إلغاء حق الاستئناف في الدعاوى المالية اليسيرة
محمد الفهيد
باحث دكتوراه في الدراسات القضائية
حين صدر قرار المجلس الأعلى للقضاء مؤخراً بتنظيم النظر في الدعاوى المالية اليسيرة التي لا تزيد قيمتها عن عشرين ألف ريال و قرر إلغاء حق الاستئناف في هذه الدعاوى ، ظهر العدد من الأسئلة حول المستند الشرعي والنظامي لحرمان من صدر الحكم بخلاف مصلحته في هذه الدعاوى من حق الاستئناف؟ وهل الأصل هو تعدد درجات التقاضي أم عدمه؟ ما هو السائد في الأنظمة القضائية المتقدمة في دول العالم؟
فلعلي في هذه المقالة أُسْهِم – إزاء هذه التساؤلات – بجواب موجز.
فبالإشارة ابتداءً لتعدد درجات التقاضي كمبدأ، فإنه يعتبر من الضمانات الأساسية للحقوق، حيث يمكّن صاحب الحق أو المَظْلمة من دراسة وقائع قضيته الموضوعية والشرعية النظامية أمام محكمتين مختلفتين والأعلى منهما لها حق المراجعة والتعديل أو النقض لحكم المحكمة الابتدائية الأولى.
وللعلم فقد أثير الجدل حول هذا المبدأ لما فيه من تطويل لإجراءات العدالة ، كما أن ما فيه من إيجابيات يمكن أن يستعاض بها بمحكمة درجة واحدة يجتمع فيها القضاة على مختلف تخصصاتهم وخبراتهم فيكون في الدائرة القضائية الواحدة قاض بخبرة ثلاثين أو أربعين سنة وبجواره قاض دونه في الخبرة بكثير. لكن مهما ورد من نقاش حول هذا المبدأ وصلاحيته من عدمها فقد استقر العمل عليه في عموم الدول في العصر الحديث و ألزمت به بعض الاتفاقيات الدولية سيما اتفاقيات حقوق الإنسان ، حيث ظهر جلياً أن حسناته أكبر مما يثار حوله من سلبيات.
أما في الشريعة الإسلامية ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث القاضي من أصحابه –رضوان الله عليهم- فيكون حكمه ملزماً من غير مراجعة ، وكذا استقر الأمر في كثير من الأزمنة والأماكن حيث يحكم بالشريعة. وقد جرى الخلاف الفقهي أيضاً في حكم إلغاء قضاء القاضي الأول ، وجوّزه بعضهم في حالة مخالفة الحكم للشرع في ذاته أو في إجرائه ومنها صلاحية ولاية القاضي ، واحتج هؤلاء بما يعتبر أصلاً لمبدأ تعدد درجات التقاضي في الفقه الإسلامي حيث حكم علي رضي الله عنه في دية من تساقطوا في زُبْيَة الأسد (حفرة يغطى رأسها ليقع فيها الأسد أو أي حيوان مفترس) وكان قاضياً لأهل اليمن فرفعوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأقرّ حُكْمَ علي –رضي الله عنه- وكذا ورد عن عمر مع قاضيه أبي الدرداء –رضي الله عنهما-.
لذا فيمكن القول بأنه يجوز من حيث الأصل إعمال مبدأ تعدد درجات التقاضي وإهماله حسب ما تقتضيه المصلحة. وأما في النظام فقد جرت أنظمة القضاء والمرافعات القديمة والحديثة والمعدّلة في المملكة العربية السعودية على النص على تفويض المجلس الأعلى للقضاء باستثناء الأحكام في الدعاوى اليسيرة من صلاحية الاعتراض عليها بطريق الاستئناف واعتبارها قطعية بمجرد صدورها من محاكم الدرجة الأولى. ومع ذلك فلا يُفهم من هذا الاستثناء من حق الاستئناف سقوط الحق في التماس إعادة النظر، بل لا يزال النص عاماً فيما يخص التماس إعادة النظر ” يحق لأي من الخصوم أن يلتمس اعادة النظر في الأحكام النهائية ..”[المرافعات، مادة (200)] فالحكم في الدعاوى اليسيرة يعتبر نهائياً بمجرد صدوره من محكمة الدرجة الأولى ولذا يحق فيه طلب التماس إعادة النظر متى ما رأى المحكوم عليه قيام سبب من أسباب قبول الالتماس المنصوص عليها في النظام.
وقبل أن أنتقل لنظرة عامة في تطبيقات الدول الأخرى في مسألة الدعاوى اليسيرة ، فإني أودّ أن أضيف أنه يبدو للوهلة الأولى أن الأصل في القضايا ألا تنتهي إلا في الدرجة الثانية من المحاكم وأن الوضع المثالي هو أن كل متقاضٍ أمام المحاكم يجب ألا يقنع بالحكم القضائي إلا بعد أن يؤكَّد الحكم ويراجع من محكمة أعلى ، وعليه فينبغي أن ترتفع عامة القضايا لمحاكم الدرجة الثانية ضماناً للعدالة. لكن هل هذا الافتراض هو الصحيح ؟ هل يفضل الشخص العادي المطالِب بحقه أن تطول الدعوى ولا تنتهي إلا في محكمة الدرجة الثانية ، فضلاً عن أن يفضل ذلك التاجر؟ في رأيي أن الأنظمة القضائية المتسمة باستقرار الاجتهاد في القضايا المتشابهة واستقرار المباديء القضائية و امتياز قضاتها بالحياد والنزاهة سيكون فيها الداعي لطلب الاستئناف أقل ، سيما إن صاحَبَ ذلك إلزامُ المحكوم عليه المماطل بأجرة المحاماة والتقاضي (والإدانة بالمماطلة والإلزام بالأجرة يمكن أن يقرره ناظر القضية في نفس الحكم ، كمن يماطل بقيمة مبيع أو أجرة ثابتة). ووفقاً للمقدمة السابقة فإني أفترض أن القضاء الأكثر تقدماً هو ما كانت تنتهي معظم القضايا فيه في محكمة الدرجة الأولى وذلك لأسباب أهمها ثقة المترافعين بجودة أحكام القضاء في جميع درجاته ومنها المحكمة الابتدائية وبالتالي فإنه –غالباً- لن يحصل على حكم مختلف في الدرجة الأعلى وعليه أن يرضخ للحلول البديلة لإنهاء النزاع.
فعلى سبيل المثال في إحصائية عام 2013 لمحاكم ولاية مينيسوتا الأمريكية كان عدد القضايا في محاكم الدرجة الأولى 224 ألف قضية تقريباً وارتفع منها للدرجة الثانية (محاكم الاستئناف) فقط 10% أي ما يقارب 20 ألف قضية ولم يصل للمحكمة العليا سوى 700 قضية. وفي تعليق لأحد قضاة المحكمة العليا في مينيسوتا حول هذه الأرقام ، ذكر لنا أن السبب يرجع لثقة المحكوم عليه أنه لن يتغير الحكم لوضوح المستند القانوني بالسوابق القضائية ولقوة تسبيب الحكم ثم إن المحكوم عليه مع هذا لا يرغب أن يتحمل مزيداً من نفقات رسوم المحاكم وأجور المحامين.
و بإلقاء نظرة عامة على الأنظمة القضائية في بريطانيا وأمريكا وكندا وبعض الدول العربية سنجد اسقاط حق الاستئناف حاضراً في الدعاوى اليسيرة (Small Claims) والتي تُخَصص لها محاكم أو دوائر متخصصة. أما في القضايا الجنائية في الولايات المتحدة على سبيل المثال – وإن اختلفت تطبيقات المحاكم بحسب الولايات – فالقاعدة العامة حتى في المحاكم الفيدرالية أنه لا يحق للادعاء العام الطعن في حكم المحكمة الابتدائية وطلب الاستئناف ، ويستثنى من هذه القاعدة العامة حالتين أو ثلاث محددة يمكن الطعن فيها بطريق الاستئناف وهي تشابه في المجمل حق التماس إعادة النظر في النظام القضائي في المملكة.
ويظهر أن الداعي الأساسي للاكتفاء بحكم المحكمة الابتدائية وعدم منح حق الاستئناف في هذه الدعاوى اليسيرة– ليس فقط تخفيف الأعباء على المحاكم- بل هو لعدم تعقيد النزاع وضوح محله في هذه الخلافات وإمكان حلّ النزاع فيها على وجه السرعة ، وهذا قد يكون أدعى لصاحب الحق بالمطالبة بحقه وإن قلّ ، وهذه المطالبة تحقّق أمرين : أولهما عدم ترك الحق لصعوبة استرداده وطول إجراءات التقاضي فيتركه صاحبه مضطراً متأففاً من الظلم الذي وقع عليه بفوات تحقيق العدالة نظراً لأن طلبها قد يستغرق وقتاً وجهداً ومالاً يفوق قيمة هذا الحق.
وثانيهما هو الجانب الوقائي الأهم وهو التزام المماطل بأداء ما عليه من الحقوق اليسيرة إذا علم أن إجراءات التقاضي سريعة ونهائية وعندها قد يرى أن أداء الحق أيسر عليه من أن يأخذه صاحب الحق للمحكمة. ولذا رأينا أن الإجراءات التي تضمنها قرار مجلس القضاء تهدف إلى سرعة حسم هذه الدعاوى بما يحقق سهولة الوصول للعدالة بالشكل الذي يتوافق مع طبيعة هذه الدعاوى و قيماتها.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً