بحث قانوني قيم عن النظرية الخاصة في علم المصطلح وتطبيقاتها في مهنة المحاماة
النظرية الخاصة في علم المصطلح
وتطبيقاتها في مهنة المحاماة (*)
د. علي القاسمي (**)
ثقافة المحامي:
ليس ثمة مهنة كالمحاماة من حيث احتياج صاحبها إلى ثقافة معمقة واسعة في جميع ميادين المعرفة الإنسانية. فلكي يدافع المحامي عن إنسان متهم بجريمة قتل مثلا، عليه أن يكون متمرسا بعلم النفس لتحليل الدوافع النفسية الكامنة وراء الجريمة، وملما بمبادئ الطب الجنائي ليستطيع التعامل مع المعلومات الطبية المتعلقة بساعة الوفاة وكيفية وقوعها وغير ذلك، وعارفا بأنواع الأسلحة وأصناف الطلقات ليتمكن من استيعاب ما يدلي به المتخصصون حول تحديد السلاح الذي استخدم في الجريمة، ومطلعا على الدراسات المتعلقة بالعناصر الكيميائية والفيزيائية ليفهم تقارير الخبراء عن المواد الثبوتية، ومتقنا لطرائق الاستدلال والاستنباط المنطقية ليقدر على تمييز القضايا المنطقية الفاسدة التي قد يلجأ إليها الادعاء وهذا غيض من فيض.
المحامي واللغة:
ولما كانت القوانين تُصاغُ بلغة ما، ومرافعة المحامي تجري باللغة كذلك، فإن امتلاك ناصية اللغة، استيعابا وتعبيرا، ضروري لا لمعرفة فصول القانون ومواده منطوقا ومفهوما فحسب، وإنما كذلك لاستخدام اللغة المؤثرة ببلاغتها من غير إطناب ممل ولا إيجاز مخل، والمؤثرة بأسلوب إلقائها المطبوع دون تكلف مصنوع.
التعريف:
ولعل(التعريف) من أهم الأدوات اللغوية والمنطقية والاصطلاحية التي يستخدمها المحامي في مهنته؛ لأن إنزال العقوبة يتطلب أولا تحديد ماهية الفعل ومطابقته للنموذج القانوني للجريمة المنصوص عليها ببعديها المادي والمعنوي. فإذا كان المرء، على سبيل المثال، قد تفوه بشيء ما في حق موظف عمومي، ومثل أمام القضاء بتهمة إهانة موظف عمومي أثناء قيامه بوظيفته طبقا للفصل 263 من القانون الجنائي المغربي، فقد يجد محامي المتهم أن ما قاله موكله (رأيا شخصيا) أو (ملاحظة بريئة) وليس (إهانة) أو (قذفا) أو (سبا علنيا). هنا نحتاج إلى تعريف هذه المفردات خصوصا إذا ما علمنا أن كثيرا من المفردات غير معرّفة في القانون أو معرّفة تعريفا يشوبه النقص. فجميع القوانين تعتورها ثغرات هنا وهناك؛ وقد يكون بعض هذه الثغرات مقصودا، لإضافة المرونة على القانون وفسح المجال لخرق القانون بصورة قانونية.
ثغرات القانون:
تتخذ الثغرات في القوانين ثلاثة أشكال رئيسة:
1) غموض القانون (Obscurité de la loi)أي عدم وضوح معنى النص من لفظه؛ وهنا نحتاج إلى قرائن أخرى لتبيين المعنى الذي رمي إليه المشرّع فعلا، أو المعنى الذي في صالحنا.
2) قصور القانون( Insuffisance de la loi) أي عدم تضمّن النص ما تقوم الحاجة إليه من أحكام جزئية أو تفصيلية. ويمكن أن يستغل المحامي هذا القصور لمصلحة موكله.
3) سكوت القانون (Silence de la loi )أي عدم ورود حكم في القانون يتناول الحالة أو النازلة المعروضة. وقد يساعد هذا السكوت الجاني على الإفلات من الجزاء طبقا لمبدأ ( لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص سابق). وهذا ما حصل في الولايات المتحدة الأمريكية أول عهدها بانتشار الحاسوب عندما اطلع بعض الفتيان على أسرار الدولة عن طريقه فاضطر المشرّع إلى إضافة قوانين تجرّم الاستعمالات الجنائية للحاسوب.
تعريف الإهانة:
ومن الأمثلة على هذه الثغرات الثغرة المتعلقة بتعريف الإهانة في مثالنا السابق والمنصوص عليها في الفصل 263 من القانون الجنائي المغربي؛ إذ ينص هذا الفصل على ما يلي:
“يعاقب بالحبس من شهر إلى سنة وغرامة من مائتين وخمسين إلى خمسة آلاف درهم، من أهان أحدا من الموظفين العموميين أو من رؤساء أو رجال القوة العامة أثناء قيامهم بوظائفهم أو بسبب قيامهم بها، بأقوال أو إشارات أو تهديدات أو إرسال أشياء أو وضعها أو بكتابة أو رسوم غير علنية وذلك بقصد المساس بشرفهم أو بشعورهم أو الاحترام الواجب لسلطتهم”.
في هذا الفصل ( المادة) يشترط في القول الذي ينطبق عليه النموذج القانوني أن يكون بقصد المساس بشرف الموظف أو بشعوره أو الاحترام الواجب لسلطته.ولنفترض أن مواطنا كان يراجع موظفا عموميا للحصول على شهادة رسمية، ولا حظ أن الموظف كان متشاغلا مرة بشرب القهوة ومرة بالحديث مع زميلته، ومرة بالهاتف. ثم قال المواطن للموظف: ” يا سيدي، أنت تتهاون في عملك”. ويلاحظ هنا أن التهاون والإهانة والهوان (وهو الذل والاحتقار) مشتقة من جذر واحد في اللغة. وكان قصده من ملاحظته الإسراع في الحصول على الشهادة وليس المساس بشعور الموظف أو بشرفه، فهل ينطبق عليه الفصل المذكور؟
إذن نحن هنا في حاجة أولا إلى تعريف لفظ (الإهانة) تعريفا شافيا، أو تعريفا جامعا مانعا كما يقول المناطقة بحيث نخرج منه القول الذي يمكن أن يُعدّ (ملاحظة) أو (رأيا) وحرية التعبير عن الرأي يكفلها القانون. ونحن بحاجة، ثانيا، إلى دحض وجود قصد الإهانة لدى موكلنا لأن المشرّع المغربي لا يعاقب على الجنايات والجنح، إلا إذا توفر الركن المعنوي، أي إلا إذا توفرت النية الإجرامية. وهذا هو نص الفصل 133 من القانون الجنائي المغربي: “الجنايات والجنح لا يعاقب عليها إلا إذا ارتكبت عمدا.”
أركان الجريمة والتعريف:وبعبارة أخرى فإن محامي الدفاع يسعى إلى هدم أحد أركان الجريمة الثلاثة:
1) الركن القانوني
2) الركن المـادي
3) الركن المعنوي
وعلى الرغم من الترابط القائم بين هذه الأركان الثلاثة فإن الركنين الأول والثالث (أي القانوني والمعنوي) يعتمدان إلى حد ما على تعريف عناصرهما اللفظية والنفسية، بعكس الركن المادي الذي يتوقف على فعل إجرامي، إيجابي كالقتل والسرقة والنصب، أو سلبي كالإحجام عن مساعدة شخص في حالة الخطر أو عدم التبليغ عن جريمة. وكثيرا ما يبحث المحامي عن ثغرة في أحد الركنين القانوني والمعنوي.
أنواع التعريف:
ويتأتى كثير من الثغرات في القوانين عادة من التعريفات مناط الاختلاف بين اللغويين والمناطقة والمصطلحيين. فإذا طلبنا من أحدهم تعريف لفظ (العين)، قال اللغوي: ضعه في جملة لأستطيع تعريفه. وقال المنطقي: أرني الشيء أو الذات الذي يدلّ عليه هذا اللفظ لأعرّفه لك. وقال المصطلحي: قل لي لأي حقل علمي ينتمي مفهومه لأتمكن من تعريفه. وبعبارة أخرى، هل نريد معرفة معنى الكلمة في سياقها اللغوي، أم نتوخى معرفة خصائص الشيء الذي تدل عليه تلك الكلمة، أم معرفة خصائص المفهوم الذي تعبر عنه تلك الكلمة.
وهكذا نجد أنفسنا أمام ثلاثة أنواع من التعريفات:
1) التعريف اللغوي، ويسميه بعضهم بالتعريف العلاقي، لأنه يوضح معنى الكلمة في سياقها اللغوي، أي من خلال علاقاتها مع الألفاظ الأخرى المكوّنة، للجملة. فكلمة (العين) يختلف معناها في الجملتين الآتيتين: (نظر إلى حاله بعين العطف) و(شرب من عين جارية)، وذلك بسبب السياق في كل منهما.
2) التعريف المنطقي، ويسميه بعضهم بالتعريف الجوهري، لأنه يسعى إلى تحديد الخصائص الجوهرية للشيء أو الذات، وليس للفظ الذي يدل عليه. وهنا يمكن أن يصاغ العريف المنطقي في واحد من قالبين هما:
أ- التعريف بالحد، أي تحديد نوع الشيء المعرّف وفصله، فعندما نعرّف الإنسان (حيوان ناطق) يدل الشق الأول على النوع الذي ينتمي إليه الإنسان، أما الشق الثاني وهو النطق فبمثابة الفصل الذي يميز الإنسان عن بقية أفراد النوع الحيواني. وهذه هي الخصائص الجوهرية للإنسان.
ب- التعريف بالوصف، وفيه تذكر الخصائص الجوهرية وغير الجوهرية للشيء المعرَّف، فإذا عرّفنا الإنسان بأنه حيوان منتصب يمشي على رجلين ويسمع وينطق، نكون قد استخدمنا تعريفا بالوصف.
3) التعريف المصطلحي، الذي لا يعرّف اللفظ ولا يعرّف الشيء الذي يدل عليه اللفظ وإنما يعرّف المفهوم أو التصور الحاصل في الذهن عن الشيء. ويتكون هذا التصور من الخصائص المنطقية والوجودية لمجموعة من الأشياء. فالتصور الحاصل في أذهاننا للسيارة لا يمثل سيارة مرسيدس أو سيارة فولكس فاكن من نوع الخنفساء ولا سيارة بورش المكشوفة، وإنما تصور للخصائص المشتركة لهذه السيارات المتعددة الأشكال والأنواع والمحركات. وهذا ما يطلق عليه في علم المصطلح بالمفهوم.
الكلمة والمصطلح:ولا يسمى اللفظ الذي يدل على المفهوم كلمة بل (اصطلاحا) أو (مصطلحا). ويمكننا أن نميز بين (الكلمة) و(المصطلح) بعدّة طرق:
الأولى: أن نقول بأن للكلمة معنى في حين أن للمصطلح مفهوما.
الثانية: أن نقول إن الكلمة تنتمي إلى لغة العامة، أما المصطلح فينتمي إلى لغة متخصصة؛ أي اللغة العلمية أو التقنية. فإذا قلنا ( شعرت بالعطش فشربت الماء) فلفظ (الماء) هنا كلمة تنتمي إلى لغة العامة. أما إذا قلنا في درس الكيمياء (إن الماء يتكون من ذرتين من الهيدروجين وذرة من الأوكسجين) فالماء هنا مصطلح ينتمي إلى اللغة العلمية.
ولا نستطيع أن نعرّف المفهوم بدقّة ما لم نحدد موقعه من النظام المفهومي للحقل العلمي الذي ينتمي إليه. فالمفاهيم تنتظم في أنظمة مفهومية تعطيها معناها وتهبها دلالتها. فإذا ذكرنا عبارة (الضوء الأصفر) مجردة فإنها تنتمي إلى اللغة العامة. ولكن إذا أدخلنا الضوء الأصفر في نظام معلوم أصبح رمزا أو مصطلحا لمفهوم معين. فعندما نضع الضوء الأحمر والضوء الأصفر والضوء الأخضر في ترتيب معين وفي إطار معين عند تقاطع الطرق، أصبح لدينا منظومة لإشارات المرور وأصبح لكل ضوء مفهومه الخاص. وتنمي هذه المنظومة إلى نظام مفهومي أوسع أو حقل مفهومي أكبر يمكن أن نطلق عليه اسم نظام المرور أو حقل المواصلات.
النظام المفهومي القانوني:ويعدّ القانون، بطبيعة الحال، حقلا علميا متخصصا، له نظام مفهومي متكامل. وفي داخل هذا الحقل العلمي هناك منظومات مفهومية مترابطة تشكل بأجمعها النظام المفهومي للقانون. ومن أمثلة هذه المنظومات المفهومية منظومات القانون العام، والقانون الخاص، والقانون الدولي العام، والقانون الدولي الخاص، والقانون الإداري، والقانون الجنائي، وقانون العقوبات، وقانون تحقيق الجنايات (أو كما يسمى أحيانا قانون أصول المحاكمات الجزائية)، والقانون المدني، والقانون المالي، والقانون التجاري، وقانون التجارة البحرية، وقانون المرافعات المدنية والتجارية (أو قانون أصول المحاكمات المدنية)، والأحوال الشخصية.وكل حقل علمي أو نظام مفهومي قابل للتوسع فتنضاف إليه منظومات مفهومية جديدة. فالنظام المفهومي للمواصلات، مثلا، قد يتوسع ليشمل في المستقبل منظومة مفاهيم المواصلات بين الكواكب. والنظام المفهومي القانوني قد يضم في المستقبل منظومة مفاهيم قانون المواصلات الفضائية، وهكذا تتزايد المصطلحات بازدياد المفاهيم. ومفاهيم كل منظومة من المنظومات تشترك في خصائص معيّنة تميزها عن مفاهيم المنظومات الأخرى، على الرغم من التقاء جميع مفاهيم هذه المنظومات بخصائص عامة مشتركة.
المحامي والتعريف المصطلحي:
ولكي يعرّف المحامي مصطلحا قانونيا ما ينبغي عليه أن يحدد المنظومة المفهومية التي ينتمي إليها ذلك المصطلح: هل هي منظومة القانون الجنائي أم منظومة الأحوال الشخصية، مثلا؟ ثم يحد الخصائص الرئيسة للمفهوم الذي يعبّر عنه ذلك المصطلح.ثم يحدد موقع ذلك المفهوم في منظومته المفهومية من خلال علاقاته بالمفاهيم المجاور المتصلة به. ويستطيع المحامي أن يعدّ قائمة بالخصائص التي يشترك فيها المفهوم موضوع البحث مع المفاهيم الأخرى المجاورة له المتصلة به، وقائمة أخرى بالخصائص التي ينفرد بها دون سواه من المفاهيم، لتتضح الصورة.
قدم المصطلح القانوني وشيوعه في اللغة العربية:
إن صعوبة تحديد العناصر الجوهرية المميزة للمصطلح القانوني في اللغة العربية نابعة من كونه من أقدم المصطلحات التقنية في بلاد العرب وأوسعها انتشارا لا بفضل الشريعة الإسلامية فحسب، وإنما كذلك لأن بلادنا مهد التشريعات ومهبط الرسالات السماوية ومنها أخذ العالم كيفية تنظيم العدالة في المجتمع. ولم يكن الملك البابلي حمور ابي (1792-1750ق.م.) أقدم من سنّ القوانين، وإنما، في حقيقة الأمر، أقدم من جمع القوانين في مدونة واحدة سطّرها على مسلة كبيرة وضعت في مدخل مدينة بابل ليعرف المواطنون حقوقهم وواجباتهم. ولكن الرسم الذي ظهر في أعلى المسلة أعطى الانطباع الخاطئ بأن تلك القوانين جديدة كل الجدّة؛ فالرسم يبين الملك حمورابي واقفا أمام إلاه الشمس الجالس على العرش وهو يتسلم منه العصا وشريط القياس وهما علامة العدل آنذاك، كما نستعمل اليوم علامة الميزان دلالة على العدل.إن حمورابي جمع القوانين التي كانت سارية المفعول في زمانه وأضاف إليها ورتبها في مدونة واحدة، نالت من الشهرة والانتشار ما يسرّ لها التأثير في غيرها من الشرائع التي جاءت بعدها. ولكن حمورابي سُبق في ميدان التشريع من لدن كثير من ملوك السومريين خاصة المشرع العظيم الملك كارنيجا الذي سبق حمورابي بحوالي ألف عام.
إن لتأصّل المصطلح القانوني وشيوعه في اللغة العربية فوائده بلا شك، بيد أن قِدم المصطلح القانوني وشيوعه يؤديان إلى شحنه بحمولة نفسية واجتماعية تجعل من الواجب التعامل معه بحذر شديد، لئلا يتسرب إلى مفهومه خصائص جوهرية أو عرضية من العرف والعادات الاجتماعية مما لم يقصدها المشرع الوضعي.
التعريف والتفسير:
قد يختار المحامي نوع التعريف الذي يخدم أغراضه؛ فيلجأ إلى التعريف اللغوي تارة، ويختار التعريف المنطقي تارة أخرى، ويفضّل التعريف المصطلحي مرة ثالثة. ولكنه قد يجد في بعض الحالات أن التعريف وحده لا يفي بالغرض، ولا بد من التفسير.
وإذا كان التفسير في معناه الفلسفي يعني محاولة إعطاء تصور لنشأة الوجود أو الكون وموقع الإنسان منه، فإن التفسير في معناه اللغوي يعني إظهار معنى النص وكشف المقصود من الألفاظ. والفرق بين التعريف والتفسير هو أن التعريف يهدف إلى إجلاء معنى لفظ واحد في حين أن التفسير يرمي إلى توضيح معنى نص كامل بجميع ألفاظه. والتفسير القانوني أو تفسير القوانين( Interprétation des lois ) يعني تبيين معنى القاعدة القانونية المتضمنة في نص مكتوب.
وتجدر الإشارة إلى أن الدراسات الإسلامية حازت قصب السبق والإبداع في مجال التفسير. فتفسير القرآن الكريم علم قائم بذاته له أصوله ومبادئه وقواعده. كما تطورت قواعد التفسير كذلك على أيدي الأصوليين أي علماء أصول الفقه، وهو مجموع القواعد التي يتوصل بها العالم المجتهد إلى استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها، وفي مقدمة هذه الأدلة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف. ويدور أكبر مبحث من مباحث علم الأصول حول تحديد دلالة الظاهر من اللفظ على معناه؛ وهذا هو التفسير.
المدارس الفكرية القانونية في التفسير:ينقسم علماء القانون الوضعي الحديث إلى مدرستين فكريتين:
الأولى، مدرسة التفسير الضيق، أو تفسير التضييق (Interprétation restrective ) التي لا تسمح بمدّ حكم النص إلى ما لم يتناوله.
والثانية، مدرسة التفسير الواسع، أو تفسير التوسع Interprétation extensive التي تدعو إلى استخدام الأدوات المنطقية واللغوية لمدّ حكم النص إلى غير ما جاء فيه.
وغني عن القول أن لهاتين المدرستين الفكريتين جذورهما في المذاهب الفقهية الإسلامية (ونفضل تسميتها بالمدارس الفقهية) التي سبقتها بأكثر من ألف عام. ويكفي التذكير هنا بمذهب الإمام مالك في المدينة، الذي يُسمى أصحابه بأهل الحديث، ومذهب الإمام أبو حنيفة في الكوفة، الذي يُسمى أصحابه بأهل الرأي.
القياس وتفسير القوانين:
وتستخدم المدرسة الفكرية القانونية الثانية، التي تدعو إلى التوسع في تفسير نصوص القانون، مجموعة من الأدوات اللغوية والمنطقية لتحقيق غرضها. ومن أهم هذه الأدوات القياس (Analogie)وهو مد حكم حالة أو واقعة منصوص على حكمها في القانون إلى حالة أو واقعة غير منصوص على حكمها، لاتحادهما في العلة، ويتخذ القياس شكلين أساسيين هما:
1) مفهوم الموافقة: ويعني مدّ حكم الواقعة المنصوص عليها في القانون إلى واقعة غير منصوص عليها، لاتحاد العلة.
2) مفهوم المخالفة: ويعني إعطاء واقعة غير منصوص عليها خلاف حكم الواقعة المنصوص عليها، لاختلاف العلة.
وقبل أن يتناول المحامي النص القانوني بالتفسير عليه أن يتأكد من نفاذه وسريانه الزماني؛ فالقوانين تتعرض للإلغاء والنسخ (( Abrogation des loi وقد يكون هذا الإلغاء صريحا(Abrogation expresse) بنص يقضي صراحة بتحديد مدة سريان القانون منذ البداية، أو إلغاء ضمنيا( Abrogation tacité )نتيجة لصدور قانون لاحق يتناول الوقائع التي ينظمها القانون السابق أو يتعارض معه كليا أو جزئيا.
لغة القانون واللغة القانونية:
يفرّق بعضهم بين لغة القانون واللغة القانونية، فيستعمل المصطلح الأول للدلالة على صياغة مواد أو فصول القانون، في حين يستعمل المصطلح الثاني للإشارة إلى اللغة التي يستعملها القضاة والمحامون وكتاب العدل وغيرهم من أبناء المهنة، وتختلف عادة عن اللغة العامة لاشتمالها على عدد كبير من المصطلحات القانونية التي لا يستعملها عامة الناس في حياتهم اليومية.
وقد تطورت لغة القانون بمرور الأيام، فبعد أن كانت المواد تبدأ بالعقوبة التي تلحق بالجريمة فيقال، مثلا، يعاقب بالحبس من فعل كذا، أصبحت تبدأ بالنموذج القانوني للجريمة ثم تذكر العقوبة.
الخاتمة:
يتضح مما مرّ ذكره أن المحامي يحتاج في ممارسة مهنته إلى ثقافة واسعة من ضمنها دراية بعلم المصطلح وعلم اللغة. ومن المفيد جدا أن تتضمن مناهج كليات الحقوق دروسا في هذين الحقلين. ولعل هذه الحاجة تفسر لنا لماذا تبدأ دراسة القانون في الجامعات البريطانية والأمريكية بعد حصول الطالب على الإجازة ( الليسانس أو البكلوريوس) في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، وليس كما هو الحال عندنا في البلاد العربية حيث يلتحق الطلاب بكليات الحقوق بعد المدرسة الثانوية مباشرة.
المراجع
– اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية، مصطلحات قانونية ( بغداد: المجمع العلمي العراقي، 1974).
– أحمد سوسة، حضارة العرب ومراحل تطورها عبد العصور (بغداد: وزارة الإعلام، 1979).
– حارث سليمان الفاروقي، المعجم القانوني (بيروت : مكتبة لبنان: 1970).
– عبد السلام بنحدو، الوجيز في القانون الجنائي المغربي ( مراكش: دار وليلي، 1997).
– علي القاسمي، مقدمة في علم المصطلح ( بغداد: الموسوعة الصغيرة، 1985).
– فوزية عبد الستار، مبادئ علم الإجرام وعلم العقاب ( بيروت: دار النهضة العربية، 1985).
– محمد النجار، دروس في المصطلحات القانونية ( الرباط: نشر الكرمل، 1991).
اترك تعليقاً