كافح الشعب المصرى قديماً لسنوات طوال من أجل أن تنال البلاد دستوراً يؤكد استقلالها، وهو ما تحقق بصدور دستور 1923، واليوم يصبو الشعب مرة أخرى إلى دستور جديد يقود البلاد إلى الحرية والديمقراطية، دستور يرسى دعائم دولة سيادة القانون، دستور يحقق النزاهة والشفافية والعدالة الاجتماعية، دستور يكفل احترام حقوق الإنسان وصيانتها من أى عبث بها.
وعنوان الطريق الوحيد لتحقيق ذلك كله هو استقلال القضاء بكافة هيئاته وأجهزته، ومن بين هيئات القضاء المصرى النيابة الإدارية، هذه الهيئة القضائية التى أناط بها المشرع منذ إنشائها فى منتصف القرن الماضى إرساء قواعد العدل وإقامته بين الموظفين العموميين، فهى الأمينة على الدعوى التأديبية المنوط بها مكافحة الفساد المالى والإدارى بالجهات الإدارية الخاضعة لولايتها، والتى تباشر عملها القضائى فى استقلال تام عن سلطان الرئيس الإدارى، فلا تملك جهة الإدارة أن تحول بين مباشرة النيابة الإدارية لاختصاصاتها، أو أن تطلب من النيابة الإدارية الكف عن التحقيق أو التصرف فيه على نحو معين، فللنيابة الإدارية أن تقيم الدعوى التأديبية وتقدم المتهم إلى المحكمة التأديبية بقرار تصدره بذلك دون الرجوع إلى أى جهة أخرى، وأن تبلغ النيابة العامة بالجرائم الجنائية التى تكشف عنها تحقيقاتها، وفق ما تستقر عليه عقيدتها، وذلك كله دون الحصول على موافقة جهة الإدارة سواء الصريحة أو الضمنية، وتحمل أمانة الادعاء التأديبى أمام القضاء التأديبى حتى تبلغ بها غايتها بإنزال العقاب اللازم على كل من ارتكب جرماًَ تأديبياً مهما علت درجته الوظيفية.
ومن ثم فإن النيابة الإدارية جهة تحقيق واتهام وادعاء تأديبى يتماثل عملها وعمل النيابة العامة، فسلطة التحقيق والاتهام فى مصر تتولاها النيابتان الإدارية والعامة، وسلطة الفصل فى الدعاوى العقابية تتولاها المحاكم الجنائية والتأديبية، فالقضاء العقابى فى مفهومه الصحيح يشمل أعمال التحقيق والادعاء وأعمال الفصل فى الخصومة القضائية، ولأجل ذلك استقرت النظم القانونية المختلفة على أن عضو النيابة يدخل ضمن تشكيل المحكمة بعمله الأساسى وهو التحقيق والاتهام باسم المجتمع ونيابة عنه، لذلك فإن غياب عضو النيابة الإدارية عن تشكيل المحكمة التأديبية يترتب عليه ما يترتب على غياب القاضى، وهو انعدام المحاكمة برمتها، لذلك قيل قديما – وبحق – أن كل قاضى هو مدع عمومى، وأن المدعى العمومى هو فى حقيقته قاض، وهو ما عبرت عنه أمهات الأحكام القضائية المصرية فى أنصع صفحاتها التى أبرزت أهمية الدور القضائى للنيابة الإدارية بقولها إن التجرد والحيدة الواجب توافرها فى عضو النيابة الإدارية لا ينبغى أن يقل عن القدر المتطلب فى القاضى التأديبى، فالحكم فى المجال العقابى جنائياً كان أو تأديبياً إنما يستند إلى أمانة عضو النيابة واستقلاله ونزاهته وحياده كما يستند إلى أمانة القاضى ونزاهته وحياده سواء بسواء.
لذلك تؤكد المبادئ القانونية والدستورية العامة، التى كشفت عنها أحكام القضاء الدستورى والإدارى فى مصر على مدار سنوات طوال، أن النيابة الإدارية إحدى هيئات القضاء وجزء لا يتجزأ من السلطة القضائية المصرية، فهذه حقيقة رسختها عشرات القوانين، منها القوانين أرقام 82 لسنة 1969، 85 لسنة 1969، 39 لسنة 1974، 139 لسنة 1975، 17 لسنة 1976، 12 لسنة 1989 والتى تكشف جميعها بجلاء عن تماثل وضع النيابة الإدارية مع باقى هيئات السلطة القضائية المصرية، ونطق بذلك القضاء الدستورى المصرى فى أحكام عديدة أصدرتها المحكمة الدستورية العليا فى الدعاوى أرقام 193 لسنة 19 ق بجلسة 6 مايو 2000، 3 لسنة 8 ق بجلسة 3 مارس 1990، 5 لسنة 22ق بجلسة 4 أغسطس 2001، وأخيراً طلب التفسير رقم 2 لسنة 26 ق جلسة 7 مارس 2004، كما سطرته العشرات من أحكام المحكمة الإدارية العليا منذ ستينيات القرن الماضى، والتى بينت هى الأخرى طبيعة الدور القضائى للنيابة الإدارية فى القضاء التأديبى المصرى.
ومن ثم يكون من الطبيعى المساواة التامة بين النيابة الإدارية وباقى هيئات السلطة القضائية فى نصوص الدستور الجديد، وذلك بالنص عليها ضمن الهيئات القضائية المنصوص عليها بباب السلطة القضائية أسوة بالمواد المتعلقة بمجلس الدولة والمحكمة الدستورية العليا والنيابة العامة، وأن يتم النص على رئيس هيئة النيابة الإدارية ضمن تشكيل المجلس الأعلى للسلطة القضائية، فغير صحيح على الإطلاق القول بأن باب السلطة القضائية يجب أن يقتصر على جهات الفصل فى الدعاوى فقط، فذلك قول يجافى المفهوم الصحيح لوظائف وأعمال السلطة القضائية التى لا تقتصر أبداً على أعمال الفصل فى المنازعة بل تشمل قطعاً أعمال الادعاء القضائى نيابة عن المجتمع، والتى تتولاها النيابة الإدارية فى نطاق المجتمع الوظيفى شأنها فى ذلك شأن النيابة العامة، كما يخالف ما استقرت عليه الدساتير المقارنة إذ نصت المادة 65 من دستور الجمهورية الفرنسية الحالى الصادر عام 1958 على أن المجلس الأعلى للهيئات القضائية يتكون من قسمين قسم للقضاة، وقسم للمدعين العامين أو ما يعرف بجهات التحقيق القضائى. نريد دستوراً يؤكد استقلال النيابة الإدارية، ويضمن بقاءها، ويصون دورها، ويحمى اختصاصاتها.
بقلم المستشار / إسلام إحسان
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً