النصوص التجريمية في الشريعة والقانون
قدت هيئة كبار العلماء أخيرا اجتماعاً استثنائياً وأصدرت فتوى تجرم تمويل الإرهاب بكل وسائله وأشكاله، فضلا عن فتاوى التكفير. وطالب بعض المختصين برفع الفتوى لتكون مشروع نظام يتضمن تجريم تمويل الإرهاب استناداً إلى مبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص, ومؤدى هذا المبدأ أن على المنظم أن يعيّن سلفاً ما يعد من الأفعال الصادرة عن الإنسان جريمة فيحدد لكل جريمة أنموذجها القانوني كما يحدد لكل جريمة عقوبتها.
وتعداد الجرائم يعد الاتجاه السائد للقوانين الحديثة, وذلك في النص على كل ما يستوجب المسؤولية الجنائية, وفي الشريعة الإسلامية نجد أنها تولت بنفسها النص على أنواع من الجرائم ترى أنها مروعة وخطيرة في كل زمان ومكان، كما تولت تبيين العقوبات المترتبة عليها باسم الحدود, وهي العقوبات المقدرة في الاصطلاح الفقهي والجرائم المنصوص عليها عموماً ترجع إلى الجناية على النفس بالقتل أو إتلاف عضو, وعلى المال بالسرقة وعلى العرض بالقذف, وعلى النسب بالزنا, وعلى العقل بشرب المسكر, وعلى الدين بالردة, وعلى الأمن والنظام العام بقطع الطريق والإفساد في الأرض.
ولما كان من الجنايات ما تختلف خطورتها بين زمن وآخر ومكان آخر تركت الشريعة الإسلامية إلى ولي أمر المسلمين وإلى نوابه من القضاة تقدير الجناية والعقوبة المترتبة عليها والاسترشاد في ذلك بحال الجناية والجاني والمجني عليه, وعرف البيئة باسم التعزير, وهو في الاصطلاح الفقهي تأديب دون الحد, وهو باب عظيم للرأي والاستصلاح وقمع الشرور والفتن، وفي ذلك يقول عمر بن عبد العزيز ”يحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور”.
وقال ابن القيم الجوزية: اتفق العلماء على أن التعزير مشروع في كل معصية ليس فيها حد وبحسب الجناية في العظم والصغر، وحسب الجاني في الشر وعدمه. ومن هذا يتضح أن الشريعة الإسلامية لا تشترط أساساً في المسؤولية الجنائية النص المخصوص على الجريمة أو العقاب, وهذا وضع يتفق تمام الاتفاق مع صلاحيتها للتطبيق في كل العصور والأحوال, وليس من شك في أن الناس يتطورون في تقدم الحياة وابتكار وسائل الخير وصوره، فليس من الحكمة مع هذا التشريع الذي جاء للخلود أن ينص على جرائم وعقوبات بأعيانها ثم يقول ”لا جريمة إلا بنص ولا عقوبة إلا بنص” لطبيعة تغير المجتمعات وما ينشأ عن ذلك من جرائم ومخالفات ولأن التعريف الكلي للجريمة يسهل على الحاكم تطبيقها على الحوادث بمقتضى العرف والظروف المحيطة بالحادثة غير أن تقدير الجريمة والعقوبة في غير المنصوص عليه يحتاج إلى فقه نافذ وإحاطة شمولية بظروف الزمان وأحوال الناس وما يحقق مصالحهم مع عدالة راسخة, وإذا ضعفت هذه المعاني وخشي من النزعة الشخصية جاز لولي الأمر ممثلاً في السلطة التشريعية تحديد الجرائم وتقدير عقوباتها شريطة ألا يخرج بذلك عن القواعد العامة للشريعة الإسلامية ومقاصدها.
وبهذا يتضح أن المسؤولية الجنائية في الشريعة الإسلامية في الأحكام الفرعية والجزئية تدخل في دائرة المتغيرات، وهذه الدائرة دائرة رحبة، تدخل فيها معظم أحكام الشريعة، وهي قابلة للاجتهاد والتجديد والتطور, وبالتالي لا تعتمد على التنصيص الفردي لكل جريمة وكذا عقوبتها, لأنها تخضع لظروف متغيرة تختلف أحوالها فتختلف معها أحكامها ولم يأت التنصيص إلا على الجرائم الممنوعة في كل زمان ومكان وتصادم الفطرة السليمة والأخلاق والأعراف العامة التي يجمع عليها الناس في سائر دياناتهم وأحوالهم, وأما الجرائم المتغيرة التي تخضع للأحداث والظروف وتنشأ وتذهب وفق أزمنة مختلفة وملابسات معينة فإن الشريعة الإسلامية عالجتها استناداً إلى قواعدها العامة التي تحمي الحقوق وتحارب الجرائم والاعتداء, ويكفي في ذلك قول الله تعالى ”ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها”.
وكل ما تقدم لا يعني عدم التنصيص على الجرائم المتغيرة متى رأى ذلك ولي الأمر خاصة إذا كانت غير واضحة المعالم والتنصيص يسهل على القاضي وغيره تصورها مثل جرائم غسيل الأموال وقد صدر فيها نظام بعينه بموجب المرسوم الملكي الكريم رقم م/39 وتاريخ25/6/1424هـ وبقرار مجلس الوزراء رقم 167 وتاريخ 20/6/1424هـ. وجاء النظام ليحدد مفاهيم الجريمة وحدودها وما يدخل فيها وما يخرج منها, وكذلك نظام الجرائم المعلوماتية, وغيره من الأنظمة المحددة لبعض الجرائم.
ولعل جرائم تمويل الإرهاب تخضع للدراسة والتأمل بحيث تحصر الممارسات كافة التي تدخل في مفهوم هذه الجرائم.
اترك تعليقاً