أفراد الطائفة منقبل البطريرك أو وكيله طبقاً لقواعدهم المذهبية . وأن لا يتعرض أحد منهم لرد البطريرك في القداس وأن لا يتدداخل أحد في الأوراق التي يعطيها في هذا الخصوص خلافاً للمعتاد القديم.
وأن لا يجبر الرؤساء الروحانين منهم على نقل جثة رجل توفي أثناء قيامه بحركة مخالفة لقداستهم حيث جرت طقوسهم الدينية أن لا يجبرما على نقله .
وأن يتعرض أحدلموجودات كنائسهم وأديارهم وأن لا يحق لأحد أخذ هذه الأشياء أو رهنها.
وإذا أوصى أحد أفراد الطائفة المارونية بشيء في حال حياته إلى البطريرك أو المطران أو لفقراء الكنيسة ومات وجب أن تؤخذ هذه الوصية من ورته بمعرفة الشرع الإسلامي.
وإذا توفي راهب أو خوري أوراهبة بلا وارث وأخذ جميع مخلفاتهم من خيل ومتاع وجميع الموجود من قبل البطريرك لحساب الخزينة , فيجب على بي المال والقسام والمتولين وغيرهم عدم المداخلة في أعماله.
وإذا كان لأحد هؤلاء المتوفين ورثة يجب أن لا توضع اليد على أموالهم ومتروكاتهم.
وإذا توفي مطران أو شماس أو كاهن أو راهبة وأوصى إلى فقراء الكنيسة أو إلى البطريرك بشيء يجب أن تكون الوصية نافذة المفعول . ويمكن رؤية هذه الدعوى في المحاكم الشرعية بشهود حسب طقوسهم الدينية.
ولا يحق لأصحاب النفوذ في الكومة أن يتداخلوا في أمورهم الدينية أو أن يقول لهم أحد أرسلوا الراهب الفلاني إلى المحل الفلاني أو أعطوا الكنيسة الفلانية إلى الراهب الفلاني.
وأن تعفى الأشياء الكنائسية من رسم الجمرك والباح.
وأن تعفى جميع المأكولات المائدة للبطريرك من محصولات كرومه الخاصة وكذلك جميع المأكولات كالسمن وعصير العنب والعسل وجميع الأشياء التي يتصدق بها عليه رعاياه من الخارج إذا جاؤا بها إليه تعفى من الجمارك في الأساكل والرسوم الداخلية.
ولا يحق لأحد أن يتداخل في معاملتهم الخاصة بالكروم والبساتين والمراعي والطواحين العائدة ألى كنائسهم الموازنة وأديارها.
كما لايحق لأحد أن يتداخل في إدارة بيوت الشمع العائدة إلى الكنائس ولا البيوت والدكاكين والأشجار المثمرة والأموال والأوقاف العائدة إلى الرهبان المارونين إذ لهم ملء الحق بالتصرف في هذه الأشياء.
وعلى الطائفة المذكورة أن لا تتردد في أداء ما طرح عليها من الرسوم الأميرية وجميع الصداقات والرسوم المقرر عليهم دفعها للبطريرك.
وأن لا يعارض أحد الطقوس الدينية التي تقام في الكنائس والأديار ومحلات الزيارة التابعة لبطريرك الموارنة , كما لا يحق لأحد أن يتداخل في أمورهم الدينية كقوله أنتم تقرؤون كذا وتدعون كذا . وأن لا يكلف البطريرك في مسكنه بأمر سواء من جهة العسكريين أو من جهة الإدارة وغيرها.
وأن لا يتداخل أحد بكسائه وملابسه وحمله عصاه الخاصة به . وعليه فإن هذه الشروط التي ذكرتفي فرماني الشاهاني يجب أن تكون دستور العمل وأن لا يتداخل أحد بوجه من الوجوه في حرية أعماله ولا في أمور بطريركيته لأي سبب من الأسباب.
في 17 صفر سنة 1333 (1914)
محمد رشاد (1)
مننشور في كتاب حنا مالك ـــ الأحوال الشخصية ومحاكمها
وكانت هذه البراءات تمنح بالأصل إلى بطاركة الروم عند انتخابهم ثم أعطيت إلى بطاركة الطوائف الاخرى وكانت تعطى البراءات أيضاً إلى المطارنة عند تنصيبهم.
وبمقتضى هذه البراءات كانت الطوائف المسيحيية تتمتع بالاستقلال في إدارة شؤونها وتملك حق الفصل في النزاعات المختلفة التي تقوم بيبن رعاياها ذات الصفة الدينية بواسطة محاكمها الخاصة المؤلفة من رجال الدين.
وفي العام 1856صدر عن السلطان عبد المجيد الهمايهوني الشهير الذي أعلن المساواة بين جميع رعايا الدولة العثمانية وحفظ لطوائفالغيرالمسلمين جميع امتيازاتها الروحية التي كانت تتمتع بها سابقاً.
وادخل هذا الخط في صلب معاهدة باريس التي وضعت حداً لحرب القرم , واعتبر نظاماً أساسياً لغير المسلمين في الدولة العثمانية , وفي مقابل ذلك تعهدت الدول الموقعة على المعاهدة بعدم التدخل في علاقات السلطان برعاياه.
ونورد أهم مندرجات الخط الهمايوني الصادر في 18/ شباط /1856 باسم الإصلاحات الخيرية , والمتعلقة بحقوق الطوائف المسيحية :
ويصير استيفاء أصول تحليف البطاركة والمطارنة والأساقفة والحاخامات بالتطبيق للصورة التي تتقرر بين بابنا العالي وجماعة الرؤساء الروحانية المختلفة ويصير منع كافة الجوائز والعوائد الجاري ,إعطاؤها للرهبان مهما كانت صورتها وتخصص إيرادات معينة بدله للبطاركة ورؤساء الطوائف ويصير تعين معاشات بوجه العدالة بموجب ما تقرر وبحسب أهمية رتب ومناصب سائر الرهبان ولا يحصل السكوت على أموال الرهبان المسيحيين المنقولة والغير منقولة بل يصير إحالة حسن المحافظة عليها على مجلس مركب من أعضاء تنتخبهم رهبان وعوام كل طائفة لإدارة مصالح طوائف المسيحيين والتبعة الغير مسلمة.
وهي اتخاذ التدابير المؤثرة نحو تأمين كافة التبعة الملوكية من أي دين ومذهب كانوا بدون استثناء على الروح والمال وحفظ الناموس وإخراج جميع التأمينات التي وعد بها بمقتضى الترتيبات الخيرية وخطنا الملوكي السابق تلاةته في الكلخانة من حيز القوة إلى حيز الفعل وتقرير وإبقاء كافة الامتيازات والمعافيات االروحانية التي منحت وأحسن بها في السنين الأخيرة والتي منحت من قبل أجدادنا العظام للطوائف المسيحية وكافة الملل الغير مسلمة الموجودين تحت ظل جناح عاطفتنا السامي بممالكنا المحروسة الملوكية وقد صار الشرع في رؤية وتسوية الامتيازات والمعافيات الحالية للعيسويين وسائر التبعة الغير مسلمة في مهلة معينة بحيث يهتمون بعرضها إلى جانب بابنا العالي بعد المذاكرة بمعرفة المجالس التي تشكل بالبطريكخانات تحت ملاحظة بابنا العالي بحسب الإصلاحات التي يستدعيها الوقت وآثار المدنية المكتسبة وموافقة إرادتنا الملوكية ويصير توثيق الرخصة التي أعطيت لأساقفة الطائفة المسيحية من قبل ساكن الجنان السلطان أبي الفتح محمد خان الثاني وخلفائه العظام وما صار تأمينهم عليه من قبلنا بحسب الأحوال والظروف الجديدة وبعد إصلاح أصول الانتخابات الجارية الآن للبطاركة يصير إجراء كافة الأصول اللازمة في نصبهم وتعيينهم بالتطبيق لأحكام براءة البطريكية العالي مدى الحياة ,
وبعد صدور الخط الهمايوني (الإصلاحات الخيرية ) انعقد مؤتمر باريس وأبرمت المعاهدة وأهم ما جاء فيها لجهة حقوق الطوائف ما يلي :
معاهدة باريس
(25 فبراير ــــ 30 مارس 1856 م )
بسم الله القادر على كل شيىء
ان امبراطور الفرنسيس وملكة المملكة المتحدة من بريطانيا العظمى وأورلاندا وامبراطور جميع الروسيا وملك سردينيا وسلطان البلاد العثمانية لرغبتهم في إنهاء غوائل الحرب وتلاقي ما نشأ عنها من الصروف والمكارة فسر رأيهم غلى أن يتفقوا مع امبراطور أوستريا بمقتضى قواعد مقررة على استباب الصلح وتوطيده وتعهدوا جميعاً باستقلال السلطنة العثمانية وإبقائها تامة.
المادة 9 : سلطان الدولة العثمانية , لعيناته بخير رعاياها جميعاً قد تفضل باصدار منشور غايته إصلاح ذات بينهم وتحسين أحواهم بقطع النظر عن اختلافهم في الأديان والجنس وأخذ في ذمته مقصده الخيري نحو النصارى القاطنين في بلاده وحيث كان من رغبته أن يبدي الآن شهادة جديدة على نيته في ذلك عزم على أن يطالع الدول المتعاهدة بذلك المنشور الصادر عن طيب نفس منه فتتلقى الدول المشار إليها هذه المطالعة بتأكيد ما لها من النفع و الفائدة ولكن المفهوم منها صريحاً أنها لا توجب حقاً لهذه الدول في أي حال كان على أن تتعرض كلاً أو بعضاً لما تتعلق بالسلطان ورعاياه أو بإدارة سلطته الداخلية.
ثم صدرت عن السلطة العثمانية نصوص عديدة بتأكيد ما تضمنه الخط الهمايوني المذكور أو بتفسيره بشكل فرامين أو مذكرات أو بلاغات , وفي عام 1908 صدر ونشر الدستور العثماني الجديد مؤكداً الحقوق والامتيازات التي يتمتع بها طوائف غير المسلمين في الدولة العثمانية ونص على مبدأ ممارسة جميع الأديان المعروفة بحرية تحت حماية الدولة على مبدأ المحافظة على الامتيازات المعطاة للجماعات المختلفة كما كانت عليه.
إلا أن أهم تشريع عثماني تناول موضوع امتيازات الطوائف هو ( قانون حقوق العائلة ) الصادر في 25 تشرين الأول 1917 وهو يقع في ( 157 مادة ) ويتضمن الأحكام الموضوعية الواجب تطبيقها على جميع رعايا الدولة العثمانية في قضايا ( الزواج والطلاق وما يتصل بها من الأحوال الشخصية ) ولم يبحث ( قانون حقوق العائلة ) المذكور في أمور الإرث والوصية والأهلية .
وكان هذا القانون الأول محاولة لتوحيد الأحوال الشخصية في قانون عام يشمل جميع الطوائف والأديان دون امتيازات.
ولم يكن تطبيق هذا القانون بالأمر السهل والمقبول لا سيما بالنسبة للمسيحيين حيث تختلف الأحكام المطبقة ما بين طائفة وأخرى في كثير من المسائل.
ولم يقف هذا القانون عند تضييق نطاق الأحكام الخاصة التي تطبق على المسيحيين في مسائل أحوالهم الشخصية وفي حدود قضايا الزواج والطلاق لجميع طوائف المسيحيين , بل تعدى الأمر ذلك إلى موضوع الاختصاص القضائي.
ففي ذات اليوم الذي صدر فيه قانون حقوق العائلة المذكورة صدر أيضاً قانون أصول المحاكمات الشرعية.
وبموجب هذا القانون أصبحت المحاكم الشرعية هي المحاكم الوحيدة التي يحق لها النظر في الخلافات الناشئة حول مسائل الأحوال الشخصية سواء أكان ذلك بالنسبة للمسلمين أو بالنسبة لغير المسلمين , وبمعنى آخر أنهى هذا القانون اختصاص المحاكم الطائفية بالنظر في قضايا الأحوال الشخصية أصبح على هؤلاء أن يحضروا أمام المحكمة الشرعية من أجل الفصل في هذه القضايا وعلى هذه المحكمة أن تطبق في ذلك قواعد الشريعة الإسلامية باستثناء ما ورد بشأنه نص خاص في قانون حقوق العائلة في موضوع الزواج والطلاق وأضحت قضايا الميراث المسيحي من اختصاص المحكمة الشرعية بموجب قانون أصول المحكمات الشرعية المذكورة / حصراً / .
وقد خلفت الدولة العثمانية هذا القانون للبلاد العربية التي انفصلت عنه.
الفصل الرابع: العهد الفيصلي العربي ومرحلة الانتداب :
حين سقط العثمانيون وانحسر ظنهم عن سوريا كان الوضع الطائفي المسيحي يتخلص كما يلي :
” لكل طائفة كيان حقوقي مستقل , يديرها رئيس روحاني أعلى ينتخبه المنتسبون إليها وفقاً لتقاليدها وقوانينها , وتؤيد الحكومة هذا الانتخاب ببراءة.
وتنتخب الطائفة رؤساءها المحليين تحت إشراف الرئيس الأعلى.
وفي الأحوال الهامة يئيد هذا الانتخاب أيضاً ببراءة.
ويتمتع الرؤساء الروحيويون بألقاب شرف ويجلسون في مجالس إدارة الولايات ويمارسون القضاء في كل ما له علاقة بالدين , وخاصة في المسائل الزواجية وما يتعلق بها , ويطبقون عليها قانونهم الديني.
وللطوائف ملء الحرية في ممارسة أمور الدين والتعليم والمؤاساة وكلها متساوية في الحقوق . أما الاختصاص القضائي في غير المسائل ذات الصفة الدينية ــــــ فقد انحصر في المحكمة الشرعية وفقاً لقانون ( حقوق العائلة ) الصادرين عن السلطة العثمانية عام 1917/ م” .
وفي الاول من الشهر العاشر عام 1918 حل العهد الفيصلي العربي .. وعمدت الحكومة العربية السورية التي شكلها الملك فيصل إلى إصدار قانون التشكيلات العدلية وقد نصت المادة / 18 / منه ( المحاكم المذهبية الموجودة عند الطوائف غير المسلمة تبقى وظائفها وحقوقها كما كانت قبلاً ).
وينتهي العهد الفيصلي في 24 تموز 1920 إثر معركة ميسلون ثم يدخل الجيش الفرنسي دمشق ويحتلها في 25 تموز 1920 .. وعندما يبدأ عهد الانتداب .. ثم تصدر صكوك الانتداب عام 1922 .. وتبدأ سلسلة القرارات المتعلقة بالأحوال الشخصية والصادرة عن المفوض السامي.
وكان المفوض السامي قد بدأ بإصدار تشريعات الأحوال الشخصية بالقرار رقم / 261 / تاريخ 28/ نيسان /1926 وجاء بأسبابه الموجبة :
أنه يجب إبقاء المحاكم المتمتعة بها الطوائف المختلفة بقدر ما تتطلب العقائد المشروعة وعوائد البلاد , وإن المحاكم العادية مشتملة على حميع ضمانات الإنصاف الللازمة للنظر في بعض الاختلافات الداخلة الآن ضمن الأحوال الشخصية ما عدا المسائل المتعلقة بأحوال الزواج , وتحكم هذه المسائل , في الطوائف الإسلامية وغيرها , محاكم الأحوال الشخصية المختصة بكل منها حسب الأصول المبينة في القرار.
وجاء هذا القرار يشكل تضييقاً كبيراً لاختصاصات المحاكم الشرعية والطائفية إذ يخرج من اختصاص وعن اختصاص المحاكم الشرعية النظر في العديد من مسائل الأحوال الشخصية كالإرث والوصايا والأهلية والنيابة الشرعية ونفقة الأقارب ويخرج عن اختصاصها وعن اختصاص المحاكم الطائفية لغير المسلمين النظر في مسائل الخطبة والحضانة ونفقة الصغير ويجعل كل هذه المسائل من اختصاص المحاكم العادية.
وقد اعترض المسلمون على القرار / 261 / المذكور لانتقاضه من اختصاص المحاكم الشرعية وتعرضه لمسائل لها في النظر المسلمين صبغة دينية , فقرر المندوب السامي وقف تنفيذه.
ثم صدر القرار / 2997 / تاريخ 3 / شباط 1930 المتضمن إلغاء القرار / 261 / المذكور.
وبعدها صدر القرار رقم / 60 / ل.ر المؤرخ في 31 / آذار 1936 والمعدل بالقرار رقم / 146 / المؤرخ في 18 تشرين الثاني 1938 .. ولا يزال هو القانون الأساسي للطوائف المسيحية حتى الآن.
نص القرار /60/ ل.ر لعام 1936 المعدل بالقرار /146/ لعام 1938 :
نظام الطوائف الدينية
القرار رقم 60 ل.ر تاريخ 13 آذار 1936
المعدل بالقرار 146 ل.ر تاريخ 18 تشرين الثاني 1938
” إن المفوض السامي للجمهورية الفرنساوية :
بناء على صك الانتداب لسوريا ولبنان لا سيما المادة السادسة منه
وبناءً على مرسومي رئيس الجمهورية الفرنساوية الصادرين في 23 ت2 سنة 1920 و 16 تموز سنة 1933
وبناء على الباب الأول الفصل الثاني من الدستور اللبناني الصادر في 23 أيار سنة 1936
وبناء على الباب الأول الفصل الثاني من الدستور السوري الصادر في 22 أيار سنة 1930
وبناء على التصريح بالحقوق المدرجة في القانون الأساسي في حكومة اللاذقية الصادر في 22 أيار سنة 1930
المقدمة :
منذ أن صعد السيد المسيح إلى السماء مخلفاً على الأرض جمهوراً من المؤمنين .. أي منذ قرون وقرون مضت وانقضت .. وأجيال تعاقبت تتلوها أجيال .. وقضية الميراث لدى مسيحي الشرق مسألة خلافية تتقاذفها تشريعات وأنظمة تتبدل تبعاً لتبدل الأزمان والأوطان .
ومن خلال هذه المعاناة .. معاناة المسيحي المشرقي نعرض هذه المقدمة التاريخية لنرى كيف كانت تتوزع التركة فيما بين الورثة ومن هي السلطة المكلفة بإقرار الأنصبة الإرثية فيما بين المسيحيين .
بالأصل لم يرد في أي من الأناجيل ما يشير إلى موضوع الميراث , وإن قول السيد المسيح : “إن مملكتي ليست من هذا العالم ” (يوحنا 18/36)
وقوله أيضاً : ” أعطوا ما لقصير لقصير وما لله لله ” لوقا(20/25)
وما جاء في إنجيل لوقا (12/13) :
فقال له رجل من الجميع : (يا معلم مر أخي بأن يقاسمني الميراث فقال له ( يا رجل من أقامني عليكم قاضياً أو قساماً )
وهكذا فقد تحاشى السيد المسيح وضع تشريعات جديدة .. واكتفى بترسيخ المبادئ العامة المستوحاة من رسالته السماوية ومقاصدها السامية .
وعبر العور استوحت الكنيسة من هذه المبادئ السامية لوضع التشريعات المناسبة لكل زمان ومكان وثقافة ومجتمع .
أقوال السيد المسيح تؤكد بأن قضية الميراث والتوريث ليست من العقائد الدينية , لذا يقتضي بحث موضوع الميراث في ضوء التشريع المدني العلماني بمعزل عن تشريعات الأحوال الشخصية , إلا أنه لابد أولاً من العودة إلى قوانين الأحوال الشخصية ومعرفة مضمون هذه القوانين والمسائل التي تناولتها وما قد ورد فيها من نصوص تتعلق بالميراث وبالتالي بيان الصلة التي تربط الميراث بتشريعات الأحوال الشخصية . وهنا يبدو الفارق واضحاً ما بين طبيعة الميراث لدى المسلمين وبين طبيعة الميراث لدى المسيحيين.
إذ بالعودة إلى قانون الأحوال الشخصية لدى المسلمين في سورية نقرأ في أسبابه الموجبة أن المشرع اعتمد المذهب الحنفي.
وأن أصول الميراث لدى المسلمين مستمدة حصراً من القرآن الكريم وما أنزل فيه من آيات في سورة النساء والأنفال و الأحزاب ثم جاءت السنة النبوية مكملة ومتممة لما ورد بالقرآن الكريم وبموجب الآيات القرآنية يتضح بأن الميراث لدى المسلمين يتصف بالصفة الدينية لورود نصوص الميراث بالقرآن الكريم , وأما الميراث لدى المسيحيين فلم يرد عليه نص بالإنجيل .. لأن السيد المسيح – كما ذكرنا – تحاشى وضع تشريعات مدنية جديدة.
وعن ذلك نخلص بأن الميراث لدى المسيحيين لا يندرج بالأحوال الشخصية ذات الصبغة الدينية في حين ورد النص على الميراث لدى المسلمين بآيات من القرآن الكريم ويتصف بالصفة الدينية.
لما تقدم .. فإن ميراث المسلم تحكمه قواعد دينية ثابتة بنصوص قرآنية.
أما ميراث السيد المسيح فلا يعتبر من الثوابت الدينية بل تحكمه القوانين والأنظمة التي تسود المجتمع حيث يعيش الإنسان المسيحي ويقيم.
وهكذا يتضمن هذا الملف قسمين اثنين :
القسم الأول : سنعرض على صفحاته تاريخ الميراث المسيحي وتطور التشريعات والسلطات القضائية المتعلقة بمسائل الميراث.
القسم الثاني : يتضمن النصوص التشريعية التي نظمت قضايا الميراث المسيحي وتطورها ونشأة المحكمة الروحية وسلطاتها القضائية في سورية.
القسم الأول
التطور التاريخي لقضايا الميراث المسيحي ويتضمن خمسة فصول :
الفصل الأول : مرحلة ما قبل الإسلام.
الفصل الثاني : مرحلة العهد الإسلامي.
الفصل الثالث : مرحلة العهد العثماني.
الفصل الرابع : الانتداب الفرنسي.
الفصل الخامس : مرحلة الاستقلال وما بعده إلى العام 2010.
الفصل الأول :مرحلة ما قبل الإسلام
ظهر الدين المسيحي في فلسطين وعم انتشاره في المشرق ثم امتد إلى الغرب وانتشر في أرجاء العالم بفعل الموعظة والتبشير ..
وقد حارب أباطرة الرومان الدين المسيحي واضطهدواالمسيحيين .. مما اضطر الكنيسة إلى تنظيم نفسهامدنياً يكل يغني أتباعها عن اللجوء إلى مؤسسات الدولة الوثنية والاحتكام إليها .. ويومها تأسست السلطة القضائية الخاصة بالمسيحيين والمسماة حالياً (المحكمة الروحية ) أو المحكمة الكنسية وكان الفضل في إحداث المحاكم الكنسية إلى بولس الرسول .
وفي رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس يقول :
” رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس”.
الإصحاح السادس
” أيتجاسر منكم أحد له دعوى على آخر أن يحاكم عند الظالمين وليس عند القديسينألستم تعلمون أن القديسين سيدينون العالم . فان كان العالم يدان بكم افانتم غير مستاهلين للمحاكم الصغرى . ألستم تعلمون أننا سندين ملائكة فبالأولى أمور هذه الحياة فان كان لكم محاكم في أمور هذه الحياة . فاجلسوا المحتقرين في الكنيسة قضاة لتخجيلكم أقول اهكذا ليس بينكم حكيم ولا واحد يقدر أن يقضي بين اخوته لكن الأخ يحاكم الأخ وذلك عند غير المؤمنين. لكن الأخ يحاكم الأخ وذلك عند غير المؤمنين. فالان فيكم عيب مطلقا لان عندكم محاكمات بعضكم مع بعض”.
وهكذا أحدث القديس بولس المحاكم الكنسية لتقضي فيما بين المؤمنين ويومها لم تقتصر صلاحياتها على تنظيم علاقات الأسرة وما يتعلق بالأحوال الشخصية .. بل إن المحكمة الكنسية أنشأت أحكاماً لمختلف أنواع العلاقات القانونية الأخرى بين المؤمنين – وذلك بحكم الضرورة الناشئة عن وضع المسيحيين في بلاد وثنية تضطهدهم سلطاتها المدنية.
وقد استمد رجال الكنيسة هذه الأحكام من مبادئ القانون الطبيعي ومن قواعد العدالة ومن القوانين الوضعية المختلفة التي كانت سائدة في ذلك الحين بعد تعديلها بما يتفق مع المبادئ الأخلاقية التي نادى بها السيد المسيح في تعاليمه.
واستمر هذا الوضع إلى أن اعتنق الإمبراطور قسط نطين الدين المسيحي وأصدر عام 312/م (مرسوم ميلانو ) الذي منح المسيحيين حرية العبادة وبموجب القوانينالتي أصدرها الإمبراطور المذكور توسعت السلطة الكنسية وازداد تدخلها في شؤون التشريع والقضاء وفي قضايا الأحوال الشخصية والقضايا المدنية ومنها قضايا الميراث والتركات وما يتفرع عنها.
وعندما تعددت شيع المسيحيين , أصبح لكل من طوائفهم محاكمها الكنسية الخاصة بها وقوانينها الطائفية التي بها تنظم أمور رعاياها.
الفصل الثاني :مرحلة العهد الإسلامي
جاء الإسلام وأوصى المسلمين خيراً بالنصارى وأعطاهم الحماية في معتقداتهم وفي ممارسة شعائر دينهم.
وقد وردت تعاليم الإسلام وتوصياته فيما يتعلق بالنصارى في عدد من الآيات وفي عدد من الرسائل والعهود.
وتضمنت هذه الآيات والرسائل والعهود تأكيدات بأن الإسلام يعتبر النصارى أقرب الناس مودة للمسلمين ودعوة إلى احترام عقائدهم الدينية وحمايتها وضمان الحرية لهم في ممارسة عباداتهم وشعائرهم الدينية وعدم إكراههم على تغير دينهم هذا كله تحت طائلة اعتبار من يخالف ذلك خارجاً عن تعاليم الإسلام.
” لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ”.
وكما أن هناك عهوداً أعطيت بالأمان على جميع الرعايا المسيحيين وكهنتهم ورهبانهم وكنائسهم واديرتهم وأماكنهم المقدسة , ويشمل العهد كافة شيع المسيحيين
العهدة النبوية
هذا لأول عهد أعطاه النبي الكريم محمد ((ص)) إلى النصارى ورهبانهم ويعرف باسم العهدة النبوية .كتبه علي بن أبي طالب ووضع في مسجد النبي في السنة الثانية للهجرة , وحملت منه نسخ إلى الأديار . من ذلك نسخة كانت محفوظة في دير طور سينا الأرثوذكسي , ولكن السلطان سليم الفاتح العثماني نقلها إلى الأستانة في أوائل القرن السادس عشر , وترجمت إلى اللغة التركية , وابقوا النسخة التركية في الدير وحملوا النسخة العربية الأصلية إلى الأستانة . وهذا نص العهدة النبوية :
” هذا كتاب كتبه محمد بن عبد الله إلى كافة الناس أجمعين , رسوله مبشراً ونذيراً ومؤتمنا على وديعة الله في خلقه لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسول , وكان الله عزيزاً حكيماً , كتبه لأهل ملة النصارى ولمن تنحل دين النصرانية من مشارف الأرض ومغاربها ,قريبها وبعيدها ,فصيحها وعجمها ,معروفها ومجهولها ,جعل لهم عهداً ,فمن نكث العهد الذي فيه وخالفه إلى غيره وتعدى على ما أمره , كان لعهد الله ناكثاً ولميثاقه ناقصاً وبدينه مستهزئاً وللعنته مستوجباً , سلطاناً كان أم غيره من المسلمين . وإن احتمى راهب أو سائح في جبل أو واد أو مغارة أو عمران أو سهل أو رمل أو بيعة , فأنا أكون من ورائهم , ادب عنهم من كل غيرة لهم بنفسي و أعواني وأهلي وملتي وأتباعي , لأنهم رعيتي وأهل ذمتي , وأنا أعزل عنهم الأذى في المثون التي يحمل أهل العهد من القيام بالخارج إلا ما طابت له نفوسهم وليس عليهم جبر ولا إكراه على شيء من ذلك . ولا يغير أسقف من أسقفته ولاراهب من رهبانيته ولا حبيس من صومعته ولا سائح من سياحته ولا يهدم بيت من بيوت كنائسهم وبيعهم ,ولا يدخل شيىء من مال كنائسهم في بناء مساجد المسلمين ولا بناء منازلهم , فمن فعل شيئاً من ذلك فقد نكث عهد الله وعهد رسوله , ولا يخمل على الرهبان والأساقفة ولا يتعبد جزية أو غرامة . وأنا
أحفظ ذمتهم أينما كانوا من بر أو بحر في المشرق أو المغرب والجنوب والشمال ,وهم في ذمتي وميثاقي وأماني من كل مكروه . وكذلك من يتفرد بالعبادة في الجبال والمواضع الباركة لا يلزمهم مما يزرعونه لا خراج ولاعشر ولا يشاطرون لكونه برسم أفواههم ولا يعاونون عند إدراك الغلة , ولا يلزمون بخروج في حرب وقيام بجبرية ,ولا من أصحاب الخراج وذوي الأموال والعقارات والتجارات مما هو أكثر من اثني عشر درهماً بالجملة في كل عام , ولا يكلف أحد منهم شططا , ولا يجادلون إلا بالتي هي أحسن ويحفظونهم تحت جناح الرحمة يكف عنهم أذية المكروه حيثما كانوا وحيثما حلوا . وإن صارت النصرانية عند المسلمين فعليها برضاها ويمكنها من الصلاة في بيعها , ولا يحال بينها وبين هوى دينها , ومن خان عبد الله واعتمد بالضد من ذلك , فقد عصى ميثاقه ورسوله ويعانون على مرمة بيعهم ومواضعهم وتكون تلك مقبولة لهم على دينهم وفعالهم بالعهد . ولا يلزم أحد بنقل سلاح , بل المسلمون يذبون عنهم , ولا يخالف هذا العهد أبداً إلى حين تقوم الساعة وتنقضي الدنيا”.
(جرجي زيدان – تاريخ التمدن الإسلامي ج 4 ص 89 – منشور بكتاب حنا
مالك – الأحوال الشخصية ومحاكمها للطوائف المسيحية في سورية ولبنان )
العهدة العمرية
المعاهدة الموقعة بين الخليفة عمر بن الخطاب
وبطريرك بيت المقدس صفرونيوس
بسم اله الرحمن الرحيم ,
هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل أيلياء من الأمان , أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم , ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها .
أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها , ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم , ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم , ولا يسكن بايلياء معهم أحد من اليهود.
وعلى أهل ايلياء أن يعطوا الجزية كما يعطى أهل المدائن . وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص . فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم , ومن أقام منهم فهو آمن وعليه مثل ما على أهل ايلياء من الجزية . ومن أحب من اهل ايلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصلبهم فغنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم . ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل ايلياء من الجزية , ومن شاء سار مع الروم , ومن شاء رجع إلى أهله . وإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم.
وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية.
ثم شهد على ذلك خالد بن الوليد , وعمرو بن العاص , وعبد الرحمنبن عوف , ومعاوية بن أبي سفيان . وكتب وحرر سنة خمس عشرة.
(منشور في مجموعة الوثائق السياسية – محمد حميد الله )
وتبعاً لذلك كان المسيحيين يتمتعون بحرية العبادة وممارسة الشعائر والحكم بموجب قوانينهم وكانوا يرجعون في أمورهم ومعاملاتهم الدنيوية إلى رؤساء طوائفهم.
ومن الثابت أن الامتيازات التي كان يتمتع بها رؤساء الطوائف الدينية قد بقيت على ما كانت عليه ولم يحصل انتقاص منها , ولم يفرض على المسيحيين نظام قضائي جديد وظلوا يخضعون لقوانينهم الخاصة بهم , وكانت الامتيازات القضائية للرؤساء الروحيين المسيحيين وخضوع المسيحيين لقوانينهم معترفاً بها إما بشكل ضمني بعدم التعرض للوضع الراهن أو بشكل صريح في العهود التي تعطى لرؤساء طوائفهم.
ولم تكن النزاعات تخرج عن اختصاص المحاكم الطائفية للمسيحيين إلا في حالات معينة : إذا كان أحد الأطراف مسلماً , أو إذا كان الأطراف غير المسلمين مختلفين في الدين , أو إذا كانت القضية تتعلق بجرم جزائي , أو إذا اتفق الخصوم على عرض النزاع على قاضي المسلمين.
وبالطبع كان الرؤساء الدينيون لغي المسلمين , عند النظر في القضايا التي تعرض عليهم بوصفهم قضاة , يفصلون فيها حسب القواعد التشريعية الدينية المطبقة في طوائفهم.
وكانت قضايا الميراث فيما بين المسيحيين تفصل فيها المحاكم الكنسية والرؤساء الروحيون بموجب العهود والسلطات المعطاة لهم .
وجاء في كتاب (الأوضاع القانونية للنصارى واليهود في الديار الإسلامية حتى الفتح العثماني) للدكتور حسن الزين ما نصه :
” إن الشرع الإسلامي يقر حق الذمي بأن يرث لتباع دينه ,بالإضافة إلى تطبيق القوانين المذهبية الخاصة في موضوع الإرث”.
تطبيق القوانين المذهبية الخاصة :
يتمتع الرؤساء الدينيون من أهل الذمة بسلطة تطبيق القوانين المذهبية الخاصة بهم , وصلاحيتهم في موضوع الإرث قائمة باستمرار . ولا تزول هذه الصلاحية إلا في حالة واحدة حين يرفض فريقا النزاع تطبيق قوانينها الخاصة , ويقبل القاضي المسلم النظر في النزاع , أما خارج نطاق هذين الشرطين مجتمعين فإن صلاحية القانون المذهبي الخاصة تبدو قاطعة وإلزامية . ويرى الإمام مالك أنه لا يمكن للقاضي المسلم أن ينظر في دعوى إرث بين فريقين من أهل الذمة إلا برضاهما .
مصادر نظام الاستقلال القضائي الخاص بأهل الذمة :
يستمد هذا النظام شرعيته من القرآن الكريم ومن السنة الشريفة .
وبالإضافة إلى ذلك نجد في خطابات تنصيب الرؤساء الدينيين من أهل الكتاب وفي آراء الفقهاء ما يشير صراحة إلى هذا الموضوع .
وجاءنا القرآن الكريم ليؤكد استقلالية القضاء الكنسي :
سورة المائدة:
” وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ(47).”
الفصل الثالث:مرحلة العهد العثماني :
تبدأهذهالمرحلة بسقوط الإمبراطورية البيزنطية بيد العثمانيين في العام 1453 ميلادية.
وبعدها سارت الدولة العثمانية على ذات المبادئ التي كان معمولاً بها سابقاً من حيث معاملة الرعايا المسيحيين والمحافظة على حقوقهم الطائفية والاعتراف بها وفي حينه كان لكل طائفة كيان حقوقي مستقل , يديرها رئيس روحاني أعلى وفقاً لتقاليدها وقوانينها , وتنتخب الطائفة رؤساءها المحليين تحت إشراف الرئيس الأعلى.
وفي الأحوال الهامة يؤيد هذا الانتخاب أيضاً ببراءة من السلطان العثماني ويتمتع الرؤساء الروحيون بألقاب شرف ويجلسون في مجالس إدارة الولايات ويمارسون القضاء في كل ما له علاقة بالدين , وخاصة في المسائل الزوجية وما يتعلق بها , ويطبقون عليها قانونهم الديني.
وإن الوصايا المصادق عليها من قبلهم تنفذ تحت شروط , ويقضون النزاعات الناشئة عنها , ويقضون في التركات إذا اتفق الورثة على تحكيمهم ويطبقون عليها قانونها المحلي إذا وجد , وإلا فالشريعة الإسلامية.
وسئل البطريرك مكسيموس مظلوم (1779-1855) رئيس طائفة الروم الملكية .. هل يلتزم المسيحيون رعايا الدولة العثمانية بحفظ شريعة المواريث المحمدية ؟ فأجاب :
“نعم يلتزمون التزاماً آتياً عن قوة الشريعة الطبيعية والوضعية التي بموجبها أعطي للملوك الشرعيين أن يرسموا شرائع مدنية عادلة ويلزموا رعاياهم بحفظها ذمة وديانة تحت ثقل الخطأ اللاهوتي … فمن ثم يلتزم المسيحيون كافة ذمةً وديانة بحفظ الشرائع المقسطة متى لم يكن في هذه الشرائع شيء مضاد للمعتقد المسيحي . والحال أن شريعة المواريث المحمدية لا تضاد ولا حقيقة واحدة من حقائق الإيمان المسيحي … وان قيل أن الشريعة المذكورة قد فرضت بالوجه الأولوالأخص للمسلمين لا للنصارى أحبنا بان النصارى في بلاد المسلمين قد دخلوا في عهدتهم وذمتهم , ومن هذا القبيل لقب النصارى بذميين , فالتزموا بحفظ الشرائع المحمدية في كل ما لا يناقض معتقدهم … وكل مسيحي من رعايا الدولة يلتزم بخصوص المواريث بما يلتزم به كل مسلم التزاماً شديداً (55).
(كتاب المعين الرائق في خلاصة الحقائق ص (291) كما
جاء بمحاضرة المرحوم الأستاذ جان مظلوم عام 1947)
وهكذا أضحت مسائل الميراث والتركات تعود إلى المحاكم الشرعية.
أما باقي الأمور الأخرى المتعلقة بالأحوال الشخصية للمسيحيين التي لها صفة دينية فكانت تعود إلى الصلاحيات المعطاة إلى رؤساء الطوائف وتقضي بها المحاكم الروحية وتنفذ أحكامها بواسطة دوائر الدولة وللطائف ملء الحرية في ممارسة أمور الدين والتعليم والمؤاساة . وكلها متساوية في الحقوق.
وكان الاعتراف بحقوق الطوائف يتم بالعهود التي درج السلطان العثماني على إعطائها لرؤساء الطوائف.
وكان أول هذه العهود البراءة السنية التي أعطاها السلطان محمد الفاتح إلى بطريرك الروم الأنطاكي جيراسيموس, معترفاً له بالسلطة الدينية وبالتمتع بسائر الحقوق التي كان يتمتع بها البطاركة في السابق – أي في العهد الإسلامي.
وجاء بالبراءة السلطانية الممنوحة لبطريرك الروم عام 1302/ه (1884/م) :
الفرمان الشاهاني من السلطان عبد الحميد الثاني :
” إن حكم النيشان السلطاني الشريف العالي الشان والسامي المكان ,والطفراءخاقانية الغراء الشاملة الانام . هو هذا , بناء على اشعار ولاية سورية , أنه بداعي وفاة الراهب ايردينيوس بطريرك الروم لأنطاكية وشام شريف وتابعها , قد انتخب في محله انتخاباً موافقاً للأصول ولامثاله , الراهب جراسيموس مطران بيسان الذي هو من ارباب الدراية واللياقة الحامل براءتيالهمايونية .
وبناء على تقديم المضبطة الانتخابية أيضاً بهذا الشأن , قد استنسب واستصوب مجلس وكلائي الفخام الخاص , ان يقوم الموما غليه بمأمورية البطريركية المذكورة . ثم لدى عرض الأمر إلى مقامي السلطاني الاشرف والاستئدان ,أصدرتإرادتي السنية الملوكانية المتعلقة بهذا الصدد , وأعطيت بموجبها براءتي الهمايونية هذه , المتضمنةمأمورية البطريرك المومى إليه , وأمرت ان يقوم الراهب جراسيموس مطران بيسان المومى إليه , بإدارةبطر كية الروم الأنطاكية وشام شريف وتوابعها السالفة الذكر . وإن طائفة الروم صغيرهم وكبيرهم , الساكنين في الأماكن التابعة منذ القديم لبطريركيته , أن يعرفوه بطريركا عليهم , وأن لا يتجاوزوا أقواله القويمة في الشؤون المتعلقة بأصولهم المذهبية , وأن كل ما للمطارنة والكهنة والقسوس والراهبات الذين يتوفون بالأماكن التابعة لبطريركيته , بأخذه بقبضه البطريرك المومى إليه أو مطارنته , وان لا يمانعه في ذلك خلافاً للعادة القديمة , بيت المال ولا القسامون ولا رجالهم ولا المتولون ولا سواهم . وإن الكنائس والأديار التي هي تحت تصرفهم في الأمكنة التابعة لبطريركيته لا يغتصبها أحد من أيديهم بلا أمر شريف , ولا يتداخل أحد في ترميمها الجاري بإذن الشرع وأوامري الشريفة طبقاً لوضعهم القديم . وإن الكهنة أو وكلائهم , الذين يعقدون زواجاً مخالفاً لأصولهم المذهبية بدون علم البطريرك الموماإليه وأذنه , تجري بحقهم التأديبيات اللازمة بمقتضى الشرع ,وان دعاويهم اللازمة المتعلقة بالشرع الشريف ترى في دار سعادتي ,وبحال تزويج احد افراد ملة الروم اوتطليقه منه زوجته بمقتضى مذهبهم , ليس لأحدأن يتدخل ويتداخل سوى البطريرك الموما إليه أو وكلائه . وان كل ما يوصى به حسب أصولهم المذهبية , أو طائفة الروم المتوفون الفقراء كنائسهم أو بطريركهم ,فهو مقبول ويستمع لذع الشرع بشهود روم .وان لا يتداخل احد عندما يؤدب البطريرك الموما إليه الأساقفة أو رؤساء الأديار أو القسوس التابعين لبطريركيته , ويحلق شعورهم ويسلم مراكزهم لآخرين بمقتضى الأصول المذهبية ,بحالة ظهور جرائم من قبلهم مخالفة للأصول المذهبية . وان يتداخل احدحينما ينصب البطريرك الموما إليه أويعزل بمقتضى الأصول المذهبية , من يستحق العزل أو التنصيب من الكهنة ورؤساء الأديار أو المطارنة المنضوين إلى بطريركية أنطاكية على الوجه المعروف منذ القديم , وحينما يسلم أماكنهم لسواهم من الرهبان . وإن عزل المطارنة الذين تحت رئاسته ونصبهم , لا يكون إلا بعرض حال مختوم بخاتم البطريرك الموما إليه , وإنه لا يجوز بإنهاء غيره أن توجه إلى فرد وظيفة المطرانية أو الأسقفية , ولا أن يضبطها ولا أن يتصرف بها .
وان كل ما يعرضه البطريرك الموما إليه فهو معمول به , وكل ما يعرضه أو يصدر به إعلاماً من الشؤون المتعلقة المتعلقة بطقوسهم الدينية فليساعد عليه . وإن القسوس التاركين الدنيا في الأماكن التابعة لبطريركيته لا يتجولون في الأماكن التي يريدونها خلافاً لمقتضياتهم المذهبية , بل فليرسلوا إلى أديارهم التي كانوا يسكنونها منذ قبل , وأن يعطى أدلاء للبطريرك الموما إليه ولرجاله في الأماكن التي يعبرونها ويمرون بها , وحين تبديل حلتهم وكسوتهملأجل المرور على أحسن حال في الأماكن المخيفة , وحملهم أسلحة حربية لدفع الضرر عنهم وإنقاذ نفوسهم , أن لا يدع مأمور الباج والعقارات وسائر الضباط سبيلاً للمداخلة بش؟أنهم على الجسور والمعابر وبقية الأماكن خلافاً للقانون وللعادات القديمة .
وأن لا يزعجهم أحد بطلب عائدات وهدايا خلافاً للشرع الشريف . وفي مواد عقد الزواج وفسخ الزواج , وإصلاح ما بين شخصين متنازعين برضاهما , وتحليف اليمين في الكنيسة , ولدى التأديب المعروف بالجرم حسب الأصول المذهبية , فلا يجرموا ولا يغرموا من قبل القضاة و النواب وأنه بدون معرفة واذن البطريرك الموما إليه أو مطارنته , لا يجوز للكهنة التابعين لهم أن يعقدوا لمسيحي زواجاً مخالفاً لأصولهم المذهبية , وأن لا يتعدىأحد من ذوي الاقتدار , قائلاً أعقد لهذه الفتاة على هذا , أو أعزل هذا الكاهن واعط كنيسة إلى هذا الكاهن , وأن لا يتداخل أحد بأوراق التأديب المعبر عنها بالجرم التي يصدرونها لاجل تأديب الملة المرموقة وتربيتها لدى الايجاب بمقتضى أصولهم المذهبية . وأن الذين يقتضي توقيفهم باذن الشرع من جماعة الكهنة والقسوس يجري توقيفهم بمعرفة البطريرك الموما إليه . وأن الكنائس المختصة منذ القيم بملة الروم و الأشياء المتعلقة بداخل الكنيسة وكل ما يؤديه سنوياً حسب العادة القديمة المطارنة أيضاً التابعون له , يضبطه بكامله البطريرك الموما إليه من دون أن تتداخلف بذلك بقية الطوائف . وأن يتعرض أحد لعصاه التي يحملها البطريرك الموما إليه في يده ولا لحيوانه الذي يركبه حسب العادة القديمة , وإنه إذا وجد في الأماكن التابعة لبراءة البطريرك الموما إليه بعض كم جماعة الرهبان الذين ليس لهم كنائس ولا أديار بل يتجولون من محلة إلى محلة عاملين على الفساد فليؤدبوا وليمنعوا من ذلك بمعرفة البطريرك الموما إليه . وأن لا يوضع أحد من العسكرية أو غيرهم جبرا في المنزل الذي يسكنه البطريرك الموما إليه , وإذا لم يرض فلا ينزعج ولا يتعدى عليه أحد بقوله نحن نصير خداماً لك جبرا .
وأن لا يعارض الضباط البطريرك الموما إليه عند ذهابه إلى بيوت المسيحيين برضاهم واجرائه الخدم الروحية وحينما ينظر في محاسبة الرهبان المعينين حسب أصولهم المذهبية وكلاء على كنائسه وأدياره الذين اختلسوا وابتزوا الرسوم الحاصلةللبطيركية فلا يتداخل أإحد خلافاً للعادة القديمة وأن لا يدع الضباط مجالاً للانزعاج والتعدي بلا موجب بل لمجرد ابتزاز المال خلافاً للشرع الشريف و القانون في الأيام التي اعتادوا منذ القديم أن بقيموا فيها حفلاتهم الدينية , وأن لا يعطى سبيل لازعاج البطريرك الموما إليه خلافاً للشرع الشريفوذلك بالقول له لمجرد ابتزاز المال نحن اقرضناك نقوداً في حين لم يثبت عليه دين ولا كفالة ثبوتاً صحيحاً . وان كل ما يختص من القديم بكنائسهم حسب اصولهم المذهبية من كروم وبساتين وحوانيت وطواحين ومروج وحقول وبيوت ودكاكين أو أشجار مثمرة أو غير مثمرة وأماكن مقدسة وأديرة وسائر الحيوانات والأشياء الموقوفة على الكنيسة من هذا النوع , فلمطران بيسان الراهب جراسيموسالموما إليه أن يستولي عليها ويتصرف بها على مثال ما كان يستولي ويتصرف بها الذين وزجدوا حتى الآن بطاركة للروم على أنطاكية وتوابعها , وان لا يمنعه أحد على الإطلاق من الولاة وبقية مأموري الضابطة والمالية وغيرهم , ولا يتداخلوا ولا يتعرضوا له بأي وجه من الوجوه أوسبب من الأسباب”.
تحريرا في اليوم الرابع والعشرين من شهر شوال المكرم لسنة اثنين وثلاثمئة والف.
بمقام قسطنطينة المحروسة المحمية
اما بخصوص البطريرك الماروني فقد صدر الفرمان السلطاني عام 1333/ه (1914/م) التالي نصه :
الفرمان الشاهاني من السلطان محمد رشاد
استدعى بطريرك الموارنة الياس افندي إعطاءه فرماناً سلطانيا أسوة برؤساء طوائف الكاثوليك يتضمن تعيينه بطريركا على الطائفة المارونية.
وبناء على استدعائه فقد تحولت وزارة العدلية والمذاهب عريضته على مجلس وزرائي الفخام فقرر المجلس المشار إليه ما يأتي :
حيث رؤي بعد التدقيق أن انتخاب وتعيين الرؤساء الروحانيين تبعاً للأصول المرعية وتحميلهم عبء الوظائف المكلفين بها نحو دولتي العلية أسوة بالرؤساء الروحانيين للطوائف الأخرى مما يستوجب المحسنات الكثيرة.
وبناء على فقد جرت المذاكرة في مجلس وكلائي الفخام واستنسب إعطاء الياس أفندي الموما إليه بطريرك الموارنة فرمانا سلطانيا أسوة ببقية الطوائف الروحانيين . وعليه أصدرت ارادتي الملوكية بإعطائه براءة تتضمن جميع الشروط الآتية المدرجة بطاركة الرعايا العثمانيين من الكاثوليك . وأمرت بعدم اعتبار كل مطران ينتخب بطريركا عند انحلال هذه الوظيفة , وأن تكون جميع معاملات بيع وشراء وإدارة جميع الأموال المختصة للميراث العائدة للكنائس والأديار أو البطريركية تابعة للقوانين والأنظمة المتبعة في البلاد العثمانية.
وان كل مستشفى أو دار أو مدرسة أو غيرها ينشئها جماعات أو أفراد يجب أن لا يتداخل في أمورها أجنبي , كما أن جميع المشاكل التي تقع بين الباب العالي والبطريركية يجب أن تحل رأساً بينهما دون مداخلة احد طبقاً للقواعد على العموم , كما أنه يجب على الياس افندي ان يدير وظيفته البطريركية ضمن الشروط.
وقد أصدرت ارادتي بأن تكون وظيفته ما دام حيا إذا لم يستقل من تلقاء نفسه أو يأتي أمراً مغايراً لقواعد المذهب والقوانين والأنظمة المرعية في الدولة العثمانية , أو يخل بأحد الشروط المذكورة أعلاه . وأن على الرهبان والراهبات والمطارنة الذين كانوا تابعين من القديم إلى بطريركيته , وجميع أفراد هذه الطائفة كبيرهم وصغيرهم يجب عليهم اطاعته وإن يعتبروه بطريركا عليهم وإن يرجعوا إليه في كل ما يتعلق بالبطريركية وغن يناقدوا إليه في طريق الحق ويطيعوه في كل الأمور المختصة.
وعلى الموظفين وولاة الامور العثمانيين أن يهتموا دائماً بعدم ممانعة أحد للبطريرك أو رعاياه أثناء تأديتهم فرائضهم الدينية أو مزاحمتهم من قبل أي كان كما كانوا قبلاً , وأن لا يتداخل أحد في كنائسهم أو أديارهم الخاصة . وأن يسمح لهم باجراء النكاح بين أبناء طائفتهم طبقاً لقواعدهم الدينية وأن يترك لهم مجال خلاف ذلك . وأن يسوى كل نزاع بين أفراد الطائفة منقبل البطريرك أو وكيله طبقاً لقواعدهم المذهبية . وأن لا يتعرض أحد منهم لرد البطريرك في القداس وأن لا يتدداخل أحد في الأوراق التي يعطيها في هذا الخصوص خلافاً للمعتاد القديم.
وأن لا يجبر الرؤساء الروحانين منهم على نقل جثة رجل توفي أثناء قيامه بحركة مخالفة لقداستهم حيث جرت طقوسهم الدينية أن لا يجبرما على نقله .
وأن يتعرض أحدلموجودات كنائسهم وأديارهم وأن لا يحق لأحد أخذ هذه الأشياء أو رهنها.
وإذا أوصى أحد أفراد الطائفة المارونية بشيء في حال حياته إلى البطريرك أو المطران أو لفقراء الكنيسة ومات وجب أن تؤخذ هذه الوصية من ورته بمعرفة الشرع الإسلامي.
وإذا توفي راهب أو خوري أوراهبة بلا وارث وأخذ جميع مخلفاتهم من خيل ومتاع وجميع الموجود من قبل البطريرك لحساب الخزينة , فيجب على بي المال والقسام والمتولين وغيرهم عدم المداخلة في أعماله.
وإذا كان لأحد هؤلاء المتوفين ورثة يجب أن لا توضع اليد على أموالهم ومتروكاتهم.
وإذا توفي مطران أو شماس أو كاهن أو راهبة وأوصى إلى فقراء الكنيسة أو إلى البطريرك بشيء يجب أن تكون الوصية نافذة المفعول . ويمكن رؤية هذه الدعوى في المحاكم الشرعية بشهود حسب طقوسهم الدينية.
ولا يحق لأصحاب النفوذ في الكومة أن يتداخلوا في أمورهم الدينية أو أن يقول لهم أحد أرسلوا الراهب الفلاني إلى المحل الفلاني أو أعطوا الكنيسة الفلانية إلى الراهب الفلاني.
وأن تعفى الأشياء الكنائسية من رسم الجمرك والباح.
وأن تعفى جميع المأكولات المائدة للبطريرك من محصولات كرومه الخاصة وكذلك جميع المأكولات كالسمن وعصير العنب والعسل وجميع الأشياء التي يتصدق بها عليه رعاياه من الخارج إذا جاؤا بها إليه تعفى من الجمارك في الأساكل والرسوم الداخلية.
ولا يحق لأحد أن يتداخل في معاملتهم الخاصة بالكروم والبساتين والمراعي والطواحين العائدة ألى كنائسهم الموازنة وأديارها.
كما لايحق لأحد أن يتداخل في إدارة بيوت الشمع العائدة إلى الكنائس ولا البيوت والدكاكين والأشجار المثمرة والأموال والأوقاف العائدة إلى الرهبان المارونين إذ لهم ملء الحق بالتصرف في هذه الأشياء.
وعلى الطائفة المذكورة أن لا تتردد في أداء ما طرح عليها من الرسوم الأميرية وجميع الصداقات والرسوم المقرر عليهم دفعها للبطريرك.
وأن لا يعارض أحد الطقوس الدينية التي تقام في الكنائس والأديار ومحلات الزيارة التابعة لبطريرك الموارنة , كما لا يحق لأحد أن يتداخل في أمورهم الدينية كقوله أنتم تقرؤون كذا وتدعون كذا . وأن لا يكلف البطريرك في مسكنه بأمر سواء من جهة العسكريين أو من جهة الإدارة وغيرها.
وأن لا يتداخل أحد بكسائه وملابسه وحمله عصاه الخاصة به . وعليه فإن هذه الشروط التي ذكرتفي فرماني الشاهاني يجب أن تكون دستور العمل وأن لا يتداخل أحد بوجه من الوجوه في حرية أعماله ولا في أمور بطريركيته لأي سبب من الأسباب.
في 17 صفر سنة 1333 (1914)
محمد رشاد (1)
مننشور في كتاب حنا مالك ـــ الأحوال الشخصية ومحاكمها
وكانت هذه البراءات تمنح بالأصل إلى بطاركة الروم عند انتخابهم ثم أعطيت إلى بطاركة الطوائف الاخرى وكانت تعطى البراءات أيضاً إلى المطارنة عند تنصيبهم.
وبمقتضى هذه البراءات كانت الطوائف المسيحيية تتمتع بالاستقلال في إدارة شؤونها وتملك حق الفصل في النزاعات المختلفة التي تقوم بيبن رعاياها ذات الصفة الدينية بواسطة محاكمها الخاصة المؤلفة من رجال الدين.
وفي العام 1856صدر عن السلطان عبد المجيد الهمايهوني الشهير الذي أعلن المساواة بين جميع رعايا الدولة العثمانية وحفظ لطوائفالغيرالمسلمين جميع امتيازاتها الروحية التي كانت تتمتع بها سابقاً.
وادخل هذا الخط في صلب معاهدة باريس التي وضعت حداً لحرب القرم , واعتبر نظاماً أساسياً لغير المسلمين في الدولة العثمانية , وفي مقابل ذلك تعهدت الدول الموقعة على المعاهدة بعدم التدخل في علاقات السلطان برعاياه.
ونورد أهم مندرجات الخط الهمايوني الصادر في 18/ شباط /1856 باسم الإصلاحات الخيرية , والمتعلقة بحقوق الطوائف المسيحية :
ويصير استيفاء أصول تحليف البطاركة والمطارنة والأساقفة والحاخامات بالتطبيق للصورة التي تتقرر بين بابنا العالي وجماعة الرؤساء الروحانية المختلفة ويصير منع كافة الجوائز والعوائد الجاري ,إعطاؤها للرهبان مهما كانت صورتها وتخصص إيرادات معينة بدله للبطاركة ورؤساء الطوائف ويصير تعين معاشات بوجه العدالة بموجب ما تقرر وبحسب أهمية رتب ومناصب سائر الرهبان ولا يحصل السكوت على أموال الرهبان المسيحيين المنقولة والغير منقولة بل يصير إحالة حسن المحافظة عليها على مجلس مركب من أعضاء تنتخبهم رهبان وعوام كل طائفة لإدارة مصالح طوائف المسيحيين والتبعة الغير مسلمة.
وهي اتخاذ التدابير المؤثرة نحو تأمين كافة التبعة الملوكية من أي دين ومذهب كانوا بدون استثناء على الروح والمال وحفظ الناموس وإخراج جميع التأمينات التي وعد بها بمقتضى الترتيبات الخيرية وخطنا الملوكي السابق تلاةته في الكلخانة من حيز القوة إلى حيز الفعل وتقرير وإبقاء كافة الامتيازات والمعافيات االروحانية التي منحت وأحسن بها في السنين الأخيرة والتي منحت من قبل أجدادنا العظام للطوائف المسيحية وكافة الملل الغير مسلمة الموجودين تحت ظل جناح عاطفتنا السامي بممالكنا المحروسة الملوكية وقد صار الشرع في رؤية وتسوية الامتيازات والمعافيات الحالية للعيسويين وسائر التبعة الغير مسلمة في مهلة معينة بحيث يهتمون بعرضها إلى جانب بابنا العالي بعد المذاكرة بمعرفة المجالس التي تشكل بالبطريكخانات تحت ملاحظة بابنا العالي بحسب الإصلاحات التي يستدعيها الوقت وآثار المدنية المكتسبة وموافقة إرادتنا الملوكية ويصير توثيق الرخصة التي أعطيت لأساقفة الطائفة المسيحية من قبل ساكن الجنان السلطان أبي الفتح محمد خان الثاني وخلفائه العظام وما صار تأمينهم عليه من قبلنا بحسب الأحوال والظروف الجديدة وبعد إصلاح أصول الانتخابات الجارية الآن للبطاركة يصير إجراء كافة الأصول اللازمة في نصبهم وتعيينهم بالتطبيق لأحكام براءة البطريكية العالي مدى الحياة ,
وبعد صدور الخط الهمايوني (الإصلاحات الخيرية ) انعقد مؤتمر باريس وأبرمت المعاهدة وأهم ما جاء فيها لجهة حقوق الطوائف ما يلي :
معاهدة باريس
(25 فبراير ــــ 30 مارس 1856 م )
بسم الله القادر على كل شيىء
ان امبراطور الفرنسيس وملكة المملكة المتحدة من بريطانيا العظمى وأورلاندا وامبراطور جميع الروسيا وملك سردينيا وسلطان البلاد العثمانية لرغبتهم في إنهاء غوائل الحرب وتلاقي ما نشأ عنها من الصروف والمكارة فسر رأيهم غلى أن يتفقوا مع امبراطور أوستريا بمقتضى قواعد مقررة على استباب الصلح وتوطيده وتعهدوا جميعاً باستقلال السلطنة العثمانية وإبقائها تامة.
المادة 9 : سلطان الدولة العثمانية , لعيناته بخير رعاياها جميعاً قد تفضل باصدار منشور غايته إصلاح ذات بينهم وتحسين أحواهم بقطع النظر عن اختلافهم في الأديان والجنس وأخذ في ذمته مقصده الخيري نحو النصارى القاطنين في بلاده وحيث كان من رغبته أن يبدي الآن شهادة جديدة على نيته في ذلك عزم على أن يطالع الدول المتعاهدة بذلك المنشور الصادر عن طيب نفس منه فتتلقى الدول المشار إليها هذه المطالعة بتأكيد ما لها من النفع و الفائدة ولكن المفهوم منها صريحاً أنها لا توجب حقاً لهذه الدول في أي حال كان على أن تتعرض كلاً أو بعضاً لما تتعلق بالسلطان ورعاياه أو بإدارة سلطته الداخلية.
ثم صدرت عن السلطة العثمانية نصوص عديدة بتأكيد ما تضمنه الخط الهمايوني المذكور أو بتفسيره بشكل فرامين أو مذكرات أو بلاغات , وفي عام 1908 صدر ونشر الدستور العثماني الجديد مؤكداً الحقوق والامتيازات التي يتمتع بها طوائف غير المسلمين في الدولة العثمانية ونص على مبدأ ممارسة جميع الأديان المعروفة بحرية تحت حماية الدولة على مبدأ المحافظة على الامتيازات المعطاة للجماعات المختلفة كما كانت عليه.
إلا أن أهم تشريع عثماني تناول موضوع امتيازات الطوائف هو ( قانون حقوق العائلة ) الصادر في 25 تشرين الأول 1917 وهو يقع في ( 157 مادة ) ويتضمن الأحكام الموضوعية الواجب تطبيقها على جميع رعايا الدولة العثمانية في قضايا ( الزواج والطلاق وما يتصل بها من الأحوال الشخصية ) ولم يبحث ( قانون حقوق العائلة ) المذكور في أمور الإرث والوصية والأهلية .
وكان هذا القانون الأول محاولة لتوحيد الأحوال الشخصية في قانون عام يشمل جميع الطوائف والأديان دون امتيازات.
ولم يكن تطبيق هذا القانون بالأمر السهل والمقبول لا سيما بالنسبة للمسيحيين حيث تختلف الأحكام المطبقة ما بين طائفة وأخرى في كثير من المسائل.
ولم يقف هذا القانون عند تضييق نطاق الأحكام الخاصة التي تطبق على المسيحيين في مسائل أحوالهم الشخصية وفي حدود قضايا الزواج والطلاق لجميع طوائف المسيحيين , بل تعدى الأمر ذلك إلى موضوع الاختصاص القضائي.
ففي ذات اليوم الذي صدر فيه قانون حقوق العائلة المذكورة صدر أيضاً قانون أصول المحاكمات الشرعية.
وبموجب هذا القانون أصبحت المحاكم الشرعية هي المحاكم الوحيدة التي يحق لها النظر في الخلافات الناشئة حول مسائل الأحوال الشخصية سواء أكان ذلك بالنسبة للمسلمين أو بالنسبة لغير المسلمين , وبمعنى آخر أنهى هذا القانون اختصاص المحاكم الطائفية بالنظر في قضايا الأحوال الشخصية أصبح على هؤلاء أن يحضروا أمام المحكمة الشرعية من أجل الفصل في هذه القضايا وعلى هذه المحكمة أن تطبق في ذلك قواعد الشريعة الإسلامية باستثناء ما ورد بشأنه نص خاص في قانون حقوق العائلة في موضوع الزواج والطلاق وأضحت قضايا الميراث المسيحي من اختصاص المحكمة الشرعية بموجب قانون أصول المحكمات الشرعية المذكورة / حصراً / .
وقد خلفت الدولة العثمانية هذا القانون للبلاد العربية التي انفصلت عنه.
الفصل الرابع: العهد الفيصلي العربي ومرحلة الانتداب :
حين سقط العثمانيون وانحسر ظنهم عن سوريا كان الوضع الطائفي المسيحي يتخلص كما يلي :
” لكل طائفة كيان حقوقي مستقل , يديرها رئيس روحاني أعلى ينتخبه المنتسبون إليها وفقاً لتقاليدها وقوانينها , وتؤيد الحكومة هذا الانتخاب ببراءة.
وتنتخب الطائفة رؤساءها المحليين تحت إشراف الرئيس الأعلى.
وفي الأحوال الهامة يئيد هذا الانتخاب أيضاً ببراءة.
ويتمتع الرؤساء الروحيويون بألقاب شرف ويجلسون في مجالس إدارة الولايات ويمارسون القضاء في كل ما له علاقة بالدين , وخاصة في المسائل الزواجية وما يتعلق بها , ويطبقون عليها قانونهم الديني.
وللطوائف ملء الحرية في ممارسة أمور الدين والتعليم والمؤاساة وكلها متساوية في الحقوق . أما الاختصاص القضائي في غير المسائل ذات الصفة الدينية ــــــ فقد انحصر في المحكمة الشرعية وفقاً لقانون ( حقوق العائلة ) الصادرين عن السلطة العثمانية عام 1917/ م” .
وفي الاول من الشهر العاشر عام 1918 حل العهد الفيصلي العربي .. وعمدت الحكومة العربية السورية التي شكلها الملك فيصل إلى إصدار قانون التشكيلات العدلية وقد نصت المادة / 18 / منه ( المحاكم المذهبية الموجودة عند الطوائف غير المسلمة تبقى وظائفها وحقوقها كما كانت قبلاً ).
وينتهي العهد الفيصلي في 24 تموز 1920 إثر معركة ميسلون ثم يدخل الجيش الفرنسي دمشق ويحتلها في 25 تموز 1920 .. وعندما يبدأ عهد الانتداب .. ثم تصدر صكوك الانتداب عام 1922 .. وتبدأ سلسلة القرارات المتعلقة بالأحوال الشخصية والصادرة عن المفوض السامي.
وكان المفوض السامي قد بدأ بإصدار تشريعات الأحوال الشخصية بالقرار رقم / 261 / تاريخ 28/ نيسان /1926 وجاء بأسبابه الموجبة :
أنه يجب إبقاء المحاكم المتمتعة بها الطوائف المختلفة بقدر ما تتطلب العقائد المشروعة وعوائد البلاد , وإن المحاكم العادية مشتملة على حميع ضمانات الإنصاف الللازمة للنظر في بعض الاختلافات الداخلة الآن ضمن الأحوال الشخصية ما عدا المسائل المتعلقة بأحوال الزواج , وتحكم هذه المسائل , في الطوائف الإسلامية وغيرها , محاكم الأحوال الشخصية المختصة بكل منها حسب الأصول المبينة في القرار.
وجاء هذا القرار يشكل تضييقاً كبيراً لاختصاصات المحاكم الشرعية والطائفية إذ يخرج من اختصاص وعن اختصاص المحاكم الشرعية النظر في العديد من مسائل الأحوال الشخصية كالإرث والوصايا والأهلية والنيابة الشرعية ونفقة الأقارب ويخرج عن اختصاصها وعن اختصاص المحاكم الطائفية لغير المسلمين النظر في مسائل الخطبة والحضانة ونفقة الصغير ويجعل كل هذه المسائل من اختصاص المحاكم العادية.
وقد اعترض المسلمون على القرار / 261 / المذكور لانتقاضه من اختصاص المحاكم الشرعية وتعرضه لمسائل لها في النظر المسلمين صبغة دينية , فقرر المندوب السامي وقف تنفيذه.
ثم صدر القرار / 2997 / تاريخ 3 / شباط 1930 المتضمن إلغاء القرار / 261 / المذكور.
وبعدها صدر القرار رقم / 60 / ل.ر المؤرخ في 31 / آذار 1936 والمعدل بالقرار رقم / 146 / المؤرخ في 18 تشرين الثاني 1938 .. ولا يزال هو القانون الأساسي للطوائف المسيحية حتى الآن.
نص القرار /60/ ل.ر لعام 1936 المعدل بالقرار /146/ لعام 1938 :
نظام الطوائف الدينية
القرار رقم 60 ل.ر تاريخ 13 آذار 1936
المعدل بالقرار 146 ل.ر تاريخ 18 تشرين الثاني 1938
” إن المفوض السامي للجمهورية الفرنساوية :
بناء على صك الانتداب لسوريا ولبنان لا سيما المادة السادسة منه
وبناءً على مرسومي رئيس الجمهورية الفرنساوية الصادرين في 23 ت2 سنة 1920 و 16 تموز سنة 1933
وبناء على الباب الأول الفصل الثاني من الدستور اللبناني الصادر في 23 أيار سنة 1936
وبناء على الباب الأول الفصل الثاني من الدستور السوري الصادر في 22 أيار سنة 1930
وبناء على التصريح بالحقوق المدرجة في القانون الأساسي في حكومة اللاذقية الصادر في 22 أيار سنة 1930
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً