النظام البرلماني في بريطانيا و اوجه الشبه مع النطام الجديد في المغرب
تعتبر بريطانيا مهد الديمقراطية البرلمانية في العالم. ففيها نشأت و توطدت الركائز الأساسية لهده الديمقراطية ومنها انتشرت إلى مختلف الدول التي تبنتها فيما بعد.
والميزة الرئيسية التي يتصف بها النظام البرلماني في بريطانيا تكمن في انه يقوم بالأساس على مجموعة من القواعد القانونية الدستورية العرفية. ودلك بالإضافة إلى بعض القوانين العادية ذات الطابع الدستوري التي أقرتها البرلمانات في فترات متباعدة.
ولقد مر النظام السياسي في بريطانيا، عبر تاريخه الطويل بمراحل مختلفة إلى أن استقر على الوضع الذي هو عليه الآن.
الفقرة الأولى: التطور التاريخي للنظام البرلماني البريطاني
تعود الأصول التاريخية للنظام البرلماني القائم حاليا في بريطانيا إلى بدايات القرون الوسطى. فمنذ ذلك الحين عرف هذا النظام تطورات هامة بفعل التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي حدثت في جسم المجتمع البريطاني.
ويمكن تلخيص هذا التطور التاريخي بثلاث مراحل رئيسية استمرت الأولى من القرن الثاني عشر إلى القرن السابع عشر، وتميزت بالصراع بين الأرستقراطية والملك من أجل توطيد الحريات العامة والحد من السلطة الملكية المطلقة. ودامت الثانية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وتم فيها توطيد سلطة البرلمان وإقامة الأسس التقليدية للنظام البرلماني. وأما المرحلة الثالثة التي بدأت خلال النصف الأول من القرن الماضي فقد كانت مرحلة النضال في سبيل إرساء قواعد النظام الديمقراطي.
أولا: الصراع من أجل الحريات العامة، والحد من السلطة الملكية المطلقة
تميز تاريخ بريطانيا منذ استيلاء النورمانديين عليها في عام 1066 بصراع مرير على السلطة بين الملوك الذين كانوا يطمحون لحكم مطلق و بين طبقة النبلاء الأرستقراطيين،ملاكي الأراضي، الذين كانوا يحرصون على صيانة امتيازاتهم ويطمعون بالحد من سلطات الملك المطلقة لمصلحتهم.
و خلال هدا الصراع الطويل الذي استمر حتى النصف الثاني من القرن السابع عشر اضطر الملوك أمام ضغط النبلاء و تمردهم للتخلي عن جزء من سلطاتهم وللاعتراف للنبلاء ببعض الحقوق والحريات. إلا أن تراجع الملوك في هدا الصدد لم يخل من عدة محاولات ناجحة لإعادة بسط الحكم المطلق الذي لم يتم وضع حد نهائي له ألا بعد ثورة 1688.
ولقد تجلت انتصارات النبلاء خلال هدا الصراع بعدد من الشرع التي أعلنها الملوك أو اضطروا للقبول بها و التي كان من أهمها الماكناكارتا، وعريضة الحقوق، وقانون الهابياس كوربوس (أو قانون سلامة الجسد)، ولائحة الحقوق.
1- الماكنكارتا ( Magna – Carta) أو الشرعة الكبرى وأصدرها عام 1215 الملك جون، المعروف باسم جون بلا أرض (Jean sans terre) على أثر الثورة التي أعلنها الأرستقراطيون ورجال الدين بعد أن أخذ حكم الطاغي يهدد مصالحهم. فما كان منهم إلا أن تمردوا على سلطته ونشروا لائحة ضمنوها مطالبهم، ولم يعودا للطاعة إلا بعد أن رضخ الملك ووافق على الاعتراف لهم بالحقوق الواردة في لائحتهم.
ولقد تضمنت الشرعة عددا من المواد المتعلقة بحقوق النبلاء الإقطاعيين وخاصة لجهة صيانة ممتلكاتهم من تعديات الملك وتأمين حرية الكنيسة في اختيار رؤسائها والتزام النزاهة والعدالة في الإدارة والقضاء وضمان الحرية الشخصية لأفراد الطبقة الأرستقراطية.
كما نصت الشرعة على اعتراف الملك بحق البرلمان في الموافقة على فرض الضرائب، وفي تقديم العرائض والاقتراحات له. واشترطت الشرعة تشكيل لجنة من 25 عضوا من الطبقة الأرستقراطية مهمتها مراقبة تنفيذ أحكامها، وذلك تحت طائلة استئناف التمرد في حال مخالفة الملك لها أو نقضه لأحكامها.
إلا أن الملك جون تنكر في العام التالي لهذه الشرعة وتمكن من تجاهل ما جاء فيها من بنود. وهكذا عاد الحكم المطلق للظهور، وظل قائما حتى مطلع القرن السابع عشر. وطوال تلك المدة كانت الماكناكارتا تمثل رمزا للصراع في سبيل الحرية، ومن هنا استمدت قيمتها كأهم وثيقة دستورية في تاريخ بريطانيا السياسي، باعتبارها المصدر الأول وحجر الزاوية للحريات الإنجليزية الحديثة.
ومع ارتقاء الملك جاك الأول، أول ملوك أسرة الستيوارت، عرش بريطانيا في عام 1603، واستئنافه للحروب التاريخية ضد ملوك فرنسا، سنحت الفرصة ثانية للنبلاء للمطالبة بحقوقهم. واتخذت هذه المطالبة شكل صراع بين الملوك والبرلمان الذي يمثله حول حق هذا الأخير في الموافقة على فرض الضرائب. لما كان الملك الجديد مضطرا للحصول على الأموال اللازمة لتغطية نفقات الحرب اضطر لتنازل أمام البرلمان ووافق على منحه حق التصويت علة فرض الضرائب.
2- عريضة الحقوق (Pétition of right) وزهي الوثيقة التي أصدرها الملك شارل الأول في عام 1628 بعد تجدد الخلاف الذي نشب بينه وبين البرلمان الذي اعترض على محاولة الملك فرض ضرائب جديدة على النبلاء دون موافقته. وقد أكدت العريضة، مرة أخرى، على حقوق البرلمان ولاسيما في مجال مناقشة المسائل الضريبية وإقرارها، كما تضمنت تأكيد على مبدأ الحرية الشخصية وتحريم توقيف الكيفي للمواطنين.
ورغم إعلان الملك لهذه العريضة فقد تفاقم الصراع بينه وبين البرلمان إلى أن انتهى بقيام ثورة 1642 التي قادها أوليفر كروموبل (O. Cromwell) وحظيت بتأييد البرلمان، ولاسيما مجلس العموم، والتي قامت بإعلان الجمهورية في عام 1649، وبإصدار أول دستور خطي حديث في بريطانيا والعالم. لكن الجمهورية الجديدة لم تصمد إلا أشهرا قليلة بعد وفاة زعيمها في عام 1658، حيث عاد النظام الملكي مجددا إلى البلاد باعتلاء الملك شارل الثاني العرش في عام 1660 بعد أن تعهد للبرلمان باحترام سلطاته وحقوقه، واعترف للمواطنين بالحرية الدينية.
3- قانون الهابياس كوربوس ( Habeas Corpus Act) (أو قانون سلامة الجسد) وهو قانون أصدره البرلمان البريطاني في عام 1679. واضطر الملك شارل الثاني للموافقة عليه. والغاية منه ضمان الحرية الشخصية للمواطنين و حمايتها من تعسف السلطة. و يتضمن القانون القواعد الأساسية المتعلقة بحماية المواطن من الاعتقال، وبالإجراءات القانونية اللازمة للآعتقاله و لتقديمه للمحاكمة أمام القضاء بعد ذلك. ويعتبر هذا القانون الهام المحور الأساسي للحريات الشخصية التي ما يزال يعتد بها في بريطانيا.
4- لائحة الحقوق (Bill of rights) وهي إعلان دستوري وضعه البرلمان ووافق عليه الملك ويليم الثالث، في عام 1689، بعد اعتلائه العرش بدعوة من البرلمان على إثر الثورة التي نشبت في العام السابق ضد الملك جيمس الثاني، آخر ملوك آل ستيوارت، الذي حاول العودة بالبلاد، مرة أخرى، إلى عهود الحكم المطلق. وقد وضعت هذه الثورة واللائحة التي نجمت عنها حدا نهائيا للحكم الملكي المطلق في بريطانيا وفتحت المجال لعهد جديد هو عهد الملكية البرلمانية. فقد تخلى الملك بموجب هذه اللائحة عن حقه السابق في التشريع، وفي تعليق مفعول القوانين. كما أكدت اللائحة حرمان الملك من فرض أية ضرائب جديدة بدون موافقة البرلمان، وأقرت حق هذا الأخير في مراقبة نفقات الدولة وتحديدها سنويا، وحظرت على إنشاء المحاكم بدون موافقة البرلمان، كما منعته من القيام بأي تجنيد منظم للقوات في وقت السلم، وأقرت اللائحة، أخيرا، عددا من الحريات الشخصية واعترفت للمواطنين بحق تقديم العرائض.
ثانيا: قيام النظام البرلماني
أخذت ملامح النظام البرلماني في بريطانيا تبرز منذ أواخر القرن السابع عشر وخاصة بعد ثورة 1688. ثم ما لبثت أسس هذا النظام وقواعده التقليدية أن اتضحت وترسخت خلال القرنين التاليين. فالصراع الذي دار بين الملك والبرلمان، الممثل للأرستقراطية، خلال القرون الخمسة السابقة أدى تدريجيا إلى ضعف وزن الملك وتأثيره في الحياة السياسية في حين انتقلت مهام ممارسة الحكم إلى حكومة متضامنة منبثقة عن البرلمان وتعمل تحت مراقبته. وهكذا أصبح البرلمان، الممثل للإرادة “الشعبية” المصدر الأساسي للسلطة بينما تحولت الملكية إلى مؤسسة رمزية تتولى ولا تحكم.
ولقد لعبت بعض الظروف التاريخية الطارئة دورا مساعدا وهاما في قيام النظام البرلماني وتوطيد أسسه.
ومن أهم هذه الظروف أن الملك ويليم الثالث اضطر للتخلي عن جزء هام من مقاليد الحكم ومهامه إلى وزرائه، وذلك نتيجة انهماكه بأمور الحرب مع الملك لويس الرابع عشر، ملك فرنسا، في بداية القرن الثامن عشر. ونظرا لما كانت تتطلبه هذه الحرب من نفقات باهضة لابد من تغطيها بواسطة الضرائب الجديدة التي لا سبيل لفردها إلا عن طريق البرلمان، فقد اضطر الملك لاختيار وزرائه من بين أعضاء البرلمان، وخاصة من الأعضاء المنتمين لحزب الأغلبية فيه وذلك رغبة في كسب تأييده ودفعه للموافقة على الاعتمادات التي تتطلبها الحرب. وهكذا نشأ واستقر العرف البرلماني المتمثل بأن يترك الملك شؤون الحكم الفعلية لوزارة منبثقة عن البرلمان وتعمل تحت إشرافه ومراقبته. وبعد وفاة الملك ويليم الثالث، وخليفته الملكة أنا، تولى العرش للملك جورج الأول، (1714)، وكان هذا الملك الألماني الأصل يجهل اللغة الإنجليزية تماما لذا كان لا يستطيع المشاركة في مناقشات مجلس الوزراء. وأدى هذا الأمر لنشوء واستقرار قاعدة عرفية جديدة في النظام البرلماني البريطاني وهي أن يجتمع الوزراء فيما بينهم فيتداولوا ويقررا ما يشاءون في أمور الدولة بغياب الملك، وبدون أخذ رأيه فيها.
وأدة قيام الوزراء بممارسة مهام الحكم الفعلي بعيدا عن تأثير وتدخل الملك الذي كان مضطرا لاختيارهم من بين أعضاء البرلمان، لظهور القاعدة البرلمانية الجوهرية المتمثلة بمسؤولية الحكومة سياسيا أمام البرلمان، وكان وزراء الملك في السابق، المختارين من قبله بحرية ليعاونوه في شؤون الحكم، مسؤولين مباشرة أمامه فقط. وهكذا أضيفت إلى مسؤولية الوزراء السابقة أمام الملك، مسؤولية جديدة أمام البرلمان. وقد استمرت قاعدة المسؤولية السياسية المزدوجة هذه طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وكانت خلال ذلك تتحول شيئا فشيئا ومع ازدياد سلطة البرلمان ونفوذه لتصبح مسؤولية وحيدة اتجاه البرلمان فقط.
ولم يكن الوزراء في البدء مسؤولين أمام البرلمان إلا انفراديا، كما كان حالهم أمام الملك. وقد بدأت هذه المسؤولية بالظهور في الميدان الجنائي حيث كان باستطاعة مجلس العموم أن يوجه للوزراء الاتهام في حال ارتكابهم لجرم ما، ويؤدي هذا الاتهام لتقديمهم للمحاكمة أمام مجلس اللوردات، وشيئا فشيئا أخذ البرلمان يعتبر ارتكاب الوزراء لأخطاء سياسية فادحة بمثابة جرم يمكن أن يؤدي إلى توجيه اتهام يكون من نتيجته على الأقل إجبار وزير على استقالته.
لما كان الوزراء قد اعتادوا أن يجتمعوا فيما بينهم ويتداولوا ويقرروا ما يشاءون من أمور متعلقة بقضايا الحكم، فقد ظهر لديهم شعور من التكافل والتضامن ما لبث أن تطور تدريجيا ليأخذ شكل المسؤولية التضامنية أمام البرلمان باعتبارهم يشكلون هيئة جماعية واحدة.
ومقابل تخليه لوزرائه عن مهام الحكم الفعلي، احتفظ الملك لنفسه بحق اعتباره غير مسؤول عن أعماله اتجاه أي سلطة أخرى. وإذا كانت حرمة الملك وقدسية شخصه قاعدة مؤكدة منذ القدم ومستندة للاعتقاد القائل بأن الملك لا يمكن أن يخطأ فإن هذه القاعدة أصبحت مقبولة بصورة أفضل بعد ابتعاد الملك فعليا عن ممارسة مسؤوليات الحكم.
وهكذا استقرت من خلال الظروف والممارسات العرفية مجموعة القواعد الأساسية التي اتصف ويتصف بها النظام البرلماني.
ثالثا: إرساء أسس الديمقراطية
كانت الديمقراطية بمعناها الواسع، الذي يفترض مشاركة جميع المواطنين، على قدم المساواة، في تقرير شؤون الحكم وتسيير القضايا العامة، غير معروفة في المجتمع البريطاني حتى بداية القرن الحالي. فالنظام البرلماني الذي أمكن تحقيق خلال المرحلة السابقة من خلال الصراع بين الأرستقراطية والملك. كان نظاما غير ديمقراطي لأنه كان يحصر قضية المشاركة في الحياة السياسية بفئة قليلة من أفراد الشعب تضم بشكل رئيسي أبناء الطبقتين الأرستقراطية والبرجوازية الكبيرة، في حين أن الأغلبية الساحقة من أفراد الشعب كانت مستبعدة عن الحياة العامة ومحرومة من أبسط الحقوق السياسية.
ولقد تصدت الطبقة البرجوازية منذ بداية القرن التاسع عشر لقيادة الحركة الديمقراطية وذلك خدمة لمصالحها السياسية وتلبية لمطالب جماهير سكان المدن الكبرى التي كانت ترى أن من غير الطبيعي استمرار إبعادها عن الحياة السياسية بعد أن ازداد وزنها وتأثيرها في حياة البلاد الاقتصادية والاجتماعية.
وقد استهدف نضال الحركة الديمقراطية تحقيق أمرين رئيسيين القضاء على نظام الانتخاب القديم وإقرار مبدأ الانتخاب العام و الشامل، وإعطاء الأولوية في الحياة السياسية لمجلس العموم باعتباره المجلس المنتخب من الشعب والمعبر بالتالي عن إرادته.
1- نظام الانتخاب: كانت المؤسسات السياسية التمثيلية التي قامت في بريطانيا منذ عدة قرون، لا تعبر إلا عن إرادة جزء يسير من الشعب البريطاني. أما الأغلبية الساحقة من هذا الشعب فلم يكن لها أي دور في الحياة السياسية. فنظام الانتخاب الذي كان معتمدا لاختيار أعضاء مجلس العموم كان نظاما مقيدا يحصر حق الانتخاب بفئة قليلة من المواطنين، الذكور والأغنياء الذين يؤدون للدولة مقدارا مرتفعا من الضرائب. أما القسم الأكبر الباقي من المواطنين فكان محروما من جميع الحقوق السياسية ولاسيما حق الانتخاب والتوظيف وذلك بسبب الوضع الاجتماعي (البرجوازية الصغيرة والعمال) أو المذهب الديني (الكتوليك واليهود والبروتستانت المنشقين عن الكنيسة الإنجليكانية) أو ضعف الولاء للتاج (الإرلنديين) كما كان نظام الانتخاب نظاما غير متكافئ لا تتمثل بموجبه مختلف المدن والمقاطعات بنسبة عدد سكانها. فقد كانت المقاعد المخصصة للمدن والمقاطعات في مجلس العموم محددة بإرادة ملكية منذ زمن بعيد. ولم يطرأ عليها تعديل يذكر رغم التغيير الجذري الذي حدث في المجتمع البريطاني، خلال القرنين الماضيين، نتيجة الثورة الصناعية، و الذي أدى إلى تضخم عدد سكان المدن بشكل كبير بالنسبة لعدد سكان المقاطعات الريفية، و إلى ظهور مدن صناعية جديدة وهامة لم يكن لها أي ممثل في المجلس.
ولقد بدأت الحركة الديمقراطية بتحقيق أولى انتصاراتها في هذا المجال في النصف الأول من القرن التاسع عشر. ففي 1828 تمكنت من دفع البرلمان لإصدار قانون يتضمن الإقرار بالحقوق السياسية للبروتستانت المنشقين عن الكنيسة الإنجليكانية، وفي العام التالي دفعت البرلمان أيضا لإصدار قانون مماثل يقر بهذه الحقوق للأقلية الكاثوليكية.
وفي عام 1832 وبعد فترة من النضال والاضطرابات الثورية العنيفة.حققت الحركة الديمقراطية انتصارا هاما تمثل بصدور “قانون الإصلاح” الذي زاد عدد مقاعد مجلس العموم ووزعها على المدن والمقاطعات التي كانت محرومة منها، كما وسع حق الانتخاب ليشمل فئات جديدة من المواطنين وذلك بتخفيض المقدار المطلوب من الضرائب السنوية التي يجب على المواطن دفعها لخزينة الدولة من أجل التمتع بحق الانتخاب.
إلا أن هذا الانتصار، على أهميته، لم يؤد إلى دائرة توسيع نطاق الجسم الانتخابي، إلا بحدود ضيقة استفادت منه بالدرجة الأولى الطبقة البرجوازية الكبيرة التي زادت عدد ممثليها في مجلس العموم، ولهذا استمر نضال الحركة الحيمقراطية الشعبية من اجل التوسيع التدريجي لحق الانتخاب، وظهرت في عام 1838، الحركة الشارتية (اللائحية) التي أعلنت أن هدف نضالها النهائي يتمثل بتحقيق مبدأ الانتخاب العام والشامل والسري. ولقد أثمرت جهود هذه الحركة شيئا فشيئا ففي عام 1876 صدر قانون يقضي بتخفيض مقدار الرسم الانتخابي، وفي عام 1884 صدر قانون آخر ألغيت بموجبه فروقات تمثيلية بين المدن والأرياف، وفي 1918 توجهت الحركة الديمقراطية الشعبية انتصاراتها بإقرار حق الانتخاب العام والشامل للرجال والنساء مع تميز واحد يكمن في أن الرجال يبلغون سن الرشد الانتخابي في الواحدة والعشرين، في حين أن النساء لا يبلغونه إلا في الثلاثين وقد ألغي هذا التمييز بموجب قانون صدر في عام 1928. وفي عام 1970 صدر قانون جديد قضى بتخفيض السن الانتخابي للرجال والنساء إلى 18 سنة.
2- ازدياد وزن مجلس العموم: إن توسيع حق الانتخاب ليشمل كافة القطاعات الشعبية كان بحاجة لكي يأخذ كل معانيه السياسية أن يقترن بتغيير وزن المجلس الممثل للإدارة الشعبية داخل البرلمان.
فحتى عام 1909 كان مجلس اللوردات متمتعا بسلطات تشريعية ومالية وقضائية تميزه عن مجلس العموم وتعطيه مركز الأولوية داخل البرلمان. وكان لابد للحركة الديمقراطية أن تتعرض بالنقد لهذه المؤسسة الأرستقراطية وذلك من أجل إضعافها لصالح مجلس العموم لقد سنحت الفرصة للحركة الديمقراطية لتحقيق هذا الهدف على إثر الخلاف الذي نشب في عام 1909، بين حكومة الأحرار ومجلس اللوردات حول إقرار مشروع قانون الموازنة العامة الذي كان يتضمن بعض التدابير الإصلاحية ومن بينها فرض ضريبة على الدخل. وقد اعتبر المجلس أن من شأن هذه التدابير إحداث تغيير جدري للمجتمع يهدد مصالح أرستقراطية، ولذلك قام برفض الموافقة على المشروع، وإزاء هذا الموقف، قررت الحكومة الاستمرار في المواجهة وإدخال الشعب في القضية، فطلبت إلى الملك حل مجلس العموم وإجراء انتخابات جديدة \يمكن من خلالها معرفة ما إذا كانت الأغلبية الشعبية تساند الحكومة في موقفها أم تعارضها وتؤيد مجلس اللوردات. وعندما أسفرت الانتخابات عن فوز الأكثرية الجديدة من حزب الأحرار تأكدت الحكومة من تأييد الشعب لها فزادت من ضغطها على مجلس اللوردات الذي لم يجد أمامه إلا الإذعان بالإرادة الشعبية فرضخ للحكومة المجسدة لها، واضطر في عام 1911 للتصويت بالموافقة على مشروع قانون هام عرف فيما بعد “بالقانون البرلماني” الذي نص على حصر جميع الصلاحيات المالية بمجلس العموم فقط، وعلى قصر صلاحيات مجلس اللوردات، في المجال التشريعي العادي، على تصويته بالفيتو على مشاريع القوانين التي يقرها مجلس العموم. وكان من شأن هذا التصويت تأجيل تنفيذ القانون لمدة عامين، وفي عام 1949 أقر البرلمان البريطاني قانونا جديدا خفض بموجبه هذه المدة وجعلها تقتصر على عامل واحد فقط.
وهكذا أصبح مجلس العموم المنتخب من الشعب هو المجلس الأهم في البرلمان البريطاني، في حين تراجع مجلس اللوردات ليكتفي بدور رمزي وهامشي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
الفقرة الثانية: المؤسسات السياسية في النظام البرلماني البريطاني
يقوم النظام البرلماني في بريطانيا على أساس تفاعل تام بين عدة مؤسسات سياسية من بينها المؤسسة الانتخابية والحزبية والبرلمان، والحكومة، الملك.
أولا: المؤسسة الانتخابية
1- أهميتها: تلعب المؤسسة الانتخابية دورا هاما في الحياة السياسية البريطانية رغم أنها قد تبدو ذات أهمية ثانوية إذ نظرنا للموضوع نظرة غير عميقة. فوجود مؤسسة ملكية القائمة عبر مبدأ الوراثة وكذلك مجلس اللوردات المكون من أعضاء يعينون لمدى الحياة أو يتولون مناصبهم بالوراثة قد يدعو للاعتقاد بأن الانتخابات لا تلعب إلا دورا هامشيا محدودا في الحياة السياسية إلا أن الحقيقة مغايرة لهذا تماما.
فالمؤسسات السياسية الوراثية لم يعد لها تأثير كبير في البلاد. أما الدور الرئيسي الذي تلعبه المؤسسة الانتخابية فيبدو من خلال تفاعلها وتأثرها بطبيعة النظام الحزبي القائم في البلاد، والمتميز بوجود حزبين رئيسيين فيها. فلقد أدى انقسام الأغلبية الساحقة من الشعب البريطاني إلى تيارين سياسيين رئيسيين: يتجسد الأول بحزب المحافظين ويتمثل الثاني بحزب العمال، إلى زيادة أهمية وفعالية وتأثير المؤسسة الانتخابية في حياة البلاد، بالنسبة للمؤسسات السياسية الأخرى. فالشعب البريطاني عندما يتجه، مبدئيا مرة كل خمس سنوات، إلى صناديق الاقتراع لانتخاب أعضاء مجلس العموم ويحمل إلى هذا المجلس أغلبية من النواب منتمين إلى أحد الحزبين الكبيرين إنما يقوم بشكل مباشر باختيار السياسة العامة التي يفضل أن تسير عليها البلاد خلال السنوات الخمس التالية، كما يقوم، في نفس الوقت، باختيار الوزير الأول، الذي سيكون حكما رئيس الحزب الفائز بالانتخابات، وأعضاء الحكومة الذين سيكونون أيضا من بين أعضاء اللجنة القيادية لهذا الحزب.
ونظرا للأهمية البالغة لهذه النتائج المباشرة للانتخابات في بريطانيا، فإن الوزير الأول ومن ورائه الحكومة بكاملها، يجد نفسه مسؤولا، بشكل مباشر وفعلي، عن سياسته وأعماله، أمام الشعب أو الهيئة الناخبة وليس أمام أية سلطة أخرى. وفي هذا الأمر تعديل عملي للقاعدة النظرية الرئيسية في النظام البرلماني والمتمثلة في مسؤولية الحكومة والوزير الأول أمام البرلمان. فالواقع أن الوزير الأول في بريطانيا لم يعد يخشى حدوث أي صدام حقيقي مع مجلس العموم وذلك بسبب وجود أغلبية حزبية منضبطة ومؤيدة له و لحكومته، بشكل ثابت داخل المجلس ولقد عطل هذا الواقع جوهر الرقابة البرلمانية على أعمال الحكومة ولم يعد الوزير الأول يحسب حسابا حقيقيا إلا للشعب حين يتخذ مواقفه المختلفة من القضايا السياسية والعامة الأخرى ويتجسد هذا الأمر من خلال حرصه على فوز حزبه بالانتخابات العامة المقبلة.
ويتحقق الوزير الأول من رضا الشعب عن مواقفه وتأييده لسياسته في مناسبات مختلفة يأتي في مقدمتها الانتخابات الجزئية وحل مجلس العموم قبل انتهاء مدته القانونية.
فالانتخابات الجزئية تحدث في بريطانيا باستمرار لملئ المقاعد النيابية التي تشغل بسبب وفاة بعض أعضاء مجلس العموم أو استقالتهم لأي سبب كان. وتعتبر هذه الانتخابات وسيلة مهمة لقياس الاتجاهات السياسية للرأي العام بحيث تقوم الحكومة والمعارضة بتعديل مواقفها على ضوء نتائجها.
أما حل مجلس العموم قبل انتهاء مدته الرسمية، فقد أصبح نوعا من التقليد المتبع في بريطانيا ويحدث هذا الحل عادة بسبب رغبة الحكومة بمعرفة رأي الشعب في قضية عامة مهمة ومصيرية بالنسبة للبلاد، أو بسبب رغبتها في تدعيم قوة الأغلبية الحزبية المؤيدة لها في المجلس، وفي هذه الحالة الثانية يختار الوزير الأول موعد الحل وإجراء انتخابات الجديدة في وقت يعتقد بأنه أكثر ملائمة لفوز حزبه. ومهما يكن السبب، فإن هذا الأمر يسمح للناخبين بإبداء آرائهم في القضايا السياسية في فترات زمنية غير متباعدة نسبيا.
2- نظام الانتخاب: يعتمد النظام البريطاني أسلوب الانتخاب الفردي الأكثري لدورة واحدة. حيث تقسم البلاد إلى دوائر انتخابية صغيرة جدا يخصص لكل منها مقعد واحد في مجلس العموم. وعند إجراء الانتخابات يعتبر رابحا المرشح الذي حصل على أكبر عدد من الأصوات المقترعة مهما كان هذا العدد ولقد بدأ تطبيق هذا الأسلوب في بريطانيا منذ القرن الثالث عشر وما زال معمولا به حتى الآن دون انقطاع.
ويتميز هذا الأسلوب الانتخابي ببعض الحسنات كما أن له في الوقت ذاته بعض المساوئ.
أما حسناته فتكمن في أنه يساعد على استمرار انقسام الناخبين بين حزبين كبيرين، وهذا ما يؤدي غالبا لإيجاد أغلبية نيابية منسجمة وحكومة مستقرة. إلا أن هذا النظام يتطلب إيجاد تنظيم جيد للأحزاب. فبما أن الانتخابات تتم من الدورة الأولى فإن على كل حزب أن يحشد أقصى الطاقات من أجل جمع أكبر عدد من الأصوات. كما يتطلب من الناخب نوعا من الوعي لأهمية الصوت الذي يدلي به والقرار الذي يتخذه بخصوص المرشح والحزب الذي يفضله. وهذا ما يدفعه عادة لاختيار المرشح المنتمي لأحد الحزبين القويين، والامتناع عن التصويت للأحزاب الصغيرة أو للمستقلين الذين لن يكون بإمكانهم الحصول على أغلبية في مجلس العموم، ولن يستطيعوا بالتالي التأثير بشكل حاسم على سياسة الحكومة والبلاد. ومن حسنات هذا النظام أيضا وضوحه وبساطته وعدم تعقيده فبالنظر لضيق حدود الدائرة الانتخابية يكون من السهل نسبيا على الناخب التعرف على المرشحين وتفضيل أحدهم، وبالنظر لأن انتخابات تحسم في دورة واحدة وعلى أساس قاعدة الأكثرية النسبية فإنه يكون من السهل التعرف بشكل سريع جدا على نتائج العملية الانتخابية.
إلا أن لأسلوب الانتخاب هذا، بالمقابل، بعض المساوئ، ومن أهم هذه المساوئ أن هذا الأسلوب غير عادل ولا يعطي صورة صادقة عن الاتجاهات السياسية للرأي العام. فقد يحصل أن يفوز أحد الأحزاب بأغلبية المقاعد في مجلس العموم دون أن يكون قد حصل بالفعل على الأغلبية النسبية للأصوات في مجمل البلاد. ففي عام 1951 على سبيل المثال فاز حزب المحافظين الانتخابات العامة وحصل على 51.36 بالمائة من المقاعد رغم أنه لم يجمع إلا نسبة 47.96 بالمائة من الأصوات الإجمالية في حين أن حزب العمال حصل على نسبة أقل من المقاعد (47.20 بالمائة) رغم تجميعه لنسبة أعلى من الأصوات الإجمالية بلغت نحو 48.80 بالمائة. وسبب هذه الظاهرة هو أن أحد الأحزاب يمكنه أحيانا أن يفوز في عدد كبير من الدوائر، وذلك بحصوله، في كل منها، على تفوق بسيط على خصمه في عدد الأصوات. في حين يفوز الأخر بعدد قليل من الدوائر التي يحصل في كل منها على أغلبية كبيرة جدا من الأصوات. وهذا الأمر يعطي للحزب الثاني عددا كبيرا نسبيا من الأصوات وعددا قليلا من المقاعد النيابية، ولهذا يمكن القول إن أسلوب الانتخاب هذا ينطوي رغم بساطته، على شيء من الظلم ومن مظاهر عدم العدالة في هذا النظام أيضا أن الأحزاب الأخرى الأقل شئنا وقوة في البلاد تحصل عادة على عدد من المقاعد النيابية أقل بكثير من عدد الأصوات التي حصلت عليها نسبيا في مجمل أنحاء البلاد ففي انتخابات 1974، على سبيل المثال، حصل حزب الأحرار على نسبة 19.3 بالمائة من مجموع أصوات الناخبين في مختلف أنحاء البلاد في حين لم يحصل إلا على نسبة 2.2 بالمائة من عدد المقاعد الإجمالية في مجلس العموم. و السبب في هذه الظاهرة أن الأحزاب الضعيفة نسبيا تحصل في عدد كبير من الدوائر الانتخابية على عدد من الأصوات لا يصل لحد الأكثرية النسبية ولا يسمح لمرشحها في كل دائرة منها بالفوز بالمقعد المخصص لها. وبذلك تضيع قيمة هذه الأصوات وتذهب هدرا ولا تأثر بالتالي في تحديد عدد المقاعد التي يفوز فيها الحزب في المجلس.
ومن مساوئ هذا النظام أيضا أنه يخضع الحياة السياسية لإرادة نفر بسيط من الناخبين المترددين وخاصة في مثل هذه البلاد التي تعيش في ظل نظام الثنائية الحزبية فمن الواضح أن لكل حزب سياسي قواعده الانتخابية الثابتة والمستقرة. وهذا يعني أن القسم الأعظم من الناخبين مستقرين إلى حد كبير في اختياراتهم وانتماءاتهم السياسية. ولكن تبقى هناك أقلية من الناخبين الغير مستقرين على رأي سياسي معين.
وهذه الأقلية تنحاز حينا لهذا الحزب وحينا للحزب الآخر وذلك بسبب جملة من الأسباب والعوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الظرفية. ولهذا فإن الصراع والتنافس الانتخابي بين الحزبين الكبيرين يجري عادة من أجل كسب ثقة وتأييد أكبر عدد من الأصوات هذه الأقلية المترددة. وبقدر نجاح الحزب بهذا يستطيع أن يحقق لنفسه الفوز في الانتخابات ولهذا فإن هذه الفئة القليلة تصبح فعليا المتحكمة في تقرير السياسة العامة في البلاد من خلال تأييدها لهذا الحزب أو ذالك.
وتزداد أهمية هذه الظاهرة عندما نعلم أن هذه الأقلية من المواطنين تتبني عادة مواقف سياسية متوسطة بين اليسار واليمين وإن الحزبين الكبيرين يتجهان من أجل كسب ثقة وتأييد هذه الأقلية للتخلي عن أفكارهما ومواقفهما المتطرفة ولتبني حلول وبرامج سياسية وسطية أكثر فأكثر. وهذا الأمر يدفع الحزبين السياسيين الكبيرين في بريطانيا نحو الوسط بحيث يمكن القول الآن أنه بسبب وجود هذه الظاهرة إلى حد كبير، فإنه لم يعد هناك حزب يساري وآخر يميني وإنما هناك حزب يمثل يمين الوسط وآخر يمثل يسار الوسط.
ثانيا: المؤسسة الحزبية
يعرف البعض النظام السياسي البريطاني بأنه نظام حكم حزبي، وذلك بمعنى أن السلطة تكون طوال مدة ولاية مجلس العموم بيد الحزب المتمتع بالأغلبية البرلمانية فيه. وعلى هذا يلعب الحزب الحاكم وقيادته بشكل خاص دورا أساسيا في رسم معالم الحياة السياسية في البلاد ومن الواضح أن السبب الجوهري في قدرة حزب واحد على التمتع بأغلبية مقاعد مجلس العموم يعود انقسام الأغلبية الساحقة من الشعب البريطاني إلى حزبين كبيرين لابد لأحدهما، غالبا، من الفوز بأغلبية المقاعد أثناء الانتخابات.ونظرا لاستمرار هذه الظاهرة التاريخية منذ عدة قرون،سمي النظام البريطاني أيضا بأنه نظام يعيش في ظل الثنائية الحزبية، وهذا بالرغم من وجود عدة أحزاب أخرى هامشية في البلاد.
أ- نشأة نظام الثنائية الحزبية: يعود تاريخ الحركة الحزبية، في بريطانيا، إلى بداية القرن السابع عشر حين أخذت تتبلور داخل صفوف البريطانيين عامة، وأعضاء البرلمان، بصفة خاصة اتجاهات ومواقف فكرية وسياسية معبرة عن المصالح الاقتصادية والاجتماعية المتباينة لكل من الطبقتين الأرستقراطية والبرجوازية. وكان من أهم القضايا المطروحة على بساط البحث في ذلك الحين: الموقف من قضية الإصلاح الديني وما يتفرع عنها من تسامح تجاه أتباع المذاهب الدينية المختلفة، والموقف من علاقة البرلمان بالملك والتوازن الذي يمكن أن يقوم بينهما. ولقد انقسمت هذه الاتجاهات إلى حزبين كبيرين متعارضين هما “التوريز” (Torys) المعبر عن الاتجاه المحافظ للطبقة الأرستقراطية، وحزب “الويكز” (Wight) المعبر عن الاتجاه الليبيرالي (التحريري) للطبقة البرجوازية الناشئة.
ولقد تولى هذان الحزبان الكبيران قيادة الحياة السياسية البريطانية، وأسهم وجودهما وتنافسهما الدائم على السلطة في رسم معالم النظام البرلماني وإرساء قواعده الرئيسية. وخلال القرن التاسع عشر بدأ الحزب الأول يعرف باسم حزب المحافظين في حين اتخذ الثاني لنفسه اسم حزب الأحرار.
ومع بداية القرن العشرين وازدياد نفوذ الطبقة العاملة وانتشار الافكارالاشتراكية بتأسيس حزب ثالث هو “حزب العمال”. وبقي هذا الحزب يحتل دور القوة الثالثة في البلاد ألا أن مكنته أحداث الحرب العالمية الأولى، والنتائج التي تمخضت عنها على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي من الفوز بالانتخابات التشريعية العامة، للمرة الأولى، في عام 1924، وذلك بعد أن استأثر بتأييد ودعم الأغلبية الساحقة من أنصار حزب الأحرار وبذلك تحول حزب العمال إلة قوة رئيسية في البلاد إلى جانب حزب المحافظين أما حزب الأحرار فقد أخذت مكانته تضعف تدريجيا بعد أن تحول قسم آخر من أنصاره لتأييد حزب المحافظين.
ب- مزايا نظام الثنائية الحزبية وآثاره: أدت هيمنة الثنائية الحزبية على النظام البرلماني البريطاني إلى طبع الحياة السياسية ببعض المزايا الإيجابية في نفس الوقت الذي عطلت فيه آلية هذا النظام وقلبت عمليا قواعده الجوهرية رأسا على عقب.
فمن جهة أولى ساعدت الثنائية الحزبية التي تترجم عمليا بوجود حزب واحد متمتع بأغلبية مقاعد في مجلس العموم، على قيام حكم قوي ومستقر في بريطانيا، فالحكومة البريطانية المؤلفة من أعضاء اللجنة القيادية لحزب الأغلبية في مجلس العموم والتي يرأسها رئيس هذا الحزب، تعتبر دوما حكومة قوية لأنها تستند لتأييد أغلبية برلمانية حزبية منسجمة ومنضبطة انضباطا شديدا. وهذا الأمر يكفل لها إمكانية الحكم بشكل مستقر وبدون أزمات أو هزات طوال مدة ولاية مجلس العموم.
ونظرا لتشكل الحكومة البريطانية من فئة حزبية واحدة فإنها تقوم بممارسة مهام الحكم على هدي البرنامج السياسي الذي أعلنه الحزب والتزم بتنفيذه أما المواطن قبيل الانتخابات العامة ولهذا تكون سياسة الحكومة في خطوطها الرئيسية على الأقل، سياسة ثابتة وواضحة وبعيدة عن التقلب والتردد الذي تتميز به سياسة ومواقف الحكومات القائمة على أساس تحالف ظرفي بين عدة أحزاب وأخيرا.
وأخيرا فإن نظام الثنائية الحزبية كما أشرنا سابقا، يساهم في زيادة فعالية وتأثير الجسم الانتخابي لأن الناخب البريطاني عندما يقوم بعملية الاقتراع والمصادرة بين الحزبين الكبيرين إنما يقوم بطريقة مباشرة باقتناء الوزير الأول الذي سيكون حتما رئيس الحزب الفائز بالأغلبية، وأعضاء الحكومة الذين سيكونون من بين أعضاء اللجنة القيادية لهذا الحزب، كما يقوم بتحديد السياسة العامة التي ستنتهجها الحكومة المقبلة وتسير عليها.
ومقابل هذه المزايا الإيجابية، أدت الثنائية الحزبية من جهة أخرى لتعطيل القاعدة الجوهرية للنظام البرلماني متمثلة بمسؤولية الوزارة أمام البرلمان. فمسؤولية الحكومة البريطانية أمام مجلس العموم، لم تعد، بسبب نظام ثنائية الحزبية إلا قضية شكلية فارغة من أي مضمون حقيقي. فنظرا لاستناد الحكومة الحزبية لأغلبية منسجمة ومنضبطة من نفس الحزب فإنها لم تعد عمليا تخشى من حدوث مواجهة سياسية مع مجلس العموم يكون من نتائجها حجب الثقة عنها وإجبارها بالتالي على الاستقالة ويشهد التاريخ البرلماني المعاصر في بريطانيا على ندرة حدوث مثل هذا الأمر ولهذا يمكن القول إن الحكومة لم تعد حقيقة خاضعة لرقابة المجلس فالسياسة البريطانية تقررها اللجنة القيادية للحزب الحاكم، وذلك من خلال الحكومة التي تكون متأكدة من أنها ستلقى تأييد مجلس العموم الذي يضم أغلبية من نفس الحزب.
على أن نظام ثنائية الحزبية لم يعطل هذه القاعدة البرلمانية الجوهرية فحسب بل إنه قلب أوضاع العلاقة بين الحكومة والبرلمان رأسا على عقب وذلك لمصلحة الحكومة والوزير الأول فالحكومة البريطانية لم تعد فقط غير خاضعة لرقابة مجلس العموم بل إنها أصبحت أيضا تتدخل في صلب اختصاصاته الدستورية ولو بصورة شبه مباشرة. ذلك أن الحكومة البريطانية أصبحت تقوم عمليا بجل العمل التشريعي ولا تترك لمجلس العموم إلا مهمة إخراجه بصورة قانونية. فهي من خلال مشاريع القوانين التي تعدها بنفسها واقتراحات القوانين التي توعز لنواب حزبها في المجلس بتقديمها إليه، تضمن إقرار أي نص تشريعي ترغب بإصداره وبالإضافة لهذا تستطيع الحكومة، من خلال تأييد الأغلبية النيابية الحزبية بطلبها أن تحصل من مجلس العموم، في أي وقت تشاء على تفويض يسمح لها باتخاذ مراسيم تشريعية لها قوة القانون. وهكذا يمكننا أن نلاحظ بسهولة كيف أدت الثنائية الحزبية بالتوازن يفترض أن يقوم بين البرلمان والحكومة، لمصلحة هذه الأخيرة.
ج- خصائص الأحزاب البريطانية: تتميز الأحزاب السياسية الكبرى في بريطانيا بطابعها الإيديولوجي المعتدل، وبكونها أحزاب أطر شديدة التنظيم.
1- فمن جهة أخرى تعتبر هذه الأحزاب أحزابا إيديولوجية لأنها تجسد تاريخيا مصالح الطبقات وفئات اجتماعية متباينة. الحزب المحافظ يعتبر تقليديا حزب الطبقات الأرستقراطية والبرجوازية الكبيرة، وحزب العمال يمثل مبدئيا الطبقة العاملة وحزب الأحرار يعبر إلى حد ما مصالح بعض قطاعات البرجوازية الصغيرة وأرباب المهن الحرة إلى أن هذا التقسيم المبسط للأمور لا يمكنه أن يحجب عن الأنظار واقع التقارب الإيديولوجي الكبير بين هذه الأحزاب والذي يتمثل بعدم وجود تناقض صارخ بين برامجها وأهدافها السياسية المختلفة، ويعود هذا التقارب الواضح إلى عدة عوامل من أهمها:
– قيام اتفاق اجتماعي عام بين أبناء الشعب البريطاني، أو أغلبيته الساحقة على الأقل، حول أسس النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي القائم،وقد تم التوصل إلى هذا الاتفاق العام،تاريخيا، على إثر الإنجازات الضخمة التي حققها المجتمع للإنسان البريطاني في كافة الميادين، ولاسيما في مجال الحقوق الشخصية والحريات العادية والمكاسب الاقتصادية والاجتماعية التي شملت بآثارها كافة الموطنين ولهذا لم يعد الانقسام السياسي في المجتمع انقساما حادا وإنما أصبح انقساما ثانويا يدور حول قضايا فرعية. وتعبر عنه الأحزاب المختلفة من خلال برامجها السياسية المتقاربة.
– ولقد ساعد على إضفاء طابع الاعتدال على الأحزاب البريطانية نوعية النظام الانتخابي الفردي الأكثري ذي الدورة الواحدة ووجود حزبان كبيران يحتكران واقعيا إمكانية الحصول على أغلبية برلمانية في مجلس العموم، ويحرصان على بذل أقصى الجهود لتحقيق الفوز في دورة الانتخاب الوحيدة. فنظرا لثقة كل حزب باستمرار تأييد أنصاره التقليديين له أثناء المعركة الانتخابية فإنه يسعى قبيل هذه المعركة لكسب تأييد الفئة غير المنحازة سلفا إلى أي حزب، والتي تنتمي بشكل عام لتيار الوسط ولكي يتمكن من ذلك يحرص كل حزب على أن يظهر كل حزب نفسه بمظهر الاعتدال ويتبنى برنامجا سياسيا متوازنا يتخلى فيه عن الموقف والآراء المتطرفة ولقد أدت هذه الظاهرة السياسية الواضحة إلى تعميق طابع الاعتدال الإيديولوجي للأحزاب البريطانية الأكثر فأكثر بحيث صار من المتعذر على الملاحظ أن يميز بين يسار ويمين بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
2- وتعتبر الأحزاب البريطانية من جهة أخرى أحزاب أطر (Partis de cadres)، فهي لا تقوم على أساس انتماء رسمي ومباشر ومكثف لجماهير الشعب وإنما على أساس تنظيم يظم عددا محدودا نسبيا من الأطر والشخصيات السياسية والاجتماعية الهامة والفاعلة في مختلف قطاعات الحياة العامة.
و يتميز التنظيم الحزبي هذا بقوته وانضباطه الشديد وهو انضباط لابد منه لتماسك الحزب ومحافظته على الانسجام بين عناصره بصفة عامة، وممثليه في مجلس العموم بشكل خاص.
د- دور الأحزاب في الحياة السياسية: تلعب الأحزاب السياسية دورا هاما في الحياة السياسية ولاسيما في كل ما يتعلق بالعملية الانتخابية. ويتجلى هذا الدور من خلال مظاهر عديدة من بينها.
– أن الحزب الذي يتمتع بالأغلبية النيابية في مجلس العموم، والذي تنبثق الحكومة عن لجنته القيادية، يتحكم بحرة تامة في رسم سياسة البلاد وتحديد مواقفها من القضايا الدولية والداخلية الراهنة وفي إصدار كافة التشريعات التي يراها ضرورية لوضع سياسته موضع التنفيذ. ولا يحد من سلطة الحزب في هذا المجال، وكما أشرنا إلى ذلك سابقا،إلى قوة الرأي العام الشعبي واتجاهاته ومواقفه التي لابد للحزب الحاكم أن يأخذها بعين الاعتبار إذا ما أراد أن تجدد له الأغلبية الشعبية ثقتها أثناء دورة الانتخابات التالية.
– أن الأحزاب البريطانية تسيطر بشكل شبه مطلق على مختلف القضايا المتعلقة بالعملية الانتخابية فقيادات الأحزاب هي التي تختار الدوائر الانتخابية التي ستقدم فيها مرشحيها، وهي التي تختار أيضا بحرية المرشحين وتوفر لهم الدعم السياسي والمالي اللازم للنجاح وتستغل الأحزاب بنجاح واقع كون الترشيح المستقل صعب جدا في البلاد بسبب الأعباء المالية الباهظة التي يتطلبها وكذلك إحجام المواطن البريطاني غالبا عن تأييد المرشحين المستقلين لاعتقاده بأن تأييدهم ورفعهم إلى سدة المجلس لن يكون له تأثير حاسم على مجريات الحياة السياسية في البلاد. وهكذا يشعر المرشح الحزبي الفائز بأنه مدين في حصوله على عضوية مجلس العموم إلى حزبه الذي وفر له أسباب النجاح المختلفة.وهذا الشعور لابد منه لضمان استمرار انضباط النواب الحزبيين والتفافهم حول قيادة الحزب.
ثالثا: المؤسسة الملكية
تطور دور المؤسسة الملكية وتأثيرها في الحياة السياسية في بريطانيا، تطورا جذريا حاسما. فبعد أن كان الملك في الماضي يتولى كافة مهام السلطتين التشريعية والتنفيذية، فيصدر القوانين كما يشاء ويتولى الإشراف على تنفيذها من خلال وزرائه ومعاونيه، أخذت سلطاته تنكمش شيئا فشيئا لتصبح منذ أوائل القرن الثامن عشر مجرد سلطات رمزية يلخصها القول المعروف بأن “الملكية تتولى ولا تحكم”.
تقوم المؤسسة الملكية، بطبيعة الحال، على مبدأ الوراثة، وينتقل العرش فيها من الملك الراحل إلى ولده الأكبر سواء أكان ذكرا أم أنثى.
ويتمتع الملك ببعض الصلاحيات التقليدية و الشرفية التي ما يزال يحتفظ بها من العصور السابقة ومن أهم هذه الصلاحيات.
– صلاحية التصديق على القوانين التي يقرها البرلمان. ومصادقة الملك وتوقيعه لابد منها من أجل نشر القوانين وإصدارها ووضعها موضع التنفيذ. ومع أن الملك يستطيع نظريا أن يعترض على القوانين ويحول بالتالي دون تنفيذها فإنه لم يقم بأي بادرة من هذا النوع منذ عام 1707.
– صلاحية اختيار الوزير الأول، وهي صلاحية كان الملك يتمتع بممارستها بحرية تامة، إلا أن الظروف والأعراف الدستورية حدت فيما بعد من حريته في هذا المجال بحيث أصبح ملزما بتعيين رئيس حزب الأغلبية في مجلس العموم، بهذا المنصب.
– صلاحية تعيين بعض أعضاء مجلس اللوردات وكذلك تعيين كبار الموظفين في السلكين المدني والعسكري.
– صلاحية تمديد مدة ولاية مجلس العموم وحل هذا المجلس قبل انتهاء ولايته وذلك بناء على اقتراح من الحكومة.
– صلاحية إعلان الحرب، والسلام، وإبرام المعاهدات الدولية والاعتراف بالدول الحكومات الأجنبية وإرسال المبعوثين الدبلوماسيين للخارج لاستقبال ممثلي الدول الأجنبية في بريطانيا.
– صلاحية منح الألقاب والأوسمة.
– صلاحية إصدار عفو خاص عن المحكومين.
– صلاحية تولي القيادة العليا للقوات المسلحة الملكية.
والجدير بالذكر بالنسبة لجميع هذه الصلاحيات التقليدية، أن الملك لا يستطيع مباشرتها وممارستها بناء على اقتراح الحكومة ومشاركة الوزير الأول وبعض الوزراء المعنيين، بالتواقيع على المراسيم الملكية المتعلقة بها. وهذا يعني أن سلطات الملك في كافة هذه المجالات ما هي إى سلطات رمزية فقط إلا أن الملك يتمتع مقابل تخليه عن كافة السلطات الفعلية، بحصانة مطلقة سواء على الصعيد السياسي أم الجنائي. فالملك شخص مقدس لا يمكن انتهاك حرمته. وهذه الحصانة المطلقة هي في الواقع استمرار لقاعدة عرفية قديمة تقول باستحالة الملك بأي عمل خاطئ. وهذه الحصانة تجد حاليا ما يبررها ولاسيما على الصعيد السياسي،في واقع تخلي الملك لوزرائه عن كافة السلطات الفعلية وذلك مقابل تحملهم للمسؤولية كاملة.
رابعا: الحكومة
تتولى الحكومة قيادة السلطة التنفيذية. وهي تنبثق مبدئيا عن البرلمان وواقعيا عن الشعب من خلال تأييد غالبيته لأحد الحزبين الرئيسيين في البلاد.
والحكومة البريطانية هيئة تقليدية بدأت تتطور منذ مطلع القرن الخامس عشر وتتحول تدريجيا من مجرد مجلس يضم مستشاري الملك إلى مجلس أصبح يحتكر لنفسه سلطات الملك في مجال السلطة التنفيذية.
أ- تنظيم الحكومة: وتضم الحكومة البريطانية بالإضافة للوزير الأول، عددا من الوزراء وكتاب الدولة والكتاب البرلمانيين.
1- الوزير الأول: يعينه مبدئيا الملك. إلا أن الملك ملزم عمليا باختيار رئيس حزب الأغلبية في مجلس العموم لهذا المنصب. ويتمتع الوزير الأول بمركز مهم وبصلاحيات واسعة إذا أنه يعتبر الرئيس الفعلي للبلاد. وهو يقوم باختيار باقي أعضاء الحكومة ويحقق له تعديلها، كما يحقق له الطلب لأحد الوزراء أو بعضهم بالاستقالة وكذلك فإنه يستطيع أن يقدم استقالته للملك ويؤدي عمله هذا إلى استقالة الحكومة حكما. ويقوم الوزير الأول وحده بتأمين الاتصال بين الحكومة والملك. أما الوزراء فلا يستطيعون الاجتماع بالملك إلا بعد أن يحصل لهم الوزير الأول على إذن بذلك. وغالبا ما يحضر هو شخصيا اجتماع الملك بالوزراء. كما يراقب الوزير الأول أعمال الوزراء وسياستهم ويهتم بشكل خاص بأمور السياسة.
2- الوزراء وكتاب الدولة: ويتولى كل من هؤلاء وزارة معينة. والفرق بين الوزير وكاتب الدولة هنا ليس في الدرجة أو الأهمية وإنما في تاريخ إنشاء الوزارة. فلقد جرت العادة على أن يطلق اسم مكتب (Office) على الوزارات القديمة (مثل وزارات الداخلية والخارجية والحرب) ويقوم بالإشراف عليها كاتب دولة أما اسم وزارة فيطلق على الوزارات التي أنشأت في وقت حديث نسبيا (وزارة التعليم) ويقوم بإشراف عليها الوزير. ويعتبر كل وزير أو كاتب دولة مسؤولا فرديا عن أعمال وزارته وسياستها ولذلك فإن عليه أن يستقيل في حال عدم ثقة مجلس العموم أو الوزير الأول به.
3- الكتاب البرلمانيون: يقوم إلى جانب كل وزير أو كاتب دولة،كاتب برلماني يعينه الوزير الأول مع الوزير المختص ويقوم هؤلاء بتأمين الاتصال بين الوزير أو كاتب الدولة والبرلمان حيث يجيبون بدلا عنه، في بعض الحالات، على الأسئلة الشفهية لأعضاء البرلمان.
4- “الكابنت” (Le cabinet ) وهو تشكيل خاص يتميز به النظام البرلماني البريطاني. ذلك أن مجلس الحكومة البريطانية يضم في الواقع عددا كبيرا من الأعضاء يصل أحيانا إلى نحو مائة بين وزير وكاتب دولة وكاتب برلماني. ولهذا يقوم من بين هذا المجلس الواسع تشكيل خاص محدود العدد يضم عددا من الوزارات المهمة فقط: كوزارات الداخلية والخارجية والحرب والعدل والمال… وتجتمع الكابنت برئاسة الوزير الأول وتعتبر الجهاز الأعلى المسؤول عن رسم السياسة العامة للبلاد وعن اتخاذ القرارات الأكثر أهمية.
ب- صلاحيات الحكومة: تتولى الحكومة البريطانية صلاحيات هامة وواسعة، رغم أنها تخضع نظريا لمراقبة الملك والبرلمان. ومن أهم هذه الصلاحيات :
– تحديد السياسة العامة للبلاد في مختلف المجالات.
– مراقبة الإدارة والسهر على حسن تنفيذ القرارات التي تتخذها الحكومة.
– حق اتخاذ المبادرة في قضايا التشريع المالي. وبهذا تسيطر الحكومة على مجمل الحياة المالية في البلاد.
– مشاركة البرلمان في حق المبادرة للتشريع. والحكومة تقوم في الواقع بالمبادرة لاقتراح الجزء الأكبر من القوانين التي يصدرها البرلمان.
– تتمتع الحكومة بحق إصدار نصوص لها قوة القانون وذلك بناء على تفويض خاص تحصل عليه من مجلس العموم وبموجب هذا الحق تتحول الحكومة الممارسة صلاحيات التشريع في البلاد.
ج- دور الحكومة في الحياة السياسية: إن الأهمية الكبيرة للدور الذي تلعبه الحكومة البريطانية في الحياة السياسية لا تعود لطبيعة المهمات التقليدية التي تتمتع بها الحكومات في الأنظمة البرلمانية وإنما لكون هذه الحكومة تستمد ثقتها الفعلية من الشعب مباشرة فمن الناحية النظرية يقوم الشعب البريطاني بانتخاب ممثلين له في مجلس العموم.ومن ثم يقوم هؤلاء باختيار الوزير الأول إلا أن الواقع يشير إلى أنه بفضل نظام ثنائية الحزبية وتنظيم وانضباط الأحزاب،والتزام الملك باحترام الإرادة الشعبية فإن الشعب يقوم أثناء الانتخابات باختيار الوزير الأول الذي يقال عنه بأنه “ملك منتخب لمدة محدودة” كما يقوم باختيار الحكومة التي تتشكل من اللجنة القيادية للحزب الفائز.
إن هذا الوضع يعطي الحكومة البريطانية مكانة ومركزا قويا ضمن الحياة السياسية للبلاد فهي لم تعد عمليا مسؤولة عن أعمالها وسياستها أمام البرلمان وإنما هي مسؤولة مباشرة أمام الشعب الذي تستمد قوتها من ثقته بها.
خامسا: البرلمان
يعود الأصل التاريخي للمؤسسة البرلمانية في بريطانيا إلى “المجلس العام للمملكة” الذي درج الملوك منذ القرن الحادي عشر لدعوته للاجتماع في بعض الأوقات العصيبة، وكان يضم عددا من كبار النبلاء (البارونات) ورجال الدين الذين يختارهم الملك بملء حريته. وكان دور المجلس في البداية استشاري ويقتصر على بيان الرأي في القضايا التي يعرضها عليه الملك، وفي عام 1265 دعي الملك بعض المقاطعات والمدن الهامة لانتخاب ممثلين عنها من كبار أعيانها و فرسانها، لحضور اجتماعات المجلس العام إلى جانب النبلاء ورجال الدين. وخلال القرن الرابع عشر اتفق أعضاء المجلس العام على أنه يجتمع النبلاء ورجال الدين في مجلس خاص ويجتمع ممثلو المقاطعات والمدن في مجلس آخر و لقد تكرس هذا الانفصال في عام 1351. فأخذ المجلس الأول اسم مجلس اللوردات،في حين دعي المجلس الثاني بمجلس العموم، وهما المجلسان اللذان يتألف منهما البرلمان، بالإضافة، رسميا، للملك، الذي كان الأصل في نشأة هذه المؤسسة.
أ- تنظيم البرلمان : يتألف البرلمان البريطاني عمليا،من مجلس اللوردات، والعموم.
1- مجلس اللوردات: وهو مجلس يمثل بقايا الطبقة الأرستقراطية وتقاليدها التاريخية، ويضم حاليا حولي ألف لورد. ويحتل أعضاؤه مقاعدهم فيه بشكل عام إما بالوراثة أو بالتعيين لمدى الحياة من قبل الملك وبناء على اقتراح الحكومة. ويرأس هذا المجلس حكما وزير العدل الذي يسمى في هذا المنصب بمرسوم ملكي يشارك في التوقيع عليه الوزير الأول. ويتألف من حيث تركيب أعضائه من فئتين : الفئة الأولى وتضم اللوردات الروحيون وعددهم 26 وهم يمثلون رؤساء الكنيسة الإنكليكانية وهم يستمرون في عضويته طالما استمروا في شغل مهامهم الكنسية. وأما الفئة الثانية فهي تضم اللوردات الزمنية وهي تشتمل بدورها على أربعة أصناف:
– اللوردات بالوراثة وعددهم تقريبا 800،
– اللوردات الذين يعينهم الملك من بين الشخصيات التي قدمت لبريطانيا خدمات جليلة أو أعمالا قيمة في مختلف مجالات العلم والفكر والسياسة ويبلغ عدد هؤلاء تقريبا نحو مائة لورد،
– لوردات يمثلون مقاطعات اسكوتلندة وينتخبهم اللوردات الذين ينتمون إلى هذه المقاطعة وعددهم ستة عشرة وهم يحتفظون بعضويتهم طوال مدة ولاية مجلس العموم،
– لوردات الاستئناف العادي وعددهم تسعة ويعينهم الملك لمدى الحياة للقيام بالصلاحيات القضائية لمجلس اللوردات. والجدير بالذكر أن هؤلاء اللوردات يشكلون بمجموعهم لجنة خاصة يرأسها حكما وزير العدل، للقيام بمهام محكمة الاستئناف العليا في المملكة. وتتولى هذه المحكمة، بالإضافة لمهام الاستئناف العادي صلاحية محاكمة أعضاء الحكومة في حال توجيه اتهام إليهم في قضايا جنائية من طرف مجلس العموم. وكذلك محاكمة أعضاء مجلس اللوردات في حالة الخيانة العظمى.
2- مجلس العموم: وهو الهيئة الممثلة للشعب البريطاني لأنه ينتخب انتخابا مباشرا من قبله. وهو يضم حاليا 635عضوا، ومدة ولايته خمس سنوات، إلا أن العادة جرت على أن يكمل المجلس مدة ولايته الرسمية إذ أنه يحل عادة خلال السنة الخامسة. وينتخب المجلس من بين أعضائه رئيسا يدعى المتحدث (Speaker) ويتمتع هذا ببعض الحقوق والامتيازات ومن أهمها: حق تنظيم المناقشات في المجلس. وحق البت فيما إذا كان مشروع القانون المعروض على المجلس طابعا ماليا، وبالتالي لا يجوز عرضه على مجلس اللوردات.
ب- صلاحيات البرلمان: يتمتع البرلمان بثلاث صلاحيات رئيسية هي: الصلاحية المالية الخاصة بإقرار الموازنة والضرائب وصلاحية تشريع القوانين العادية وصلاحية مراقبة أعمال الحكومة (التي يختص بها مجلس العموم فقط).
ولقد كان مجلسا البرلمان(اللوردات والعموم) يتمتعان في الماضي بنفس الصلاحيات فيما يتعلق بإقرار القوانين المالية والعادية. فاتفاقهما كان ضروريا لإقرارها. إلا أن صلاحيات مجلس اللوردات أخذت بالتناقص لحساب مجلس العموم وذلك منذ نهاية القرن السابع عشر. وكان الاعتقاد السائد هو أن مجلس اللوردات لا يحق له تعديل مشاريع القوانين المالية التي يقرها مجلس العموم وذلك انطلاقا من المبدأ القائل بضرورة موافقة الشعب بواسطة ممثليه على كل ضريبة يتحملها، وبما أن مجلس اللوردات غير منتخب من الشعب فإنه لا يحق له فرض الضرائب عليه وذلك على قدم المساواة مع مجلس العموم. إلا أنه كان يحق لمجلس اللوردات أن يوافق أو يرفض الموافقة على مشاريع القوانين المالية كلية. وكان هذا الحق سلاحا فعالا بيده لعرقلة مشاريع القوانين المالية التي يقرها مجلس العموم لكن مجلس اللوردات فقد هذا الحق منذ 1911 وذلك على إثر الأزمة التي وقعت بينه وبين حكومة حزب الأحرار وأدت إلى صدور ” القانون البرلماني” الذي سبقت الإشارة إليه والذي لم يعد لمجلس اللوردات بموجبه أية صلاحية في القضايا المالية.
أما فيما يتعلق بصلاحية تشريع القوانين العادية، فقد احتفظ مجلس اللوردات بموجب “القانون البرلماني” الذي سبقت الإشارة إليه والذي لم لمجلس العموم. وكان من شان هذا التصويت تعليق تنفيذ القانون لمدة سنتين. لكن هذه المدة اختصرت إلى سنة واحدة فقط، منذ عام 1949، حين صدر قانون بذلك على اثر رفض مجلس اللوردات الموافقة على مشروع قانون خاص بتأميم صناعة الفولاذ كانت قد تقدمت به حكومة حزب العمال.
وتجدر الإشارة إلى انه نظرا لقيام القانون الدستوري البريطاني في جوهره على العرف، ولعدم تمييزه بين القوانين التشريعية العادية والقوانين التشريعية ذات الطابع الدستوري من حيث الإجراءات الشكلية المطلوبة لإقرارها وتعديتها، فانه يمكن القول بصورة طبيعية، أن البرلمان يتولى في نفس الوقت الصلاحية الأساسية.
ج- علاقة الحكومة بالبرلمان: هناك اعتقاد سائد بان البرلمان البريطاني يتمتع بصلاحيات واسعة فيما يتعلق بمراقبة أعمال الحكومة. وهذه الصلاحيات تعتبر بشكل طبيعي من السمات البارزة للنظام البرلماني إلا مركز البرلمان أخذ يضعف، في الواقع أمام الحكومة نتيجة لوجود نظام الثنائية الحزبية الذي يركز السلطة عمليا في يد الحكومة التي هي في نفس الوقت الجنة القيادية لحزب الأغلبية.
أن الصورة التقليدية التي تقدمها البرلمانية للعلاقة بين الحكومة و البرلمان تقوم على أساس مراقبة البرلمان لأعمال الحكومة من جهة، وإمكانية حل الحكومة للبرلمان من جهة مقابلة. وهذا ما يحقق قيام نوع من التوازن بين السلطتين. وفي حال حدوث خلاف بينهما فانه يجري اللجوء للشعب لمعرفة رأيه من خلال الانتخابات. فإذا حدث ووجدت الحكومة أن الأغلبية النيابية تعارض سياستها فان بإمكانها بدل أن تستقيل اللجوء إلى إصدار قرار يحل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة لمعرفة رأي الشعب في القضية موضوع الخلاف. فإذا أدت الانتخابات لمجيء أغلبية جديدة من نفس رأي الأغلبية السابقة المعارضة للحكومة وجب على هذه الأخيرة مخالفة في رأيها للأغلبية السابقة فإنها تكون عند ذاك متفقة ورأي الحكومة ويكون بإمكان هذه أن تستمر في الحكم.
إلا أن هذه الصورة التقليدية النظرية لا توجد في الواقع في بريطانيا، حيث لا تخشى الحكومة عادة أن تجد نفسها أمام أغلبية معارضة لسياستها لان هذه الحكومة بالذات تستند في وجودها بالحكم على الحزب المسيطر على الأغلبية في مجلس العموم. ولهذا فان بريطانيا لم تعرف تصويتا بعدم الثقة بالحكومة منذ عام 1924.
والحكومة البريطانية عندما تلجا عادة لحل مجلس العموم فإنها لا تقوم بذلك لأنها تكون أمام أغلبية معادية لسياستها، بل لأنها ترغب بتدعيم مركز حزبها وأغلبيتها في مجلس العموم عندما تعتقد بان الظروف السياسية في البلاد مواتية لإجراء انتخابات تكون نتيجتها لصالح حزبها، كما أنها قد تلجا لحل مجلس العموم في بعض المناسبات الهامة عندما تعتبر أن الشعب البريطاني يواجه قضية هامة وان من الضروري أخذ رأيها من خلال الانتخابات.
اترك تعليقاً