تدوين أحكام الأحوال الشخصية
سعيد ناصر الحريسن
دائماً ما يتردد على أسماعنا مصطلح (تدوين الأحكام) أو(تقنين الأحكام) أوصياغة الأحكام الفقهية في شكل مواد قانونية. اختلفت المسميات لهذه الفكرة، التي تعتبر من ضروريات العصر في المجال القضائي، فالتدوين من التوجهات الحديثة التي يفرضها التطور واتساع العلاقات والمعاملات وانتقالها من الإطار الداخلي إلى الإطار الدولي.
ومن خلال مقالي هذا لا اعتبر قلمي دون نقاط جديدة تعتبر سبقاً في مسألة تدوين الأحكام، ولكن لعلي أستطيع القول إنه يرسم نظرة لجانب من جوانب الموضوع في مجال الأحوال الشخصية. ولكن قبل ذلك أعرض لمحة عامة عن مسألة تدوين الأحكام.
إن كلمة التدوين تسوقنا إلى معنى جمع المعلومات، وكتابتها في ديوان، وتنسيقها بصورة يمكن الرجوع إليها لكل مهتم وباحث.
ويمكن القول أنه يقصد بها عند إضافتها إلى الأحكام (تدوين الأحكام) بأنها: صياغة الأحكام والآراء الفقهية الراجحة، في صورة مواد قانونية مرقمة، ومرتبة بحسب الموضوع، مع مراعاة إسناد الأحكام إلى أدلتها من الكتاب والسنة والإجماع والقياس. والعمل على جعل هذه المدونة هي الأساس في التقاضي.
وفكرة تدوين الأحكام الفقهية ليست وليدة الساعة، فعندما نشاهد تأريخ التأليف في الفقه الإسلامي، نجد أنها فكرة سبق أن طرحت وأعملت، وأذكر هنا بعضاً من المؤلفات التي ألفت على هذا الأساس.
فذكر ابن عبد البر. في كتابه الاستذكار (1/168) (أن أبا جعفر المنصور قال للإمام مالك -رحمه الله- يا مالك اصنع للناس كتاباً أحملهم عليه، فما أحد اليوم أعلم منك). فاستجاب الإمام لطلبه، وألف كتابه (الموطأ)، ولكنه رفض مبدأ إلزام الناس به، ولعل مقصد الإمام مالك -رحمه الله- من عدم إلزام الناس به يعود إلى احترامه لتعدد آراء العلماء واجتهاداتهم، ومنعاً للفتنة.
ومن تلك المؤلفات أيضاً: (الفتاوى الهندية) وهي عبارة عن تدوين للأحكام الفقهية الراجحة في المذهب الحنفي، وقد قام بتأليفها جمعٌ من علماء بلاد الهند على رأسهم الشيخ نظام الدين البلخي، وذلك بأمر من سلطان الهند في ذلك الوقت أبوالمظفر محيي الدين أوزبك. وكان ذلك في القرن الثاني عشر الهجري السادس عشر الميلادي، والسبب في تأليفها هوأن يسهل على كل أحد الوقوف على الروايات الصحيحة في المذهب الحنفي والأقوال الراجحة والمعتمدة في أحكام المعاملات.
ومن ذلك أيضاً: (مجلة الأحكام العدلية) التي تعتبر المثال الأول، والمتبادر إلى أذهان الكثير عند التطرق لموضوع تدوين الأحكام الفقهية. وقد بدأ العمل فيها من قبل لجنة من كبار الفقهاء في الفقه الحنفي عام 1869م وكان الفراغ منها وإخراجها للعمل عام 1876م، وقد احتوت على جملة من أحكام المعاملات، واعتبرت بمثابة القانون المدني للدولة العثمانية في ذلك الوقت، وتضمنت هذه المجلة حوالي 1851مادة، دونت في شكل مواد قانونية، صيغة من أحكام المعاملات في الفقه الحنفي.
وتجدر الإشارة إلى أن مواد هذه المجلة ظلت هي المطبقة والمعمول بها في أكثر البلاد العربية حتى أواسط القرن العشرين.
وعلى غرار (مجلة الأحكام العدلية) جاءت مدونة أخرى وهي (مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد) وقد جمعها ودونها الشيخ أحمد عبدالله القاري – رحمه الله -، المتوفى سنة 1309ه،
وتناول فيها أحكام المعاملات وجاء ترتيبها بنفس ترتيب المجلة الأولى.
ومن أبرز منجزات هذا المجال في الوقت الحاضر، المشروع الذي قام به مجمع البحوث الإسلامية
في مصر، والذي يعمل على تقنين وتدوين أحكام المعاملات وفق المذاهب الأربعة.
وجاءت هذه المدونة في ستة عشر جزء.
وقد بحثت هذه المسألة من قبل هيئة كبار العلماء في المملكة عام 1393ه،
وذهب بعض منهم -رحمهم الله – إلى جواز تدوين الأحكام الفقهية.
وانطلق إلى مدار الحديث، وهوضرورة تطبيق هذه المسألة ” تدوين الأحكام الفقهية” في جانب مهم وهوجانب (الأحوال الشخصية) أو(أحكام الأسرة) كما يسميها البعض. فلا يخفى على كل مطلع مدى أهمية الأسرة وأنها اللبنة الأساس في أي مجتمع ومن أهم المؤسسات فيه. وما دامت بتلك الأهمية، فإن إيجاد نظام أومدونة للأحكام الفقهية التي تنظم العلاقات والالتزامات والحقوق بين الأفراد والتي تنشأ عن طريق الزواج أوالطلاق والخلع وما يترتب على ذلك من آثار: من نفقة وحضانة وإرث…. إلى غير ذلك من مواضيع تندرج تحت مصطلح عام هوالأحوال الشخصية.
إن إيجاد مدونة فقهية تجمع الراجح من أحكام الفقه وآراء علمائه، له أهمية كبيرة في توحيد الأحكام في القضايا المتشابهة الوقائع، وقضايا الأحوال الشخصية من هذا القبيل، فوقائعها في العموم متشابهة، أضف إلى ذلك كثرة هذا النوع من القضايا، والتي قد تقتضي ظروف بعضها سرعة الفصل فيها.
ولعل من أحدث ما ظهر في هذا المجال في حاضرنا المعاصر ما يمكن أن نسميه مشروع استرشادي (إن صح التعبير) وهي وثيقة مسقط للنظام الموحد للأحوال الشخصية لدول مجلس التعاون الخليجي.
في عام 1421ه، وقد جاءت موافقة لأحكام الفقه الإسلامي، وقد تضمنت هذه الوثيقة 282مادة تعالج أحكام الزواج والطلاق والأهلية والولاية والوصية والإرث.
ثم أقول: إن التدوين أوالتقنين للأحكام يورث جانباً من الاطمئنان النفسي لطرفي القضية بالحكم الصادر في قضيتهما، وذلك لأن الحكم لم يصدر عن اجتهاد القاضي أووفق رأيه الراجح له.
لأن القضية الواحدة قد تعرض على قاضيين فيحكم فيها كل واحد منهما برأي خلاف الآخر وذلك حسب الراجح له، فنكون أمام اختلاف في الأحكام في قضايا متشابهة. ولكن مع تدوين الأحكام لعله يزول الكثير من ذلك. إضافة إلى أن التدوين سيعمل على سرعة النظر في القضايا ولعله يعمل على تقليل عدد القضايا التي تنتظر الفصل، فتتقلص بذلك مواعيد الجلسات من مواعيد بعيدة إلى مواعيد قريبة.
ثم لعلنا نعتبر المملكة هي أقدر البلاد الإسلامية على إيجاد مدونة فقهية يعتمد عليها.
وفي ذلك يرى الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه (جهود تقنين الفقه الإسلامي) ص56: أن المملكة هي أقدر البلاد على ذلك لأنها – ولله الحمد – تطبق الشريعة الإسلامية، بل هي أساس الحكم فيها، ولانتشار العلم الشرعي فيها وبين أبنائها، ووجود الجامعات والكليات الشرعية التي تضم نخبة من العلماء والأساتذة والباحثين في الفقه الإسلامي، فيكون عملها نموذجاً يسار عليه.
وكما نطالع بين الحين والآخر في صحافتنا من تصريحات تبشرنا بوجود لجان تعكف على إنجاز مثل هذه المدونات الفقهية. وبغض النظر عن تطبيقها والعمل بها في المجال القضائي، إلا أنها ستكون موسوعة ومرجعاً فقهياً معتمداً، وثروة علمية يشرف ذكرها.
ثم إن ما تطرقت إليه في هذا الموضوع كما ذكرت لا أعتبر أن قلمي قد سطر فيه شيئاً جديداً،
وإنما هي مداخلة في خضم نقاش هذه المسألة بما قد أراه – بحسب وجهة نظري – جانباً من الأهمية تدوين أحكامه (الأحوال الشخصية). كما أعتبر هذا العرض إعادة وباختصار لطرح الفكرة التي طال نقاشها رغم نظر الكثير بأن لها سلبيات من أهمها إضعاف ملكة البحث والاجتهاد لدى القاضي، إلا أن هذه السلبيات قد لا تعتبر شيئاً أمام ما يحققه التدوين من مصلحة في القضايا المتكررة والمتشابهة.. ثم كيف يضيق مجال القاضي في الاجتهاد وهناك قضايا تعتبر ذات وقائع خاصة بها، ولا بد أن يُعمل القاضي فيها اجتهاده. والله أعلم.
@ باحث قانوني
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً