مفهوم القانون الخاص و طبيعته
د. محمد يحيى المحاسنة
اعادة نشر بواسطة محاماة نت
ABSTRACT
In order for a group of legal rules to be classified as an independent branch of the law, they must share certain characteristics that distighusih them from other groups of rules .In this case, such rules must have ac quired established concepts and/or definitions. Although the private law has been explained understood in a manner off its actual nature. This paper, thus, tries to identify the specific characteristics of the private law that may assist in creating a new conceptualization of it.
ملخص
تتميز مجموعة من القواعد القانونية عادة بمميزات وطبيعة خاصة، مما يؤدي إلى اعتبار مجموع هذه القواعد والتي تخص موضوعاً معيناً فرعاً مستقلاً من فروع القانون وتجري معاملته تطبيقاً وتفسيراً بشكل مختلفة، وهذا يعني أن مفهوماً أو تعريفاً خاصاً لهذه القواعد أو لهذا الفرع قد استقر، والقانون الخاص رغم تفسيره المختلف عن القانون عامة، ورغم وجود ما يميّز هذا القانون، فقد ظل يعطي مفهوماً لا يدلّ دلالة واضحة على مفهومه وطبيعته مما اقتضى هذا البحث، حيث سنعمد إلى الميزات الخاصة بالقانون الخاص لتجديدها والاستعانة بها لعلّها تساعد على إعطاء مفهوم جديد وطبيعة جديدة تتناسب مع حقيقة القانون الخاص.
تمهيد :
القانون الخاص يشمله تعريف القانون بالمعنى الاصطلاحي، فيعبّر عن القانون عموماً بالقول عنه بأنه هو مجموعة القواعد التي تنظم سلوك الأفراد في المجتمع ويجبروا على احترامها ولو بالقوة إذا لزم الأمر، في حين أن المعنى الاصطلاحي للقانون الخاص يقصد به مجموعة القواعد القانونية التي تنظم العلاقات التي لا تدخل الدولة طرفاً فيها باعتبارها صاحبة سلطة وسيادة. واعتبار القانون الخاص جزءاً من القانون بشكل عام وباعتبار أن التعريف الاصطلاحي للقانون بشكل عام ينطبق على القانون الخاص تبعاً لذلك، فإن القواعد للتعامل مع القانون بشكل عام باعتبارها مشتملة في الحكم الذي تتضمنه على القانون الخاص أيضاً ستطبق بالنتيجة على كل القواعد القانونية، على القانون الخاص وعلى الفرع الآخر الذي يقابله ويشكلان معاً القانون ككل ألا وهو القانون العام. فالقواعد التي تبيّن وضع القانون عن طريق التشريع وتعديل القانون أو إلغائه سيطبق حكمها على القانونين الخاص والعام على السواء. إلا أن هنالك مظاهر خاصة يتميز بها القانون الخاص والعام على السواء. إلا أن هنالك مظاهر خاصة يتميز بها القانون الخاص تستدعي التوقف للنظر فيها ملياً، فقد تهدي هذه المظاهر التي تجعل القانون الخاص مختلفاً عن القانون بشكل عام إلى مفهوم جديد للقانون الخاص، فيحدد هذا المفهوم ويهدي بدوره إلى طبيعة مختلفة تميز هذا القانون. فإذا حصل هذا فمن المؤكد بأن المفهوم والطبيعة الجديدة للقانون الخاص ستؤدي إلى تغيّر طريقة التعامل مع القانون الخاص. وقد تكون أبرز مظاهر تميز القانون الخاص هي ظاهرة تفسيره المختلفة. فتفسير القانون الخاص يلفت النظر إلى تميز القانون الخاص هي ظاهرة تفسيره المختلفة. فتفسير القانون الخاص يلفت النظر إلى تميز هذا القانون، وهنالك مظاهر أخرى ربما تكون أقل أهمية من مظهر التفسير إلا أن هذه المظاهر تدل على اختلاف القانون الخاص عن القانون بشكل عام إلى حد ما، ولأجل ما ذكرناه كان هذا البحث والذي سوف نقسّمه إلى فصلين نخصّص الأول منهما لبيان مظاهر تميز القانون الخاص، ثم نخصص الفصل الثاني لمحاولة الاستدلال على مفهوم جديد وطبيعة خاصة بالقانون الخاص .
الفصل الأول
مظاهر خاصة بالقانون الأول
المظاهر الخاصة هي التي تميز القانون الخاص عن القانون بشكل عام حيث التعامل مع هذا القانون كتفسير مثلاً والذي يعتبر أظهر وأبرز شيء يميز القانون الخاص ويجعله مختلفاً في تفسيرهعن تفسير القانون بشكل عام، ولذلك سنخصّ التفسير بمبحث مستقل هو المبحث الأول، ويخصص المبحث الثاني في هذا الفصل لمظاهر خاصة بالقانون الخاص ولكنها تأتي في أهميتها بعد التفسير حيث نسميها مظاهر أخرى خاصة بالقانون الخاص.
المبحث الأول
تفسير القانون الخاص
تفسير القانون هو تحديد المعنى الذي تتضمّنه القاعدة القانونية وتبين طاقها، حتى يمكن مطابقتها على الظروف الواقعية التي يثار بصددها تطبيق هذه القاعدة(1)، وهو أيضاً الاستدلال على الحكم القانوني وعلى الحالة النموذجية التي وضع لها هذا الحكم من واقع الألفاظ التي عبّر بها المشرّع عن ذلك(2). وللتفسير أهمية كبرى، إذ أنه تبعاً للطريقة التي تتّبع في تفسير النص القانوني، يمكن الوصول إلى توسيع أو تضييق نطاق تطبيقه، بل إنه ومن الممكن أيضاً وتحت ستار التفسير، التوصل إلى تغيير معنى النص القانوني(3) والكثير من الفقهاء يقصرون التفسير على التشريع(4). ويورد الفقه تفصيلاً لما يمكن أن يتوسع بتفسيره بحيث يعطي القاضي أو المفسّر حرية وقدرة على استنباط الأحكام من النصوص، بينما يقيد هذا الفقه القاضي عند تفسير نصوص أخرى(5)، والمتبع لهذه النصوص التي يفرّق الفقه فيما بينها من حيث طريقة التفسير، يجد أن التوسع في التفسير والذي يمكّن القاضي من التفسير بحرية يتركز في نصوص القانون الخاص، بينما يتم التضييق في سلطات القاضي في التفسير في القانون العام وعلى الخصوص في القوانين الجنائية.
والحقيقية أن هذا الاختلاف المشار إليه آنفاً فيما بين نصوص القانون الخاص ونصوص القانون العام من حيث طريقة التعامل معها عند التفسير، يلقى بظلال تميز القانون الخاص عن القانون العام تميزاً أكثر مما هو معروف، وهذا يستدعي الدراسة والتحليل للتحقق مما يقال عن القانون الخاص في ماهيته وطبيعته، الأمر الذي يقود بالتالي إلى التفكير في صحة التعريف المعطى للقانون الخاص الذي يحدد بدوره ويلقي بالضوء على مصدر القانون الخاص، فإنّ تغيّر هذا التعريف فلربما يتحدّد للقانون الخاص أصلاً ومصدراً غير المعروف الآن. ولمزيد من الدراسة التي ستساعد على فهم تميز القانون الخاص بموضوع التفسير سنقسّم هذا المبحث إلى ثلاثة مطالب نخصص الأول منها لماهية التفسير، والثاني لتحديد دور المشرّع والفقه والقضاء في وضع أصول التفسير، والثالث لدراسة أبلغ مظاهر التوسّع في تفسير القانون الخاص وهو القياس.
المطلب الأول
ماهية التفسير
يقوم التشريع بتدوين المبادئ القانونية العامة، ويخرج منها بالنتائج المباشرة، لكنه لا يستطيع أن ينظم سلفاً كل ما قد يوجد في الجماعة، فقد تستجد حالات لم يتوقعها، كما قد توجد حالات لا يمتد إليها التنظيم التشريعي أصلاً أو لا يمتد إليها بصورة مباشرة. ومن هنا يظهر دون المفسّر الذي يكون عليه أن يعمل على مد القوانين التشريعية إلى تلك الحالات الجديدة، أو التي أغفل المشرّع تنظيمها. و لهذا فإن دور المفسّر في هذا الصدد إنما هو دور الوسيط(6) بين القواعد الثابتة في عبارات وصيغ قانونية وبين الضرورات العملية المتغيرة(7).
وتستعمل كلمة تفسير كلفظ بمعنى تحديد معاني الكلام أو النص التي نطق به أو وضعه إنسان ما. ولذلك فإن وسيلة التخاطب وهي اللغة ووحداتها الألفاظ، إما أن تكون مفهومه وإلاّ تحتاج إلى تفسير، وهي عادة ما تكون كذلك مفهومة بالنسبة لمن يستعمل الألفاظ أو يصدر عنه النص أو القول ليعبّر عن إرادته ويفصح عن مقصوده .
وأما أن تكون غير مفهومة تحتاج إلى تفسير وعادة ما يكون الأمر كذلك بالنسبة للغير، فالغير هو الذي يبذل الجهد للبحث عن هذه الإرادة أو هذا المقصود من خلال الألفاظ، ولذلك فإنه لولا الغير بالنسبة للمتكلم أو واضح النص ما كان هنالك حاجة للتفسير. والحاجة للتفسير تبرز عندما لا يفهم الكلام أو النص بمعناه الدقيق بالنسبة للغير، ويمكن القول بناءً على ذلك أن عدم الدقة في استعمال اللغة وفهمها من قبل المتكلم والسامع أو واضح النص والقارئ هو سبب وجود مشكلة عدم دقة النصوص التي كانت سبباً في وجود التفسير(8). ولم يخف ذلك عن جانب من الفقه عندما قال بأن القاعدة القانونية تحتاج في تطبيقها على فروض الواقع إلى تفسيرها، والتفسير يتناول ما يأتي : أولاً : تحديد معنى القاعدة القانونية إذا شابها الغموض، أو وردت بها ألفاظ في حاجة إلى بيان أو حاجة إلى ضبط المراد منها كلفظ الغش أو لفظ سوء النية…ألخ. ثانياً: تكميل القاعدة القانونية إذا عابها الاقتضاب والإيجاز. ثالثاً: رفع التناقض الموجود بين قاعدتين قانونيتين بالتوفيق بينهما، أو بترجيح إحداهما على الأخرى إذا لزم الأمر. رابعاً: المساهمة في تطبيق القواعد القانونية على الواقع المتغير بجزئياته وتفاصيله(9).
فالتفسير تظهره مشكلتان هما سبب وجوده، الأولى وهي استعمال اللغة بمفرداتها (الألفاظ) للتعبير عن مقصود في ذهن القائل أو الكاتب لنقل هذا المقصود إلى الغير، وبسبب عدم الإجادة في استعمال الألفاظ لتصوير المقصود كلية بحدث سوء الفهم، أو قصوره فنحتاج للتفسير. أما الثانية فهي تقدّم الزمن مع تغيّر الأحوال فيصبح المقصود الذي تمّ التعبير عنه في زمن معين يطابق الواقع بسبب تقدّم الزمان وتغيّر الأحوال فنحتاج للتفسير لبيان فيما إذا كان النص يناسب الواقع الجديد المتغير، إذن المشكلة هي في اللغة وفي تقدّم الزمان وتغيّر الأحوال وهما المتسببان في الحاجة إلى التفسير، والتفسير هو الاستدلال على ما في النص أو القول أو الكلام من معنى أو أحكام بالنسبة للقانون، وتغيّر الأحكام بتغير الزمان قاعدة معروفة في الفقه الإسلامي(10) بالنسبة للأحكام الاجتهادية لدى الفقهاء حيث يتغيّر الحكم لديهم بتغيّر الأحوال والزمان مع أن الدليل والمصدر للحكم نص واحد في القرآن أو الحديث لم يتغيّر، وهذا معناه أو هذه الأحكام عبارة عن تفسير للنصوص القرآنية أو الحديث. ويتّضح بأن مشكلة التفسير تلازم التشريع كمصدر للقانون لأن مادة التشريع هي النص، والنص كلام يستعمل اللغة، واللغة كمفصح وموضّح لفكرة تقصر عن وسائل أخرى تنقل الأشياء بتمامها وكمالها كما هو في حاسة البصر والصور التي تنقلها(11). بالإضافة إلى مشكلة تقدّم الزمان، فما هي الطريقة التي تعامل بها المشرّع والفقه والقضاء وما دقة طريقة كل منهم للخروج من مأزق قصور وسيلة الكلام عن نقلة الفكرة من ذهن المشرّع إلى المخاطب. سنتعرض لبيان موقف هؤلاء من التفسير في المطلب التالي تحت عنوان دور المشرّع والفقه والقضاء في وضع أصول التفسير.
المطلب الثاني
دور المشرّع والفقه والقضاء في وضع أصول التفسير
المعني بوضع أصول التفسير هي الجهات التي يقع على عاتقها واجب التفسير وتتصدّى له وهي المشرّع والفقه والقضاء، ولكل من هؤلاء موقفه من تفسير القانون الخاص، فالمشرّع ابتداء نقول بأنه ليس معنياً بتحديد تفسير معين عند إصداره لكل قانون، فالأصل لدى المشرّع أن يضع نصاً واضحاً يرى أنه مفهوم للقارئ ويعتمد القاضي في تفسيره للقانون على المبادئ العامة المنصوص عليها في القانون المدني(12) في تفسيره لأي نص قانوني بمناسبة تطبيقه سواء كان هذا النص من القانون الخاص أو القانون العام، فالمبادئ العامة في التفسير وأغلبها فقهي وما يرد في القوانين المدنية من بعض النصوص هي الأساس الذي يستند إليه في عملية التفسير. ويعتمد فقه القانون الجنائي(13) على مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات في تضييق التفسير لنصوص القانون الجنائي وعدم الأخذ بالقياس والاجتهاد. ويضيف إلى حالة عدم التوسّع في التفسير في القوانين الجنائية أو عدم الأخذ بالقياس حالة أخرى حينما يكون الحكم الوارد في النص حكماً استثنائياً خرج فيه المشرّع على القوانين العامة عندما يخصّ واقعة بالذكر ويفرد لها حكماً استثنائياً(14).
والحقيقة أن موقف المشرّع لا يختلف عن موقف الفقه والقضاء من التفسير، فالفقه يقوم بعملية التفسير، وكذلك القضاء، وكلمة تفسير لا يتعدى معناها ما يقوم به كل من الققه والقضاء من تحديد لمعنى القانون حين يدرسونه أو يعرض للقضاء فيما يرفع إليه من أقضية، ويتّفق الفقه والقضاء في الطرق التي يسلكانها في التفسير، فهما لا يختلفان إلا في الظروف التي يصدر كل منهما تفسيره في ظلها، فالقضاة يفسّرون لتبين الحكم الذي يطبقونه على المنازعات المعروضة عليهم، فهم يتأثرون بذلك في الظروف الواقعية التي تحيط بهذه المنازعات، ويدخلون في حسابهم ما يؤدي إليه الحل الذي يرونه من نتائج عملية، أمّا الفقهاء فهم يفسّرونالقانون بطريقة مجردة دون ان تكون تحت ايديهم حالات واقعية يراد الفصل فيما يرونه إلى ما يترتّب عليه من نتائج عملية، ولهذا يغلب على تفسيرهم الطابع النظري، على ان هذا لا يعني انعدام الصلة بين الفقه و القضاء فهناك تعاون وثيق يقوم بينهما في تفسير القانون ، وهو تعاون تفرضه طبيعة الأشياء، حيث يستفيد كل منهما من عمل الآخر. فالفقيه ينير الطريق أمام القاضي، وهذا يزوّد الفقيه بصور عملية لم تخطر له، وبذلك يجمع التفسير في الناحيتين بين الأصول النظرية والاعتبارات العملية، وكثيراً ما يحمل أحدهما الآخر على العدول عن رأيه(15).
والحقيقة أن الفقه كان هو صاحب الفضل في وضع الأصول المتقنة، والنظريات المحكمة في التفسير، وهي النظريات المعبّرة عمّا يفعله القاضي الحصيف أفضل تعبير، ويرجع الفضل في البناء الدقيق لهذه النظرية في التفسير إلى الفقهاء المسلمين الذين أوجدوا القياس، وأخرجوا النظرية بصورة مستوفاة منسّقة، ويرجع الفقه الإسلامي في قدرته هذه إلى ما فيه من مبان وأصول ونظريات تأسيسية سمحة خصبة تتسع للاستخراج والاستنتاج في شتى نواحي الاحتياج التشريعي(16). وللفقه يعود الفضل في إيجاد مذاهب التفسير وطرق تفسير النص سواءً كان سليماً أو معيباً. والقضاء يفعل كل ما يقول به الفقه ويتبع طرق التفسير التي وضعها الفقه دون حرج أو تأخير، ويتفق الفقه والقضاء على عدم التوسّع في تفسير القانون العام وعلى الخصوص القوانين الجنائية، لكن أحداً لم يقل حتى الآن بأن هذه التفرقة قد تؤدي إلى اكتشاف حقائق جديدة تتعلق بمفهوم القانون الخاص وطبيعته تبعاً لتميزه في تفسيره الواسع.
المطلب الثالث
القياس
يتحدّد الهدف من التفسير لدى مختلف مذاهب التفسير في البحث عن إرادة المشرّع الحقيقية(17). والحقيقة أن هذا الهدف وهو إرادة المشرّع إذا ما تمّ الحصول عليه، فإننا والحالة هذه نكون قد فسّرنا القانون تفسيراً شافياً وافياً لا غبار عليه، ويتوقف القضاء في تفسير نصوص القانون العام ومنها الجنائية على الخصوص عند الحصول على إرادة المشرّع الحقيقية التي تنبئ بها المعاني التي تتضمنها النصوص(18). إلا أن التفسير في مجال القانون الخاطئ يتخطّى ذلك إلى فحوى النص ودلالته وإشارته، ويتوسع بالتفسير وإعطاء الأحكام للوقائع الجديدة عن طريق القياس فهل يتم ذلك بدافع الضرورة أم أن طبيعة القانون الخاص تسمح بذلك؟ وإن كان الأمر يرجع إلى طبيعة القانون الخاص فما هي هذه الطبيعة الخاصة للقانون إذن؟ ولعلّ توضيح مفهوم القياس بالمعنى الدقيق يعين على الوصول إلى نتيجة .
لخص المزني صاحب الإمام الشافعي فكرة القياس وحجته أبلغ تلخيص فقال : “إن الفقهاء من عصر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى يومنا هذا، استعملوا المقاييس في جميع الأحكام في أمر دينهم، وأجمعوا على أن نظير الحق حق، ونظير الباطل باطل فلا يجوز لأحد إنكار القياس، لأنه التشبيه بالأمور والتمثيل عليها”(19). وهو قياس عادي يعطي بموجبه حكم الحالة المنصوص عليها للحالة الأخرى التي لم ينص عليها لاتحاد علة الحكم فيهما، وقياس من باب أولى عندما تكون العلة في الحالة التي لم ينص عليها أوضح وأظهر منها في الحالة المنصوص عليها، وقياس العكس الذي يعطى بموجبه عكس الحكم المنصوص عليه للحالة غير المنصوص عليها لاختلاف العلة فيما بينهما(20).
والقياس باب يطرقه الفقيه والقاضي لاستنباط الحكم وبه يقرّ القاضي العدل ويحكم به، وهو استعمال المنطق والحجة لا ينكره صاحب منطق، فهو باب رحب ومصدر خصب، إلا أن استخدامه اقتصر على القانون الخاص، ومع عدالة الحكم الذي يمكن أن يصدر باستخدام القياس حتى لو كان يفرض عقاب على فرد بمقتضى القياس، إلا أن الفقه واتجاه القانون والمشتغلين به ينكرون استخدام القياس في مجال القانون العام فما دام الحكم بمقتضى القياس عادل سواء كان في قانون عام أو خاص(21)، فلماذا تقتصر عدالته على القانون الخاص في مجال القانون ونستند إلى الشرعية والاستثناء على اعتبار أصل البراءة في القانون النائي في عدم استخدام القياس؟ هل يكون سبب ذلك ما يسوقه الفقه من حجج أم أن التحليل الأبعد من ذلك يجعلنا نبحث في طبيعة القانون الخاص فلعلّها مختلفة وتسمح باستنباط الحكم من القياس لعلة تتعلق بطبيعة هذا القانون.
القياس يخرج سلطة وضع الحكم لأمر من الأمور من المشرّع ويردّها إلى الناس ليقضي بناء على ذلك قضائهم. ومردّ موافقة المشرع على إعطاء هذه السلطة للناس إنهم لن يشرّعوا جديداً وإنما سيماثلون الحكم الذي سيستنبطونه الذي وضعه المشرّع لمسألة نظيرة ومشابهة للمسألة التي سيستنبطون الحكم لها. فلماذا ترد السلطة في وضع الحكم هنا للناس ممثلين بقضائهم، وما علاقتهم بإرادة المشرّع هنا والتي سيضعون حكماً يرون هم أنه مطابقاً لها. إن ذلك يدل دلالة واضحة على أن القانون الخاص من حيث ماهيته وطبيعته ليس مطابقاً للقانون العام، ولربما لا يكون قريباً منه فكيف نجمع بين القانونين بتعريف واحد حينما نعّرف القانون وكيف نجعل مصدرهما واحد حين نحدد مصادر القانون؟
المبحث الثاني
مظاهر أخرى خاصة بالقانون الخاص
كان تفسير القانون الخاص مظهر من مظاهر تميّز القانون الخاص وبشكل واضح، وقد أشار هذا المظهر إلى أن تفسير القانون الخاص يردّ مسألة وضع إرادة المشرّع والمشاركة فيها أو في وضعها إلى الناس، وقد كان هذا المظهر الخاص بالقانون الخاص مدعاة للتفكير بهذا القانون من حيث طبيعته ومفهومه، إلا أن هنالك مظاهر أخرى يتميز بها القانون الخاص تدعو إلى التفكير بطبيعة القانون الخاص ومفهومه أيضاً. ستكون هذه المظاهر الأخرى موضوع هذا المبحث حيث سنخصص لها ثلاثة مطالب، الأول للعرف المعاون للتشريع، والثاني للقواعد القانونية المكملة ، والثالث لمبدأ سلطان الإرادة .
المطلب الأول
العرف المعاون للتشريع
قد يعرض المشرّع لتنظيم موضوع معين، لكنه يحيل في القاعدة التشريعية نفسها على العرف، فيقوم العرف بتفسير وتحديد ما أحال عليه المشرع، والأمثلة على ذلك كثيرة في القانون(22). وتحدّد بعض القوانين وظيفة للعرف بالنص على جواز الالتجاء إليه لسد نقص في التشريع(23). ويقوم العرف بدور مكمّل للتشريع يسد النقص فيه ويكمله(24). ذلك أنه متى كان مسلماً بأن التشريع لا يمكن أن يكون كل شيء في القانون، تعين التسليم بوجود مصادر أخرى لقانون غير مسنون. وأهم هذه المصادر العرف المكمل(25). فإذا كان التشريع في القوانين المدنية في العام يعطي هذه المكانة للعرف لسد النقص في التشريع والعرف ليس إلا نتاج صنع الأفراد أنفسهم لقواعد تحكم تعاملهم، أفلا يستدعي ذلك نظرة للتحقّق من القانون الخاص وطبيعته ومفهومه بما أن العرف المعاون للتشريع يظهر في مجال القانون الخاص حين يكون العرف من صنع الأفراد في المجتمع وليس الهيئات أو السلطات؟
المطلب الثاني
القواعد القانونية المكملة
وهي القواعد التي يجوز للأفراد الاتفاق على مخالفة حكمها(26). ومن قبيل ذلك القاعدة التي تجعل وفاء وتسليم المبيع مستحقين فور العقد وتقضي بأن يكون وفاء الثمن في مكان تسليم البيع(27). هذا النوع من القواعد القانونية يعتبر من أظهر ما يدل على تميّز القانون الخاص حيث وجود هذه القواعد، فالقانون الذي يمثل إرادة المجتمع العليا تنعكس الأمور فيه في هذا النوع من القواعد، حيث يلجأ المشرّع في القواعد المكملة إلى تضمينها إرادة المتعاقدين المفترضة بدلاً من إرادة المجتمع العليا، ويبقى تطبيق هذه القواعد مشروطاً بعدم وجود إرادة المتعاقدين الحقيقية، ويبرر الفقه وضع هذه القواعد بأنها تنظّم النشاط الذي يملك الأفراد تنظيمه بإرادتهم ولا يخضعون فيه لسطان القانون. فالقانون يفرض أن المتعاقدين اتجهت إرادتهما إلى تنظيم علاقتهما على وجه معين، هو في الغالب الوجه الذي جرى عليه التعامل بين الناس، فإذا وجد اتفاق بين الطرفين على ما يجب اتباعه في علاقتهما هذه، كان اتفاقهما الذي يتضمن إرادتهما الحقيقة أولى بالاتباع من القاعدة العامة التي تمثل إرادتهما المفترضة. أما إذا لم يستعمل المتعاقدان سلطان إرادتهما ولم يتفق على الحكم الذي يجب اتباعه في علاقتهما، قامت القاعدة القانونية التي تعبّرعن إرادتهما المفترضة مقام إرادتهما الحقيقية وصارت واجبة التطبيق عليهم(28).
وأغرب ما يمكن أن يقال بمناسبة القواعد المكملة أن آية القانون تنعكس فيها، فالقانون الذي مصدره التشريع يضعه المشرّع ويطبّق على الأفراد وتفسّر نصوصه فإن استعصى أمر الحصول على إرادة المشرّع الحقيقة من خلال النص يلجأ المفسّر لاستظهار إرادة المشرّع المفترضة، بينما الوضع في القواعد المكمّلة أن المشرّع يحيل أولاً على إرادة الأفراد لتنظيم أمر معين إيجاد حكمة فإن غابت إرادتهم يلجأ المشرّع هنا لاستظهار إرادة الأفراد المفترضة .
ألاً يوحي هذا الوضع في القانون الخاص إلى طبيعة خاصة تميّز القانون الخاص وتجعله نسيجاً مختلفاً عن القانون بشكل عام. لأن القانون إن عرّفناه كشيء واحد يتم التعامل مع كامل جزئياته ووحداته(القواعد القانونية) بنفس الطريقة وهذا ما لم يحصل فما دام هنالك اختلاف في معاملة القانون الخاص وعلى وجه التحديد عند تفسير هذا القانون. ألا يستدعي ذلك التوقّف للتحقق فيما إذا كان هذا القانون يتميّز عن القانون بشكل عام من حيث طبيعته ووضعه وطريقة التعامل معه.
المطلب الثالث
مبدأ سلطان الإرادة
يراد بمبدأ سلطان الإرادة أن الإرادة قادرة على أن تنشىء التصرّف القانوني، وتحدّد الآثار التي تترتب عليه. فهو مبدأ ذو شقين: يتعلق الأول منه بالشكل، وهو عبارة عن مبدأ الرضائية الذي يجعل الإرادة وحدها مجرّدة عن أي شكلية كافية لإنشاء التصرف؛ فكل ما هو مطلوب أن يصدر تعبير عن الإرادة. ويتعلق الشق الثاني بالموضوع، ومقتضاه أن تكون الإرادة كذلك صاحبة السلطان في تحديد آثار التصرّف. فتستطيع الإرادة أن تنشئ عقداً لا يعرفه القانون، وأن تجعل من العقد الرضائي عقداً شكلياً أو عينياً(29). وهذا المبدأ نصت على نتيجته بالنسبة إلى العقد التشريعات المختلفة(30).
ويتضح لنا بأن هذا المبدأ يجعل بمقدور الأفراد أن يضمنوا اتفاقاتهم أحكاماً غير التي وضعها المشرّع فيما يخص العقود. وهذا بحد ذاته يدعونا إلى التساؤل عن ماهية القانون الخاص حيث يوجد أثر هذا المبدأ؟ هذه الماهية التي تسمح في أحيان كثيرة لتقديم اتفاقيات الأفراد أو ما يرونه صحيحاً على ما يراه المشرّع .
ويتّضح لنا أيضاً تأكيد هذه الحقيقة التي تقدّم ما يرضاه الأفراد في تعاملهم عمّا يراه المشرّع، من خلال النظر في مبدأ سلطان الإرادة بحد ذاته عندما نتتبع المراحل التي مرّ بها هذا المبدأ.
لقد مرّ مبدأ سلطان الإرادة في مراحل مختلفة، فهو لم يكن معروفاً في أي عصر من عصور القانون الروماني(31)، إذ بدأت العقود فيه شكلية تسيطر عليها أوضاع معينة من حركات وإشارات وألفاظ وكتابة، ورغم أن القانون الروماني وصل في تطوره إلى الاعتراف بأربعة عقود رضائية وهي البيع والإجارة والشركة والوكالة وبعقود أصبحت تعرف بعد ذلك باسم الاتفاقات البريتورية والاتفاقات الشرعية إلا أن هذا التطور لم يبلغ حد الاعتراف بالمبدأ بشكل عام وهذا يقودنا إلى حقيقية وهي أن الشكلية كانت هي الأساس وذلك معناه أن صاحب القدرة على تحديد آثار الاتفاقات هو المشرّع من خلال الاعتراف بالشلكية بمعنى أن دور الأفراد لم يكن معترفاً به في مخالفة أحكام القانون أو إعطائهم الأولوية في تضمين اتفاقاتهم بالأحكام التي سيترضونها قبل اللجوء إلى القاعدة القانونية، كما هو حاصل الآن في القواعد المكمّلة وبالنتيجة التي ينتهي إليها المبدأ.
وفي مرحلة ثانية وفي القرون الوسطى بالتحديد أخذ سلطان الإرادة يقوى بالتدريج، يفضل عوامل مختلفة بيئية واقتصادية وسياسية، وكان جماع الأفكار الاقتصادية والسياسية التي سادت في هذا العصر أن يترك القانون الإرادة تزاول نشاطها، وليس عليه بعد ذلك أن يتدخل لحماية أي طرف، وقد مهّدت هذه الأفكار للنص على مبدأ سلطان الإرادة في القانون المدني الفرنسي، ولذلك يمكن القول بأن هذا المبدأ بلغ أكمل درجات الاعتاد به في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حتى بلغ أعداد أنصار هذا المبدأ به حداً أرادوا من خلاله جعل الإرادة أساس كل أنواع الالتزامات والنظم القانونية(32).
وفي مرحلة ثالثة تراجع مبدأ سلطان الإرادة بعد القرن التساع عشر وعن التطرف الذي وصل إليه أنصار المبدأ وساتقر الأمر في الوقت الحاضر إلى أنه لا سلطان للإرادة في نطاق القانون العام فقواعده تقوم على اعتبارات تتّصل بالصالح العام وحده. وفي دائرة القانون الخاص نجد دور الإرادة هام جداً في إطار المعاملات المالية وإن كانت في الحقوق العينية أقل منها شأنها في الحقوق الشخصية(33).
والمتتبع لخط سير هذا المبدأ وتطوّره يجد أنه كان غير موجود في العصر الروماني وإن القانون أياً كان مصدره يحكم جميع المعاملات ويقرّر آثارها من خلال الشكلية التي قرّرها، ثم بدأت إرادات الأفراد بعد ذلك تأخذ دوراً في تحديد آثار التصرفات وإلزام أصحابها بعد إصدارها. وبذلك أخذت هذه الإرادات جانباً من الدور الذي كان يضطلع به القانون كاملاً، إلا أن تطوّر سلطان الإرادة هذا كان مقتصراً على القانون الخاص وإنه لا سلطان للإرادة في نطاق القانون العام كما أشرنا سابقاً(34).
هذا المظهر للقانون الخاص وطبيعة هذا القانون تستدعي التأمّل والتساؤل عن ماهية هذا القانون الذي يركن إلى إرادات الأفراد لتحل محله في جانب مما يضطلع به القانون عادة وكأن صناعة القانون الخاص يمكن اقتسامها بين الأفراد في المجتمع وبين السلطة القادرة على وضع القانون. و هذا الوضع الخاص بالقانون الخاص والذي يميزه عن القانون العام يتطلّب منّا وضع التصوّر الصحيح لحقيقة القانون الخاص فالمظاهر التي تميّزه عن القانون بشكل عام تعدّدت وكان أولها التفسير، ومظهر آخر دلّ على أن المشرّع يترك جانباً من مهمته أيضاً يضطلع بها الأفراد في المجتمع بوضعهم لأحكام تعاملاتهم. وعليه فإنّ القانون الخاص لا يوجد بعد ذلك مجال للشك في القول بأنه من طبيعة خاصة وأنه كقانون ربما يختلف من حيث ماهيته وطبيعته عن القانون بشكل عام، هذا الموضوع وتأكيد هذه الماهية والطبيعة للقانون الخاص سيكون موضوع دراستنا في الفصل الثاني من هذه الدراسة.
الفصل الثاني
حقيقة القانون الخاص
في هذا الفصل سنلقي الضوء على حقيقة القانون الخاص، حيث سنفرد لذلك مبحثين، سنبدأ في الأول منهما بتحديد المصدر الحقيقي للقانون الخاص وتحديد ماهيته، ثم نحدد في الثاني طبيعة القانون الخاص وأثر هذه الطبيعة ومفهومه على طريقة وضع هذا القانون والتعامل معه.
المبحث الأول
المصدر الحقيقي للقانون الخاص وماهيته
في هذا المبحث سنحاول بيان أساس القانون الخاص ومفهومه، وسنقسّم الدراسة إلى مطلبين نخصّص الأول إلى بيان أساس القانون الخاص، والثاني لتعريف القانون الخاص بمعنى بيان ماهيته.
المطلب الأول
أساس القانون الخاص
بالعودة إلى المظاهر التي تميّز بها القانون وهي المظاهر التي أوضحناها في الفصل الأول من هذه الدراسة، وجدنا بأن هذه المظاهر كلها تجمع على إحالات لجهة أخرى غير المشرّع في عملية تحديد ماهية النص القانوني وتفسيره واستظهار ما ينقصه لغايات تطبيقه.
فقد وجدنا بأن القانون الخاص يتميّز بأنه يسمح بالتوسّع في تفسيره(35) على خلاف ما هو متّبع في القانون بشكل عام، وقد وجدنا أيضاً بأن القانون الخاص يسمح للقاضي بوضع حكم لم يتطرّق المشرّع للبحث فيه من السابق وذلك عن طريق القياس الذي يعطي حكم حالة منصوص عليها لأخرى غير منصوص عليها لاتحاد العلة بينهما(36). وقد وجدنا أيضاً بان المشرّع يترك تفاصيل حكم مسألة معينة ويحيل الأمر إلى العُرف باعتبار العُرف أقدر على حكم المسألة مع أن العُرف من صنع الأفراد في المجتمع وليس من صنع السلطة التشريعية وكان ذلك بمناسبة ما يسمى بالعرف المعاون للتشريع(37)، كذلك وجدنا المشرّع يضع بعض النصوص في القانون الخاص لحكم مسألة على سبيل الاحتياط بحيث يترك أمر حكم المسألة لاتفاق الأفراد في المجتمع باعتبارهم أقدر على وضع الحكم ولا تطبّق القاعدة بما تتضمّنه من حكم إلا إذا لم يتّفق الأفراد على حكم تعاملهم بطريقتهم بمعنى الاتفاق على ما يخالف حكم القاعدة القانونية، وهي القواعد المعروفة باسم القواعد المكملة(38). ومن خلال تتبّع المراحل التي مر بها مبدأ سلطان الإرادة نجد أن القانون يقدّم ما يرضاه الأفراد في تعاملهم عمّا يراه المشرّع عندما يضمنوا اتفاقاتهم أحكاماً غير التي وضعها المشرّع فيما يخص العقود(39).
هذه المظاهر للقانون الخاص أبرزت لنا أن القانون يحل إرادات الأفراد في المجتمع لتحل محله في جانب ممّا يضطلع به القانون، وكأن صناعة القانون الخاص قد اقتسمها الأفراد مع المشرّّع الذي هو السلطة التي تضع القانون، فما هي حقيقة القانون الخاص؟
سبق الفقه إلى استشعار هذه الملاحظة وتحسّسها ومنذ فترة ليست بالقصيرة، فأخذ الفقهاء(40) يضعون تعريفات للقانون الخاص يفسّر الوضع المميّز للقانون الخاص الذي أشرنا إليه ويعرّف التشريع في مجال القانون الخاص بقوله ” إنه محاولات تجريبية كاشفة لقانون سائد في التعامل في ظل حُسن النية، قانون يتركز في طبيعة الأشياء، متأصل فيها وفي النفوس البشرية وتتعامل به، وهذا القانون ذاتي (نفسي) مطلق، تحديده بماديّات شيء صعب نوعاً ما، لذلك يجب وضع قاعدة القانون الخاص في مجال الاختبار لمطابقتها لهذا القانون” ومما يؤكد مقولة أن القانون الخاص ليس إلا قواعد يبحث عنها من خلال التجربة للعثور على مطابقة القاعدة لما يريد مجموع الأفراد أن يكون عليهم تعاملهم، تلك الاتجاهات في تفسير أساس القانون، فلقد ورد عند أنصار المدرسة الاجتماعية في تفسير أساس القانون ما يفيد بأنهم لا يقفون عند المصدر الرسمي أو المباشر، وإنما يركّزون الاهتمام على المصدر المادّي والفعلي الذي يحرّك المصدر الرسمي(41). ويضيف أنصار المدرسة الاجتماعية بأنّ مصدر القانون يجب البحث عنه في الوسط الاجتماعي نفسه أي في عناصر الواقع التي تتحرّك وتفرض واقعاً معيناً(42). ويضيف أنصار المدرسة التاريخية بأن مصادر القانون الرسمية لا تزيد عن كونها وسائل لكشف القواعد الموجودة سلفاً والتي هي وليدة التقاليد، وهذا يبرر ما تنادى به هذه المدرسة من أولوية العُرف كمصدر للقانون، وذلك لأنه وسيلة مباشرة للكشف عن القاعدة القانونية الحقيقية، أما التشريع فهو تعبير غير مباشر عن قاعدة القانون(43).
فبالإضافة لما قاله جونو من أن القانون الخاص هو عبارة عن قواعد تجريبية بمعنى تتحرّى إرادة جميع أفراد المجتمع لما يريدون أن يكون عليهم تعاملهم على الوجه الصحيح. فقد تأيدت هذه الفكرة من قِبَل الفقه وبالذات أنصار المدرسة الاجتماعية التي تُحيل القانون من حيث مصدره الأساسي وهو التقاليد الاجتماعية واعتبار التشريع تعبير غير مباشر عن القانون.
ونحن نرى أن ما يقوله أنصار المدرسة الاجتماعية أكثر انطباقاً على القانون الخاص من انطباقه على القانون بكل عام بسبب المؤيّدات الكثيرة التي ذكرناها سابقاً والتي تجعل الأفراد يتقاسمون وضع قاعدة القانون الخاص مع السلطة التي هي المشرّع. بذلك يتحدّد لنا أساس القانون الخاص وما يلقي الضوء على ماهيته، فننتقل تبعاً ذلك فيما يلي لبيان تعريف القانون الخاص.
المطلب الثاني
تعريف القانون الخاص
نستعين على تعريف القانون بحقيقتين استخلصناهما من هذه الدراسة وجرت الإشارة إليهما في المطلب السابق. الحقيقة الأولى هي أن القانون الخاص يرجع مصدره الأساسي إلى نفوس مجموع الافراد في المجتمع على شكل وقواعد فحواها الأحكام غير المختلف عليها فيما بينهم والتي يريدون أن يكون عليها تعاملهم. والحقيقة الثانية هي ما أكده الفقيه جونو بما لا يتعارض مع ما قالت به مدارس فقيهة عريقة(44) في أصل القانون. حيث اعتبر جونو أن القانون الخاص الذي يصدر عن المشرّع ليس إلا قواعد تجريبية توضع على سبيل التجريب لرؤية مدى مطابقتها للقاعدة الأصلية للقانون الخاص والتي يتعرّف عليها من خلال تعامل الأفراد، فإما أن ثبتت صحة القاعدة أو يظهر قصورها مع مرور الزمن(45)، وقد أكّد هذا القول أنصار المدرسة الاجتماعية الذين قالوا عن التشريع بصفة عامة بأنه تعبير غير مباشر عن قاعدة القانون(46).
والحقيقة إننا نبحث هنا عن تعريف للقانون الخاص بشكل عام ولذلك سنتجاوز عن تعريف الشتريع في مجال القانون الخاص الذي قال به جونو لأنّ القانون الخاص لا يقتصر من حيث مصدره على التشريع وإن كان تعريف جونو للتشريع في مجال القانون الخاص يهدي لحقيقة القانون الخاص التي سنوضحها على شكل تعريف، ولذلك سنعمل على تحرّي الدّقة ليشمل هذا التعريف القانون الخاص ككل وأياً كان مصدر قواعده، وعليه يمكن القول بأن القانون الخاص حقيقة هو “مجموعة القواعد غير المختلف عليها والتي تستقر في نفوس الأفراد في المجتمع ويريدون أن يكون تعاملهم مبنياً عليها وتتحوّل إلى قواعد قانونية بمجرد اعتبارها نتاجاً لأحد مصادر القانون المختلفة”. وهذا التعريف يقود إلى نتائج ليست بالقليلة تجعل طبيعة القانون الخاص مختلفة عمّا هو مستقر تقليدياً عن القانون بشكل عام ومنه القانون الخاص، وهذه الطبيعة وهذا المفهوم للقانون الخاص يؤثران بشكل جوهري على التعامل مع القانون الخاص من حيث طريقة وضعه أو التعرف على قواعده والتعامل معها، وهذا ما سيكون موضوع بحثنا في المبحث التالي .
المبحث الثاني
طبيعة القانون الخاص
سنفرد لهذا المبحث مطلبان الأول نحدد فيه طبيعة القانون الخاص تبعاً للتعريف السباق، ثم نستعرض آثار مفهوم القانون الخاص وطبيعته .
المطب الأول
طبيعة القانون الخاص
وفقاً للتعريف السابق فإن القانون الخاص حقيقةً يعتبر قانوناً من صُنع أفراد المجتمع باعتباره أحكاماً يريدون هم أن يكون تعاملهم مبنياً عليها، وبناءً عليه فإن هذه الأفكار الموجودة على شكل أحكام في أذهان أفراد المجتمع تتأثّر بثقافتهم وتقدّم الزمان الذي يؤثّر في تطوّر تعاملهم ولذلك هو قانون متطور لا يكمن الإحاطة به ورصده بنصوص تشريعية لمدة زمنية طويلة. وعليه فإن عملية التشريع في مجال القانون الخاص تعتبر غير معبّرة حقيقة عن قواعد القانون الخاص وتؤدي به إلى الجمود والتخلف عن حكم تعاملات أفراد المجتمع مع بعضهم بعضاً. وأكثر من ذلك فإنّ هذه القواعد الموجودة في نفوس الأفراد تعتبر غير محدّدة بنصوص وقد لا يعرفها الكثير من أفراد المجتمع ولكنها لا تختلف عمّا هو موجود في أنفسهم من رغبة لما يجب أن يكونو عليه تعاملهم لو وجه إليهم السؤال للإفصاح عن هذه الرغبة، ويحكم تشابه القاعدة ووحدتها في نفوس جميع أفراد المجتمع أنها من نتائج ثقافتهم المتجانسة ووليدة حاجاتهم المتشابهة بالنسبة لتعامل معين. وعليه فإن هذا القانون سيكون مختلفاً من أمّة إلى أخرى باختلاف الثقافات واختلاف سبل الحياة ووسائلها من حيث مدى التقدّم والتطوّر الذي يتفاوت من مجتمع أو من أمّة إلى أخرى، ويعزّز ما تقول به قاعدة تغيّر الأحكام تبعاً لتقدّم الزمان المعروفة، وتخلف التشريع عن حكم تعامل الناس على أرض الواقع بعد مرور الزمن عليه، ويؤكد ذلك تغيّر الأعراف من منطقة إلى أخرى وتعدّدها كلّما اختلف الناس في ثقافاتهم واختلاف مجتمعاتهم عن بعضها بعضاً. وعليه فلا بد من تقرير عدم إمكانية توحيد القانون الخاص عالمياً إلا إذا أردنا أن نضع قانوناً غير القانون الخاص حقيقية. وبناءً على هذا المفهوم للقانون الخاص أيضاً يمكن القول بأنه لا يمكن التعرّف عليه حقيقة إلا من خلال معرفة الأحكام من قبل مجموع الناس دون اللجوء إلى النيابة عنهم لوضع هذا القانون وإلا فإننا نعود إلى مسالة القواعد التي توضع على سبيل التجريب لرؤية مدى مطابقتها للقانون الخاص الحقيقي من خلال تعامل الناس وثبات صلاحية الحكم أو قصوره عن أداء المطلوب.
المطلب الثاني
آثار مفهوم وطبيعة القانون الخاص
تبعاً للمفهوم والطبيعة التي ذكرنا للقانون الخاص، فلا بد من الإشارة إلى أن حصر القانون الخاص في نصوص تشريعية تحتاج لثباتها مدة زمنية طويلة يعتبر عملية غير مجدية من حيث موافقة هذه النصوص لحقيقة القانون الخاص، لكن العقبة التي تبرز أمام مقولة الاستغناء عن النصوص التشريعية هي عقبة العنت الذي سيواجه القاضي في العثور على حكم القانون الخاص لمسألة، الأمر الذي يتطلب حلاً توفيقياً أمام هاتين الحقيقتين المتعارضتين، والذي سيتبادر إلى الذهن على الفور هو الحل التشريعي، لكن التشريع حتى يوافق نصوص القانون الخاص لا بد من اتّباع وسيلة غير تلك التقليدية في عملية التشريع. فلا بد من البحث عن النص قبل تشريعه من مصادره الحقيقية وهم أفراد المجتمع فقد تطورت وسائل الاتصال وتقدمت البشرية وتكاد الأميّة تنتهي بعد حين فلا بد من الرجوع إلى الناس ككل في عملية وضع النص التشريعي في إطار القانون الخاص. وأقرب مثال واقعي لما نقول به هو طريقة وضع القانون المدني الألماني، فقد عملت اللجنة التي قامت على إعداد مشروعه على مدى خمسة وعشرين عاماً على الاتصال ومراسلة المختصين والمهتمين في كل مجال وحكم من الأحكام في قطاعات الشعب المختلفة وكانت اللجنة تستشير كل من تراسله بخصوص كل نص حتى استطاعت الحصول على الحلول التي لا يختلف عليها مجموع من اتصلت بهم ولذلك صدر القانون المدني الألماني والذي قارب أن يمضي عليه قرن من الزمان وهو لا يزال من أفضل القوانين المدنية في العالم. وحتى تكون النصوص التي يمكن أن تشرع وهي ليست إلا تجريبية قريبة من القانون الخاص الأصلي فلا بد من اللجوء إلى القواعد العامة أو صنع النظريات العامة القادرة على الاستمرار زمناً لا بأس به على أن تترك التفاصيل لاستنباطها من قبل القضاء وتلعب المحاكم العليا في ذلك الدور الأكبر في تفسير النصوص وخلق المبادئ القانونية.
ولا بد أيضاً من الاعتراف بكل جرأة بأنّ التشريع في مجال القانون الخاص هو بمثابة نصوص تجريبية وبالتالي إعطاء المحاكم قدراً أكبر من الحرية في التعامل مع القانون الخاص والتوسّع في تفسيره، ولا بد أيضاً من تطوير وسائل التفسير لدى القاضي واستغلال التقدّم العلمي ووسائل التكنولوجيا الحديثة للحصول على آراء أكبر عدد ممكن من الناس حول تفسير نص معين في القانون الخاص، وما المانع من إنشاء مجالس محلية واسعة من الأفراد المقيمين ضمن دائرة المحكمة مهمة هذه المجالس إعطاء تفسير للاستئناس به لنصوص القانون الخاص التي تطرح المحاكم السؤال عنها على هذه المجالس. وفكرة الاستعانة بأفراد المجتمع ليست غريبة على القضاء في العالم ومثالها نظام المحلّفين المعوّل به في دول غريبة، مع أن دور المحلّفين أخطر فهو في إطار القانون العام ويتولى الحكم في موضوع القضية وليس مثل ما نقول به وهو إعطاء التفسير لغايات الاستئناس والاسترشاد.
هذا هو القانون الخاص أحكام يرى الناس بمجموعهم أن تعاملهم يجب أن يكون على أساسها وهو ذاتي نفسي لا يمكن حصره في نصوص على وجه الدقة، لذلك يبقى التعامل معه إن أمكن الحصول عليه دون تشريعه في نصوص هو الأفضل، فإن وصلنا إلى ذلك في يوم من الأيام نستطيع القول بأن القاضي عندها سيطبّق القانون الخاص الحقيقي وليس التجريبي .
ولا بد من الاعتراف هنا بأن مقولة أن القانون الخاص هو عبارة عن مجموعة القواعد القانونية التي تحكم العلاقات التي لا تدخل الدولة طرفاً فيها باعتبارها صاحبة سلطة وسيادة وهو تعريف غير دقيق للقانون الخاص وأنه لا يزيد على كونه تكرار لتعريف القانون العام مع تقرير أن القانون الخاص هو غير ذلك. بمعنى أن هذا التعريف لا يزيد على كونه بمثابة القول بأن القانون الخاص هو كل ما عدا القانون العام من قواعد قانونية.
الخاتمة
لقد لفتت هذه الدراسة النظر إلى المفاهيم التقليدية التي استقرّت في فقه القانون والتي استقرّت بشكل يحبس عملية التجديد في مجال العلوم القانونية. فلا بد من محاولة الحثّ على الدراسات المعمّقة التي يمكن لها أن تطلق أسر نظريات القانون من عقالها الذي تسبّبت به المفاهيم التقليدية وعدم محاولة الخروج عليها.
هذا وقد مرّ على الأسلوب التقليدي الذي حكم صنعه القانون زمناً ليس بالذي يستهان به وعلينا أن لا ننظر إلى أن كل ما هو تقليدي مقدّس فلا بد من مواكبة العصر ووسائل التكنولوجيا وتقدّم التعليم والاستعانة بكل ذلك لتحديث صنعة القانون التقليدية التي تتمثّل في وضع النص من قِبَل المشرّع وتفسيره تبعاً لقواعد ثابتة من قِِبَل القاضي وبالتالي تطبيقه، فإذا وجدت الوسيلة لضمان الحصول على قاعدة قانونية بطريقة أفضل تدفع للتقدّم على طريق العدالة فلماذا لا يكون ذلك؟ ولا بد من التوقف قليلاً لتقرير حقيقة لم يعد هنالك مجالاً للشكل فيها وهي أنه لا يمكن اعتبار كل الحشد من القواعد القانونية التي توضع في القانون المدني وغيرها من فروع القانون الخاص وهي قواعد قانون خاص بالمعنى الحقيقي للقانون الخاص ولا حتى بالمعنى التقليدي للقانون الخاص، وقد آن الأوان للتحرّر من عقال الروتين الذي يجري تدريس القانون في كليات الحقوق على أساسه.
ولا بد من الاعتراف أيضاً أن التعريف الذي نطلقه تقليدياً على القانون بالمعنى الاصطلاحي وهو مجموعة القواعد التي تحكم سلوك الأفراد في المجتمع ويجبروا على احترامها بالقوة إذا لزم الأمر، لم يعد (هذا التعريف) يناسب القانون الخاص، لأن هذا التعريف التقليدي يحمل معنى وود القواعد الواضحة المحدّدة في ماديّات كل النصوص ويشعر بأنه صدر عن سلطة وكأنّه غريب على الأفراد ولذلك يجبروا على احترامه بالقوة إذا لزم الأمر. فرغم إمكانية التجاوز عن الدقة للقول بأنّ هذا التعريف يمكن أن يشمل كل القانون، فلا بد من تحرّي الدقة أكثر لأن التعريف يعني بيان ماهية الشيء وذلك ينعكس على طريقة التعامل مع هذا الشيء.
الهوامش
1. د. توفيق حسن فرج، المدخل للعلوم القانوينة، ص 391، مطبعة عيتاني الجديدة، ط4، 1974؛ وقرب ذلك أيضاً د. عبد المنعم فرج الصدة، أصول القانون، ص 273، دار النهضة العربية، ط1978؛ د. عبد المنعم البدراوي، مبادئ القانون، ص 140، دار النهضة العربية، ط1985؛ د. عباس الصراف ود. جورج حزبون، المدخل إلى علم القانون، ص 58، مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع، ص 1991؛ د. رأفت محمد حماد، المدخل لدراسة العلوم القانونية، ص 241، دار النهضة العربية، ط 1986؛ د. محمد علي عمران، مبادئ العلوم القانونية، ص 179، مكتبة عين شمس، طـ بلا تاريخ؛ د. جعفر الفضلي و د. منذر الفضل، المدخل للعلوم القانونية، ص 50، جامعة الموصل، د. عماد الدين الشربيني، المبادئ العامة للقانون والالتزام، ص 163، مكتبة عين شمس، ط1973.
2. د. سلميان مرقس، الوافي في شرح القانون المدني، الجزء الأول المدخل للعلوم القانونية، ص 329، إيريني للطباعة، 1987.
3. د. توفيق فرج، المرجع السابق، ص 391.
4. د. توفيق فرج، المرجع السابق، ص 391.
5. د. أنور سلطان، المرجع السابق، ص 58، وقرب ذلك د. توفيق فرج، المرجع السابق، ص 424؛ د. عبد المنعم البدراوي، المرجع السابق، 148.
6. ذلك هو المعنى الذي تنصرف إليه كلمة (Interpres) الوسيط، وتسمى العملية التي يقوم بها الوسيط وهي المطابقة بين القانون والواقع (Interpretation) وتعطي في اللغة العربية معنى هو التفسير (مشار في هذا المعنى إلى “ماي” ص 29 هامش 2 من ص9) عند د. توفيق حسن فرج، القانون الروماني، ص 46، الدار الجامعية للطباعة والنشر، ط1985.
7. د. توفيق فرج، المرجع السابق، ص 46.
8. دليل أن التفسير هو للغير بالنسبة لواضع النص أو المتكلم لإصطلاح الفرنسية لمعنى التفسير هو (Interpretation) فالجزء الأول من الكلمة (Inter) بمعنى المتصل أو المتدخل من الخارج. وفي تأكيد معنى أن اللغة السليمة والبيان الدقيق لا يحتاج إلى التفسير وإن الفهم يتأتى بمقدار البيان ما يقوله أبي جعفر محمد ابن جرير الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن، المجلد الأول، ص 5 ، 6، دار المعرفة،بيروت، لبنان، ط1987، حيث ورد عنه بعد أن بيّن فضل البيان والتباين منازل درجات الكلام قوله “كان الله تعالى ذكره وتقدست اسماؤه أحكم الحكماء وأحلم الحلماء كان معلوماً أن أبين البيان بيانه وأفضل الكلام كلامه وإن قدر فضل بيانه جل ذكره على بيان جميع خلقه كفضله على جميع عباده فإن كان ذلك كذلك وكان غير مبين منا على نفسه من خاطب غيره بما لا يفهمه عنه المخاطب كان معلوماً أنه غير جائز أن يخاطب جل ذكره أحداً من خلقه إلا بما يفهمه المخاطب ولا يرسل إلى أحد منهم رسولاً إلا بلسان وبيان يفهمه المرسل إليه لأن المخاطب والمرسل إليه إن لم يفهم ما خوطب به وأرسل به إليه فحاله قبل الخطاب وقبل مجيء الرسالة إليه وبعده سواء إذا لم يفده الخطاب والرسالة شيئاً كان به قبل ذلك جاهلاً والله جل ذكره يتعالى عن أن يخاطب خطاباً أو يرسل رسالة لا توجد فائدة لمن خوطب أو أرسلت إليه لأن ذلك فينا من فعل أهل النقص والعبث والله تعالى عن ذلك تعالى ولذلك قال جل ثناؤه في محكم تنزيله وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم وقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون فغير جائز أن يكون به مهتدياً من كان بما يهدي إليه جاهلاً فقد تبين إذا بما عليه دللنا من الدلالة أن كل رسول لله جل ثناؤه أرسله إلى قوم فإنما أرسله بلسان من أرسله وكل كتاب أنزله على نبي ورسالة أرسلها إلى أمة فإنما أنزلت بلسان من أنزله أو أرسله إليه واتضح بما قلنا ووصفنا أن كتاب الله الذي أنزله على نبينا محمد صلى تالله عليه وسلم بلسان محمد صلى الله عليه وسلم وإذا كان لسان محمد صلى الله عليه وسلم عربياً فبين أن القرآن عربي وبذلك ايضاً نطق محكم تنزيل ربنا فقال جل ذكره إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون وقال وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين وإذا كان واضحة صحة ما قلنا بما عليه استشهدنا من الشواهد ودللنا عليه من الدلائل فالواجب أن تكون معاني كتاب الله المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لمعاني كلام العرب موافقة وظاهرة لظاهر كلامها ملائماً”. ودليل أن اتفاق الكلام والبيان إلى درجة الكمال يضمن فهم من يوجه إليه الكلام ما قاله العلامة نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري، تفسير غرائب القرآن وغرائب الفرقان، بهامش تفسير الطبري، المرجع السابق، المجلد الأول، ص4. والذي ورد فيه “من المعلوم عند ذوي الإفهام أن كلام الملوك ملوك الكلام وبقدر البون بين الواجب الذات والممكن الذات يوجد التفاوت بين كلام الله تعالى وكلام المخلوقات ولا سيما إذا وقع في معرض التحدي الذي يظهر النبي هنالك من المتنبي وهذا شأن القرآن العظيم والفرقان الكريم الذي أخرس شقائق المناطق قضهم بقضيضهم وأوقر مسامع المصاقع فيما بين أوجهم وحضيضهم حتى اختاروا المقارعة بالسيوف على المعارضة بالحروف والمقاتلة بالأسنة على المقاولة بالألسنة والملاكمة باللهاذم على المكالمة اللهاذم ومبارزة الأقران على الإتيان بأقصر سورة من القرآن قال الله تعالى قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله، وقال تعالى أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وقال تعالى وإن كنتم في ريب مما نزل على عبدنا فأتو بسورة من مثله”. وزاد النيسابوري بوصف القرآن وقال ” هو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة”. والحاجة إلى تفسير القرآن في الوقت الحاضر ليس مرادها عدم دقة لغة خطاب القرآن وإنما دقة هذه اللغة المتناهية، وعدم فهم الناس في هذا الزمان للغة العرب وبعدهم عن هذه اللغة. فتنعكس الآية هنا بالنسبة للحاجة إلى تفسير القرآن حيث يصبح العيب في لغة الناس المخاطبين وليس في اللغة التي استخدمها القرآن .
9. د. أنور سلطان، المرجع السابق، ص 85 .
10. الأستاذ مصطفى الزرقاء، المدخل الفقهي العام، الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد، المجلد الأول، ص 101-102، دار الفكر، ط67-1968، حيث ورد عنده تحت عنوان تغير الزمان “من أسباب تبديل الأحكام الاجتهادية في فقه الشريعة الإٍسلامية اختلاف الأوضاع والأحوال والوسائل الزمنية عما كانت عليه في السابق حينما قررت تلك الأحكام، وذلك إما لتبدل الوسائل الحيوية كحدوث الكهرباء والمعامل الآلية التي غيّرت مجرى الحياة كلها في عصرنا الحاضر راما لفساد طارئ على أخلاق الناس العامة. وقد قرر الفقهاء في هذا المقام تلك القاعدة الشهرية القائلة “لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان”.
11. ولأجل هذه المعضلة كان القرآن الكريم كلام الله تعالى متقناً إلى درجة الكمال ولأجل ذلك كان معجزة للعرب عجزوا عن الإتيان بآية واحدة مثله. ودليل عجز العرب هذا أن البيان والكلام تتفاوت فيه القدرات ولا تصل إلى الكمال إلا في كلام الله سبحانه وتعالى، أنظر هامش (8) صفحة (7) من هذه الدراسة.
12. ورد النص على تحديد مذهب التفسير في القانون المدني المصري في المادة 1/1 من القانون رقم 131 لسنة 1948 التي نصت على أن (تسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها أو في فحواها”. وكذلك ورد النص على تحديد مذهب التفسير في القانون المدني الأردني في المادة 3 حيث نصت على أنه “يرجع في فهم النص وتفسيره وتأويله ودلالته إلى قواعد أصول الفقه الإسلامي”. وقواعد التفسير في الفقه الإسلامي ليست بعيدة عما يريد عنه الفقه القانوني في التفسير بل إلى القواعد التي يقول بها الفقه القانوني العربي المعاصر ترجع في أصلها إلى الفقه الإسلامي الذي أجاد في هذا المجال إلى حد بعيد جداً.
13. د. محمد صبحي نجم، شرح قانون العقوبات، القسم العام، ص 16، مكتبة دار الثقافة والتوزيع، ط1991، ود. توفيق فرج، المرجع السابق، ص 414.
14. د. عبد المنعم فرج الصدة، المرجع السابق، المدخل للعلوم القانونية، ص 304.
15. د. عبد المنعم فرج الصدة، المرجع السابق، ص 276-277.
16. الأستاذ مصطفى الزرقاء، المرجع السابق، ص 130 .
17. د. عبد المنعم فرج الصدة، المرجع السابق، ص279-281 .
18. الأستاذ مصطفى الزرقاء، المرجع السابق، ص 75.
19. د. توفيق حسن فرج، المرجع السابق، ص 162-163.
20. الأستاذ مصطفى الزرقاء، المرجع السابق، ص67-75.
21. من أبرز القوانين التي ظهرت إحالة التشريع فيها على العرف، القانون المدني الفرنسي، حيث ورد فيه إحالات في عدد من النصوص المتعلقة بحق الملكية العقارية وحقوق الارتفاق (المواد 645، 663 ، 671، 674). كذلك وردت إحالات إلى قواعد العرف والعادات للاستعانة بها في تفسير نية المتعاقدين، من ذلك المادة (135) مدني فرنسي، وكذلك المادتان (1159 و 1160) اللتان تقضيان بتفسير العبارات الغامضة في العقود طبقا للعادات المتبعة.والمادة (95) مدني مصري التي تحيل على العرف عند الاختلاف على المسائل التفصيلية في العقد والمادة (132) مدني مصري التي تحيل على العرف إذا لم يتفق على درجة الشيء المتعاقد عليه من حيث جودته. وكذلك المادة (239/2) مدني أردني التي تحيل على العرف للتعرف على نية المتعاقدين.
22. كما في التقنين المدني السويسري في مادته الأولى، والتقنين المدني الحديث للجمهورية الصينية في مادته الأولى، كذلك المدني الإسباني في المادة السادسة منه (مشار إليه في هامش 55 من ص 402، د. سليمان مرقس، المرجع السابق).
23. ومثال ذلك العرف المتعلق بتسمية الزوجة باسم زوجها، فقد نشأ هذا العرف واستقر في العمل دون الأستناد إلى نص في القانون الفرنسي، حتى رأى المشرع أن يتدخل بقانون 6 فبراير 1893 الذي نص على استرداد الزوجة لاسم أسرتها في حالة الطلاق. وكذلك العرف المنظم لبعض العلاقات المهنية كتلك التي تلزم خدم الفنادق بتوزيع ما يدفعه الزبائن لهم من إكراميات بالتساوي بينهم” (د. سليمان مرقس، المرجع السابق، ص 405-406).
24. جيني في طريقة التفسير ج1، ص 390-391، نبدة؛ ليبران، ص 459، نبذة (430) وما بعدها (مشار إليهما في “د. سليمان مرقس، المرجع السابق، ص 405”).
25. د. أنور سلطان، المرجع السابق، ص36.
26. المادة 456 مدني مصري والمادة 526 مدني أردني.
27. د. سليمان مرقس، المرجع الاسبق، ص 124.
28. د. عبد المنعم فرج الصدة، المرجع السابق، ص 48-49 .
29. المادة 134 مدني فرنسي، والمادة 147 مصري، والمادة 221/1/موجبات وعقود لبناني، وكذلك المادة 87 مدني أردني.
30. د. عبد المنعم فرج الصدة، المرجع السابق، ص 49؛ الأستاذ السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني، نظرية الالتزام بوجه عام، ج1، دار إحياء التراث العربي، ط بلا تاريخ، ص 142.
31. د. عبد المنعم فرج الصدة، المرجع السابق، ص 50-51 .
32. د. عبد المنعم فرج الصدة، المرجع السابق، ص 52؛ الأستاذ السنهوري، المرجع السابق، ص 47-148.
33. الأستاذ السنهوري، المرجع السابق، ص148.
34. أنظر صفحة (16) من هذه الدراسة.
35. أنظر صفحة (19) من هذه الدراسة.
36. أنظر صفحة (21) من هذه الدراسة.
37. أنظر صفحة (21) من هذه الدراسة.
38. أنظر صفحة (22) من هذه الدراسة.
39. Gounot-L’autnomie de la volonte en droit prive-ed 1912. Arthear Rosseau, p. 450.etc.
40. د. نعمان خليل جمعة، دروس في المدخل للعلوم القانونية، ط1978، دار النهضة العربية،
ص94؛ د. توفيق فرج، المرجع السابق، ص 116-118.
41. د. نعمان جمعة، المرجع السابق، ص 95.
42. د. نعمان جمعة، المرجع السابق، ص 88؛ د. توفيق فرج، المرجع السابق، ص 110-116.
43. هامش 43 ص (25) من هذه الدراسة.
44. هامش 40 ص (25) من هذه الدراسة.
45. هامش 43 ص (25) من هذه الدراسة.
المراجع
1. أبي جعفر محمد ابن جرير الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن، المجلد الأول، دار المعرفة، بيروت، لبنان، ط1987.
2. د. أنور سلطان، المبادئ القانونية العامة، دار النهضة العربية، ط1974.
3. د. جعفر الفضلي، ود. منذر الفضل، المدخل للعلوم القانونية، جامعة الموصل، ط1987 .
4. Gounot-L’autonomie de la volonte en droit prive-ed 1912. Artheeur Rosseau.
5. د. محمد علي عمران، مبادئ العلوم القانونية، مكتبة عين شمس، ط بلا تاريخ.
6. الأستاذ مصطفى الزرقاء، المدخل الفقهي العام، الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد، المجلد الأول، دار الفكر، ط 67-1968.
7. د. محمد صبحي نجم، شرح قانون العقوبات، القسم العام، ص16، مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع، ط1991.
8. د. نعمان خليل جمعة، دروس في المدخل للعلوم التقانونية، دار النهضة العربية، ط1978.
9. نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري، تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان، بهامش تفسير الطبري، المجلد الأول.
10. د. سليمان مرقس، الوافي في شرح القانون المدني، الجزء الأول، المدخل للعلوم القانونية، إيريني للطباعة، ط1987 .
11. د. عبد المنعم فرج الصدة، أصول القانون، دار النهضة العربية، ط 1978 .
12. د. عبد المنعم البدراوي، مبادئ القانون، دار النهضة العربية، 1985 .
13. د. عباس الصراف، و د. جورج حزبون، المدخل إلى علم القانون، مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع، ط1991 .
14. د. عماد الدين الشربيني، المبادئ العامة للقانون والالتزام، مكتبة عين شمس، ط 1973 .
15. الأستاذ عبد الرزاق السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني، نظرية الالتزام بوجه عام، ج1، دار إحياء التراث العربي، ط بلا تاريخ.
16. د. رأفت محمد حماد، المدخل لدراسة العلوم القانونية، مكتبة عين شمس، ط بلا تاريخ.
17. د. توفيق حسن فراج، المدخل للعلوم القانونية، مطبعة عيتاني الجديدة، ط 1974 .
18. د. توفيق فراج، القانون الروماني الدار الجامعية للطباعة والنشر، ط 1985.