بحث عن دور نظام الوقف في تحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية بسوريا.
هدف هذا البحث هو التفصيل قدر المستطاع في العلاقة البنيوية القوية التي تربط بين الوقف كنظامٍ تشريعيٍ عمليٍ وبين مقاصد الشريعة الإسلامية العامّة ، ومقاصدها الخاصّة به وغاياتها من تشريعه ، من حيث الأهداف التي ينشد هذا النظام تحقيقها لتكريس مفهوم الارتباط الحيوي بينه وبين مقاصد الشريعة وغاياتها ، وكذلك من حيث المقرّرات والقواعد الفقهية التي اقتُبِست من روح الشريعة وأصولها لتحديد الأحكام الشرعية المناسبة التي تَنْظُم الوقف وتحافظ على جوهر مضمونه وهو تحقيقه للمصلحة التي قُيّض له أن يؤدّيها .
وسنحاول أن نسلك من أجل تحقيق هذا الهدف الذي نتوخّاه منهجاً علمياً وأسلوباً عملياً يعتمد على العرض المبسّط للأفكار والمواضيع الحرية بالبحث ، مع شرحٍ موجَزٍ أو مفصّلٍ لها حسب مقتضيات كلّ فكرةٍ أو موضوعٍ أو ناحيةٍ نتطرّق إليها ، مسترشدين بمجموعةٍ من المراجع التي حاولنا أن تتراوح من حيث قِدمها وحداثتها ، ومن حيث تشعّب مواضيعها وتنوّع أفكار ومصادر مؤلّفيها ، فتراوحت هذه المراجع بين أمّهات الكتب الفقهية المعروفة وبين بضع مقالاتٍ قصيرةٍ أو أبحاثٍ وقفيةٍ صغيرةٍ لكتّاب ومؤلّفين معاصرين ، باحثين عن المعلومة المفيدة حيث وجدناها ، عسى أن نُفيد من هذا التراوح والتشعّب والتنوّع في الزمن والموضوع والفكرة ، كي نستعرض في بحثنا هذا ما اختلف في أمور الوقف وشؤونه وأحواله من مستجدّاتٍ في ظلّ تطوّر البحث الفقهي المتواصل في فقه المقاصد ، ونموّ الاعتقاد وتوجّه الرُؤى في العصر الحديث إلى ملاحظة هذا الارتباط الوثيق بين نظام الوقف وبين المقاصد العامّة لشريعة الإسلام . وهو ما أدّى إلى جنوح العديد من المؤلّفين في هذا المجال إلى التمسّك بأصول المقاصد العامّة للشريعة والاعتماد عليها في تأصيل قواعد الوقف وأحكامه ، خاصّةً مع مرور الزمن الذي حتّم تطوّر وتغيّر ظروف حياة الناس وأنشطتهم ومعاملاتهم ، فانعكس ذلك على نظام الوقف أيضاً بسبب طبيعته الإنسانية والعملية ، فاقتضى أن يواكب الوقف هذا التطوّر ليبقى على صلةٍ بالشريعة التي شرّعته ويحقّق في ذات الوقت الأهداف المطلوب منه إنجازها في إطار مقاصد هذه الشريعة . ويمكن القول أنّ هذه الناحية هي الغرض الأهمّ الذي يتناوله موضوع هذا البحث و فحواه الحقيقية ، وهو عنوانه العريض الذي يشتمل على جملة الأفكار المعروضة فيه .
ونعتذر وعسى أن يُقبل منّا .. عن عجزٍ أصابنا في العثور على أصول مطبوعات بعض المراجع التي حاولنا الإفادة منها خلال كتابة هذا البحث ، فلم نوفَّق إلى اقتناء كثيرٍ منها بسبب قصورٍ وجدناه في مكتباتنا العامّة ومراكزنا الثقافية ، وبسبب اختلافٍ في ترتيب طباعة صفحات المراجع التي وفّقنا الله تعالى فاقتنيناها أو استعرناها أو صوّرنا صفحاتها للإفادة والاستشهاد والبحث ، ولذلك نرجو أن نُعذَر بشأن عدم ذكر أرقام صفحات مراجعنا ، فقد كان ذلك متيسّراً في بعضها ومتعذّراً في الكثير منها ، فعاملنا القسمين معاملةً واحدةً ، مع ثقتنا بمصادر النقل والبيان والشرح التي استعنّا بها ، راجين أن يكون عذرُنا في ذلك مقبولاً . ولقد قسّمنا ما اشتمل عليه البحث من محتوىً في فهرسين .. أحدهما لمواضيع البحث وقد قدّمناه في البداية ، والآخر لمراجعه وقد جعلناه في نهايته ، ولم نضع فهرساً مستقلاً لتراجم الأعلام ، بل عرّفنا عن بعضٍ منهم في هوامش الصفحات وفق ما تيسّر لنا ، ابتعاداً عن الإطالة قدر الإمكان . “دور نظام الوقف في تحقيق المقاصد العامّة للشريعة الإسلامية وغاياتها”
الفهرس : الباب الأوّل – بابٌ تمهيديٌ عن نظام الأوقاف ومقاصد الشريعة الإسلامية ويتكوّن من ثلاثة فصولٍ : الفصل الأوّل – وفيه لمحةٌ عامّةٌ عن الأوقاف ودورها في المجتمع الإسلامي الفصل الثاني – للتعريف بنظرية المقاصد العامّة للشريعة الإسلامية الفصل الثالث – عن أبعاد علاقة نظام الأوقاف بنظرية المقاصد العامّة للشريعة الإسلامية الباب الثاني – نظرية مقاصد الشريعة الإسلامية في فقه الوقف الإسلامي ويتكوّن من ثلاثة فصولٍ أيضاً : الفصل الأوّل – للتعريف بنظرية المقاصد في فقه الوقف الفصل الثاني – عن فقه الوقف وأصول ارتباطه بالمقاصد العامّة للشريعة الإسلامية الفصل الثالث – عن فقه الوقف الإسلامي بين المذهبين الحنفي والمالكي وفيه .. مدخلٌ حول أصول ضبط قواعد وأحكام الوقف ومبحثان هما : المبحث الأوّل – في مفهوم الوقف وتعريفه بين المذهبين الحنفي والمالكي أوّلاً – تعريف الوقف في المذهب الحنفي ثانياً – تعريف الوقف في المذهب المالكي المبحث الثاني – في أحكام الوقف وقواعده في المذهبين الحنفي والمالكي أوّلاً – في مشروعية الوقف وسببه والحكمة منه ثانياً – في صفة الوقف في المذهب الحنفي والمذهب المالكي ثالثاً – ركن الوقف في المذهب الحنفي ، وأركانه لدى المذهب المالكي رابعاً – محلّ الوقف لدى الأحناف والمالكيين خامساً – مركز الوقف وحكم زوال ملكه عن الواقف لدى المذهبين
الباب الثالث – شروط الواقفين ومقاصد الشريعة الإسلامية وفيه : مدخلٌ حول تأثير شروط الواقفين في طبيعة الأوقاف وثلاثة فصول : الفصل الأوّل – في الشروط العامّة للوقف الفصل الثاني – في شروط الواقفين وأهمّيتها في نظام الوقف وفيه مبحثان : المبحث الأوّل – تعريف شروط الواقفين المبحث الثاني – في أنواع الشروط التي يضعها الواقفون الفصل الثالث – أهميّة ضبط شروط الواقفين بالمقاصد العامّة للشريعة الإسلامية ، ودور ذلك في نجاح الوقف وكفاءته وفيه مبحثان : المبحث الأوّل – ضبط شروط الواقفين بمقاصد الشريعة في الاجتهاد والإفتاء المبحث الثاني – دور شروط الواقفين الشرعية في كفاءة الوقف ومدى نجاح أغراضه الباب الرابع – تحليل نموذجٍ وقفيٍ من وجهة نظر المقاصد العامّة للشريعة ويتكوّن من فصلين : الفصل الأوّل – مدخلٌ حول الواقع التشريعي للأوقاف في الجمهورية العربية السورية الفصل الثاني – لدراسة وتحليل مؤسّسةٍ وقفيةٍ خيريةٍ ” أوقاف جمعية المحدّث الأكبر الشيخ بدر الدين الحَسَني نموذجاً ” وفيه مبحثان : المبحث الأوّل – لمحةٌ عن تاريخ الجمعية ومنشآتها ، وواقعها الشرعي والقانوني المبحث الثاني – تحليل الواقع العملي لجمعية الشيخ بدر الدين الحَسَني من وجهة نظر المقاصد العامّة للشريعة الإسلامية الباب الخامس – نظرية المقاصد ودورها في رفع كفاءة الأوقاف المعاصرة وفيه فصلان : الفصل الأوّل – في دور مقاصد الشريعة لرفع كفاءة الأوقاف ومستويات نجاحها الفصل الأخير من البحث – نتائج البحث وبعض المقترحات
الباب الأوّل :بابٌ تمهيديٌ عن نظام الأوقاف ومقاصد الشريعة الإسلامية
الفصل الأوّل – لمحةٌ عامّةٌ عن الأوقاف ودورها في المجتمع الإسلامي
يُعَدّ نظام الأوقاف من أقدم وأهمّ المؤسّسات الخيرية التي عرفتها الحضارة الإسلامية منذ بزوغها ، وأكثرها أصالةً ، وأجلّها هدفاً ، ومن أقواها فاعليةً وتأثيراً في المجتمع الإسلامي بجوانبه الاجتماعية والاقتصادية والتنموية . وذلك بما اشتمل عليه هذا النظام العريق من محتوىً إنسانيٍ بليغٍ ، ونفعٍ اجتماعيٍ واقتصاديٍ مؤكّدٍ ، وبما أدّاه من وظيفةٍ إرشاديةٍ ودعويةٍ وتعليميةٍ ، أثبتت نجاحها عبر القرون الماضية من حياة المسلمين وتاريخهم . والشريعة الإسلامية الغرّاء نظّمت أحكام وقواعد هذا النظام الإنساني الحضاري الأصيل ، لتحقيق الأهداف والغايات المنشودة منه ، كما دأب العلماء والفقهاء والحكماء من الحكّام المسلمين على العمل من أجل تعزيز دور نظام الأوقاف في تحقيق مقاصد شريعة الإسلام ، وتكريس آثاره الحميدة في جلب الخير والمنفعة لشعوب الأمّة الإسلامية . ولقد نشأ هذا النظام أصلاً من الصدقات الجارية المستمرّ عطاؤها والمرجوّ دوام نفعها إلى ما بعد موت الواقفين ، ولذلك رغّبت الشريعة الإسلامية به وحثّت عليه ، فهو من أعظم الصدقات وأكثرها بركةً وأهمّها فائدةً ، بما يحتويه من ديمومةٍ واستمرارٍ ، لأنّ الوقف باقٍ أصله ودائمةٌ منفعته . ولقد استمدّ الوقف مشروعيته من مصدري التشريع الإسلامي الرئيسيين وهما القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة ، كما أكّد هذه المشروعية ما رُوي عن الصحابة الكرام من أخبارٍ تؤكّد اعتمادهم للأوقاف وقيامهم بإنشاء الكثير منها خلال حياتهم ، وما أجمع عليه علماء المسلمون وفقهائهم عبر التاريخ الإسلامي .. . – فالله سبحانه وتعالى يحضّ على الإنفاق في سبيله ويحثّ عليه في آياتٍ كثيراتٍ من محكم تنزيله : فيقول عزّ وجلّ : ( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ) . ويقول أيضاً : ( وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) . كما ورد في القرآن الكريم قوله تعالى : ( وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمْ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً ) . كما يقول الله تعالى : ( وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ) . ويقول ربّ العالمين عزّ وجلّ : ( إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ) . ويقول أيضاً : ( وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ ) . كما يقول الله تعالى : ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) . وليس أوضح في هذه الآيات وغيرها الكثير ممّا ورد في الذكر الحكيم ، من العناية الفائقة التي أولاها القرآن لجهة تشجيع المسلمين وبكلّ الطرائق على الإنفاق في وجوه الخير الشامل لمجموعهم كأمّةٍ ، وعلى توجّه أحكامه نحو تحقيق هدفٍ عامٍّ واسعٍ من هذا الإنفاق ، عنوانه التعاون الأخوي بين أفراد المجتمع الإسلامي ، ومقصده إنشاء نظامٍ اجتماعيٍ واقتصاديٍ وسياسيٍ وفكريٍ يرتكز إلى تكافل المسلمين وتعاضدهم .
– ولقد رُوِيَ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم من السنّة القولية والفعلية كثيرٌ من الأحاديث والأعمال التي تشجّع المسلمين على طرق هذا الباب الكبير من أبواب الصدقة والبرّ والنفع العامّ : فلقد ورد أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثٍ : صدقةٍ جاريةٍ ، أو علمٍ يُنتفَعُ به ، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له ) . كما روى ابن ماجه بإسنادٍ حسنٍ من حديث ابن خزيمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله عليه الصلاة والسلام قال : ( إن ممّا يلحق المؤمن من حسناته وعمله بعد موته ، علماً علّمه ونشره ، وولداً صالحاً تركه ، أو مصحفاً ورّثه ، ومسجداً بناه ، وبيتاً لابن السبيل بناه ، ونهراً أكراه ” أو قال ” أجراه ، وصدقةً أخرجها في حال صحّته وحياته تلحقه بعد موته ) . وروى أنس بن مالكٍ رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : ( سبعٌ يجري للعبد أجرها بعد موته : من علّم علماً أو أجرى نهراً ، أو حفر بئراً أو غرس نخلاً ، أو بنى مسجداً ، أو ورَّث مصحفاً ، أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته . كما قال عليه الصلاة والسلام : ( ما من مسلمٍ يغرس غرساً إلاّ كان ما أكل منه له صدقةٌ ، وما سُرق منه له صدقةٌ ، وما أكل السبع منه فهو صدقةٌ ، وما أكلتِ الطير فهو له صدقةٌ ) . وورد في السنّة النبوية الشريفة عن عبد الله بن عمرٍ رضي الله عنهما أنّه .. ( كان لرجلٍ من بني غفارٍ عينٌ من الماء وسأله رسول الله عليه الصلاة والسلام : أتبيعُنيها بعينٍ في الجنّة ؟ فأجاب : يا رسول الله .. ليس لي ولا لعيالي غيرها ، فلمّا بلغ ذلك عثمان بن عفّان رضي الله عنه اشترى العين من الرجل .. ثمّ أتى النبي عليه الصلاة والسلام وسأله : أتجعل لي ما جعلت له ؟ فأجابه : نعم ، فقال عثمان : قد جعلتها للمسلمين ) .
– كما أجمع كاتبو الحديث الشريف ورواة السيرة وناقلو أخبار صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام ورضوان الله عليهم ، على أنّ الوقف ومنذ ذلك العهد المبكِر من عهود الإسلام كان بحقٍّ سلوكاً جماعياً واعياً ارتضاه المسلمون رضاءً غير مشوبٍ ، وكان ذلك في حياتهم بدافع عمل الخير وتقديم المعونة وتحقيق المنفعة لعمومهم على صغر مجتمعهم آنذاك ، ولكسب الأجر والثواب في الدار الآخرة ، ولقد حفل تاريخ المسلمين في عهد الرسول الكريم ( الذي ما ترك إلا بغلته البيضاء وسلاحه وأرضاً تصدّق بها ) ، بالكثير من الحوادث والمناسبات والأخبار التي رُويت عن اعتماد الصحابة لفكرة الوقف اعتماداً كبيراً ، شكّل نواةً لتطور نظام الأوقاف على مرّ عصور الإسلام وفي شتّى بقاع أقطاره . وجاء عن أنسٍ بن مالك رضي الله عنه أنـّه قال : ( لما قدِمَ رسول الله صلّى الله عليه و سلّم المدينة أمر بالمسجد وقال يا بني النجّار ثامنوني حائطكم هذا ، فقالوا : لا والله لا نطلبُ ثَمَنَه إلاّ إلى الله ) . وعن ابن عمرَ رضي الله عنهما أنّه قال : ( أصاب عمرُ بخيبرٍ أرضاً ، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال : أصبتُ أرضاً لم أُصب مالاً قط أنفس منه ، فكيف تأمرني به ؟ قال : ” إن شئت حبست أصلها ، وتصدّقت بها ” ، فتصدّق عمرُ أنّه لا يُباع أصلها ، ولا يوهَب ولا يوَرّث ، وإنّما هي صدقةٌ في الفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله والضيف وابن السبيل ، ولا جُناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ، أو يطعم صديقاً غير متموّلٍ فيه ) . وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ خالداً بن الوليد احتبس أدراعَهُ وأَعْتاده في سبيل الله . ولقد تصدّق أبو بكرٍ رضي الله عنه بداره على ولده ، وعمر بربعه عند المروة على ولده ، وعثمان برومة , وتصدّق عليٌّ بأرضه بينبع ، وتصدّق الزبير بداره بمكّة وداره بمصر وأمواله بالمدينة على ولده ، وتصدّق سعدٌ بداره بالمدينة وداره بمصر على ولده , وعمرو بن العاص بالوهط وداره بمكّة على ولده وحكيم بن حزام بداره بمكّة والمدينة على ولده فذلك كلّه إلى اليوم . وقال جابرٌ : ( لم يكن أحدٌ من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم ذو مقدرةٍ إلا وَقَفَ ، وهذا إجماعٌ منهم , فإنّ الذي قَدِر منهم على الوقف وَقَفَ واشتُهر ذلك فلم ينكره أحدٌٌٌ , فكان إجماعاً ) . وفي ذلك يقول الإمام القرطبي رحمه الله : ( إن المسألة إجماعٌ من الصحابة ، وذلك أن أبا بكرٍ ، وعمرَ، وعثمان ، وعليّاً ، وعائشة ، وفاطمة ، وعمرو بن العاص ، وابن الزبير، وجابراً ، كلّهم وقفوا الأوقاف ، وأوقافهم بمكّة والمدينة معروفةٌ مشهورةٌ ) . وإذاً .. فقد أجمع الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم فقهاء المسلمين وعلمائهم على مشروعيّة الوقف ، بل وأجمعوا على أنّه عمل خيرٍ نفعه نفعٌ محضٌ ، وجزاؤه من الله عزّ وجلّ ثوابٌ حسنٌ ، والإمام الشافعي رحمه الله يقول في ذلك : بلغني أنّ أكثر من ثمانين رجلاً من الصحابة من الأنصار وقفوا ، وقال أيضاً : إنّ أكثر دور مكّة وقفٌ . ولذلك فإنّ الوقف تشريعٌ إسلاميٌ أصيلٌ ينتمي إلى قسم القربات ، بل هو من أعظم القربات نفعاً وأكثرها ثواباً ، يستمدّ مكانته وأهمّيته من السنّة النبوية الشريفة قوليةً كانت أو فعليةً ، ومن روح شريعة الإسلام السامية ، بكلّ غاياتها النبيلة وأهدافها الحميدة ومقاصدها الرفيعة . وهو المقصود بالصدقة الجارية في الحديث الشريف ، ولا تكون الصدقة جاريةً بعد موت صاحبها إلا بوقفها على وجوه الخير والبرّ والنفع العامّ . ولقد ساهم نظام الوقف في مختلف بقاع وأرجاء العالم الإسلامي مساهمةً فاعلةً وقويّةً في حياة المسلمين عبر عصورهم ، وأدّتِ الأوقاف الإسلامية دوراً رائداً بحقٍّ في تقديم المعونة للفقراء وسدّ حاجات البسطاء والمحتاجين منهم ، وتأمين مصالحهم العامّة على تعدّدها وتنوّعها ، فمِن دورها في تلبية حاجات الناس الأساسية والضرورية خدميةً كانت أو استهلاكيةً ، كتوفير مياه الشرب والريّ ورعاية الأيتام وإطعام الغرباء والزوّار وحتّى توفير الكساء والمبيت لهم ، إلى دورها في تلبية حاجاتهم الإنسانية والتنموية ، كدعم الحركات العلمية والتعليمية والإرشادية والدعوية . فلقد ” ساهمتِ الأموال الوقفية في تنمية التعليم والدراسة داخل المسجد وفي المدارس المنفصلة عنه ، ومن المراحل التعليمية الأولى وحتّى المراحل الدراسية العليا ، إذ لم تكن هنالك وزارة تعليمٍ أو مخصّصاتٌ في ميزانية الدولة ” . كما قامتِ الأوقاف برعاية الكتاتيب التي كانت تعلّم الناشئة القرآن الكريم والقراءة والكتابة . ” فقام محبّو العلم المقتدرون بإنشاء المكتبات الوقفية وفتحها أمام طلبة العلم ، ووقفوا عليها الأموال الوفيرة تقرّباً إلى الله تعالى وسعياً إلى التقدّم العلمي ، وعُرِفت هذه المكتبات بأسماء عديدةٍ مثل خزانة الكتب ، وبيت الحكمة ، ودار العلم ، ودار الكتب ” . ولقد نشأت هذه المكتبات في وقتٍِ مبكرٍ من التاريخ الإسلامي وفي كافّة الأقطار الإسلامية ، كمكتبات بغداد والإسكندرية وجندسابور . وفي جانبٍ آخر فقد لبّى الوقف حاجات المسلمين الدينية والدعوية والإرشادية ، بما ساهم به في تعمير وبناء المساجد وصيانتها ، ودعم دورها التعليمي والدعوي ، لتزدهر كمراكز علميةٍ كبيرةٍ منذ عصور الإسلام الأولى ، كمساجد الكوفة والبصرة والقيروان ، أو كالجامع الأموي في دمشق والجامع الأزهر في القاهرة وجامع صنعاء . بل إنّ الوقف الإسلامي أدّى دوراً حضارياً واجتماعياً لم تشهد نموذجاً مثله أعرق الحضارات وأرقى المجتمعات عبر التاريخ الإنساني وحتّى عصرنا الراهن . ” وفي ذلك يذكر ابن بطوطة أنّه وُجِد وقفٌ في الشام لتزويج البنات الفقيرات اللواتي لا قدرة لأهلهنّ على تزويجهنّ ، كما وُجِد وقفٌ مماثلٌ في تونس ، وكان في مدينة فاس بالمغرب دارٌ لتزويج المكفوفين الذي لا يملكون سكناً لإقامة مراسم الزواج وكذلك دارٌ لتزويج الضعفاء والمعوزين ” . ويذهب الفقه الإسلامي في تشريعه لنظام الأوقاف وتنظيمه لأحكامه إلى اعتباره وسيلةً من وسائل تحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية الأساسية ، وطريقاً من طرق تطبيق مبدأ التكافل الاجتماعي والاقتصادي في الإسلام ، بل ونظاماً اجتماعياً واقتصادياً شاملاً مستقلاًً متكامل العناصر متين الأركان ، يهدف إلى إسباغ طبيعة رسالة الإسلام الإنسانية الحضارية في إطارٍ عمليٍ واقعيٍ ، يُضفي على مؤسّساته الطابع الخيري العامّ الذي يتوجّه إليه قصد الشريعة الإسلامية وتدخل ضمنه غاياتها الكلّية الهادفة إلى تحقيق مصلحة الناس . ومبدأ التصدّق الذي قام عليه نظام الأوقاف منذ نشوئه يهدف إلى أمرين هما : ( في الدنيا برّ الأحبـاب ، وفي الآخرة تحصيل الثواب ، بنيّةٍ من أهله ) ، وهذان الأمران هما سبب الوقف والحكمة منه . ويقول العلامة الشيخ محمّد أبو زهرة : ( وأنّ الوقف الذي يكون فيه حبس العين على حكم الله تعالى والتصدّق بالثمرة على جهة من جهات البرّ ، هو نوعٌ من الصدقات الجارية بعد وفاة المتصدّق ، يعمّ خيرها ويكثر برّها ، وتتضافر بها الجماعات في مدّ ذوي الحاجات ، وإقامة المعالم ، وإنشاء دور الخير ، من مستشفىً جامعٍ يُطبّ أدواء الناس ، ونُزلٍ يُؤوي أبناء السبيل ، وملاجئ تُؤوي اليتامى ، وتقي الأحداث شرّ الضَياع ، فيكونوا قوّةً عاملةً ، ولا يكونوا قوّةً هادمةً ) . ويقول الدكتور وهبة الزحيلي : ( إنّ الوقف أدّى دوراً مشرّفاً في الحياة المدنية الاجتماعية الإسلامية ، وفي الحياة العلمية والصحية والبيئية ، ومحاولة القضاء على الثالوث الهدّام الخطير الجهل والفقر والمرض ) .
ولقد فرّق علماء الفقه الإسلامي ودارسيه في نظرتهم إلى نظام الوقف بين جانبين : ففي الجانب الأول .. نظروا إليه من خلال أهدافه الخاصّة المتمثّلة في غايات الأفراد المتبرّعين ، وما يعتمل في دواخلهم من رغبةٍ ذاتيةٍ للتصدّق وعمل الخير وبرّ الناس ، كسباً للثواب ، أو تكفيراً عن ذنبٍ ، أو توطيداً لصلة قرابةٍ ، أو تأكيداً على الانتماء إلى المجتمع والشعور بالمسؤولية تجاهه ، وربّما بسبب ظروفٍ شخصيةٍ غير ذلك كالاغتراب أو الوحدة أو الرغبة في الحفاظ على عين هذا المال بعد الموت وعدم وجود وارثين له .. . وأيّاً كان الباعث الخاصّ من وراء الوقف ، فإنّ غايته في كل الأحوال واحدةٌ في جوهرها ، فهي قائمةٌ على تقديم المنفعة ، وتحقيق المصلحة ، وتعميم الفائدة للمستفيدين منه . وأمّا في الجانب الآخر .. فقد نظر علماء الفقه الإسلامي إلى الوقف نظرةً شاملةً عامّةً ، فوقفوا على الأهداف والغايات والبواعث العامّة لإنشائه وتنظيمه ، وتكريسه كمؤسّسةٍ مهمّةٍ في المجتمع الإسلامي ، وكذلك من خلال دوره الرائد في تحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية ، وصلته العضوية بها . وتتجلّى الأهداف والغايات العامّة للوقف من خلال كونه نظاماً وتشريعاً من ضمن مجموعةٍ متكاملةٍ من النظم والتشريعات التي استحدثها الإسلام وطوّرها ، أو فرضها من أجل تحقيق التكافل والتكامل في المجتمع الإسلامي ، ولتكريس التعاون بين أبنائه بمختلف ظروفهم المادّية والشخصية ، حرصاً منه ودأباً على تفعيل رسالته المبنيّة على المساواة والعدالة والمحبّة والرحمة ، وتحقيقاً لمصلحة الناس التي توخّتها الشريعة الإسلامية من خلال تشريع الوقف . فالإسلام ندب اعتماد نظام الوقف وحثّ عليه وشجّع المسلمين على إفشائه بينهم واعتماده في حياتهم ، لِما فيه من فوائد ومصالح تعود على مجتمع المسلمين بالخير والنفع .
وإذاً فإنّ أهداف الوقف تتجاوز في عموميّتها طابع التصدّق والبرّ بمفهومهما البسيط ، لتحيط بجوانب أعمق من ذلك تتعلّق بدور الوقف الاجتماعي والاقتصادي المؤثّر في حياة ونشاط وعلاقات المسلمين فيما بينهم ، ومن خلال ارتباطهم بالنظام الإسلامي الذي شَرّع هذه المؤسسة . وفي ذلك يقول الدكتور محمّد الكبيسي : ( إنّ أغراض الوقف في الإسلام ليست قاصرةً على الفقراء وحدهم ، بل تتعدّى ذلك إلى أهدافٍ اجتماعيةٍ واسعةٍ ، وأغراضٍ خيّرةٍ شاملةٍ ) .
ولقد أجازت شريعة الإسلام الوقف على الفقير والغنيّ ، والقريب والغريب ، كما وأجازته على أهل الذمّة الذين يعيشون داخل المجتمع الإسلامي ” بشروطٍ وضوابطَ حدّدها فقهاء المسلمين ” ، وأبقتِ الباب مفتوحاً أمام الناس أن يُوقفوا من أموالهم وثرواتهم جزءاً منها ليُنفق في وجوه الخير والبرّ والإحسان ، وبما يحققّ منفعة الناس التي هدفت الشريعة إلى إصلاحهم وحرصت على تحقيق مصالحهم .
ولقد فضّل الله تعالى الإسلام على بقيّة الشرائع وأنزله المكانة العظمى بينها ، حين صدّق القرآن الكريم ما بين يديه من الكتاب ، ثم جعل له الأولوية بين الكتب السماوية عندما نسخ أحكامها وكرّس أحكام شرعه الحنيف ، من خلال ما أتى به من قواعد عمليةٍ وأصولٍ شرعيةٍ خَلَتْ من معظمها الكتب السماوية الأخرى ، وبما ألقاه من تكاليف وفرائض هدفها البعيد وغايتها الواسعة الصلاح الخاصّ للفرد والصلاح العامّ للمجتمع . ولقد أناط ربّ العالمين مجمل هذه التكاليف والفرائض بالعلل والحكم التي تؤدّي غايته السامية في تحقيق الصلاح المنشود .
وهكذا فإنّ لكلّ شريعةٍ مقصداً تتوخّاه وهدفاً ترجوه وغايةً تصبو إليها ، من خلال ما تحمله وتقدّمه للناس من قيمها ومبادئها ، وما تحضّهم عليه من سلوكٍ إنسانيٍ يرقى بهم وينهض بعقولهم ونفوسهم ، وكذلك بما تكلّفهم به من واجباتٍ وفرائض ، وما تضمنه وتكرسّه لهم من حقوقٍ ومكتسباتٍ . ولقد تميّز الإسلام عن باقي الشرائع بتقريره لمقاصد شريعته ، وتكريسه لها وتعزيزه لأهمّيتها من خلال أحكامه ، فحرص أن تكون أحكامه التشريعية وسيلتَه لتحقيق مقاصد شريعته المباركة ، ليؤكّد دوره كرسالةٍ عامّةٍ شاملةٍ لكلّ الناس ، تشملهم أيضاً غاياته في تحقيق مصالحهم .
وحياة الإنسان بكلّ ما تحمله من جوانب إيمانيةٍ ومعنويةٍ ومادّيةٍ ، وبكلّ ما يلزم سموّ هذه الحياة وسعادة الإنسان ومصلحته من مقوّماتٍ وشروطٍ وعوامل ، هي محور رسالة الإسلام السماوية في إطارها الإنساني السامي ومحتواها الحضاري الرفيع .
ولذلك عُنيت الشريعة الإسلامية بمبدأ التكافل الإنساني ، جاعلةً منه نظاماً إنسانياً حريصاً على تنمية نوازع الخير وبواعث التعاون والبرّ والإحسان في شخصية الإنسان وضميره ، من خلال سلوكه الاجتماعي وعلاقاته بالآخرين وكذلك علاقته مع الدولة . وليصبح هذا النظام نظاماً للعلاقات والمعاملات الاقتصادية في المجتمع المسلم ، وليدلّل هذا المفهوم الشامل له على أهمّيته العظيمة في تحقيق مقاصد شريعة الإسلام وأهدافها في إصلاح الفرد والمجتمع ، ويشكّل الوقف جزءاً مهمّاً وعظيماً من هذا النظام التكافلي الذي عُنِيت به الشريعة من أجل تحقيق مصالح العباد بكلّ أشكالها المشروعة .
ومن هنا ارتبط نظام الأوقاف في الإسلام ومنذ بدايات عهد المسلمين به ارتباطاً بنيوياً ووظيفياً بجملة المقاصد العامّة للشريعة الإسلامية ، وذلك بما اشتمل عليه من محتوىً هادفٍ إلى تحقيق جزءٍ مهمٍّ بل غايةٍ في الأهمّية من مقاصد شريعة الإسلام ، كما سنرى في مجمل ما يقدّمه هذا البحث .
الفصل الثاني – التعريف بنظرية المقاصد العامّة للشريعة الإسلامية
ينصرف مفهوم المقاصد العامّة للشريعة الإسلامية عموماً إلى أنّ جميع الأحكام والقواعد التي تمّ تشريعها في حياة الناس ، لم تُشرَّع دون أن يكون من وراء تشريعها قصدٌ أو غايةٌ أو هدفٌ يتوخّى تحقيق وظيفةٍ أو مصلحةٍ من وجود هذا التشريع . ويشتمل ذلك على أحكام وقواعد المعاملات كما يشتمل على أحكام وقواعد العبادات أيضاً ” فيما يتعلّق بالمصالح الدنيوية الناجمة عن أدائها ” . ومع أنّ الإمام الشاطبي كان من أوّل العلماء المسلمين الذين أسّسوا لعلم فقه مقاصد الشريعة الإسلامية ، إلا أنّه لم يضع تعريفاً محدّداً للمقاصد العامّة للشريعة ، ولكنّ الفقهاء والعلماء الذين بحثوا في هذا الفرع من فروع الفقه الإسلامي من بعده ، لم يختلفوا كثيراً في تحديد المفهوم العامّ لهذه النظرية ، فقد اتّفقوا عموماً على أنّها مجموعة الأهداف والغايات العامّة المقصودة والمبتغاة من أحكام شريعة الإسلام ، وكذلك أوصاف هذه الشريعة وبواعثها ومعانيها ممّا يُقتبَس من روح الشرع عموماً . والإمام الغزالي وقد تطرّق دون استطرادٍ وتفصيلٍ قبل الإمام الشاطبي إلى موضوع مقاصد الشريعة يقول : ( مقاصد الشرع هي المصالح التي تعود إلى العباد في دنياهم وأُخراهم ، سواء أكان تحصيلها عن طريق جلب المنافع ، أو عن طريق دفع المضارّ ) . ولقد عرّفها الشيخ محمّد الطاهر بن عاشور وهو من فقهاء المذهب المالكي ، وأوّل من عرّف المقاصد العامّة للشريعة الإسلامية بأنّها : ( المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها ، بحيث لا تختصّ ملاحظتها بالكون في نوعٍ خاصٍّ من أحكام الشريعة ) . ويعرّفها الدكتور أحمد الريسوني بأنّها : ( الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد ) . ويقول الدكتور يوسف حامد العالم : ( مقاصد الشارع من التشريع .. نعني بها الغاية التي يرمي إليها التشريع ، والأسرار التي وضعها الشارع الحكيم عند كلّ حُكمٍ من الأحكام ) . وأمّا الفقيه الأستاذ علال الفاسي فقال إنّ : ( المراد بمقاصد الشريعة هو الغاية منها ، والأسرار التي وضعها الشارع عند كلّ حُكمٍ من أحكامها ) . ومهما كان من تعريفاتٍ فإنّنا نجدها تدور حول فكرةٍ واحدةٍ جوهرها أنّ ( المقاصد العامّة للشريعة الإسلامية هي جملة ما وضعه الشارع من حِكَمٍ في أحكامه لتحقيق صالح عباده في القريب أو البعيد ) . ومع أنّه لا يمكن في كلّ الأحوال معرفة القصد التشريعي بشكلٍ جليٍّ وواضحٍ ، ولكن ذلك لا يعني غياب هذا القصد ، لأنّ الخالق عزّ وجلّ لما شرّع للناس هذه الرسالة فإنّما لمصلحتهم ومن أجلهم . وفي ذلك يقول الإمام الشاطبي : ( فإنّ المصالح الدنيوية ” من حيث هي موجودة ” لا يتلخّص كونها مصالح محضةً .. كما أنّ المفاسد الدنيوية ليست بمفاسد محضةٍِ من حيث مواقع الوجود ) . وقد تكون هذه المصلحة المعلومة أو المجهولة معجّلةً وقد تكون مؤجّلةً . يقولالشاطبي : ( إنّ وضع الشرائع إنّما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً ) . ويلاحَظ أنّ القصد من التشريع لا يجلو فيما يتعلّق بالعبادات بنفس درجة جلائه ووضوحه في المعاملات . وذلك لأنّ القصد التشريعي في العبادات هو لغاياتٍ لا تتعلّق بوجوب أدائها وإنّما تتحقّق من خلال هذا الأداء ، وذلك بما تُفضي إليه من مصلحةٍ بسبب القيام بها ” كالمصلحة الاجتماعية المحقّقة في اجتماع المسلمين في الحجّ أو في صلاة الجماعة ” ، وأمّا وجوب أداء العبادات فسببه أنّها فرضٌ له غايةٌ تتعلّق بجزاء الخالق عزّ وجلّ عليها وثواب الآخرة المبتغى . ولذلك فإنّه ليس المقصود من تأجيل المصلحة في العبادات أنّها مقرونةٌ بالآخرة ، بل إنّ في أداء العبادات مصالح دنيويةٌ قصد الشارع تحقيقها ولو تأجلّت ، وأهمّها تنمية الجانب الروحي والإيماني في الإنسان بما يهذّب نفسه فيعود ذلك عليه وعلى مجتمعه بالصلاح . وأمّا الآخرة فدار جزاءٍ نهائيةٍ على ما قدّمت أيدي الناس من أعمالٍ ، فلا يمكن برأينا أن تحكمها نظرية المقاصد . فعلى سبيل المثال نجِدُ في الصلاة كعبادةٍ مصلحةٌ لفائدتها من ناحية النظافة مثلاً ” وهذه مصلحةٌ معجّلةٌ ” وهي أيضاً رياضةٌ جسديةٌ للمسلم المصلّي ” وتلك مصلحةٌ مؤجّلةٌ تتحقّق مع مرور الوقت والاعتياد على أداء الصلاة بانتظامٍ ” ، إضافةً إلى أنّ الصلاة راحةٌ لقلب المسلم وطمأنينةٌ له وناهيةٌ لنفسه عن الإثم والمعصية ، ولكنّ الصلاة قبل هذا وذاك فرضٌ الغاية من تشريعه والهدف من أدائه إعلان الطاعة لله والتماس مغفرته وثوابه ، وذا ليس بمصلحةٍ تحكمها نظرية مقاصد الشريعة الإسلامية. وأمّا في باب المعاملات فإنّ القصد التشريعي يستند إلى المصلحة المراد للناس تحقيقها في حياتهم الدنيا ، والمقاصد العامّة للشريعة الإسلامية تنتظمها مهما كانت تلك المعاملات ، لأن تشريعها أصلاً كان لتحقيق مصالح الناس ، ومهما كانت هذه المصالح مباشرةً أو غير مباشرةٍ ، عاجلةً أو غير عاجلةٍ . فالقصد من تحريم الخمر مثلاً الحفاظ على العقول من غيابها أو فسادها ، ودرء حدوث ما لا تُحمد عواقبه من تصرفاتٍ كأذى الناس أو النفس ، ” وفي كلّ ذلك مصلحةٌ ضروريةٌ مباشرةٌ ومعجلّةٌ ” ، توخّاها الشارع وحرص على تحقيقها من خلال تحريم شرب الخمور مهما كانت أنواعها ومهما قلّتْ كمّيتها . ومن ناحيةٍ أخرى فإنّ في تحريمها أيضاً ” مصلحةً ضروريةً مؤجّلةً وغير مباشرةٍ ” للفرد نفسه حرصاً على صحّته وسلامة جسده ، لما يسبّبه تعاطي الخمور من أذيّةٍ صحّيةٍ مؤكّدةٍ ، وللمجتمع أيضاً لأنّ انتشار تعاطيها واعتيادها يؤدّي إلى انحلالٍ أخلاقيٍ واجتماعيٍ ، وإلى خسارةٍ بشريةٍ واقتصاديةٍ يتكبّدها المجتمع كلّه . وإذاً .. فإنّ إطلاق الأحكام على الغاية من التشريع في باب المعاملات يستند إلى نظرية المقاصد العامّة للتشريع أو الغايات الكلّية له ، لأنّ هذه المقاصد والغايات تهدف إلى تحقيق مصالح الناس أو درء المفاسد عنهم ، ولذلك يجب أيضاً ” أن تكون وسيلة تحقيق المصلحة وسيلةً مشروعةً ” . والله تعالى يقول : ( قُلْ أَنفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ ) . فينبغي أن تكون المصالح المرجوّ تحقيقها من خلال مقاصد الشريعة الإسلامية مشروعةً ومعتبرةً فيها . وفي ذلك يرى الإمام الشاطبي أنّ : ( المصالح المجتلبة شرعاً ، والمفاسد المستدفعة إنّما تُعتَبَرُ من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى ، لا من حيث أهواء النفوس ) .
ولأنّ الشريعة الإسلامية لم تحدّد على سبيل الحصر ولم تعيّن الوسائل الواجب اتّباعها لأجل تحقيق الغايات الكلّية للتشريع ومقاصده العامّة ، لذلك فإنّ سُبل الوصول إلى تلك الغايات تحدّدها الظروف المتغيّرة كطبيعة البيئة والمحيط والمجتمع .. . ويكون للناس في ذلك أن يلتمسوا كلّ طريقٍ يؤدّي هذا الهدف وينشد تحقيق غاية الشريعة من المسائل التي شرّعتها ، مع التأكيد على وجوب الاستناد إلى مقاصد الشريعة العامّة عند الربط بين الغاية المنشودة والوسيلة المعتمَدة لتحقيقها .
والخلاصة أنّ المقاصد العامّة للشريعة الإسلامية تحكم التشريع الذي ينظّم حياة الناس سواءً في عباداتهم أو معاملاتهم ، وتهدف إلى تحقيق مصلحتهم فيما يقومون به إنْ عاجلاً أو آجلاً . ويمكن أن نقول باختصار : ( إنّ الشريعة الإسلامية وسيلةٌ ، وغايتها هي مقاصدها في تحقيق مصلحة الإنسان ) . الفصل الثالث – أبعاد علاقة نظام الأوقاف بنظرية المقاصد العامّة للشريعة الإسلامية :
إنّ المصلحة المؤكّدة من إنشاء نظام الأوقاف ، كانت هي المقصد الذي توخّته الشريعة الإسلامية لتشريع هذا النظام والحثّ عليه ، وتأصيل أحكامه وقواعده ، وتنظيم جوانبه العملية ، وإيجاد السبل الشرعية لإدارة مؤسّساته والتصرّف فيها وفق أحكام الشريعة التي شرّعته ، كي يؤدّي دوره على أكمل وجهٍ ويحقّق الأهداف المنشودة منه . وليس بخافٍ هذا الارتباط الوثيق بين الدور الذي لعبه نظام الأوقاف في حياة المسلمين ، وبين محتوى هذا النظام من حيث طبيعة الأهداف التي أدّت إلى نشوئه وماهيّة الغاية منه ، وكيف أنّ هذا المحتوى يدور في فلك المقاصد العامّة للشريعة . فنرى أنّ الإطار العام لنظام الأوقاف هو جزءٌ من عموم مقاصد الشريعة الإسلامية الغرّاء ، بما قدّمته مؤسّساته عبر التاريخ الإسلامي وفي شتّى أرجاء المعمورة الإسلامية من قيمٍ إنسانيةٍ حضاريةٍ ، وبما أدّاه كنظامٍ من وظيفةٍ اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ ، وبما حقّقه من مقاصد الشريعة الإسلامية في تقديم النفع والفائدة لعموم المسلمين . ولذلك فإنّ البحث في موضوع الغايات والمقاصد من الوقف في الإسلام وأهداف هذا النظام وأبعاده وبواعثه ، يرتبط بالنظرة التي حملتها الشريعة الإسلامية لنظام الأوقاف من ناحية مراعاتها لشروطه وخصائصه بما لا يخرج عن الغاية التي شُرّع من أجلها ، ومن ناحية إدراك ومعرفة متطلّبات الناس وحاجاتهم مهما تنوّعت أحوالهم واختلفت أوضاعهم ، ما يجعل من ذلك كفيلاً بتحقيق أبعاد الوقف ومقاصده ، وكلّ ذلك في إطارٍ إنسانيٍ فريدٍ ومؤثّرٍ ومثيرٍ للتأمّل والإعجاب . وإذاً .. فإنّ المقاصد العامّة للشريعة الإسلامية تتجلّى من خلال نظام الوقف الإسلامي بأبهى صورةٍ ، وتتّضح بجلاءٍ أبعاد العلاقة بينهما وجوانبها ، بسبب ما اشتمل عليه نظام الأوقاف من محتوىً متكاملٍ من النواحي الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والأخلاقية والسياسية .. . فكان من شأنه أن يكوّن بذاته منظومةً عظيمة الأثر في تحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية العامّة وغاياتها . وعموماً فإنّ للوقف مقصداً عامّاً هو إيجاد موارد دائمةٍ لتحقيق أهدافٍ مشروعةٍ تُفضي إلى مصالح معتبرةٍ ، وللوقف أيضاً مقاصد خاصّةٌ يمكن أن نذكر منها :
أوّلاً – تحقيق مقصد الشريعة الإسلامية في إعمار الأرض وازدهارها : ممّا أراده الله سبحانه وتعالى لمّا استخلف الإنسان عليها فالله تعالى يقول في كتابه الكريم : ( آمَنوا باللهِ ورَسولَهِ وأنْفِقوا مِمّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفينَ فِيهِ ) . ويقول سبحانه : ( هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) . والأوقاف على تعدّد أشكالها وأنواعها وأغراضها تؤدّي جزءاً مهمّاً من هذه الغاية ، فإنشاء المشاريع النافعة وإشادة المباني والمنشآت التعليمية والصحّية وإقامة الجمعيّات الخيرية .. وغير ذلك ، لَمساهَمَةٌ مؤثّرةٌ وفاعلةٌ في تحقيق هذا المقصد العظيم للشريعة الإسلامية في إعمار الأرض التي خلّف المولى عزّ شأنه الإنسانَ فيها . وفي ذلك يقول الفقيه الأستاذ علال الفاسي : ( إنّ المقصد العامّ للشريعة الإسلامية هو عمارة الأرض ، وحفظ نظام التعايش فيها ، واستمرار صلاحها بصلاح المستخلفين فيها ، وقيامهم بما كلّفوا به من عدلٍ واستقامةٍ ، ومن إصلاحٍ في العقل وفي العمل ، وإصلاحٍ في الأرض واستنباطٍ لخيراتها وتدبيرٍ لمنافع الجميع ) .
ثانياً – يقدّم الوقف من جانبٍ آخر نموذجاً لنظامٍ اقتصاديٍ متكاملٍ : ويحتوي هذا النظام في تكوينه ومن خلال طبيعته عناصر نجاحه الذاتي ، من حيث أنّه نظامٌ عامٌّ متكاملٌ شاملٌ ومستقلٌّ ، وذلك ما يمنحه القوّة والمتانة ويصبغه بصفتي الديمومة والاستمرار ، ما هو من ميّزات الوقف عن غيره من أعمال الخير والبرّ والنفع العامّ .والمقصد العامّ للشريعة الإسلامية من ذلك تحقيق نوعٍ من أنواع الاكتفاء الذاتي للأمّة الإسلامية والنأي بها عن الوقوع في مغبّات التبعيّة الاقتصادية للغير ، وليست بخافيةٍِ على أحدٍ الآثار السلبية والعواقب الوخيمة المترتّبة على ذلك ، وما تفضي إليه من نتائج ، فالتبعيّة الاقتصادية تؤدّي إلى تبعيّةٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ وثقافيةٍ ، بل قد تؤدّي أيضاً إلى تدخّلٍ في الشؤون الداخلية للبلاد أو غزوٍ عسكريٍ لها. والوقف موردٌ اقتصاديٌ عظيمٌ بفاعليته يؤدّي دوراً حيويّاً في إقامة نظامٍ اقتصاديٍ متكاملٍ يحقّق هدفاً على أكبر درجةٍ من الأهمّية في حياة الأمم ، وهو تحقيق الاكتفاء الذاتي ، بدل اللجوء إلى المساعدات الخارجية لإقامة المشاريع الخدمية أو المرافق العامّة أو المنشآت ذات الطابع الاقتصادي أو الاجتماعي ، أو غير ذلك من مواردَ ومشاريعَ ممّا لا يمكن الاستغناء عن وجوده في حياة الناس . وكلّ ذلك من أجل تحقيق مقصدٍ عامٍّ لشريعة الإسلام ، يتمثّل في عدم جواز تبعيّة المسلمين لغيرهم مهما كان شكل هذه التبعية ، وذلك بتكوين نظامٍ اقتصاديٍ قويٍّ تدعمه مواردُ دائمةٌ وثابتةٌ وفاعلةٌ تتميّز بشمولها واستقلالها . ” ويهدف الوقف إلى إيجاد مصدرٍ تمويليٍ دائمٍ لتحقيق مصالحَ خاصّةٍ ومنافعَ عامّةٍ ، وعلى أساس هذه الحكمة يمكن وصف الوقف بأنّه وعاءٌ تصبّ فيه خيرات العباد ، ومنبعٌ يفيض بالخيرات على البلاد والعباد ، وهي من أموال المسلمين وممتلكاتهم التي حصلوا عليها بطرق الحلال الطيّب ” .
ثالثاً – ومن هذا المقصد السابق للوقف في الشريعة الإسلامية ، نجد أنّ مقصداً عامّاً آخر تحقّقه الأوقاف من خلال ما تهدف إليه في إقامة نظامٍ اقتصاديٍ قويٍّ ومتينٍ ، عن طريق امتلاك موارد اقتصاديةٍ ثابتةٍ ومستقلّةٍ : فكما أنّ ذلك يُسهم في تحقيق الاكتفاء الذاتّي للأمّة الإسلامية والنأي بها عن الوقوع في شراك التبعية لغيرها من الأمم ، فإنّ تكامل هذا النظام والحرص على تطبيقه بالشكل المناسب لتحقيق الهدف الذي سُخِّر له ، يعني بطبيعة الحال مساهمةً جادّةً وحقيقيةً في تحقيق قوّة الأمّة الإسلامية وتأكيد تفوّقها الحضاري ، وتعزيز دورها الإنساني بين الأمم . والله سبحانه وتعالى يقول : ( وَعَدَ اللهُ الذينَ آمَنوا مِنْكُمْ وعَمِلوا الصالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأَرْضِ كَما اسْتَخْلَفَ الذينّ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِنَنَّ لَهُمْ دِيْنَهُمُ الّذي اِرْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبْدِلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنَاً يَعْبِدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بي شَيْئًا ومَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلكَ فأولَئكَ هُمُ الفاسقونَ ) . ومن هذه الآية الكريمة نرى كيف تتّجه الإرادة الإلهيّة للمولى عزّ وجلّ إلى تسخير الأرض بعناصرها ومكوّناتها ومقوّماتها لِمن آمن به وصلُح عمله من الناس ، كي يؤدّوا دورهم الذي أراده الله تعالى في خلافة الأرض خلافةً صالحةً حكيمةً ، ولذلك فإنّ وقف الأموال في سبيل العلم والتعليم والتأليف والنشر ، ووقفها في سبيل إنشاء المراكز الاجتماعية لتقديم المعونة للفقراء والمحتاجين ، ووقفها في سبيل إنشاء مراكز صحّيةٍ وخدميّةٍ ، أو لتدعيم المرافق العامّة وإصلاح البُنى التحتية ، وكذلك لتعزيز الدور الإرشادي والدعوي داخل الدول الإسلامية وخارجها ، أو لتقديم الإمداد العسكري لجيوش هذه الدول وجنودها ، كلّ ذلك يُسهم بشكلٍ مباشرٍ في تحقيق مقصد الشريعة الإسلامية في تمكين الإسلام وتقوية الأمّة الإسلامية وتعزيز مكانتها بين الأمم الأخرى .
رابعاً – ومن مقاصد الوقف وأهدافه بناءُ نظامٍ اقتصاديٍ واجتماعيٍ إنسانيٍ ، بتوزيع الثروات وتضييق الفوارق الاقتصادية بين الناس وتخفيف شعورهم بها : ويُعدّ هذا الجانب جزءاً من مقصدٍ عامٍّ تتوخّاه الشريعة الإسلامية في تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية والمساواة بين الناس ، والله تعالى يقول : ( كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ) . وذلك كي تسود روح المساواة والعدالة بين الناس قدر ما يمكن ، فالوقف وسائر التبرّعات إضافةً إلى نظام الزكاة وأحكام الإرث يقوم بهذا الدور الإنساني العظيم . وعن النعمان بن بشيرٍ رضي الله عنه أنّ رسول الله عليه الصلاة والسلام قال : ( مَثَلُ المؤمنينَ في توادِّهِم وتراحمِهِم وتعاطفِهِم كالجسدِ الواحدِ إذا اشتكى مِنهُ عُضوٌ تَداعى لَهُ سائرُ الجسدِ بالسهرِ والحمّى ) .
ولذلك فإنّ الأوقاف المخصّصة لرعاية الفقراء والمحتاجين ومدّ يد العون والرعاية لهم ، كالجمعيات الخيرية أو المستشفيات المجانية أو دُور الأيتام والمسنّين والمعاقين ، أو مؤسّسات العناية بذوي الاحتياجات الخاصّة والمشردين واللقطاء وغير ذلك ، تُسهم جميعها في تحقيق مقصد الشريعة الإسلامية في بناء نظامٍ اقتصاديٍ واجتماعيٍ هدفه تحقيق العدالة والمساواة ، وعنوانه العريض التكافل الإنساني بين جميع أفراد المجتمع . والله تعالى يقول في كتابه الكريم : ( مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) .
خامساً – ولأنّ الانتفاع من الوقف الإسلامي لم يكن حكراً على المسلمين وحدهم بوجود أوقافٍ عامّةٍ للمسلمين ولغير المسلمين ، لذلك أدّت هذه الأوقاف دوراً مهمّاً في إصلاح حال هؤلاء وتأليف قلوبهم إلى الإسلام ودعوتهم إليه ، وكان ذلك كلّه مقصداً كريماً للشريعة يحقّقه الوقف ، وتكريساً لمبدأ الإسلام في الدعوة إلى رسالته بالحكمة والموعظة الحسنة : فلقد ساهمت بفاعليةٍ ملحوظةٍ المؤسّسات الوقفية المخصّصة لهذه الغاية في تحقيق نموٍّ مضطردٍ ونشاطٍ متزايدٍ للدعوة إلى الإسلام خارج بلاد المسلمين أيضاً ، من خلال القيام بطباعة وترجمة القرآن والكتب والمؤلفات الإسلامية إلى لغات العالم ، أو من خلال إنشاء مراكز للدعوة والإرشاد ومؤسّسات للتواصل الفكري والحضاري والديني مع الشعوب غير المسلمة . واليوم يلعب الإعلام بكلّ صوره دوراً مؤثّراً للغاية في تكوين فكرةٍ صحيحةٍ وموضوعيةٍ عن الإسلام ، ونتمنّى أن تتّجه أنظار المؤسّسات الوقفية إلى تعزيز هذا الدور كما قامت بواجبها في الدعوة الميدانية ، وكلّ ذلك لتحقيق مقصد الشريعة الإسلامية في تأليف القلوب وتنويرها إلى الإسلام ، وتعريف غير المسلمين بحقيقته الإنسانية الحضارية ، وهداية الناس إليه .
سادساً – ومن مقاصد الشريعة الإسلامية التي تقوم المؤسّسات الوقفية بتحقيقها التشجيع على العلم والتعليم : بإنشاء المدارس والمكتبات ودور العلم على اختلاف درجاتها واختصاصاتها ، وبنشر ثقافة الإسلام ، وبناء صرحٍ فكريٍ متينٍ يؤكّد دوره العالمي ويعزّز موقعه الحضاري المتقدّم بين الأمم ، ورسول الله عليه الصلاة والسلام يقول : ( طَلَبُ العِلمِ فَريضَةٌ على كلّ مُسْلِمٍ ) . ولقد ساهمت وبشكلٍ مباشرٍ المؤسّسات الوقفية في العالم الإسلامي وبطريقةٍ مدروسةٍ وبعنايةٍ فائقةٍ ، في تلبية هذا الواجب المفروض لتحقيق مقصد الشريعة الإسلامية من خلاله ، ألا وهو تنوير العقول وشرح الصدور وتنمية الفكر وتوعية البصيرة وتجنيب النفوس شرّ الجهل . ولذلك بُنِيَتِ المدارس ودُور العلم والتعليم ، وشُيِّدَتِ المكتبات العامّة والخاصّة ، وعُنِيَ بالكتب والمخطوطات والمراجع ، وأُنْفِقَ على العلماء وطلبة العلوم من أموال الأوقاف ، وخُصِّصَ لهم منها رواتبُ وأجورٌ ، وصُرِفَ لهم ما يعينهم على بلوغ مراميهم في التعلّم والبحث والتأليف والطبع والنشر .
أخيراً وليس آخِراً – فلقد اختلف نظام الوقف عن الصدقات أو أعمال البرّ المختلفة التي حضّ عليها الإسلام ، بصفة ديمومته وبقائه ، فكانت تلك المِيزة من مقاصده أيضاً : فالوقف يهدف إلى دوام عين المال الموقوف واستمرار الانتفاع والإفادة منه لأطول زمنٍ ممكنٍ ، وذلك ببقاء إمكانية هذا الانتفاع وتجدّده . وفي هذا المقصد يقول الشيخ وليّ الله الدهلوي عن الوقف : ( استنبطه النبي عليه الصلاة والسلام لمصالح لا توجد في سائر الصدقات ، فإنّ الإنسان ربّما يصرف في سبيل الله مالاً كثيراً ثم يفنى ، فيحتاج أولئك الفقراء تارةً أخرى ، ويجيء أقوامٌ آخرون من الفقراء وأبناء السبيل يصرف عليهم منافعه ، ويبقى أصله ) . ومن جانبٍ آخر فإنّ من مقاصد الوقف حماية هذه الأموال الموقوفة من الهلاك أو من أيّ تصرّفٍ يمنع الخير عن الناس أو يجلب الضرر لهم ، فبقاء المال دون تحديد الهدف من بقائه قد لا يفضي دائماً إلى نتائج حميدة ، فلقد يتعرّض للتبذير أو الإنفاق على ما ليس في وجوهه الشرعية والأخلاقية . ولكنّ الوقف بضوابطه الشرعية وقواعده المفروضة كنظامٍ وكتشريعٍ إسلاميٍ أصيلٍ ، سيؤدّي الدور المطلوب في تأكيد شرعية إنفاق المال الموقوف وطريقة الاستفادة منه بما لا يخلّ بأحكام الشريعة الإسلامية وينسجم مع الغاية التي شُرِّع الوقف لتحقيقها . وكذلك فإنّ في استقلال الوقف مصلحةٌ في بقائه بعيداً عن الاستغلال والاستملاك الجائر ، فيبقى في عداد الأملاك العامّة التي لا يجوز لأحدٍ أن يستولي عليها أو يغيّر طريقة الانتفاع منها بما لا يناسب الغاية الحقيقية لوقفها .
وعلى أيّ حالٍ ، فهذه بعضٌ من أفضال نظام الوقف ومقاصده ، وما هي إلا غيضٌ من فيضِ ما يمكن لهذا النظام إنجازه على كافّة المستويات الإنسانية الخلاقة ، وكلّ تلك المقاصد التي يتوخّى هذا النظام تحقيقها ، ما هي إلا جزءٌ من المقاصد العامّة للشريعة الإسلامية ، ولذلك ارتبط الوقف دائماً بمقاصد الشريعة وانسجمت أصوله دوماً مع غاياتها ، فانبثقت أهدافه من تلك المقاصد ، فحكمته وتعلّقت أحكامه وقواعده الشرعية بها دائماً ، وهو ما سنحاول الوقوف عليه في فصول الباب القادم من هذا البحث . ==الباب الثاني : نظرية مقاصد الشريعة الإسلامية في فقه الوقف الإسلامي==
يستند فقه الوقف الإسلامي إلى نظرية مقاصد شريعة الإسلام ويعتمد عليها اعتماداً كلّياً من الناحيتين النظرية والعملية ، ولا يمكن بأيّ حالٍ من الأحوال فصل البحث في أصول فقه الوقف الإسلامي عن المحيط الذي يستمدّ منه هذا النظام أساس وجوده ومشروعيّته وغايته ، وهذا المحيط هو مقصد الشريعة الإسلامية من ذلك الوجود وتلك الغاية التي من أجلها شُرِّع الوقف وحُبِّبَ إليه ودُعِيَ لأجل تكريسه وتنظيمه وتعزيز دوره ، في مجتمعٍ تنادي رسالة شريعته بالمحبّة والعدالة والمساواة .
وبعد أن قدّمنا في الباب السابق عرضاً موجزاً عن نظام الأوقاف ودورها الرائد في المجتمع الإسلامي منذ بداياته ، وعن علاقة هذا النظام الإسلامي العريق بمقاصد الشريعة الإسلامية العامّة ، وأبعاد هذه العلاقة العضوية المتينة من خلال ما يحقّقه نظام الأوقاف ويُسهم به من مرامٍ وأهدافٍ لتحقيق مقاصد الشريعة ، وبعد أن تطرّقنا إلى التعريف بمفهوم المقاصد العامّة للشريعة الإسلامية وما ينصرف ويرمي إليه هذا المفهوم سنحاول فيما يلي أن نبحث في هذا الباب حول المقاصد العامّة للشريعة في فقه الوقف ، وكيف أنّ لهذه المقاصد حضوراً رئيسياً في هذا الفقه ، وكيف ارتبطت أصوله بمقاصد الشريعة ارتباطاً وظيفياً متيناً لا يمكن معه بأيّة حالٍ الفصل بينهما ، بسبب اعتماد تشريع الوقف ونظامه كلّياً على المقاصد في وجوده وبنائه ووظيفته . وسنعرّف أوّلاً بنظرية المقاصد في فقه الوقف وما المقصود بها ، ثم نبحث في أصول هذا الارتباط بينهما ، وبعدئذ سنحاول المقارنة في فقه الوقف بين مذهبين فقهيين من المذاهب الإسلامية في الفصل الثالث والأخير من هذا الباب .
الفصل الأوّل – التعريف بنظرية المقاصد في فقه الوقف
لاشكّ بعدما تقدّم أنّ الوقف تشريعٌ إسلاميٌ أصيلٌ ، وسلوكٌ إنسانيٌ جليلٌ ، وسنّةٌ متّبعةٌ عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ، وعرفٌ شائعٌ لدى أصحابه الكرام استحسنوا فعله وواظبوا عليه ، ولا اختلاف بين علماء فقه الشريعة الإسلامية على مشروعية الوقف في الإسلام ، باجتهادٍ محمودٍ منهم وإجماعٍ كاملٍ بينهم . وإن كان نظام الوقف كتشريعٍ إسلاميٍ ناف عمره عن ألفٍ وأربعمائة عامٍ من عمر الرسالة الكريمة ، وعلى مرّ عصورها ، وفي مختلف ظروفها ، قد حافظ على جوهرٍ واحدٍ لا يتبدّل وعناصر أساسيةٍ لا تتغيّر طيلة عصور المسلمين الطويلة ، إلا أنّ تطوّر مجتمعاتهم ودولِهم أدّى بطبيعة الحال إلى تطوّر هذه المؤسّسة العظيمة تطوّراً لافتاً مشهوداً ، وإنْ مرّت بأوقاتٍ عصيبةٍ وظروفٍ سيّئةٍ شأنها في ذلك شأن كلّ مؤسّسات الأمّة الإسلامية ومقدّراتها وجوانب حياتها المختلفة .
ومع أنّ الاتّفاق الفقهي على مشروعية الوقف كان مستنداًً إلى آيات القرآن الكريم التي تحضّ على الإنفاق في وجوه الخير لمصلحة الناس ونفعهم ، وكذلك إلى السنّة القولية أو الفعلية الشريفة التي ثبتت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ، إلا أنّ الاجتهاد الفقهي هو الذي حدّد أحكام الوقف وقواعده وشروطه وأركانه وقواعده وضوابطه الشرعية . وإن كان ثمّة اختلاف بين فقهاء المسلمين في بعض ذلك ، إلا أنه اختلافٌ شكليٌ تنظيميٌ وليس جوهرياً ، لأنّه يتعلّق بمسائل عمليةٍ غايتها تحديد الوسائل والسبل الكفيلة بإيجاد تشريع أوقافٍ يتّفق وأحكام الشرع الحنيف ، ويحقّق أيضاً الغاية المرجوّة من وجوده وهي تحقيق المصلحة للناس ، كما وينظّم قواعده وأحكامه بالشكل الذي يضمن حسن الأداء ، ويكفل نقاء الجوهر الذي تقوم عليه فكرة الوقف وتتكوّن منه عناصره ومقوّماته .
وإذاً .. فإنّ أحكام الوقف اجتهاديةٌ وليست نصّيةً قطعيةً ، وهي تستند إلى الاستحسان والاستصلاح والعرف ، باستثناء أنّ الوقف صدقةٌ جاريةٌ وقربةٌ مستمرّةٌ وعملٌ صالحٌ يُنتفَع به ويُرتجى من خلاله ثواب ورضوان المولى عز وجل .
وفي جميع الأحوال فإنّ محور القواعد والأحكام الفقهية التي نَظَمَتِ الوقف وحدّدت شروطه وأركانه ، وكَسَته صيغته العملية هو تحقيق مقصد الشريعة من وجود هذا النظام ، فهي تستند كسائر المعاملات في الشريعة الإسلامية إلى المصالح التي توخّت هذه الشريعة تحقيقها للناس . ولذلك فإنّ أساس فقه الوقف في الشريعة الإسلامية هو مقصد الشريعة منه وغايتها من وجوده ، وهدفها من قيامه واستقراره واستمراره ، وكلّ ذلك يصبّ في وعاءٍ واحدٍ وهو تحقيق مصلحة الناس .
والمولى عزّ وجلّ وهو المحيط بكلّ شيء علماً ومعرفةً وقدرةً ، شاء أن ييسّر للناس رحمةً منه أمور حياتهم ومعاشهم وعلاقاتهم الدنيوية ، ولذلك هيّأ لهم السبل التي توصلهم إلى تحقيق المصالح المقصودة من وراء الشريعة الإسلامية ، وقد أصبحت هذه المصالح معلومةً واضحةً بحكم العقل والعرف والعادة ، وتُقاس من حيث ما يرجح فيها من نفعٍ أو ضررٍ ، وعموماً يمكن القول أنّ أحكام العبادات مبنيّةٌ على رعاية مصالح الناس ، وهذه المصالح يقدّرها الناس من خلال ما تكوّن لديهم من موروث العادات والتجارب والعرف الذي يسيرون عليه ، بعد أن تُحَكَّم العقول لترجيحها ، ويُحَكّم الشرع لتأكيد موافقتها لأصوله وأحكامه .
ويمكن ممّا سبق ” ومن التعريف العامّ للمقاصد في الشريعة الإسلامية ” .. القول أنّ : ( مقاصد الشريعة الإسلامية في فقه الوقف هي مجموعة الأهداف والغايات والبواعث أو العلل والدوافع التي توخّتها الشريعة الإسلامية في تشريعها للوقف ، لِما يقدّمه من مصالح واضحةٍ ومنافع جمّةٍ وفوائد عامّةٍ للناس ، بما يحقّق مقصد الشريعة الإسلامية في ذلك وهو مصلحة الناس ، من دون تعارضٍ مع قواعدها العامّة أو أحكامها الشرعية ) .
ولقد اجتهد فقهاء المسلمين منذ فتح باب الاجتهاد في مسألة الوقف كاجتهادهم في المسائل الفقهية الأخرى ، وازداد اهتمامهم ودأبهم على ذلك مع توسّع وانتشار وتطوّر هذه المؤسّسة في أرجاء المجتمع الإسلامي وتنامي دورها عبر السنين ، ليواكبوا كلّ مستجدٍّ يطرأ ، وليبحثوا عن الحلول الشرعية المناسبة للمعضلات الطارئة في هذا الشأن ، نأياً بهذا النظام الفاضل عن الفوضى والعبث ، وحرصاً على استمراره بالشكل الذي يحقّق أغراضه الشرعية ، وتعزيزاً لدوره النفعي العظيم في حياة الناس ، وبما يكفل بقاءه ووجوده الصحيح في محيطٍ منبثقٍ من أحكام الشريعة الإسلامية الحكيمة وضوابطها ، ومناخِ يعتمد عليها في تشريعه وبنائه .
ولذلك فإنّ البحث في أصول هذا الارتباط الحيوي بين فقه الوقف ومقاصد الشريعة الإسلامية كان هو البوّابة التي عبر منها الاجتهاد الفقهي الإسلامي في تنظيم أحكام الوقف وقواعده ، احتكاماً منه إلى مقصد الشريعة الإسلامية من تشريعه ، واستناداً إلى مقاصدها العامّة الكلّية في كلّ ما شرّعته للناس في معاملاتهم ، فدار كلّ اجتهادٍ حول ذلك في فلكٍ كبيرٍ هو المقصد العامّ للشريعة ، وفي فلكٍ أصغر محوره مقصد الشريعة الإسلامية في تشريعها للوقف على وجه الخصوص .
الفصل الثاني – فقه الوقف وأصول ارتباطه بالمقاصد العامّة للشريعة الإسلامية
تقدّم التأليف في فقه الوقف لدى علماء المسلمين وفقهائهم عشرات السنوات ، قبل أن تظهر مؤلّفات الإمام الجويني في البرهان والإمام الغزالي في شفاء الغليل ، ثمّ لينضج مفهوم المقاصد في الشريعة الإسلامية لدى الإمام الشاطبي في كتابه الموافقات في أصول الشريعة ، ومع هذا فإنّ العلماء الذين كتبوا واجتهدوا في مسائل الأوقاف قبل أن يكون هناك بحثٌ واضحٌ ومحدّدٌ في مقاصد الشريعة الإسلامية ، بل وحتّى قبل أن يظهر هذا المصطلح بمفهومه المقصود وعناصره الواضحة ، قد اعتمدوا مقاصد الشريعة في اجتهاداتهم وتنظيمهم لأحكام الوقف في الإسلام من دون تطرّقٍ إلى دراسةٍ بعينها حول مقاصد الشريعة أو تعريفٍ محدّدٍ لها ، وذلك لأنّهم كانوا يرَوْن ذلك متّفقاً عليه دون اختلافٍ بينهم ، فسلكوا في بحوثهم ودراساتهم ومؤلّفاتهم حول ذلك ، مسلك الشريعة العامّ في تأصيلها للوقف استناداً إلى الهدف الذي ينشده والغاية التي يحقّقها والدور الإنساني الذي يقوم به ، وباعتبار أنّ كلّ ذلك يتعلّق بروح رسالة الإسلام ، وبما ينسجم معها ويحقّق قصد الله عز وجل منها . وإذاً .. فإنّ فقه الوقف وإن تقدّم تدوينه على فقه مقاصد الشريعة الإسلامية ، إلا أنّه ارتبط بها ارتباطاً وثيقاً واعتمدها أساساً لتشريعه ، واستند إليها في تحديد القواعد والأحكام الناظمة للوقف ومتعلّقاته وشروطه وعناصره ، وإن لم تكن معالم نظرية المقاصد واضحةً في كتابات ومؤلّفات فقهاء المسلمين الأوائل . ونحن وإن لم نجد قبل الإمام الشاطبي في كتابه الموافقات ذكراً في الفقه الإسلامي لمصطلح مقاصد الشريعة الإسلامية ، إلا أنّ ذلك لا يعني أنّ مفهوم هذه المقاصد كان غائباً عن الذهن الفقهي الإسلامي فيما تقدّم من اجتهادٍ وبحثٍ وتأليفٍ حول كلّ المسائل الفقهية المتعلّقة بالمعاملات عموماً . فقد كانت نظرية المقاصد تحكمها وتنتظمها دائماً ، ولْنقُل أن مقاصد الشريعة الإسلامية كانت الإطار العامّ الذي يضمّ كلّ اجتهادٍ شرعيٍ صادرٍ بخصوص معاملات الناس وعلاقاتهم الدنيوية ، وأنّها القبس الذي يُهتدى به لاستنباط واستنتاج الأحكام الشرعية ، من خلال حِكَم المشرّع في تشريعها استناداً إلى غايته في تحقيق مصلحة الناس . وتُحقّق الشريعة الإسلامية مقاصدها الكلّية من التشريع من خلال مجموعة مقاصدها الجزئية في كلّ جانبٍ منه ، فلأنّ المساواة والتكافل الاجتماعي والاقتصادي على سبيل المثال من مقاصد الشريعة الإسلامية ، لذا شُرِّعتِ الزكاة ونُظِّمت أحكام الإرث ، وحُثَّ على الصدقة والبرّ والإحسان ، كما وشًرِّع الوقف أيضاً ، وهذا لأنّ كلّ واحدةٍ من هذه التشريعات تؤدّي دورها الخاصّ في تحقيق ذلك المقصد العامّ للشريعة ، إضافةً إلى ما تؤدّيه من مقاصد أخرى خاصّة بكل تشريعٍ منها على حِدةٍ ، فقد ينفرد كلّ تشريعٍ أقرّته الشريعة الإسلامية في المقاصد التي ينشدها ، ولكنها تلتقي جميعاً على تحقيق المقاصد العامّة لهذه الشريعة وغاياتها الكلية ، والتي يُعَنونها جميعاً مصلحة الناس ومنفعتهم . ولذلك لا يمكن الفصل بين أيّ فقهٍ تشريعيٍ وبين المقاصد العامّة للشريعة الإسلامية ، كما ومقاصدها الخاصّة من أيّ تشريعٍ بمفرده ، وهذه قاعدةٌ عامّةٌ لا استثناء لها ، وإنّما قد تختصّ بعض التشريعات بمواصفاتٍ وميّزاتٍ معيّنةٍ ، أو تمتلك مقوّماتٍ تؤهّلها لتحقيق أغراضٍ أكثر شمولاً وقدرٍ أكبر من المصلحة الإنسانية ، ما يعني إنجازها لمجموعةٍ أوسع من مقاصد الشريعة الإسلامية . ويكاد الوقف من هذه الناحية أن يكون من أهمّ التشريعات التي تتمتّع بمواصفاتٍ قياسيّةٍ من منظور المصلحة التي يقدّمها ، لغنى مفهومه الإنساني ، وتنوّع وظائفه المصلحية ، وتعدّد الأشكال الحيوية والعملية التي يمكن من خلالها تحقيق هذه الوظائف ، ما يؤدّي إلى غنىً وتنوّعٍ وتعدّدٍ في الأهداف التي يؤدّيها ، وغزارةٍ في المقاصد الشرعية التي يحقّقها . لذا فإنّ الوقف من أعرض الطرق التي سنّتها الشريعة لتحقيق مصلحة الناس التي تحقّق مقصد الشريعة الرئيسي وغايتها الأساسية . والوقف إذ يؤدّي هذا الدور ، فمن خلال مضمونه المعنوي الإنساني الخيّر ، وكذلك من خلال شكله البنيوي المستند إلى عدّة عوامل وشرائط وقواعد حدّدها تشريعه ونظّم أحكامها وجوانبها المختلفة ، كي تتبنّى أصول الشريعة وتراعيها وتتّفق معها ، فينجز الوقف ذو المضمون السويّ ، والشكل الشرعي الصحيح أهدافه ويحقّق مقاصد الشريعة عموماً ومقاصدها الخاصّة فيه .
ويمكن القول أنّ الغرض الإنشائي للوقف هو مضمونه الحيوي وسبب وجوده ، ومتى كان هذا الغرض متّجهاً نحو تحقيق النفع وإجزال الخير وتقديم المصلحة ، فإنّ ذلك يعني سلامة هذا المضمون وصحّة موضوعه ، وكذلك فإنّ الجانب العملي للوقف هو شكله الذي يمنحه القدرة على أداء الغرض ويعطيه الإجازة لأداء الأهداف وتحقيق المصالح ، وينبغي أن يكون هذا الشكل شرعياً ، فيوافق أحكام الشريعة فيه ، من خلال ضوابطه وأركانه وعناصره ومصارفه وشروط واقفيه ، وكافّة اعتباراته الشرعية التي أقرّتها الشريعة وضبَطها الفقه الإسلامي عن طريق التزامه بمقاصدها. وبالنتيجة .. فإنّ كلاً من جانبي الوقف الشكلي منهما والموضوعي ، يؤدّيان بتلازمٍ بينهما دور الوقف في تسبيل النفع ، وتقديم المصلحة التي تقصدها الشريعة . ومهما كانت المصالح التي يقدّمها الوقف ومدى ضرورتها أو الحاجة إليها ، فإنّ نظام الأوقاف قادرٌ بطبيعته على تحقيق كافّة درجاتها ، بسبب ثراء بيئته التشريعية وغنى محيطه الإنساني ، لما يتميّز به من تنوّعٍ في أشكاله وأهدافه . فالوقف يحقّق المصالح الضرورية للناس ، كما يحقّق مصالحهم الحاجيّة والتحسينية أيضاً ، وهو أمرٌ قد لا نلحظه في الكثير من المعاملات الشرعية الأخرى ، لاتّساع المطارح التي يمكن أن ينصرف الوقف إليها واختلاف درجاتها ، ابتداءً بالضرورات الواجبة ومروراً بالحاجات اللازمة وانتهاءً بالتحسينات الجائزة . والتجربة الوقفية في العالم الإسلامي عبر التاريخ تؤكّد على هذه الشمولية ، اللهمّ إلا ما أصاب نظام الأوقاف في بعض البلدان الإسلامية من ركودٍ في العصر الحديث ، بسبب الاستيلاء الحكومي عليها ، وتحديد طرق استثمارها ، واحتكار مصارفها . وإذاً فإنّ هذه الشمولية التي تميّز بها الوقف من خلال ما يحقّقه من المصالح بدرجاتها، هي التي صنعت هذا الرابط العضوي المتين بين الوقف ومقاصد الشريعة ، وما كرّس العلاقة البنيوية التبادلية بينهما . ويمكن القول بعد ذلك أنّ تحقيق الوقف لمقاصد الشريعة الإسلامية ، هو علّة وجوده من جهةٍ ، وسبب استمراره من جهةٍ أخرى ، لوضوح وجلاء المصالح التي يجلبها ، وأهمّية الدور الإنساني الذي يؤدّيه .
وسنفصّل أكثر في محاولة توضيح هذا الدور المقاصدي الذي يقوم الوقف به ، معتمدين على ما ذهب إليه رائد علم المقاصد الإمام إبراهيم الشاطبي في تقسيمه للمقاصد وتفصيله لها فالشاطبي يقول في الموافقات : ( تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق ، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسامٍ ، أحَدُها أن تكون ضروريةً ، والثاني أن تكون حاجيّةً ، والثالث أن تكون تحسينيةً : فأمّا الضرورية ، فمعناها أنّها لا بدّ منها في قيام مصالح الدين والدنيا ، بحيث إذا فُقِدت لم تَجْرِ مصالح الدنيا على استقامةٍ ، بل على فسادٍ وتهارجٍ وفوت حياةٍ ، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم ، والرجوع بالخسران المبين . والحفظ لها يكون بأمرين أحدهما ما يُقيم أركانها ويثبّت قواعدها وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود ، والثاني ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقّع فيها ، وذلك عبارةٌ عن مراعاتها من جانب العدم .. ) . ثمّ يَجمع الشاطبي هذه الضروريات فيقول أنّها خمس هي : ( حفظ الدين ، وحفظ النفس ، وحفظ النسل ، وحفظ المال ، وحفظ العقل ) . ويُتابع .. : ( وأمّا الحاجيّات فمعناها أنه مفتَقرٌ إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدّي في الغالب إلى الحرج والمشقّة اللاحقة بفوت المطلوب ، فإذا لم تُراعَ دَخَلَ على المكلّفين على الجملة الحرج والمشقّة ، ولكنّه لا يبلغ مبلغ الفساد المتوقّع في المصالح العامّة . وأما التحسينات فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العبادات ، وتجنّب الأحوال المداسات التي تأنفها العقول الراجحات ، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق ) . وبعد هذا التقسيم فإنّ الشاطبي يقرّر أنّ المعاملات في الضروريات هي المعاملات التي تكون راجعةً إلى مصلحة الإنسان مع غيره ، كانتقال الأملاك بعوضٍ ( كالبيع ) ، أو بغير عوضٍ ( كالوقف ) ، وذلك بالعقد على الرقاب أو المنافع أو الأبضاع . وأنّ المعاملات في الحاجيّات هي المعاملات التي لا يتوقّف عليها حفظ أحد أقسام الضروريات ، ومع أنّ الشاطبي في موافقاته لا يذكر ذلك صراحةً ، إلا أنّه يمثّل له بالفراض والمساقاة والسلم وإلغاء التوابع في العقد على المتبوعات ، كثمر الشجر ومال العبد . ثمّ يمثّل للمعاملات التي تدخل في قسم التحسينات بالمنع من بيع النجاسات كالخمر وغيره ، وفضل الماء والكلأ ، وسلب العبد منصب الشهادة والإمامة ، وسلب المرأة منصب الإمامة وإنكاح نفسها . وطلب العتق وتوابعه من الكتابة والتدبير وما يُشبهها من معاملاتٍ أخرى .. ويوضح الشاطبي في مسألة التحسينات قائلاً : ( وقليلٌ من الأمثلة يدلّ على ما سواها ممّا هو في معناها . فهذه الأمور راجعةٌ إلى محاسن زائدةٍ على أصل المصالح الضرورية والحاجيّة ، إذ ليس فقدانها بمخلٍّ بأمرٍ ضروريٍ ولا حاجيٍّ ، وإنما جرت مجرى التحسين والتزيين ) . وما يهمّنا في كلّ ذلك ، توضيح أنّ محلّ الوقف ومطرحه يمكن أن يشمل كلّ درجات هذه المقاصد بسبب طبيعته الخاصّة كما ذكرنا . وأنّ مجموعة المسائل العملية كنوع الوقف وشروط الواقفين والجهة التي تتولّى إدارته والحفاظ عليه وطريقة الاستحقاق وتوزيعه ، وكذلك العوامل المادّية من حيث حجم الدخل الذي يحقّقه والطرق الشرعية الأمثل لزيادته ، ورفع كفاءة أداء المشروع الذي كُرِّس الوقف لتحقيقه ، والإدارة السليمة للمصارف والواردات والنفقات ، كلّ ذلك يؤثّر سلباً أو إيجاباً في تحقيق مقاصد الشريعة بدرجاتها الثلاث ، كما ويؤثّر حال تحقّقها في درجات نجاح ذلك ، زيادةً أو نقصاناً . وليحقّق الوقف فاعليّته الأعلى ، ينبغي أن تلوّن المصلحة مضمونه وهدفه دائماً ، وأن تكسو الشريعة محيطه العملي وجوانبه التطبيقية ، ويبقى بعد ذلك للمعنيين به سواءً كانوا واقفين أم متولين أم مستحقّين ، أنْ يراعوا في كلّ ناحيةٍ تتعلّق بدور أيٍّ منهم ، كلّ عنايةٍ واهتمامٍ وتبصّرٍ كي يؤدّي الوقف أفضل أدواره ويحقّق أمثل أهدافه ، بعد أن ارتدى ثوبه الشرعي وأكّد محتواه المصلحي .
وقد ذكرنا ذات مرّةٍ أنّ الشريعة لم تحصرِ الوسائل والطرق التي يتوجّب على الناس سلوكها لتحقيق مقاصدها العامّة ، وإنّما تركت للناس التماس ذلك بكلّ سبيلٍ ممكنٍ لاختلاف الظروف وتغيّرها ، شريطة أن لا تخالف سبلهم إلى ذلك أحكام الشريعة المقرّرة والمعتبرة ، لأنّ مقاصد الشريعة تنصرف أيضاً إلى الوسائل المتّبعة في تحقيقها مثلما تنصرف إلى الغايات التي تنشدها .
ولذلك بقي المجال متاحاً لمؤسّسات الوقف في أيّ زمانٍ ومكانٍ ، كي تؤدّي وظائفها كثيرة التنوّع ، وبطرقٍ لا تحصى ، في تحقيق مقاصد الشريعة الضرورية والحاجيّة والتحسينية ، نظراً لمرونة نظرية المقاصد العامّة للشريعة على صعيد التطبيق والأداء . مع التأكيد دوماً على أنّ نجاح ذلك منوطٌ بارتباط أصول فقه الوقف بفحوى هذه النظرية وأبعادها الإنسانية العظيمة . ولذلك دأب الفقه الوقفي على تأصيل الأحكام الشرعية للوقف بما ينسجم مع هذا الارتباط ، ورفدت مقاصد الشريعة الإسلامية كلّ الفروع الفقهية التي طرقها الفقهاء في مواضيع الوقف وحالاته وأشكاله وغاياته ، فقرّروا ضرورة نفاذ شروط الواقفين المعتبرة شرعاً ، وقالوا بجواز استبدال الوقف عند هلاكه ، وجواز تغيير مصارفه عند استحالة أدائها كما كان مشترطاً ، وأجازوا الوقف على الذمّي وليس على الحربي أو المرتدّ ، واستحدثوا للأوقاف مصارف جديدةً لم تكن معروفةً قبلاً ، وناقشوا وقف المدين ، وبحثوا في وقف المرهون والمأجور وغيرهما ، وأشبعوا كلّ مسألةٍ من المسائل الأخرى تمحيصاً وبحثاً ، وكلّ ذلك من منظور مراعاة هذه المسائل لمقاصد الشريعة الإسلامية من الوقف ، فكانت هذه المقاصد هي الحاكم الذي يقدّم العلّة لكلّ حكمٍ شرعيٍ وقاعدةٍ فقهيةٍ تمّ تقريرها . فلأنّ للوقف مصلحةٌ ينبغي أن يؤدّيها ، جاز عند هلاكه استبداله بغيره مادام ذلك ممكناً لتبقى المصلحة التي يقدّمها قائمةً ، ولأنّ في الوقف على الذمّي مصلحةٌ في تأليف قلبه إلى الإسلام مادام في ذمّة المسلمين ، وما من مصلحةٍ في الوقف للمرتدّ أو الحربي لثبوت عدائهما ، وكذلك فإن في عدم نفاذ وقف المدين مصلحةٌ له كي لا يتحمّل وزر عدم أداء حقوق الناس ، ومصلحةٌ للدائنين لضمان حقوقهم ، وينطبق ذلك على عموم المسائل الأخرى المتعلّقة بمضمون الوقف .
وبعد أن فصّلنا في أبعاد علاقة نظام الأوقاف بنظرية المقاصد العامّة للشريعة الإسلامية وذكرنا قبل ذلك أهمّ الغايات و الأهداف التي يحقّقها نظام الوقف من خلال هذه العلاقة المتينة وبسببها .. . سنحاول فيما يلي أن نقدّم مقارنةً بين المذهبين الحنفي والمالكي في مفهوم الوقف وتعريفه ، وفق الاجتهاد والرأي الفقهي المعتمد في كلّ مذهبٍ منهما ، وذلك في المبحث الأول من هذا الفصل ، ثم نفصّل في المبحث الثاني ما استقرّت عليه أحكام كلّ مذهبٍ من هذين المذهبين حول أحكام الوقف .
الفصل الثالث – فقه الوقف الإسلامي بين المذهبين الحنفي والمالكي
مدخلٌ حول أصول ضبط قواعد وأحكام الوقف
ممّا يلفت النظر في فقه الإمام أبي حنيفة النعمان أنّه كان مائلاً نحو إطلاق الحرّيات الشخصية في المعاملات ، ونعتقد أنّ سبب هذا الاتّجاه طبيعة هذه التكاليف نفسها ، لخروجها عن دائرة الفروض والواجبات التي لا إطلاق فيها بأيّ حالٍ ، وربّما بسبب طبيعة خاصّة ميّزت شخص الإمام أبي حنيفة رحمه الله . ولقد انسحب أثر هذا الإطلاق للحرّيات الفردية في فقه الإمام أبي حنيفة إلى فقه الوقف لديه ، وكما في فقه المعاملات المالية عموماً . ومع أنّ الإمام خالف الجمهور في مسائل فقهيةٍ معدودةٍ بخصوص الوقف ، ولكنّ ذلك لم يكن إلا اختلافاً شكلياً كما سنرى . وعلى أيّ حالٍ .. فإن أيّ اجتهادٍ صدر عن الأئمة أو الفقهاء والعلماء المسلمين المقتدرين في مسائل الوقف كان محكوماً من وجهة نظر المجتهدين بالضوابط العامّة للشريعة وغاياتها . وباعتبار أنّ أحكام الوقف اجتهاديةٌ ، فقد بُنِيَ الاجتهاد فيها عموماً على طريقة فهم المجتهدين لطبيعة المقاصد المرغوب من الوقف أن يصلها ، أي أنّ منطلق الاجتهاد وسبب الاختلاف في بعض المسائل المتعلّقة بالوقف ، كان بفعل تنوّع طرق ووسائل إدراك وتفسير المجتهدين للغاية التي تتوخّاها أحكام الوقف في كلّ مسألةٍ من مسائله أو لكلّ حالةٍ من حالاته من وجهة مقاصد الشريعة الإسلامية . وينطبق هذا عموماً على معظم المسائل الفقهية في المعاملات ، خاصّةً في ظلّ المستجدّات من الحالات التي يفرزها مرور الزمن ويفرضها تغيّر الظروف وتطوّر المجتمع ونموّه . فالإمام أبو حنيفة رحمه الله يذهب إلى أنّ ” الوقف لا يلزم بمجرّده ، فللواقف الرجوع فيه إلا أن يوصي به بعد موته فيلزم ، أو يحكم بلزومه حاكم .. ” . ويبدو أنّ الإمام كان يستند إلى أنّ : ( عبد الله بن زيدٍ صاحب الأذان , جعل حائطه صدقةً وجعله إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، فجاء أبواه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالا : يا رسول الله لم يكن لنا عيشٌ إلا هذا الحائط ، فردّه رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم ماتا , فورثهما ) . فلقد استنتج الإمام أبو حنيفة من الحديث أنّ الوقف إخراجٌ للمال من الملك على وجه القربة فهو كالصدقة ، لذا لا يُلزم صاحبه بمجرّد القول ، ويمكنه الرجوع عنه . ونعتقد أنّ الحديث الشريف المذكور ، ينصرف إلى حالةٍ محدّدةٍ ، فيُجيز الرجوع عن الوقف إذا تحقّقت هذه الحالة ، وهي وقوع الواقف أو من يعيلهم بعد إنشاء الوقف في الفاقة أو المرض ، أو قيامه بإنشاء الوقف وهو في أمسّ الحاجة للمال دون إدراكٍ منه لذلك ، بسبب كرمٍ شديدٍ منه أو رغبةٍ توّاقةٍ إلى كسب الأجر والثواب . ويمكن القول أنّ إجازة أبي حنيفة رجوع الواقف عن وقفه مبنيّةٌ على استنباطه لمعنى الصدقة في الشريعة الإسلامية والمقصد العامّ من ورائها ، وهو الإنفاق الطوعي في سبيل الله ولخير عباده ، لأنّ أداء الصدقة من قبل الفقير المحتاج إلى المعونة ، أو من قبل الغنيّ الذي لم يُخرجها كرامةً ومحبّةً ، يتعارض مع المقصود من تشريع الصدقة والحثّ عليها، ومع المفهوم العامّ لها كما يتفقّ ورؤية الشريعة الإسلامية للصدقة وغايتها منها. ولذلك فإنّ أبا حنيفة عندما قال بعدم لزوم الوقف فقد استند إلى مقصد الشريعة الإسلامية كما استنبطه في اجتهاده من خلال النصّ التشريعي الذي اعتمده ، أو من خلال استنباطه لمفهوم الصدقة . ولقد سُقنا هذا المثال لتوضيح ما تقدّم من استهلالٍ حول اتّفاق المجتهدين من فقهاء المسلمين على هذا الأمر ، وإن اختلفوا في بعض النتائج ، فإنّهم كانوا محكومين في اجتهاداتهم بمقاصد الشريعة الإسلامية في كلّ حالةٍ من الحالات التي اجتهدوا في تفسيرها أو وضع قواعدها أو بيان أحكامها .
ولن يخرج فقه الوقف في المذهب المالكي عن هذه القاعدة التي اعتمدها الفقه الإسلامي في شتّى المعاملات عموماً ، وفي مسائل الوقف ومواضيعه وشؤونه على وجهٍ خاصٍّ ومنذ نشوء هذا الفرع من فروع الفقه ، فقد حكمت مقاصد الشريعة الإسلامية وغاياتها قواعد الوقف وأصوله لدى الإمام مالك رحمه الله ، كما ولدى بقية أئمّة المذاهب المعتبرة ومن تبع نهجهم من الفقهاء المسلمين .
وإن اختلفت طبيعة نظرة كلّ طرفٍ إلى الوقف من خلال ما أخذ به من شواهد ونصوصٍ ، وما استنبطه من عللٍ وأحكامٍ ، فهذا أمرٌ طبيعيٌ لم يشكّل عائقاً في نهاية المطاف ، كي يتكوّن لدى الأمّة الإسلامية منهجٌ عمليٌ قابلٌ للتطبيق ، منسجمٌ مع روح العصر ، ملائمٌ للتطوّر المتسارع الذي يعيش المسلمون اليوم أحداثه ويلمسون آثاره ونتائجه على كلّ الأصعدة . والمهمّ في هذه المسألة أن تحظى مؤسّسة الأوقاف بعد ذلك بتشريعٍ وقفيٍ مستقلٍّ قابلٍ للتطبيق مواكبٍ لهذا التطوّر ، وأن يتوخّى هذا التشريع مقاصد الشريعة الإسلامية وغاياتها منه ، وألا تخرج مسارات أحكامه وشؤونه العملية عن فلك تلك الغايات والمقاصد ، ليحقّق الأهداف العظيمة التي شُرَّع من أجلها .
ولا تثريب على اختلاف الاجتهاد في بحث أصول فقه الوقف ، كما لا تثريب على أيّ خلافٍ فقهيٍ في مسائل المعاملات ، مادامت روح الشريعة هي بيت القصيد ، ومادامت مقاصدها هي الغاية المعتمدة في إنشاء القواعد ووضع الأحكام ، وسنرى أنّ الإمامين الصاحبين محمّد وأبا يوسف وهما شيخا المذهب الحنفي البارزان قد خالفا رأي الإمام أبي حنيفة نفسه في مسألتي لزوم الوقف وزوال ملكه ، ومع ذلك لم يتأثّر مفهوم الوقف بهذا الاختلاف ولم يتغيّر جوهره المصلحي ، أو تتحوّل أحكامه عن المقصد التشريعي منها .
ولقد اعتمد الإمام مالك رحمه الله في مذهبه الفقهي على اجتهاده الشخصي فأسّس مذهباً فردياً مستقلاً لم يكن لأصحابه فيه متّسع كبيرٌ لاستنباط الأحكام بعيداً عمّا حقّقه الإمام مالكٌ في أصول فقه الشريعة الإسلامية ، واشتُهر عنه تقديمه للمصلحة في كثيرٍ من المسائل الشرعية ، بل وكان يقدّمها على خبر الواحد وعلى القياس أحياناً . وعلى أي حالٍ فإنّ الاختلاف الفقهي بين المذاهب الإسلامية حول بعض مسائل الوقف وأحكامه وقواعده وشروطه ، كان بسبب اختلافهم في تحديد المقصد العامّ للشريعة الإسلامية منه كما أشرنا ، وهذا ما حدّد مفهومه وشكل الصورة التي رآها كلٌّ منهم فيه . فرأى الأحناف أنّ الوقف يحمل مفهوم القربة والعطية في آنٍ واحدٍ ، بينما ذهب الفقهاء من المذهب المالكي إلى اعتباره من قبيل الهبات أو العطايا وليس من قبيل الصدقات . والأحناف لما نظروا إلى الوقف بهذه الطريقة فلأجل توسيع أغراضه ، باعتبار أنّه تصدّقٌ بمنفعة العين الموقوفة ، أو صرفٌ لمنفعتها إلى من أحبّ الواقف ، لذا فيجوز أن يكون قربةً ويجوز أن يكون من قبيل المحبّة والتودّد ، فهو جائزٌ ولو كان الموقوف عليه غنياً ، وفي هذه الحالة لا يحمل الوقف عند إنشائه مفهوم القربة ، وإنّما يحملها بعد انتهاء مدة استفادة الغني منه ليبقى مؤبّداً بعد ذلك فتنصرف منفعته إلى الغير . وأمّا المالكيّون فقد رأوا أن مفهوم الوقف لا ينسحب إلى الصدقة بل يقتصر على العطايا أو الهبات ، معتبرين وفي ذات الوقت أنّ بعض الأوقاف من أفضل القربات ، ولكنّهم لا يشترطون أن تكون كذلك من أجل صحّتها . ولذلك يجيزون الوقف على أهل الذمّة والأغنياء ، بل وعلى الأغنياء من أهل الذمّة لأنّ الوقف لديهم هبةٌ ، كما لا يشترطون أن يكون الذمّي صاحب كتابٍ ، بل يكفي أن يكون تحت ذمّة المسلمين وعهدهم . وسنفصّل فيما يلي في مفهوم وأحكام الوقف في المذهبين الحنفي المالكي ، من أجل المقارنة بين هذه الأحكام وعِلَلِها في كلّ مذهبٍ منهما ، فنخصّص المبحث الأوّل لتفصيل مفهوم الوقف وتعريفه لدى كلٍّ من الأحناف والمالكيين ، ثم نفصّل في المبحث الثاني الحديث عن حكم ومشروعية الوقف وسببه والحكمة منه ، وكذلك عن صفة الوقف وأركانه ومحلّه ومركزه وحكم زواله لدى كلٍّ من الفريقين .
وسنرى كيف ربط فقه الوقف الإسلامي الأحكام والقواعد التي وضعها وأقرّها في مسائل الوقف وشؤونه المختلفة ، بالمقاصد العامّة للشريعة وغاياتها الكلّية وكذلك الجزئية الخاصّة بالوقف ، فحمل أحكامه على هذه المقاصد وشُرّعت قواعده من خلالها ، وإن اختلفت الرؤية وتشعّبت الطرق في بعض المسائل ، إلا أنّ ذلك لم يُفضِ إلى ضياع الفكرة الأساسية التي يقوم الوقف عليها ، ولم يؤثّر في اعتباراته الحقيقية أو مفهومه وكيانه ، لأنّ الجميع متّفقون على أنّ الوقف تشريعٌ إسلاميٌ خاصٌّ لا يجوز أن يخالف أحكام الشريعة وقواعدها وأصولها ، كما لا ينبغي أن يشذّ عن مقاصدها ، وأنّه نظام له أهدافٌ وغاياتٌ شُرِّع لتحقيقها فلا يجوز أيضاً أن يتعارض أو يتناقض معها . ولقد آثرنا أن نجري المقارنة في هذا الجزء بين المذهبين الحنفي والمالكي في فقه الوقف ، لأنّ الاختلاف بينهما حول أصول هذا الفقه هو الأكبر على ما لاحظنا بين المذاهب الإسلامية ، وذلك بهدف تأكيد أنّ الخلافات الفقهية الأعمق في فقه الوقف لم تؤثّر على طبيعته الإنشائية والمقاصدية الخاصّة ، بل حافظت عليها وسبّبت تنويعاً فريداً في وسائل تحقيق أبعاده المصلحية النبيلة .
المبحث الأوّل – في مفهوم الوقف وتعريفه بين المذهبين الحنفي والمالكي
أوّلاً – تعريف الوقف في المذهب الحنفي : يعرّف الإمام أبو حنيفة النعمان الوقف بأنه : ( حبس العين على ملك الواقف ، والتصدّق بالمنفعة ) . ويعرّفه الصاحبان أبو يوسف القاضي ومحمّد الشيباني بأنه : ( حبس العين على ملك الله تعالى ، وصرف منفعتها على من أحبّ ) . والأحناف الآن في تعريفهم للوقف على تعريف الصاحبين ، وبرأيهما يُفتى لدى المذهب الحنفي والحنبلي والشافعي ، ويظهر أنّ الاختلاف بين التعريفين محوره بقاء ملكيّة الواقف للشيء الموقوف أو زوالها عنه عند إنشاء الوقف .
– فالإمام أبو حنيفة يرى أنّ الواقف يبقى مالكاً للشيء الموقوف ، حال حياته فيورّث الوقف بعد موته كما يمكن أن يُباع أو يوهَب ، والعلّة في ذلك أنّه يقصر الوقف على المنافع من دون رقبة الملكيّة ، وفي ذلك يقول : ( لا يزول ملك الواقف عن الوقف إلا أن يحكم به الحاكم ، أو يعلّقه بموته فيقول : إذا متّ فقد وقفت داري على كذا وكذا..). أي أنّه يشترط لزوال ملكية الوقف عن الواقف صدور قرارٍ بذلك من الحاكم ( وهو القاضي الشرعي ) ، أو أن يعلّق هذا الوقف بموته حتّى إذا مات نفذ بعد ذلك الوقف كما عيّنه فيخرجه إخراج الوصية . فالإمام أبو حنيفة وهذه الحال يجيز بقاء ملكية الوقف للواقف باعتباره لا يزال حيّاً ، ويعتبر أنّ وقف المنزل أو الأرض يُلزم الواقف بالتصدّق بريعها ، كما أنّه يعتبر أنّ ملكيّة الشيء الموقوف تزول إذا قضى بذلك الحاكم ، أو أضاف الواقف نقل هذه الملكيّة إلى ما بعد وفاته .
وإذاً .. فإنّ الخلاف بين أبي حنيفة وجمهور الفقهاء ينحصر حول أنّ الواقف برأي أبي حنيفة لا يزول ملكه عن الوقف ، ولذا فإنّه يورّث ويُباع ويوهَب . وأمّا الجمهور وحتّى الصاحبان فَهُمْ على نقيض ذلك ، إذ يعتبرون أنّ الوقف تنتقل ملكيّته من الواقف عند إنشاء الوقف ، فلا يحقّ له بعد ذلك أن يتصرّف به ولا يقع عليه بيعٌ أو هبةٌ أو ميراثٌ . ونعتقد أنّ مسلك الإمام أبا حنيفة النعمان رحمه الله بهذا الشأن يستند إلى اعتبار الوقف صدقةً من الصدقات ، كما وينسجم مع نظرته في إطلاق الحرّيات والحرص على الملكيات الفردية الخاصّة ، وكذلك النظر بعين العناية إلى ما يمكن أن يستجدّ من ظروفٍ في حياة الواقف قد تجعله يتراجع عن وقفه ( كما ورد في حديث عبد الله بن زيد .. ) . وكذلك حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، أنّ رسول الله عليه الصلاة والسلام قال : ( كفى بالمرء إثماً أن يُضيع مَنْ يَقُوت ) . وقال عليه الصلاة والسلام : ( إنّك إن تَذَرْ ورثَتك أغنياءً ، خيرٌ من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس ) . كما قال صلّى الله عليه وسلّم : ( لا صدقةٌ وذو رحمٍ محتاجٌ ) . ولقد اعتمد الإمام أبو حنيفة في اجتهاده بعدم انتقال ملكية الشيء الموقوف من الواقف ولو بعد صدور التصرّف منه ، على روح هذه النصوص ، وبما يتوافق مع المقصد العامّ للشريعة الإسلامية منها وهو ضرورة الحرص على تقديم النفع للأبناء والذُرّية ممّا يدخل تحت ضرورة حفظ النسل .
– وأمّا الصاحبان وكما يرى معظم الأحناف من بعدهم فيقرّران أنّ الوقف حبسٌ للعين الموقوفة على ملك الله عزّ وجلّ ” وهو مالك كلّ شيء ” ، وأنّ غلّة هذه العين أو ريعها أو ربحها أو أجرها أو أيّة منفعةٍ تحقّقها تعود لمن حدّدهم الواقف في وقفه ومن أجلهم ، وإنْ كانوا قلّةً أو كثرةً ، معلومين محدّدين أو غير معلومين ، في ذُرّية الواقف أو لغيرهم . ونعتقد أنّ الصاحبين نظرا إلى الوقف من حيث أنّه الصدقة الجارية التي يستمرّ عطاؤها ولا ينقطع خيرها ما شاء الله ، ولا يمكن وهذه الحال أنْ تبقى في ملك الواقف ولا يجوز أن تُباع أو تورّث أو توهَب ، لأنّ ذلك لا يحقّق الغاية من الوقف في تحقيق النفع المقصود ودوامه ، بالطريقة والغاية التي من أجلها صدر التصرّف عن الواقف . وهما ” الصاحبان ” ومن بعدهما أغلب علماء المذهب الحنفي وفقهائهم ، يُلزمون الواقف بتصرّفه إذ يعتبرون ألا رجعة فيه حتّى وإن صدرت عن الواقف إجازته ، على خلافٍ مع أبي حنيفة النعمان رحمه الله الذي استند إلى حديث عبد الله بن زيد في جواز الرجوع عن الوقف وإلى مقاصد الشريعة في الصدقات ومنها الوقف برأيه . ويبدو أنّ للصاحبين والجمهور النصّ التشريعي الذي يستندون إليه وهو حديث عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه بشأن أرض خيبر ، حين قال للرسول عليه الصلاة والسلام : ( أصبتُ أرضاً لم أُصب مالاً قط أنفس منه ، فكيف تأمرني به ؟ قال : ” إنْ شئتَ ” حبست أصلها ، وتصدّقتَ بها ” ، فتصدّق عمر أنّه لا يُباع أصلها ، ولا يُوهَب ولا يورّث .. ) . فلقد استدلا ومن بعدهما أغلب فقهاء الأحناف من خلال حديث عمر رضي الله عنه أنّ الوقف لا يُباع ولا يوهَب ولا يورّث لصراحة النصّ ، وانسجاماً مع كون الوقف برأيهم هبةً تنصرف خالصةً إلى من وُهِبت إليه ، فلا حقّ لغير الموهوب له بها ، ولا حقّ لواهبها في الرجوع عنها . ويروي الإمام ابن رشد القرطبي قصّة رجوع الإمام أبي يوسف عن رأيه الذي كان متّفقا مع رأي الإمام أبي حنيفة : ( كان أبو يوسف صاحب أبو حنيفة يرى مثل رأي الإمام في عدم لزوم الوقف أو عدم جوازه ، فلما بلغه حديث وقف عمر وتحقّق صحّته رجع عن قوله إلى القول بصحّة الوقف ولزومه ، فقد رُويَ أنّ أبا يوسف قال للإمام مالك بحضرة هارون الرشيد إنّ الحبس لا يجوز ، فقال له الإمام مالك هذه الأحباس أحباس رسول الله صلّى الله عليه وسلم بخيبر وفدك ، وأحباس الصحابة ، فرجع عن قوله وقال : هذا لا يَسَعُ أحداً خلافُه ، ولو بلغ أبا حنيفة لقال به ) . ويقول ابن حجر : ( حديث عمر هذا أصلٌ في مشروعية الوقف ) . ” والحديث يدلّ بوضوحٍ على منع التصرّف في الموقوف ، لأنّ الحبس معناه المنع ، أي منع العين من أن تكون ملكاً ، وعن أن تكون محلاً لتصرّفٍ تمليكيٍ . لكن يلاحَظ أنّ الحديث لا يدلّ على خروج المال الموقوف عن ملك الواقف ” ولقد جاء في الحديث الشريف أيضاً أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال : ( ليس لك من مالِكَ إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدّقت فأمضيت ) . ما يعني أنّ الصدقة ماضيةٌ لا يجوز الرجوع عنها بمجرّد خروجها من ذمّة من أدّاها ، ولأنّ الوقف صدقةٌ كما يراه الصاحبان والجمهور لذلك لا يجوز الرجوع عنه ، عملاً بقوله عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث . وإن كان هنالك روايةٌ تقول أنّ الإمام أبا حنيفة لم يُجِزِ الوقف إطلاقاً فهي روايةٌ لا نميل إلى صحّتها ، لضعف مستند أصحابها بأنّ أبا حنيفة اعتمد في ذلك على الآية الكريمة : ( مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحيرَةٍ وّلا سائِبَةٍ ولا وَصِيلةٍ ولا حَامٍ ولكِنَّ الذينَ كَفَروا يَفتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ وأَكْثَرُهْم لَا يَعْقِلُونَ ) . إذ لم نجد رابطاً منطقياً معقولاً بين معنى الآية وتفسيرها على ما ورد عند فقهاء المسلمين في تفاسيرهم للقرآن الكريم ، وبين عدم إجازة الوقف . وفي ذلك يقول الإمام القرطبي : ( وما احتجّ به أبو حنيفة من الآية لا حجّة فيه ، لأن الله سبحانه وتعالى إنّما عاب عليهم أن يتصرّفوا بعقولهم بغير شرعٍ توجّه إليهم ، وتكليفِ فُرِضَ عليهم في قطع طريق الانتفاع وإذهاب نعمة الله تعالى ، و إزالة المصلحة التي للعباد في تلك الإبل وبهذا فارقت هذه الأمور الأحباس والأوقاف ) . أو أنّ أبا حنيفة رحمه الله اعتمد حديث : ( لا حبس عن فرائض الله ) والذي رُوي أنّ رسول الله عليه الصلاة والسلام قاله ، فهو حديثٌ ضعيفٌ ولا يُعتقد أنّ الإمام أبا حنيفة قد أخذ به ، ولأنّ المراد به إن صحّ إبطالُ عادة العرب قبل الإسلام بحرمان البنات والأطفال من الإرث . ويحدّد العلامة التهانوي محلّ النزاع بين الإمام أبي حنيفة رحمه الله والجمهور ومنهم صاحباه أبو يوسف ومحمّد ” ونعتقد أنه أصاب عين الحقيقة ” بقوله : ( والنزاع إنّما هو في وقفٍ لم يتصدّق الواقف بأصله بل حبس أصله وتصدّق بثمرته و منفعته على نفسه ، أو ولده وولد ولده ، وعلى الفقراء بعدهم ، أو تصدّق به على الفقراء ابتداءً ، ولم يُضِفه إلى ما بعد الموت ، ولم يصرّح بكونه وقفاً مؤبّداً ، ولا حكم حاكمٌ بصحّته ، فهذا لا يكون لازماً عند أبي حنيفة رحمه الله حتّى كان للواقف بيعه وهبته ، وإذا مات يصير ميراثاً ) . والخلاصة كما نرى أنّ الإمام أبا حنيفة لم يختلف مع جمهور الأئمة بشأن الوقف على مسألة جوازه أم عدم جوازه ، وإنّما حول خروجه عن ملك الواقف ولزومه ، ممّا لا يعمّق اختلافاً جذرياً بين الفريقين ، فهو اختلافٌ فرعيٌ لا يمسّ روح تشريع الوقف وقطعيّة جوازه ، ولا يتعلّق إلا بشكله ومظهره ، وقد انطلق كلٌّ من الطرفين وغيرهم في إطلاق الأحكام المتعلّقة بهذا الأمر وفي تحديد القواعد الناظمة له ، وقبل ذلك في اجتهاد كلّ فريقٍ حوله ومن خلال النصوص التشريعية القطعية المتعلّقة به ، انطلقوا فيما أطلقوه من اجتهادٍ حول الوقف من روح الشريعة الإسلامية ومقصدها العامّ وغايتها الكلّية من وراء سَنِّه ، وتبنّيها له كنظامٍ إنسانيٍ راقٍ وكتشريعٍ إسلاميٍ عريقٍ ، وكمؤسّسةٍ حضاريةٍ ذات بُنىً وأهدافٍ اجتماعيةٍ واقتصاديةٍ وفكريةٍ وسياسيةٍ في غاية من الأهمية . ويمكن القول أنّ الأحناف بين موقف أبي حنيفة وموقف الصاحبين يقسّمون الوقف إلى نوعين اثنين أوّلهما ما تصدّق الواقف بأصله ، والثاني ما تصدّق بمنفعته . ويبدو أنّه لا خلاف بين الموقفين في جواز القسم الأول ( وإنِ اختلفا في لزومه وفي زوال ملكيّة الواقف عنه ) ، وأمّا القسم الثاني فلا خلاف في جوازه وسريانه بحقّ الواقف بما يتصدّق به من منفعة الوقف طيلة حياته ، وكذلك فلا خلاف بينهم في جوازه وزوال ملكية الوقف عن الواقف إن أضافه إلى ما بعد موته أو قضى به الحاكم كما ذكرنا .
ثانياً – تعريف الوقف في المذهب المالكي :
لا يشترط الإمام مالك في الوقف أن يكون مؤبّداً ، وذلك استناداً إلى حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ويرى أنّ الوقف لا يقطع ملكيّة الواقف عن الشيء الموقوف ، إذ يبقى مالكاً له من دون أن يكون له حقّ التصرّف فيه . ولذلك يعرّف فقهاء المالكية الوقف بأنّه : ( حبس الواقف للعين عن أيّ تصرفٍ تمليكيٍ ، مع جعل منفعتها مملوكةً لمستحقٍّ يحدّده الواقف بصيغةٍ معيّنةٍ وللمدّة التي يحدّدها ) . وبصيغةٍ أكثر بساطةٍ فإنّ الوقف هو : ( حبس العين على ملك الواقف ، والتبرّع بمنفعتها ) . ويكون التبرّع في هذه الحال تبرّعاً لازماً عند المالكية فلا رجعة عنه ، ويجوز أن يكون الواقف مالكاً للشيء الموقوف أو منتفعاً منه ، فلا تُشترَط ملكيّته للشيء الموقوف من أجل إجازة الوقف ، بل يمكن أن يقدّم المنفعة التي يؤدّيها الوقف لمن يحدّده من مستحقّين ، وحتّى لو كان مستأجراً للشيء الموقوف ، فيجعل منفعة هذا الشيء منزلاً أو أرضاً أو غير ذلك للموقوف عليهم طوال مدّة استئجاره أو انتفاعه به . ويأخذ العلامة الرصّاع في شرحه لحدود ابن عرفة بتعريفه للوقف فيقول أنّه : ( إعطاء منفعة شيءٍ مدّة وجوده ، لازماً بقاؤه في ملك معطيه ، ولو تقديراً ) . وهكذا فإنّ فقهاء المذهب المالكي في تعريفهم للوقف يلتقون مع الإمام أبي حنيفة ( وعلى عكس الصاحبين ) في إبقاء الشيء الموقوف على ملكيّة الواقف ، وهو ما جعلهم يجيزون الوقف المؤقّت لأنّ المال أو العين الموقوفة مازالت ملكاً للواقف برأيهم ، فيجوز لذلك أن يكون الوقف مؤقّتاً ينقضي بعد مرور المدّة التي حدّدها الواقف لوقفه باعتباره مالكاً له . وهم ” أي المالكية ” يختلفون مع جميع المذاهب الأخرى في هذه المسألة ، فلا يُجيز الأحناف ( وهم ليسوا على رأي أبي حنيفة وإنّما على رأي الصاحبين ) ولا الشافعية والحنبلية توقيت الوقف . ويختلف علماء المذهب المالكي مع الجميع أيضاً في إجازتهم لوقف غير المملوك ، أي في إجازتهم للوقف وإن كان الواقف ليس مالكاً له وإنّما له فيه حقّ تصرّف في الوقف أو انتفاعٌ به كأن يكون مستأجِراً ، فيجوز له عند المالكية وبخلاف الجمهور أن يُسبل منفعة العين التي ينتفع بها أو يستأجرها لصالح غيره ، وذلك طيلة الفترة التي يريدها ، على ألا تتجاوز المدّة التي يحقّ له فيها أن يتصرّف بهذه العين ، فلا يجوز أن يوقف داراً مستأجَرة بعد مضي مدّة استئجاره . ويمثّل الشيخ عبد الباقي الزرقاني لهذا بقوله : ( كدارٍ يوقف ماله فيها من منفعة الإجارة ، وينقضي الوقف بانقضائها ، لأنّه لا يُشترَط فيه التأبيد ) .
وبين المواقف السابقة يحضرنا أن نذكر أنّ الإمام السرخسي رحمه الله يقول أنّ الوقف حبس المملوك عن التمليك من الغير ، وفي تعريفه نجد أنّه يحبس الشيء الموقوف عن الواقف بعد وقفه ، ما يعني لزوم الوقف وعدم الرجعة عنه خلافاً للإمام أبي حنيفة ، كما ويخالفه بعمومية لفظ ( المملوك ) فلا تحديد لنوعه عقاراً كان أو منقولاً ، على خلاف أبي حنيفة أيضاً فهو لا يرى صحّة وقف المنقول . وإذاً فإنّ الإمام السرخسي يقول بعدم انتقال ملكية الشيء الموقوف ، ومع هذا لا يُباع ولا يورّث ولا يوهَب ويرى أنّ : ( أصل الجواز ثابتٌ عنده لأنّه يجعل الواقف حابساً للعين على ملكه ، صارفاً للمنفعة إلى الجهة التي سمّاها ، فيكون بمنزلة العارية ، والعارية جائزةٌ غير لازمةٍ ، فيكون الوقف عنده “حبس العين على ملك الواقف والتبرّع بريعها لجهة من جهات الخير في الحال أو في المآل ) . وعلى ذلك يمكن أن نعتبر موقف الإمام السرخسي موقفاً وسطاً ، فهو يقول ببقاء الواقف مالكاً لرقبة الموقوف مع حبسها عنه وصرف منفعتها إلى من وقع الوقف لصالحه ، وذلك كما يذهب الإمامان أبو حنيفة ومالك وبعكس رأي الصاحبين ، ويرى أنّ الوقف في حكم العارية ، ولذلك فهو جائزٌ غير لازمٍ ، كما يذهب الإمام أبو حنيفة وبعكس رأي الإمام مالك والصاحبين .
ومن حيث المبدأ العامّ فإنّنا لا نميل إلى إجازة الواقف بالرجوع عن وقفه ، لأنّ حقّ التصرّف بالملكية هو أهمّ الآثار المترتّبة عليها ، ولا يمكن تصوّر حرمان المالك من التصرّف بملكيّته بيعاً أو هبةً أو توريثاً مع بقائه مالكاً لعينها ، إذ فرغت هذه الملكية من محتواها الأهمّ وهو حقّ التصرّف بها . وهذا الحقّ ملازمٌ للمالك لا يفقده إلا بزوال ملكيّة العين المملوكة . فإمّا أن تنتقل الملكية وينتج ذلك أثره بزوال حقّ التصرّف عن مالكها وهو ما عليه مذهب الصاحبين في فقه الوقف ، وإمّا أن تبقى بحوزة مالكها الأصلي ، فيبقى له حقّ التصرّف بها تبعاً لملكيّته لها كما يرى الإمام أبو حنيفة . وبين الرأيين ( أو الآراء الثلاثة ) .. فإنّنا مع رأي الإمام مالك والصاحبين في مسألة زوال ملكية الواقف عن الوقف بعد صدور تعبيره عن إرادته بإنشاء الوقف وتوفّر شروط صحّته ، لأنّ الوقف عقدٌ كسائر العقود ينعقد وفق الشروط الشرعية المتّفق عليها ، وهو من عقود التبرّع ( أو إسقاط الملكية ) ففيه إزالةٌ لها ، ولا يجوز بعدها التصرّف بهذه الملكية ولا الرجوع عنها ، خاصّةً أنه يُشترط في الواقف كمال أهليّته لصدور التصرّف بالوقف عنه وقبوله ، لذا فإن تراجعه ونكوله عمّا التزم به وهو راضٍ وحرّ الإرادة ، لا ينسجم مع هذا الرضا والحرّية حين صدر عنه الالتزام بإخراج الوقف من ذمّته ،مادام هذا الوقف انعقد صحيحاً وضمن شروطه وضوابطه الشرعية ، والله أعلم . إضافةً إلى أنّ العمل استقرّ في العالم الإسلامي ومنذ بداية عهده بالوقف ، على منع التصرّف به إطلاقاً لا من قِبَل الواقف ولا من غيره . ومع ذلك فإنّ الأخذ بهذا المبدأ على إطلاقه ، قد لا يكون مناسباً في بعض الحالات ، فقد يتعرّض الواقف إلى طاريءٍ معيشيٍ ، أو ظرفٍ مادّيٍ ، أو مشكلةٍ صحّيةٍ تجعله بأمسّ الحاجة إلى المال ، فلا بأس أن يكون هنالك مخرجٌ بالرجوع عن الوقف أو عن بعضه إن أمكن في هذه الحالة ، وتحديد هذه الظروف ومدى حاجة الواقف إلى المال هو أمرٌ موضوعيٌ ، ويجب أن يكون من صلاحية المحكمة الشرعية وبما يناسب كلّ حالةٍ على حدة ، وفي حدودٍ ضيّقةٍ ولضروراتٍ واضحةٍ . المبحث الثاني – في أحكام الوقف وقواعده في المذهبين الحنفي والمالكي
كما تقدّم فإنّ معظم الفقهاء والعلماء المسلمين من المذهب الحنفي ، رجّحوا رأي الصاحبين أبي يوسف ومحمّد في مسألتي لزوم الوقف وعدم جواز الرجوع عنه ، بل وإنّ رأيهما هو المعتمد في المذهبين الشافعي والحنبلي أيضاً في هذا الخصوص ، وسنعتبر لدى بحثنا في أحكام فقه الوقف لدى الأحناف ما اعتبروه من رأي الصاحبين في مسائل الوقف ، وما هو متّبع الآن في تشريعات الوقف المعتمدة لدى دول العالم الإسلامي الآخذة بالمذهب الحنفي بشأن أحكام الوقف وقواعده وشروطه وأركانه وغير ذلك من متعلّقات تشريعه ، وأمّا المالكيّون فمتّفقون عموماً على آراء واجتهادات الإمام مالك بخصوص الأحكام الشرعية والقواعد الأصولية للوقف ، ولم نلحظ فوارق بينهم في ذلك .
أوّلاً – في مشروعية الوقف وسببه والحكمة منه :
1- بالنسبة للأحناف فإنّهم يعتبرون الوقف مباحاً وليس مندوباً ، ودليلهم في ذلك صحّة الوقف ولو كان الواقف كافراً ، ويعتبرون أنّ الوقف واجبٌ إن كان فيه نذرٌ ، فعلى الواقف حينها التصدّق بالمال الموقوف أو بقيمته . ويستدلّ الأحناف وجمهور الفقهاء المسلمين عموماً على مشروعية الوقف من خلال ما تقدّم من آياتٍ وردت في القرآن الكريم تحثّ على الإنفاق في وجوه الخير والبرّ والمعروف ، وكذلك من السنّة القولية والفعلية الثابتة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ، وما أُثِرَ عن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم من أعمال البرّ والصدقة التي تدخل تحت مفهوم الوقف ، وقد تقدّم الحديث عن ذلك ، كما تقدّم ذكر أنّ الحكمة من الوقف وسببه ” في الدنيا برّ الأحباب ، وفي الآخرة تحصيل الثواب ” . كما أنّ الواقف إذا وقف على من لا تجوز لهم زكاته كفروعه أو أصوله ، فإنّ الوقف صحيحٌ لكن النذر المتعلّق به لا ينقضي عن الواقف ، لأنّه صدقةٌ واجبةٌ لله تعالى ولا بدّ أن تَخلُص إليه . ومهما يكن .. فإنّ الإمام أبا حنيفة توخّى في فهمه للوقف وحكمته مقصد الشريعة منه وفق ما استنتجه من أحكامٍ حوله وكما فعل الصاحبان من بعده ، وإن اختلف الفريقان فلا جُناح عليهما وقد دار اجتهادهما المحمود في فلك المقصد العامّ للشريعة الإسلامية من الوقف . ولئنِ اختلف الفريقان في استنباط المقاصد وتحديدها ، لكنّهما اعتمدا وفي كلّ رأيٍ اعتقدا بصحّته على روح النصوص المتعلّقة بتشريع الوقف ، ولا نرى أنّ خلافهما جوهريٌ في مجمله ، لأنّ فحواه لا تتعلّق بجواز الوقف أو عدم جوازه ، وإنّما بأمرين اثنين هما لزوم عقد الوقف أو عدم لزومه ، وهل يخرج الشيء الموقوف عن ملكية الواقف أم لا ؟ . 2- وأمّا أصحاب المذهب المالكي فمختلفون عن علماء الحنفية ومتّفقون مع الجمهور في اعتبارهم الوقف سنّةً مندوباً إليها ، فالمالكية ومعهم جمهور العلماء من المذاهب الأخرى يعتبرون الوقف سنّةً عن رسول الله مندوباً إليها ، مستندين إلى ما قاله الله تعالى في كتابه الكريم من آياتٍ تحضّ على الإنفاق في وجوه الخير والبرّ والإحسان ، والوقف لديهم إنفاقٌ للمال في هذه الوجوه . ويستندون كذلك إلى حديث الصدقة الجارية وحديث عمر رضي الله عنه وقد تقدّم ذكرهما ، وأمّا الأحناف كما تقدّم فيعتبرونه مباحاً أو واجباً في حال النذر . والجميع لا يختلفون في تحديد دليل مشروعية الوقف مع بقيّة المذاهب ، وإنّما يفترقون معهم أو يفترق أصحاب كلّ مذهبٍ مع غيرهم في تحديد مفهوم الوقف من خلال أدلّة مشروعيّته ، ما يُلقي ظلال خلافٍ خفيفةٍ بينهم في تأطيرهم لأحكام الوقف وتأصيلهم لقواعده ، وفق ما استنبطوه من مقاصد وراء الآيات الكريمة التي تحثّ عليه أو السنّة النبوية الشريفة التي أقرّته ، وكما قلنا فإن ذلك لا يعدو كونه خلافاً شكلياً إجرائياً لا يتعلّق بالوقف ولا يشوب جوهره .
وبرأينا .. لقد أدّى هذا الاختلاف في تحديد المقاصد العامّة للشريعة الإسلامية من الوقف ، في توسيع أغراضه وأهدافه من خلال تعدّد وجهات النظر فيه ، فمادام تحديد المقصد العامّ للشريعة من الوقف ليس متّفَقاً عليه اتّفاقاً كاملاً ، وليس من اللازم معرفته أو تحديده بشكلٍ دقيقٍ ، ويكفي كي يقع صحيحاً ألا يخالف أحكام الشريعة الإسلامية ، وألا يَفسد مضمونه المصلحي ، فإنّ ذلك يسهم مع مرور الزمن في ازدياد مساحة شموله وتنوّع الأهداف التي يحقّقها وتعدّد الأشكال التي يمكن أن يؤدّي من خلالها دوره الذي شُرّع من أجله ويحقّق مقصد الشريعة منه .
ثانياً – في صفة الوقف في المذهب الحنفي والمذهب المالكي :
1- بالنسبة للأحناف فإنّ الوقف عند الإمام أبي حنيفة جائزٌ غير ملزمٍ ، فاعتبره تبرّعاً كالإعارة غير الملزمة فيمكن الرجوع عنه ، كما يزول بالوفاة فينتقل إرثاً إلى ورثة الواقف . وأمّا الصاحبان والأحناف عموما فيرون أنّ الوقف ملزمٌ لا يجوز الرجوع عنه إطلاقاً ، فملك الواقف يزول فتزول بزواله آثاره فلا يمكن التصرّف بالوقف ، باعتباره هبةً خالصةً أو صدقةً لا عودة عنها ، ومع اتّفاق الصاحبين على هذه القضية ، ومن بعدهم جمهور الأحناف فإنّهما ” أي الصاحبان ” يختلفان في مسألتين : فالإمام أبو يوسف يرى أنّ الوقف يزيل ملك الواقف عنه بمجرّد صدور لفظ الإيجاب ، فلا يشترط لسريان زوال الملك عن الواقف تسليمه للوقف . ثمّ إنّ الإمام أبا يوسف يجيز وقف العين وإن كانت على الشيوع مادامت قابلةً للقسمة . وأمّا الإمام محمّد فإنّه على عكس صاحبه في هاتين المسألتين ، فيرى أنّ الوقف لا يقع إلا بتسليم الشيء الموقوف إلى الجهة الموقوف عليها ، باعتباره بمثابة الصدقة أو الهبة ، وتترّتب آثار الوقف الشرعية بالتسليم ، كما لا يجوز عنده الوقف في العين التي على الشيوع وإن كانت قابلةً للقسمة . 2- ويرى فقهاء المذهب المالكي أنّ الوقف لازمٌ مادام قد وقع صحيحاً ومستوفياً لشروطه ، ويخالفون الإمام أبي حنيفة في مسألة تعليق لزومه بحكم القاضي . والوقف عندهم يلزم الواقف ولو لم يستلمه الموقوف عليه ، وهم في ذلك على رأي الإمام أبي يوسف وعلى عكس رأي الإمام محمّد ، ومادام الأحناف يُفتون في هذه المسألة برأي الإمام أبي يوسف ، فيمكن القول أنّ المذهبين الحنفي والمالكي متّفقان فيها بشأن لزوم الوقف بمجرّد صدور التعبير من الواقف عن إخراج المال الموقوف من ذمّته ، وبدون حاجةٍ لتسليمه إلى الجهة التي أوقِف عليها . ويعتبر المالكيون الوقف خلال حياة الواقف إعارةً ملزمةً له ، وبعد وفاته وصيّةً منه بالمنفعة التي يقدّمها الوقف ، ويرتّبون على هذا أنّه لا يحقّ للواقف الرجوع عن وقفه ويُجبَر على إخراجه من ذمّته إن حدث وتراجع عنه .
ثالثاً – ركن الوقف في المذهب الحنفي ، وأركانه لدى المذهب المالكي :
1- يعتبر الأحناف الصيغة التي تتكوّن من مجمل الألفاظ أو العبارات التي تدلّ على الوقف ركن الوقف الوحيد ، وهي التعبير الصادر عن الواقف ، والمقصود من خلاله إنشاء الوقلمن أراده وبالشكل الذي اختاره ، أو هي الإيجاب الذي يقرّر الواقف عقد الوقف من خلاله . وعلى هذا فإنّ الوقف عند الأحناف من تصرّفات الإرادة المنفردة ( كالطلاق أو الوصيّة .. ) وينعقد بمجرد الإيجاب ، ولا يلزم صدور قبول عن الجهة الموقوف عليها ، أي أنّ الوقف يلزم صاحبه وينعقد بإرادته المنفردة التي يعبّر عنها بإيجابه . ولذلك فإنّ قبول الموقوف عليه ليس ركناً من أركان الوقف ولا شرطاً لصحة انعقاده ، وإن كان الموقوف عليه محدّداً أم غير محدّدٍ . لأنّ الوقف عند الأحناف يُزيل الملكية ويمنع من التصرّف بها ، وأمّا الجمهور يعتبرون القبول من الموقوف عليه ركناً من أركان الوقف إن كان الموقوف عليه محدّدا ، مادام يتمتّع بالأهلية ، كما في الهبة . ونرى أنّ رأي الجمهور في هذه المسألة أكثر انسجاماً مع منطق الأحناف أنفسهم ، فمادام الأحناف يعتبرون الوقف هبةً ، فإنّ الهبة لا تنعقد إلا بالقبول ، فإن كان الموقوف عليه يتمتّع بالأهلية الشرعية للقبول ، فلا ضير من صدوره عنه لانعقاد الوقف ، وردّه للوقف يتيح للواقف فرصةً أخرى كي يوقف ماله على شخصٍ آخر أو جهةٍ أخرى . 2- وأمّا المالكية فيعتبرون كسائر الجمهور أنّ للوقف أركاناً أربعةً هي : الواقف ، والشيء الموقوف، والجهة الموقوف عليها أو لصالحها ، والصيغة التي ينجز بها الوقف لتسري آثاره . وفي ذلك يقولون أنّ ركن الشيء هو مالا يتمّ إلا به إن كان جزءاً منه أو لم يكن . بينما اعتبر أنّ للوقف ركناً واحداً هو الصيغة ، وبها يثبت الوقف عندهم ويصح وينجز آثاره ، ولم يجعلوا من القبول ركناً ولا شرطاً لصحة الوقف . وأمّا المالكية فاعتبروا القبول ركناً من أركان الوقف ، مادام الوقف محدّداً وكان الموقوف عليه قادراً على التعبير عن إرادته ومتمتّعاً بالأهلية اللازمة ليصحّ منه هذا التعبير .
رابعاً – محلّ الوقف لدى الأحناف والمالكيين :
1- يُجمع الأحناف مع الجمهور على صحّة وقف العقار إطلاقاً ، ويختلفون معهم في مسألة وقف المنقول ، فهم يرون أنّ التأبيد في الوقف شرطٌ من شروط صحّته ، ولأنّ المنقول لا يدوم فإنّه لا يجوز وقفه إلا إن كان مخصّصاً للعقار الموقوف ، كالبناء المشيّد في الأرض الموقوفة أو الأشجار والغراس المزروعة فيها ، وهم يجيزون وقف المنقول كالسلاح لورود نصٍّ بشأنه ، كما في حديث وقف خالدٍ بن الوليد رضي الله عنه ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال : ( وأما خالدٌ ، فإنكم تظلمون خالداً ، فإنّه احتبس أدرعه وأعتده في سبيل الله ) . ولا يشترِط الأحناف في العقار الموقوف أن يكون محدّدا ليصحّ وقفه بل تكفي معرفته ، وهم أجازوا كما تقدّم وعلى رأي الإمام أبي يوسف وقف العقار وإن كان على الشيوع مادام قابلاً للقسمة ، باعتبار أنّ الوقف يقع بمجرّد صدور الإيجاب عن الواقف ، فلا يكون التسليم شرطاً له ، ولذلك يقع الوقف على العقار وإن كان مشاعاً ، ولكن بشرط أن يكون قابلاً للقسمة . وهم لا يجيزون وقف حقوق الارتفاق المتعلّقة بالعقار لأنّها حقوقٌ ماليةٌ ، لا يجري عليها الوقف ، ويجيزون وقف المرهون من قبل الراهن ، ولكن يبقى حقّ المرتهن متعلّقاً به إلى أن يَفيَه الراهن مالَه وإلا فإنّ له الحقّ في إبطال الوقف . ولا يجيزون للمستأجر وقف منفعة المنزل الذي يستأجره لأنّه غير مالكٍ له ، ولأنّ التأبيد في الوقف شرطٌ لصحّته . 2- وأما المالكيّون فيجيزون وقف المنقول على عكس الأحناف ، وذلك لعكس العلّة التي يحتجّ بها الأحناف في عدم إجازتهم لهذا ، باعتبار أنّ المالكية لا يشترطون التأبيد في الوقف ، وأمّا الأحناف فيشترطونه . فمادام الوقف لدى المالكية يمكن أن يكون مؤقّتاً ، فما من سببٍ لديهم لمنع إجازة وقف المنقول الذي لا يتمتّع بصفة الديمومة ، والذي لا يجيز الأحناف وقفه لنفس السبب . ” ويقول ابن جزي المالكي : ( يجوز تحبيس العقار كالأرضين والديار والحوانيت والجنّات ، والمساجد ، والآبار ، والقناطر والمقابر ، والطرق وغير ذلك . ولا يجوز تحبيس الطعام لأنّ منفعته في استهلاكه ، ولكن نصّ الإمام مالك ومن بعده الشيخ خليل على جواز حبس الطعام والنقد ، وهو المذهب وينزل ردّ بدله منزلة بقاء عينه ) . وإذاً فإن المالكية يجيزون وقف العقار والمنقول بالمطلق ، ومهما كان وضع المنقول ، أكان مستقلاً بذاته أم مرتبطاً بعقارٍ ومخصّصاً له ومهما كان نوع الوقف . وأمّا بحسب المذهب الحنفي ، فلا يمكن أن يوقَف سوى العقارات . وأمّا المنقولات فلا يمكن وقفها ما لم تكن تابعةً للعقار . ويعتبر الفقه الإسلامي الإنشاءات والمزروعات منقولات ، وهي التي يجيز المذهب الحنفي وقفها بصورةٍ استثنائيةٍ تبعاً لوقف العقار . أمّا المذهب المالكي فهو بصدد صحّة وقف المنقولات ، مختلفٌ عن المذهب الحنفي ، فيجيز هذه الأوقاف في جميع الحالات . ونعتقد أنّ وقف المنقول في هذا العصر يؤدّي مصلحةً حقيقيةً واضحةً ، بسبب تعدّد المنقولات وتنوّع أغراضها ووظائفها ، ووفرة الخدمات التي تؤدّيها ، مما لم يكن موجوداً في العصور الماضية ، خاصّةً بالنسبة لوسائل النقل أو الأجهزة الكهربائية المتنوّعة والأثاث والمفروشات والعدد الصناعية والزراعية ، وغير ذلك مما لا يمكن حصره .. . فلا بأس من وقف السيّارات أو الحافلات على أداء خدمةٍ معيّنةٍ كنقل الحجّاج أو طلبة المدارس ، أو وقف أجهزة الحاسوب لمصلحة مدرسةٍ أو منشأةٍ تعليميةٍ ، لأنّ كلّ ذلك ومثله يقدّم المنفعة ويتوخّى المصلحة التي هي روح نظام الوقف وعلّة تشريعه . وبالنسبة لوقف المشاع فإنّ فقهاء المذهب المالكي لا يجيزونه في الشيء الموقوف الذي لا يقبل القسمة ، ويجيزونه إن كان يقبلها ، والسبب في ذلك أنّ تسليم الموقوف عندهم شرطٌ لصحّة الوقف ، فلا ينعقد الوقف بمجرّد صدور الإيجاب بل يُشترط تسليم الشيء الموقوف للجهة الموقوف عليها . كما عند الإمام أبي يوسف الذي يرى أنّ الوقف يُزيل ملك الواقف عنه بمجرّد صدور لفظ الإيجاب فيجيز وقف المشاع مادام قابلاً للقسمة . وذلك بخلاف الإمام محمّد الذي لا يجيز وقف المشاع وإن كان قابلاً للقسمة لأنّه يشترِط التسليم . أي أنّ المالكية أجازوا وقف العين التي على الشيوع مادامت قابلةً للقسمة ، وذلك لأنّهم اعتبروا التسليم شرطاً لصحّة الوقف ، وأما الإمام أبو يوسف فلم يعتبر التسليم شرطاً للصحّة ومع هذا فقد أجاز وقف المشاع القابل للقسمة لأنّ الوقف صحيحٌ عنده بمجرّد صدور الإيجاب عن الواقف ، وقبض الموقوف وتسليمه ليس شرطاً لصحّة الوقف . وهذا يعني أنّ الإمام محمّد ذهب إلى اشتراط التسليم كالمالكية ، ولكنّه ولنفس الشرط رأى أنّ وقف المشاع لا يجوز لعلّة أنّ قبض الوقف شرطٌ عنده لصحّته ، معتبراً أنّ القبض في الوقف الذي على الشيوع غير ممكنٍ حتّى وإن كان قابلاً للقسمة ، لأنّ التسليم لا يمكن أن يتمّ إلا بحدوث القسمة فعلاً ، وأمّا قبلها فالتسليم غير ممكنٍ ولذلك فإنّ الوقف لدى الإمام محمّد غير جائزٍ في هذه الحالة . ومادام الأحناف على مذهب أبي يوسف في هذه المسألة فقد اتّفقوا إذاً مع المالكية في إجازة وقف المشاع الذي يقبل القسمة ، مع أنّ الإمام أبا يوسف لم يشترِط تسليم الشيء الموقوف ، واشترط ذلك فقهاء المالكية .
وتقدّم أنّ فقهاء المذهب المالكي أجازوا وقف العين المؤجّرة ، لأنّ الوقف واقعٌ على المنفعة التي يملكها الواقف من استئجاره ، ولا تزيد مدّة الوقف عن مدّة الاستئجار ، والعلّة في ذلك أنّه لا يُشترط أن يكون الوقف مؤبّداً كما هو الحال لدى فقهاء بقيّة المذاهب .
خامساً – مركز الوقف وحكم زوال ملكه عن الواقف لدى المذهبين :
1- ذكرنا أنّ الإمام أبا حنيفة رحمه الله لا يرى بزوال ملك الوقف عن الواقف فلا يلزمه ، وله أن يرجع فيه وأن يتصرّف به فإن مات ورّثه لورثته ، فلأبي حنيفة شروطٌ لزوال ملك الواقف عن الوقف وهي كما ذكرنا قبلاً : إمّا إنشاء مسجدٍ عليه ، أو صدور حكم من الحاكم وهو القاضي الشرعي الذي يقع الوقف في دائرته القضائية ، أو بموت الواقف الذي علّق بوقفه شرطاً بعد الموت . وأمّا الصاحبان فيريان أنّ الوقف يزول عن ملك صاحبه بإرادته ، فلا يعود له حقّ بالتصرّف فيه . ويسري زوال هذه الملكيّة من وقت صدور الإيجاب عن الواقف على قول الإمام أبي يوسف ، وبتسليم الموقوف على قول الإمام محمّد وبما يناسبه ، فإن كان مسجداً فبتحديده وإفرازه ، وإن كان غير ذلك فبتعيين ناظرٍ له وتسليمه إيّاه .
2- وأمّا فقهاء المذهب المالكي فيذهبون إلى اعتبار أنّ الشيء الموقوف يظلّ ملكاً لواقفه ، وتنصرف ملكيّة منفعته إلى الجهة الموقوف عليها ، مستندين إلى ما تقدّم من حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام بشأن أرض عمر رضي الله عنه ، فقد خلصوا من خلاله إلى أنّ المقصود من الوقف حبس العين عن التصرّف مع بقائها في ملك الواقف ، وتسبيل ثمرة هذه العين أو منفعتها لصالح من أوقِفت عليه . وهم في ذلك على رأي الإمام أبي حنيفة ، وبخلاف الإمامين أبي يوسف ومحمّد في هذه المسألة الذين يريان أنّ الوقف عندما ينعقد صحيحاً فإنّه يخرج من ملك الواقف ، ويغدو وقفاً على ملك الله عزّ وجلّ وليس على ملك الجهة الموقوف عليها ، وإن اختلفا في مسألة تسليم الوقف . ولقد اشترط فقهاء المالكية لصحّته قبضه وتسليمه لأنّهم اعتبروه هبةً ، ورأوا أنّ موت الواقف أو مرضه قبل موته أو إفلاسه قبل أن يسلّم الشيء الموقوف يجعل الوقف باطلاً .
وتجدر الإشارة أخيراً إلى أنّ للوقف بحسب الجهة التي كُرّس من أجلها أو أوقف عليها ثلاثة أنواعٍ ، فإمّا أن يكون وقفاً خيرياً أو وقفاً ذُرّياً أو أن يكون مشتركاً بينهما :
– والوقف الخيري هو الوقف الذي يجري لمصلحة جهةٍ خيريةٍ ولو كان ذلك لأمدٍ محدّدٍ ، ويكون هذا الوقف بعد ذلك لصالح شخصٍ معيّنٍ أو أشخاصٍ معيّنين . – وأمّا الوقف الذُرّي فيكون لمصلحة الواقف ، أو لمصلحة شخصٍ أو أشخاصٍ يرغب أن يستحقّوا هذا الوقف وهم من أهل الواقف أو أقربائه ، ومن ثمّ يكون استحقاقه في النهاية لصالح جهةٍ خيريةٍ . – وقد يكون الوقف مشتركاً فيجمع بين الوقفين الخيري والذُرّي . ويقول الدكتور إبراهيم البيّومي : ( إنّ تقسيم الأوقاف بهذه الطريقة ليس معروفاً في فقه الوقف ، وإنّما هو تقسيمٌ عرفيٌ ثبّتته الحكومات الحديثة لتسهيل سيطرتها على الأوقاف ) . ولقد ذهب بعض العلماء في العصور الحديثة من الإسلام إلى الإفتاء بتحريم الوقف الذُرّي أو الأهلي مطلقاً ، معتبرين أنّ الوقف للذُرّية لا ينسجم مع مضمون الوقف ، ويتعارض مع أحكام الوصيّة والمواريث ، ولم نجد ما يؤيّد هذا الاتّجاه سوى بضعة آراء لا تتّفق مع رأي عموم جمهور الفقهاء حول جواز الوقف للذُرّية كما فعل الكثير من الصحابة في عهد الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم ، وسوى ما ذهبت إليه بعض القوانين الوضعية في العالم العربي كما في مصر وسورية دون مبرّرٍ معقول لإلغاء الأوقاف الذُرّية
الباب الثالث : شروط الواقفين ومقاصد الشريعة الإسلامية
مدخلٌ حول تأثير شروط الواقفين في طبيعة الأوقاف
لا شكّ أنّ لنظام الأوقاف طابعٌ خاصٌّ يميّزه عن غيره من الأنظمة أو المؤسّسات أو الأشخاص الاعتبارية على تعدّد أغراضها ، فللوقف طبيعةٌ ماليّةٌ خاصّةٌ ، بسبب تميّز مصادر أصول أموال المشاريع والاستثمارات والعائدات الوقفية عن مصادر غيرها من الشركات أو المؤسّسا أو المنشآت التي تهدف إلى تحقيق الربح ، وحتّى تلك التي تؤدّي دوراً خدمياً أو استهلاكياً معيّناً ، كالمرافق العامّة أو مؤسّسات النفع العامّ الحكومية ، لأنّ ذلك لا يصبغ طابعها بطابع الأوقاف ، فللوقف طابعٌ فريدٌ لا يتمتّع به غيره من تلك المرافق أو المؤسّسات ، وهو طابع الصدقة الجارية التي تنصرف إرادة الواقف إلى إنشائها ، متنازلاً فيها عن عين ماله أو عن ريعها أو جزءٍ منه طيلة حياته ، راغباً في الثواب بعد موته .
ومن ناحيةٍ أخرى فإنّ تعدّد الأهداف والأغراض التي يضطلع نظام الأوقاف بتحقيقها ، وشمولية طابع هذا النظام ، من حيث أنّه ليس نظاماً اقتصادياً يهدف إلى الربح أو مؤسّسةً تقدّم الرعاية الاجتماعية فقط ، وليس منشأةً ينتهي دورها بتقديم المساعدات العلمية أو التربوية أو الإرشادية والدعوية ، أو مجموعةً من المرافق العامّة التي تحقّق النفع فحسب .
بل إنّ الوقف يجمع ويشمل كلّ هذه وغيرها كثيرٌ من الوظائف والأهداف ، ومع هذا فإنّ كلّ المسائل الإجرائية والشؤون التنفيذية والأعباء المختلفة التي يؤدّيها الوقف ، تشكّل الجانب المادّي الذي يعطي للوقف شكله العملي ، وأمّا جوهر الوقف الحقيقي فهو جانبه المعنوي الذي يحيط بكلّ عناصره المادّية إحاطة الروح بالجسد . وفقدان هذا الاعتبار في تلازم الجانبين ، يعني انهيار المنظومة التي يقوم عليها الوقف وفساد المعنى الذي من أجله شُرّع هذا النظام .
لأنّ الشريعة الإسلامية لما ندبتِ الوقف أو أباحته ، فلسببين : أوّلهما ما يقدّمه الوقف من مصلحةٍ للموقوف عليهم ، وهذا جانبٌ عمليٌ يحتويه الوقف كنظامٍ له عناصر مادّيةٌ لا يقوم إلا بتوافرها ، والسبب الآخر ما يحمله الوقف من قيمٍ إيمانيةٍ وتعبّديةٍ شكّلت الدافع النفسي والروحي لدى الواقفين ، فكانت سبباً في إقدامهم على إنشاء أوقافهم تقرّباً إلى الخالق عزّ وجلّ وإيماناً بثوابه على أفعال البرّ والصدقة التي أرادوا القيام بها طمعاً في هذا الثواب .
ولذلك كان لا بدّ من أجل تحديد المنهج القويم في تأصيل قواعد الوقف وأحكامه ، الوقوف عند جميع أبعاده وأهدافه ومراميه من جانبٍ ، والإحاطة بكلّ شروطه وأركانه وقواعده من جانبٍ آخر ، للربط بين هذه الأبعاد والأهداف والمرامي ، وبين الشروط والأركان والقواعد الصحيحة للوقف كما توخّتها الشريعة وأصّلها الفقه . وذلك كي لا يكون هناك تضادٌّ أو تعارضٌ أو تناقضٌ بين الجانبين المعنوي والمادّي للوقف ، لأنّ الجانب الأوّل هو غاية الشريعة من الوقف والثاني هو وسيلتها لتحقيق هذه الغاية . وضبط الوسائل لتحقيق غاية الشريعة الإسلامية من تشريع الأوقاف ، هو الركن الذي يُبنى عليه نجاح هذا النظام ، لإنجاز ما أُنيط به أن يحقّقه من أهدافٍ وأغراضٍ وغاياتٍ .
وسنوجز في الفصل الأوّل من هذا الباب في ذكر الشروط العامّة للوقف ، والتي استقرّ الفقه الإسلامي على ضرورة توافرها في أركانه الأربعة .
ثمّ نفصّل في فصله الثاني في مسألة الشروط التي يضعها الواقف عند إنشاء الوقف ، وفق المنهج المطلوب في موضوع هذا البحث ، ولِما لها من تأثيرٍ كبيرٍ على بنية نظام الوقف ، ولعلاقتها الوطيدة بمفهوم الوقف ومشروعيّته وغايته ومقصد الشريعة منه ، ولارتباطها الوثيق مع الوقف عموماً ومع محلّه بشكلٍ خاصّ ، فلا يمكن الفصل بينهما لأنّ صحّة الوقف متعلّقةٌ بصحّة الشروط التي سمح الشارع للواقف بها وأقرّه عليها ، كي لا تخالف مضمون الوقف وجوهره ، وكي يؤدّي الوقف دوره العظيم الذي من أجله شُرّع ، وكلّ ذلك في إطار مقاصد الشريعة وغاياتها ، معتمدين على الفقه والإفتاء الشرعي الإسلامي لتوضيح هذه العلاقة الوثيقة بين شروط الواقفين ومقاصد الشريعة .
ونخصّص الفصل الثالث لبحث ضرورة ضبط شروط الواقفين بمقاصد الشريعة ، وأهمّية ذلك في نجاح نظام الوقف وكفاءته ، وحسن أدائه لمهامّه ووظائفه ، وتحقيقه لأعلى درجات المصلحة المطلوبة والمنفعة المنشودة منه .
الفصل الأوّل – في الشروط العامّة للوقف
يُقصد بالشروط العامّة للوقف ، مجموعة الشروط الواجب توافرها في أركانه الأربعة وهي الواقف ، والموقوف ، والموقوف عليه ، والصيغة .
وسنستعرضها باختصارٍ قبل أن نفصّل في موضوع شروط الواقفين ، وهي مجموعة الشروط التي يضعها الواقف عند إنشاء الوقف ، وأهمّيتها البالغة في تكوين الوقف وإضفاء طابع الشرعية عليه ، وفي تحديد مدى تعلّقها وارتباطها به بالشكل الذي لا يخالف الشريعة ، ويضمن في ذات الوقت للشيء الموقوف أن يؤدّي دوره المقصود وبالشكل المناسب .
ولقد فصّل علماء الفقه الإسلامي في موضوع شروط الوقف ، ففرّقوا بين الشروط التي يمكن أن يشترطها الواقف ، وبين الشروط المتعلّقة بالواقف والموقوف والموقوف عليه وصيغة الوقف ، باعتبار أنّ هذه العناصر الأربعة هي أركان الوقف على ما يذهب إليه جمهور الفقهاء ما عدا الحنفية .
وفي كلّ الأحوال فإنّ الغاية التي نشدها فقه الوقف منذ نشوئه ، هي تحقيق الربط بين هذا النظام وبين هدف الشريعة الإسلامية من إنشائه ، أي ضبط شروط الوقف ، وتأصيل قواعده ، وتنظيم أحكامه بما يتلاءم مع المقاصد العامّة للشريعة الإسلامية ، وكذلك مع مقاصدها الخاصّة من تشريع الوقف . ليبقى هذا التشريع جزءاً متجانساً مع مجمل النسيج التشريعي المتين للإسلام . ودائراً في فلك مقاصد شريعته الغرّاء . ولا مجال هنا للتوسّع في شرح الشروط المتعلّقة بأركان الوقف . فرأينا أن نستعرضها بعجالةٍ ، قبل أن نخوض في بحث الشروط التي يجوز للواقفين اشتراطها في الوقف ، بسبب العلاقة التبادلية بين الموضوعين . أوّلاً – بالنسبة للواقف : يشترط الفقه الإسلامي عموماً أن يكون الواقف أهلاً للتبرّع كي يقع الوقف منه صحيحاً ، وهذا يعني أن يتمتّع الواقف بالحرّية فلا يجوز أن يكون الواقف عبداً لأنّ العبد لا يملك ، ولا يجوز أن يكون الواقف غير مالكٍ للمال المراد وقفه ، أو مالكاً له بغصبٍ أو بسببٍ باطلٍ ، ويجب أن يتمتّع الواقف بحرية التصرّف فلا يجوز أن يكون محجوراً عليه . ويجب أن يكون الواقف عاقلاً ، فلا يجوز وقف المعتوه أو المجنون أو ناقص التمييز ، ويجب أن يكون بالغاً ، فلا يصحّ وقف غير المميّز ولا المميّز إلا بالبلوغ ، وينبغي أخيراً أن يكون الواقف رشيداً غير محجوز عليه لسفهٍ أو إفلاسٍ كما في كلّ المعاملات والعقود المالية . ثانياً – بالنسبة للشيء الموقوف : يُشترط أن يكون مالاً متقوّماً ومعلوماً ومملوكاً للواقف ملكيّةً خالصةً . وقد تقدّم أنّ الأحناف يشترطون أن يكون المال الموقوف عقاراً لاشتراطهم التأبيد في الوقف ، ويجيزون وقف المنقول التابع للعقار والمخصّص له . وأمّا فقهاء المذهب المالكي فأجازوا وقف المنقول مهما كان ، وبالطبع لا يجوز عند الجميع وقف المال إذا كان غير شرعيٍ ، أو غير مفيدٍ ، أو لا يدوم نفعه كالطعام والشراب . ثالثاً – بالنسبة للموقوف عليه : قد يكون محدّداً أو غير محدّدٍ ، وقد يكون فرداً واحداً أو أكثر ، أو مجموعةً غير محدّدةٍ من الناس ، ويُشترَط في الموقوف عليه المحدّد توفّر أهلية الامتلاك أو التملّك فيه . رابعاً – بالنسبة لشروط صيغة الوقف وألفاظها : تقدّم أنّ الأحناف لا يشترطون القبول من الجهة الموقوف عليها بعد صدور إيجاب الواقف ، ولو كان الشيء الموقوف معيّناً ، وأمّا المالكيين فيشترطون القبول من الموقوف عليه مادام معيّناً وبإمكانه التعبير عن إرادته بالقبول . ويجب أن تكون الألفاظ التي تتكوّن منها صيغة الوقف معبّرةً عن إرادة الواقف بإنجاز الوقف ، وكلّ لفظٍ يدلّ على ذلك جائزٌ كأن يقول الواقف : إنّ بيتي صدقةٌ موقوفةٌ للفقراء ، أو أنّه موقوفٌ لوجه الله تعالى ، أو وقفت أرضي هذه على وجوه الخير . وجميع المذاهب خلا المذهب المالكي تشترط أن تدلّ صيغة الوقف على التأبيد ، وكذلك على التنجيز ، فالمالكيون وحدهم يجيزون ألا يكون الوقف منجزاً حال صدور الإيجاب ، فيمكن عندهم تعليق الوقف على شرطٍ إن كان الشرط صحيحاً . ثمّ ويُشتَرط في الصيغة أيضاً الإلزام ، فليس في الوقف تعليقٌ على شرط خيارٍ أو رجوعٍ ، باستثناء المالكية أيضاً . ويشترط الجميع في الصيغة ألا يَشترط الواقف شرطاً باطلاً كاشتراطه بقاء الموقوف في ملكه ، أو شرطاً فاسداً مخالفاً للشريعة ، أو مخلاً بالموقوف أو بمنفعته ، وكلّ ذلك يدخل ضمن ما سنتطرّق إليه في مسألة شروط الواقفين وأنواعها .
الفصل الثاني – شروط الواقفين وأهمّيتها في نظام الوقف
المبحث الأوّل – تعريف شروط الواقفين
يمكن القول أنّ المقصود بشروط الواقفين : ( مجموعة الرغبات والبواعث التي يعبّر عنها الواقفون من خلال ضوابط وقواعد يحدّدونها في صيغة الوقف الذي أنشأوه ، لبيان طرق استثمار وإدارة هذا الوقف ، ووسائل استغلاله ، ولتحديد المستحقّين الذين يرغبون بهم ، ومقدار حصصهم من ريع الوقف ، وترتيبهم في الاستحقاق ، كما ولتعيين الولاية على الوقف وكيفيّة الإنفاق عليه ) .
وهذا يعني أنّ الواقف عند إنشائه للوقف بالصيغة المطلوبة المعبّرة عن صدور إرادته بذلك ، فإنّما يمتلك الحقّ في وضع شروطٍ خاصّةٍ يرغب بها ، أو ضوابطَ معيّنةٍ تحكم الوقف الذي أنشأه ، أو قواعدَ أساسيّةٍ تحدّد أهدافه من الوقف ، والشكل الذي يرغب به ، وينصرف هذا إلى جميع مستلزمات ذلك ، فيحدّد المستحقّين وحصص كلّ منهم ، كما له أن يحدّد طرق استثمار الوقف واستغلاله ، ويعيّن الوليّ عليه ويشترط له ما يريد ، وغير ذلك ممّا لا مجال لحصره بشكلٍ مطلقٍ . وينشئ الواقف لنفسه هذا الحقّ من خلال ما يشترطه من شروطٍ تتعلّق بذلك ، والتي تَرِدُ في الصيغة التي يُطلقها عند إنشاء الوقف . ولا يوجد شكلٌ محدّدٌ لهذه الصيغة التي تتضمّن شروط الواقف ، فقد يقول أنّه : يشترط كذا في وقفه ، أو : وقفت على فلانٍ وفلانٍ ولكنّ لفلانٍ كذا وأمّا لغيره فكذا ، أو يقول : هذا وقفٌ لفلانٍ ومن بعده للفقراء أو لطلبة المدارس .. . وإنّ حقّ الواقف بالاشتراط يجعل للشروط التي يضعها أهمّيةً كبرى ومكانةً متميّزةً ، لأنّ أساس إرادته بوقف المال ، كان بسبب رغبته في إنشاء الوقف بالطريقة التي يرغب هو بها وبالشكل الذي يريده ، ولصرف منافع الوقف كما يحبّ ويتمنّى ، وفي ذلك يقول ابن قيّم الجوزية : ( إنّ الواقف لم يُخرج مالَه إلا على وجهٍ معيّنٍ ، فلزم اتّباع ما عيّنه في الوقف من ذلك الوجه ) . ويبدو جليّاً أنّ العنصر النفسي في شروط الواقفين هو العنصر الكامن وراء إنشاء الأوقاف في معظم الحالات إن لم نَقُل كلّها ، واستناداً على الدوافع النفسية والرغبات الشخصية للواقفين تمّ وضع الشروط المتعلّقة بالأوقاف ، فهي شروطٌ عمليةٌ تُعنى ببيان كافّة الأمور الإجرائية والتطبيقية فيه ، ولكنّ بواعثها نفسيّةٌ محضةٌ ، وقائمةٌ على اعتباراتٍ شخصيةٍ معيّنةٍ ، ولأسبابٍ تعبّديةٍ إيمانيةٍ أو دوافعَ إنسانيةٍ خاصّةٍ بالواقف . ومادام الوقف عقداً ولو أنّه من عقود الإرادة المنفردة ، لذا ينبغي كي ينعقد صحيحاً أن تصحّ شروطه . وباعتبار أنّه عقدٌ لا رجعة فيه ، لذا كان من الضروري أن تُؤخذ شروط الواقف ويُعمل بها كي يقع الوقف صحيحاً ، خاصّةً وأنّ الشروط التي يضعها الواقفون هي شروط انعقادٍ ، فلا ينعقد الوقف إلا بها ، ومخالفتها أو عدم اعتبارها ( إن كانت جائزةً ) يعني بطلان عقد الوقف . إضافةً إلى أنّ إرادة الواقف الصحيحة والحرّة ، هي التصرّف الأساسي الذي بُني عليه وجود الوقف بأكمله ، فلم يكن للوقف أن يخرج إلى حيّز الوجود لولا صدور هذا التصرّف الذي أنشأته إرادة الواقف ، وهذا الإنشاء ليس وقتيّاً أو محدّداً بزمن ، بل هو إنشاءٌ لنظامٍ يتمتّع بصفتي الديمومة والاستمرار ، كما ويتميّز بالتطوّر والتنوّع والنموّ ، ومن المفروض بسبب هذه الطبيعة الإنشائية لشروط الواقف ، أن تُحاط بالعناية والالتفات والانتباه ، كما وأن تُعامَل معاملة الشروط الملزِمة ، مادامت معتبرةً على ما سنرى .
وتأسيساً على ذلك اعتبر فقهاء المسلمين شرط الواقف كنصِّ الشارع ، ورأى بعضهم انصراف العبارة إلى فهم الشرط ودلالته والعمل به ، وقصد آخرون انصرافها إلى الفهم والدلالة فقط . فرأى الأحناف أنّ شرط الواقف كنصِّ الشارع في الفهم والدلالة ووجوب العمل به ، وأوجب المالكية والشافعية والحنابلة اتّباع شرط الواقف إن كان جائزاً ولو كان مكروهاً ، مادام غير ممنوعٍ شرعاً . ومن الأنسب القول في هذا الشأن أنّ شرط الواقف كنصّ الشارع إن كان هذا الشرط معتبراً شرعاً .
وعلى أيّ حالٍ فإنّ الاختلاف الفقهي حول هذه القضيّة ، لا يتعلّق بمشروعيّة الشرط ، فشروط الواقف التي يجب أن تُتّبع وتُعتبر في الوقف ، ينبغي ألا تكون مخالفةً لأحكام الشريعة ومقاصدها ، وألا تُفسد مضمون الوقف أو تُتلف المصلحة المبتغاة منه ، ولا يختلف فقهاء المسلمين في هذا الأمر فيعتبرون أنّ شروط الواقفين التي ينبغي إعمالها وتطبيقها ، هي تلك الشروط التي لا تخالف أصول الشرع أو تخلّ بأحكام الوقف ومحتواه ، وذا لبّ فكرة هذا الجزء من البحث .
المبحث الثاني – في أنواع الشروط التي يضعها الواقفون
الوقف كغيره من المعاملات في الإسلام تشريعٌ لا يجوز أن يخالف في أحكامه وأهدافه أحكام الشريعة الإسلامية ، كما لا يمكن تصوّر مخالفته لمقاصدها ، إذ تدور مقاصده الخاصّة في فلك مقاصدها العامّة ، كي يكوّن نظاماً يحقّق جزءاً من هذه المقاصد التي تهدف إلى تحقيق مصلحة الناس وتقديم المنفعة لهم في الآجل والعاجل . ولذلك كان من الضروري بل من الواجب الالتفات إلى هذه المسألة بكلّ عنايةٍ ممكنةٍ ، وبحذرٍ وحرصٍ شديدين ، لأنّ خروج التشريع عن مقصد الشريعة منه يعني غياباً عنها وتفريغاً له من محتواه الذي يفسّر العلّة من وجوده ويوضّح سبب تشريعه . ولكي يحقّق الوقف هذا الغرض ، ينبغي أن تكتمل وتتكامل العوامل اللازمة لذلك ، وهذا رهنٌ بوقوع الوقف صحيحاً ومستكملاً لشروط انعقاده وسريانه ضمن ما حدّدته الشريعة وفرضته من قواعد وأحكام ، كما وبحفظ حقّ الواقفين في تحديد مآل مالهم الذي تبرّعوا به فأخرجوه محبّةً وطواعيّةً من ذمّتهم على ملك الله تعالى ” وهو مالك النفوس والضمائر ووارث الكون ” ، فلقد أخرجوا المال الموقوف إلى ملكه العظيم إيماناً منهم بأنّ هذا العمل يحقّق المنفعة والفائدة للناس الذين أوقفوا أموالهم عليهم ، وبما يحقّق رغبتهم من وراء ذلك العمل وهي التقرّب إلى الله تعالى طمعاً في كسب ثوابه من خلال هذه الهبة أو التبرّع أو الصدقة التي هي محتوى الوقف وفحواه ، وعلى أن تُحترم رغباتهم الشخصية فيما ذهبوا إليه من شروطٍ ، لأنّهم وببساطةٍ شديدةٍ قد أوقفوا أموالهم شريطة أن تُحترم تلك الرغبات ، وإلا ما كانوا فعلوا ! .
ولذلك فإنّ الوقوف على الشروط والضوابط التي يضعها الواقفون عند إنشاء الأوقاف أمرٌ على غايةٍ من الأهمّية ، لأنّ هذه المسألة هي التي تحدّد مدى انسجام المطلوب من الوقف الذي انعقد صحيحاً بعد استكمال الوقف لشروط صحّته المطلوبة في أركانه وعناصره ، وبين المطلوب من الوقف تحقيقه والمقصود من وراءإنشائه. فلقد يقع الوقف صحيحاً من ناحية الشروط الواجب توافرها في أركانه ، أي في الواقف والموقوف والموقوف عليه وصيغة الوقف ، ثمّ يَشترط الواقف في صيغة وقفه شرطاً مخالفاً لأحكام الشريعة ، أو شرطاً فاسداً أو مخلاً بمصلحة الوقف أو الموقوف عليهم أو الناس عموماً ، أو شرطاً غريباً وخارجاً عن مفهوم الوقف ذاته من حيث هو صدقةٌ موجّهةٌ إلى خير الناس وهادفةٌ لتحقيق مصلحتهم ، فيفرغ الوقف من محتواه ويخرج عن مساره الشرعي . ولذلك كلّه احتلّت مسألة شروط الواقفين تلك الأهمّية القصوى في تشريع الوقف ، وبحيث أصبحت تشكّل العنصر الأهمّ في تكوين هذا التشريع كي يتمتّع بعناصر مشروعيّته ووجوده وبقائه ، فلا يخرج عن دائرة المقاصد العامّة للشريعة الإسلامية بمعارضة روحها أو بمخالفة بواعثها . ولذلك فمن اللازم أن تكون شروط الواقفين في أوقافهم محكومةً بالمقاصد وخاضعةً لغاياتها في تحقيق مصالح الناس .
وقبل أن نبدأ باستعراض التقسيمَين اللذين وضعهما الفقهاء في شروط الواقفين لاعتباراتٍ مختلفةٍ ، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ اختلاف الآراء وتباينها حول هذا الموضوع هو اختلافٌ يتعلّق بمقاصد هذه الشروط ومجال تطبيقها ، اعتماداً منهم على أنّ الشروط التي يضعها الواقفون في الأوقاف التي ينشؤونها ينبغي ألا تخالف الشريعة وأحكامها ، وأن تحقّق غايات الواقفين المشروعة ، وأهداف الوقف المقصودة ، ومصلحة المستحقّين المنشودة ، فلا يمكن حال ذلك مخالفة هذه الشروط أو الإعراض عنها إلا في حالات المصلحة الراجحة أو الضرورة المعتبرة .
ولقد قسّم الفقهاء أنواع الشروط التي يشترطها الواقفون في أوقافهم وفق اعتبارين رئيسين إلى نوعين من الشروط :
النوع الأول – وفيه تُقسَّم شروط الواقفين من حيث محلّ وقوعها أو الجهة التي تنصرف إليها وتتعلّق بها ، فيفرقون بين شروط الواقفين المتعلّقة بالموقوف ، وشروط الواقفين المتعلّقة بالموقوف عليه :
1- بالنسبة للشروط المتعلّقة بالموقوف – لا بدّ أن يقع الوقف على الشيء الموقوف ملزماً للواقف ، منجزاً للعقد في حينه ، فلا يُقبل التعليق على شرطٍ أو سببٍ أو واقعةٍ معيّنةٍ على ما يذهب إليه الجمهور ، فإن كان ما يشترطه الواقف في هذا المعرض منسجماً مع مضمون الوقف ومقتضاه ، ويحقّق الهدف من إنشائه كأن يشترط عدم التصرّف في الوقف فلا إشكال في ذلك ، ولا خلاف في وقوع الوقف صحيحاً ، لأنّ شروط الواقف وافقت تشريع الوقف ومضمونه . وأمّا إن خالفت شروط الواقفين هذه القاعدة فتناقضت مع مفهوم الوقف أو خالفت الشريعة ، فلا يمكن الاعتداد بهذه الشروط أو العمل بها ، لأنها باطلةٌ غير صحيحةٍ ، وتُبطل الوقف بسبب مخالفتها لشكله ومضمونه .
2- أمّا بالنسبة للشروط المتعلّقة بالموقوف عليه – فقد تتعلّق بالوقف من ناحية مآله أو شكله أو طريقة تصرّف المستحقّين به ، وإنفاقهم عليه ومحافظتهم على رقبته ، كأن يشترط الواقف استبدال الوقف في حالاتٍ معيّنةٍ . وقد تتعلّق هذه الشروط بالموقوف عليهم من حيث تحديد حصصهم أو ترتيبهم في الاستحقاق ، أو تتعلّق بتعيين الولاية على الوقف وإدارته ونظارته وشروط ذلك وضوابطه . وفي النوع الثاني من تقسيم شروط الواقفين – فإنّ الفقهاء يفرّقون بين شروط الواقفين باعتبار تأثيرها في صيغة الوقف أو عدم تأثيرها ، معتمدين هذا التقسيم لتوضيح قواعدها واستنباط أحكامها الشرعية ، وربط ذلك بصحّة هذه الشروط ، ومهما كان المحلّ الذي تقع عليه فيقسّمونها إلى ثلاثة أقسامٍ :
1- شروطٌ صحيحةٌ يقع الوقف بها صحيحاً .
2- وشروطٌ باطلةٌ تُبطل الوقف ، فتمنع انعقاده ، كما لو اشتُرِط التوقيت أو التعليق على شرطٍ .
3- وهنالك شروطٌ فاسدةٌ لا تُبطل الوقف نفسه وإن بُطلت هي ، فيسقط الشرط ويبقى الوقف صحيحاً بالرغم من بطلان الشرط الذي جرى عليه .
وهذا التقسيم الأخير الواقع على شروط الواقفين من حيث صحّتها وتأثيرها على صحّة الوقف ، هو ما يعنينا في بحث أصول ارتباط هذه الشروط بمقاصد الشريعة الإسلامية ، وهو الجوهر الذي يقصد الفقهاء الإحاطة بمعانيه وضبطه لمعرفة مدى تحقيق الوقف لمقاصد الشريعة ، من خلال توافر شروط شرعيّته ليوافق أحكامها ، ومن خلال توافر مقوّمات نجاحه كنظامٍ أوجده الإسلام لينسجم مع روح شريعته ويحقّق جزءاً مهمّا من مقاصدها . ولذلك دأب الفقه الإسلامي في شؤون الوقف ومسائله وقواعده على وضع القواعد والأصول والضوابط اللازمة لتحقيق هذا المأرب ، ضماناً لمشروعيّة الوقف من جهة ، وتحقيقاً لأغراضه وغاياته من جهة أخرى .
إضافةً إلى أنّ الوقف كعقدٍ يتميّز عن غيره من العقود أو المعاملات المالية ، بطابعه التبرّعي ، ولذلك لا بدّ عند البحث في أصول علاقته وارتباطه بمقاصد الشريعة الإسلامية ، البحث أيضاً في مقاصده الخاصّة والعامّة ، والانتباه دائماً إلى أنّ المصلحة المطلوب تحقيقها من الوقف ، هي الهدف من إنشائه . فلا يجوز أن يُفضي الوقف إلى مفاسد ، أو أن يخالف أحكام الشريعة التي أقرّته .
ويجمل العلامة الشيخ محمّد الطاهر بن عاشور مقاصد الشريعة في عقود التبرّعات ومنها الوقف قائلا : ( قد نجد في استقراء الأدلّة الشرعية منبعاً ليس بقليلٍ يرشدنا إلى مقاصد الشريعة من عقود التبرّعات على النحو التالي : المقصد الأول : التكثير منها لما فيها من المصالح العامّة والخاصّة .. . المقصد الثاني : أن تكون التبرّعات صادرةً عن طيب نفسٍ لا يخالجه تردّدٌ ، لأنّها من المعروف والسخاء ، ولأنّ فيها إخراج جزءٍ من المال المحبوب بدون عوضٍ يخلفه ، فتتمخّض أن يكون قصد المتبرّع النفع العامّ والثواب الجزيل .. . المقصد الثالث : التوسّع في وسائل انعقاد الصدقات حسب رغبة المتبرّعين ، ووجه هذا المقصد أنّ التبرّع بالمال عزيزٌ على النفس ، فالباعث عليه أريحيةٌ دينيةٌ ، ودافعٌ خلقيٌ عظيمٌ .. . المقصد الرابع : أن لا يجعل التبرّع ذريعةً لإضاعة مال الغير كالوارث والدائن .. ) .. .
الفصل الثالث – أهميّة ضبط شروط الواقفين بالمقاصد العامّة للشريعة الإسلامية ، ودور ذلك في نجاح الوقف وكفاءته
المبحث الأول – ضبط شروط الواقفين بمقاصد الشريعة في الاجتهاد والإفتاء
كما تقدّم فإنّ الوقف من عقود التبرّعات ، يُخرج الواقف فيه ماله من ذمّته بلا بدلٍ أو عوضٍ أو مقابلٍ . وفي ذلك هدفٌ يتوخّاه ، وغايةٌ ينشدها ، فهو يهدف إلى إخراج هذا المال بطريقةٍ معيّنةٍ يحدّدها من خلال الشروط التي يشترطها في صيغة الوقف ، راغباً في كسب ثواب هذا العمل التبرّعي الذي يقوم به بِرّاً بمن يحدّدهم من مستحقّين . فكان حريّاً أن تُحاط إرادة الواقفين بكلّ التقدير والاحترام ، وأن يكون إعمالها قاعدةً لا يسري عليها استثناءٌ ، إلا أن تخالف الشروط أحكام الشريعة ومقاصدها ، أو ينصرف أداء الوقف إلى ما يجلب المفاسد ويُبعد عن المنافع فلا يحقّق مصلحة الناس وهي محور غايات الشريعة ومقاصدها . وقد تقدّم في بحثنا ذكر أنّ الشريعة الإسلامية لم تحصرِ الوسائل والطرائق ، ولم ترسم بدقّةٍ المسارات التي يجب اتّباعها لتحقيق غايات التشريع ومقاصده ، فكان للناس التماس السبل التي تُفضي إلى ذلك من أجل تحقيق الغرض المنشود وهو نفعهم ومصلحتهم ، وفق ظروف كلّ مكانٍ وزمانٍ ، على ألا يخالفوا نصوص التشريع وأحكامه . ولا يخرج نظام الوقف التشريعي والعملي عن مجمل هذا النظام الإسلامي الكبير الذي تحيطه الشريعة بقواعدها الحكيمة ومقاصدها النافعة ، بل إنّ هذه الإحاطة تبدو في الوقف أكثر حضوراً وخصوصيّةً ممّا هي عليه في مختلف الأنظمة التشريعية التي سنّها الإسلام . ولذلك كان من المفروض أن يولى هذا النظام كلّ عنايةٍ تشريعيةٍ وفقهيةٍ تحقّق نقاءه من كلّ شائبةٍ تخرجه عن إطار الشرعية ، وتضمن له كمؤسّسةٍ إسلاميةٍ اجتماعيةٍ اقتصاديةٍ وإنسانيةٍ عريقةٍ بقاءه واستمراره وديمومته . وكان البحث الفقهي الجادّ في مسائل وأحكام الوقف وأشكاله وحالاته وعناصره وشروطه وأركانه واجباً لا يمكن الاستغناء عن أدائه ، كي تتّضح المفاهيم الشرعية للوقف ، وتنجلي أحكامه ، وتُدرك غاياته وغايات الشريعة من تشريعه . ولقد تَميّز البحث في أحكام شروط الواقفين لدى فقهاء الشريعة الإسلامية بأهميّةٍ كبيرةٍ ومكانةٍ خاصّةٍ بين فروع فقه الوقف ومسائله وأحكامه الأخرى ، لِما لأحكام هذه الشروط من تأثيرٍ كبيرٍ في بنية الوقف كتشريعٍ من جانبٍ ، ولِما لها من دورٍ فاعلٍ في تكوين الوقف كنظامٍ يقدّم منفعةً مادّيةً ومعنويةً وينبغي أن يتمتّع بأعلى درجات النجاح والكفاءة من جانبٍ آخر . فكان ضبط هذه الشروط وربطها بمقاصد الشريعة الإسلامية ، يعني تكريساً لتأثيرها ، واعترافاً بدورها وأهمّيتها ، لأنّ المقاصد العامّة الشريعة هي البوتقة الرئيسية التي تصبّ إليها وتنصهر فيها كلّ المقاصد الخاصّة في المعاملات ، ولا يمكن أن تتمتّع الأنظمة الكثيرة التي أنشأها الإسلام أو أقرّها ومنها الوقف ، بالميّزات التي تُكسبها طابعها الهادف الخلاق ، إن لم تتفاعل وتتكامل وتتلاءم مع العنوان العريض الرئيسي الذي يحتوي مواضيعها وهو غايات التشريع الكلّية . وعودةً إلى القاعدة العامّة في شروط الواقفين من حيث أنّ هذه الشروط كنصّ الشارع ، نجد أن هذه الشروط وقعت في فقه الوقف موقع الاهتمام والحرص من قبل فقهاء الشريعة ، فأولوها كلّ عنايةٍ ممكنةٍ بسبب أهمّيتها وارتباطها بتشريع الوقف ونظامه ، ولارتباطها الوثيق بمقاصد الشريعة الإسلامية ، فكان من المهمّ أن تُضبط شروط الواقفين بمقاصد الشريعة ، كي لا تنفرد فتبتعد عن البيئة التي سبّبت وجودها أصلاً ، وهي الشريعة التي شرّعتِ الوقف وأقرّت نظامه وحبّبت إليه وأثابت عليه. والوقف مع أنّه قربةٌ إلى الله تعالى يحمل في مضمونه شكل الصدقة ، بل وإنّه من أعظم الصدقات وأفضلها ، فإنّه في الوقت ذاته معاملةٌ مادّية أو ماليةٌ ينجزها الواقف بإيجابه من خلال الصيغة التي تنعقد منه ، وتنفيذاً للشروط التي يشترطها في هذه الصيغة . ولذلك كان للوقف على الدوام وجهان جميلان ، أحدهما الصدقة والقربة لله عزّ وجلّ ، كسباً وإجزالاً لثوابه ومغفرته ، والثاني تقديم النفع والفائدة والمصلحة ، ِرّاً بالناس وإحساناً لهم . فاصطبغ الوجه الأوّل بصبغة العبادة والتقرّب إلى الله تعالى ، واصطبغ الوجه الآخر بصبغة المعاملة الدنيوية التي تتميّز عن غيرها من المعاملات بطابعها التبرّعي . ولذلك فإنّ معرفة أحكام الوقف وضبطها بمقاصد الشريعة الإسلامية من هذه الناحية ، متعلّقٌ بتحديد الأصول الشرعية التي ينبغي إطلاق الأحكام على الوقف من خلالها .
فالأصول الشرعية الناظمة للوقف باعتباره عبادةً أو سنّةً أو صدقةً أو قربةً إلى الله تعالى ، هي غير الأصول التي تنظم أحكام الوقف كمعاملةٍ دنيويةٍ . ولذلك فإنّ تحديد مفهوم الوقف من حيث هو عبادةٌ أو معاملةٌ كان سبباً في تنوّع الآراء الفقهية المعنيّة بضبط فقه الوقف وشروط الواقفين وفقاً لمقاصد الشريعة الإسلامية ، بسبب اختلاف نظرة أصحابها في تحديد هذا المفهوم . وقد رأى الحنابلة من دون جمهور الفقهاء أنّ الوقف ينتمي إلى زمرة المعاملات ، بينما ذهبت بقيّة المذاهب إلى إدخال الأوقاف في دائرة العبادات . ولذلك شدّدت المذاهب من غير الحنابلة على مسألة عدم جواز مخالفة شروط الواقفين للشريعة ، فأسروا هذه الشروط بضوابط العبادات وشروطها ، انطلاقاً منهم بأنّ الوقف عبادةٌ أو سنّةٌ مندوبةٌ أو قربةٌ محبّبةٌ ، ولا يدخل ذلك ضمن دائرة المعاملات كما اعتبره الحنابلة ، والذين وبحسب هذا الاعتبار أقرّوا حرّية الواقفين في الاشتراط على ألا تخالف هذه الشروط ما ينهي عنها في نصٍّ تشريعيٍ ونرى أنّ الوقف وإن شُرّع أساساً ورُغّب به وحُبّب إليه ، لأنّه من باب الصدقة الجارية أو القربة المستمرّة فدخل في محيط البرّ والإحسان والعمل الخيري ، وكساه هذا ثوب العبادة الهادفة إلى التقرّب إلى الله تعالى ، إلا أنّ طبيعة الوقف الإنشائية من حيث ما يُنتجه من آثارٍ دنيويةٍ ، وما يترتّب عليه من تغيّراتٍ شخصيةٍ مادّيةٍ بالنسبة للواقف وكذلك بالنسبة للجهة الموقوف عليها ، هذه الطبيعة تُضفي عليه الطابع الذي يميّز المعاملات البشرية ، فيجعل من تطبيق أحكام المعاملات عموماً والعقود بشكلٍ خاصٍّ على أحكامه وقواعده أقرب إلى منظومته وأكثر انسجاماً مع الواقع ، خاصّةً بالنسبة لشروط الواقفين لأنّها تنصبّ على تحديد مسائل شكليةٍ وموضوعيةٍ لها طابعٌ عمليٌ وتطبيقيٌ ، وتُعنى بتفاصيل مختلفةٍ لا تدخل ضمن مفهوم العبادة ، وإنما تندرج وبوضوحٍ تحت باب المعاملات . إضافةً إلى أنّ تطوّر العلاقات بين الناس وتشابكها ، وتغيّر الظروف وتبدّلها ، وتجدّد مصالح الوقف واستحداث مطارح جديدةٍ له ، كلّ ذلك يجعل من اعتبار الوقف نظام عبادةٍ تسري فيه أحكام العبادات على الإطلاق أمراً قد لا يحقّق شرطاً أساسياً في الوقف وهو الحيوية والتجدّد الذي يضمن ديمومة هذا النظام واستمراره ، كما يحقّق نهوضه واستقراره . ولأنّه من الصعوبة بمكانٍ حصر الشروط التي يمكن للواقفين أن يشترطوها في الأوقاف التي يقومون بإنشائها ، لذلك تقرّر في فقه الوقف عموماً ، وفي فقه شروط الواقفين خصوصاً ، أن يكون لهذه الشروط قواعد عامّةٌ يتحدّد من خلال إعمال أحكامها ما يجوز اشتراطه من تلك الشروط وما لا يجوز اشتراطه ، وما يُعمل به منها وما لا يُعمل به ، وما يسري منها صحيحاً أو لا يسري لأنّه غير صحيحٍ . وسار الفقهاء عموماً على ثلاث قواعد تؤصّل أحكام فقه الوقف في مسائل شروط الواقفين ، فاعتبروا أنّ أيّ شرطٍ منها لا يخلّ بطبيعة الوقف ولا يؤدّي إلى إفسادها فهو شرطٌ معتبرٌ وجائزٌ ، ولم يعتبروا الشرط الذي يعطّل المصلحة المبتغاة من إنشاء الوقف أو الذي يفوّت المصلحة على الموقوف عليهم ، ثمّ فإنّ كلّ شرطٍ من شروط الواقفين يخالف الشريعة الإسلامية فهو لغوٌ لا يجوز الالتفات إليه إطلاقاً . وهذه القواعد قواعد عامّة ، ومن خلالها جرى استنباط القواعد الخاصّة بكلّ حالةٍ على حدةٍ ، وهي الأساس الذي بُني عليه إطلاق الأحكام الشرعية على شروط الواقفين من ناحية جواز اشتراط هذه الشروط أصلاً ، ومن ناحية تأثير هذه الشروط وإن لم تكن جائزةً في إنشاء الوقف وفي طبيعته .
ويمكن بعد ذكر هذه القواعد العامّة المتعلّقة بشروط الواقفين أن نفرّع قليلاً في ذكر بعض الأمثلة التي تحكمها تلك القواعد وبإيجازٍ على النحو التالي :
فالقاعدة الأولى : وهي أنّ شرط الواقف ينبغي ألا يخالف حكم الوقف ومحتواه ، وألا يُفسد مضمونه : وبناءً على هذه القاعدة أجاز الفقهاء للواقف أن يشترط لنفسه ريع أرضٍ أوقفها أو بيتٍ أوقفه أو جزءاً من هذا الريع طيلة حياته ، بل ويمكن للواقف أن يُنشئ الوقف على نفسه مطلقاً طيلة حياته ، ويعيّن المستحقّين الذين يستحقّونه بعد ذلك ، ويجوز له أن يقدّم المستحقّين على نفسه . كما يمكن للواقف أن يُنشئ الوقف على نفسه ويشترط وفاء ديونه من ريع الوقف الذي أنشأه . وإن أنشأ الواقف وقفه على غيره واشترط أن يوفّى دينه إن مات من فائض ريع الوقف ، ثمّ يُصرف الريع على السبل التي عيّنها الواقف ، فإنّ هذا الشرط جائزٌ أيضاً . كما يجوز أن يشرط الواقف توزيع ريع الوقف على المستحقّين من أولاده أو غيرهم بالتساوي بين الذكور والإناث ، أو وفق النصاب الشرعي . وفي كلّ هذه الأمثلة وغيرها نجد أنّه لا تأثير لأيِّ من هذه الشروط وما يجري مجراها ، على أصل الوقف أو على مضمونه ، ولا تأثير لها على الغرض الذي ينبغي أن يؤدّيه الوقف وهو تقديم المنفعة إلى المستحقّين ، فلا تعطّل شروط الواقفين هذا الأداء لأنها لم تخالف حكم الوقف ومضمونه وغرضه .
والقاعدة الثانية : وهي أن لا تؤدّي شروط الواقفين إلى تعطيل مصلحة الوقف أو أن تفوّت مصلحة الموقوف عليهم ، فإن حدث ذلك فإن الشرط يكون لاغياً ، وأما الوقف ذاته فصحيح : ومثال ذلك اشتراط الواقف عدم استبدال الوقف ، فإنّ شرطه هذا لاغٍ لتعلّقه بمصلحة الوقف . وكذلك إنِ اشترط الواقف في الوليّ على الوقف أن يكون منفرداً واقتضت المصلحة أن ينضمّ إليه غيره في الولاية على الوقف ، فيجوز للقاضي ضمّ الغير ويبطل شرط الواقف لمخالفته المصلحة . ومن الأمثلة التي تحكمها هذه القاعدة اشتراط الواقف أن يكون فائض غلّة الوقف لمن يسأل الصدقة من الناس في مسجدٍ أو مكانٍ معيّنٍ ، فيجوز مخالفة هذا الشرط والتصدّق على غير هؤلاء في غير المكان المحدّد ، ولو كانوا من غير السائلين . وإذاً .. فإنّ كلّ شرطٍ يصدر عن الواقف ويكون فيه تجاوزٌ على مصلحة الوقف أو تأثيرٌ فيها يفوّت المنفعة أو يضرّ بمصلحة الوقف ، أو يفوّت مصلحة الموقوف عليهم ، فإنه شرطٌ باطلٌ وتجوز بسبب ذلك مخالفته .
وأمّا القاعدة الثالثة : فهي أنّ كلّ شرطٍ يخالف الشريعة الإسلامية يعدّ لغواً : كاشتراط الواقف عدم عزل الناظر الذي عيّنه و ولاه على الوقف وإن كان خائناً ، فيجوز للقاضي عزله عند ثبوت خيانته لمخالفة شرط تعيينه أصول الشريعة ، ويجب على القاضي هنا إبطال الشرط وعزل ومحاسبة من تثبت خيانته من الناظرين على الوقف .
وقد ذكر فقهاء الحنفية سبع مسائل أجازوا فيها مخالفة شرط الواقف وهي : أن يشترط الواقف عدم استبدال وقفه . وأن يشرط عدم عزل الناظر ، فللقاضي عزله إلى إن كان من أهل الواقف . وأن يشترط عدم تأجير وقفه لأكثر من سنةٍ ، وكان هنالك من يرغب باستئجاره لأكثر من هذه المدّة ، وكان في زيادتها منفعةٌ للفقراء ، وأن يشترط القراءة على قبره فلا يصحّ هذا الشرط. وأن يشترط التصدّق بفاضل غلّة الوقف على من يسأل في مسجد يحدّده ، فللوليّ على الوقف التصدّق على سائلٍ في مسجدٍ غيره ، أو خارج المسجد ، أو على من لم يكن سائلاً . وأن يشترط للموقوف عليهم خبزاً ولحماً معيّناً كلّ يومٍ ، فللوليّ دفع قيمة ذلك نقداً . وأخيراً يقول الأحناف بأنّه يجوز للقاضي أن يزيد على راتب الإمام الذي حدّده الواقف ، إن كان هذا الراتب لا يكفي وكان الإمام عالماً تقيّاً . ولسنا في معرض تفصيل جميع الحالات التي تسري على شروط الواقفين فتجوز بها هذه الشروط ويقع منها مالا يخالف الشريعة أو يُفسد مضمون الوقف وحكمه ، أو يعطّل مصلحته ومصلحة الموقوف عليهم . وعموماً فقد وضع الفقهاء شروطاً أسموها الشروط العشرة التي يجوز للواقف اشتراطها في وقفه ، فحصروها بالزيادة والنقصان ، والإدخال والإخراج ، والإعطاء والحرمان ، والتغيير والتبديل ، والإبدال والاستبدال . ويمكن أن نلخّصها بما يلي :
– فالزيادة أن يزيد الواقف في حصّة أحد المستحقّين والإنقاص بعكس ذلك ، ويجوز للواقف أن يشترط أحدهما أو كليهما معاً ، دون أن يحرم مستحقّاً آخر إن لم يشترط حرمانه أصلاً عند عقده للوقف .
– والإدخال أن يجعل الواقف من لم يكن مستحقّاً من المستحقّين ، والإخراج أن يجعل من كان مستحقّاً في الوقف غير مستحقٍّ فيه .
– الإعطاء هو إيثارٌ لمستحقٍّ أو أكثر بريع الوقف مدّة معيّنةً أو دائماً ، والحرمان منع الريع عن بعض المستحقّين .
– التغيير هو اشتراط الواقف التغيير في مصارف الوقف ، كأن تكون مرتّبات فتصبح حصصاً ، أو تغييرها على بعض المستحقّين بدل أن تكون عامّة على الجميع ، وأمّا التبديل فيعني اشتراط الواقف التبديل في الأعيان الموقوفة . – وأما الإبدال والاستبدال ، فيعنيان اشتراط الواقف إخراج العين الموقوفة عن الجهة الموقوف عليها وشراء عينٍ أخرى بديلةٍ عنها .
– وبالنسبة للتفضيل والتخصيص ، فمعناهما لا يخرج عن معنى الإعطاء والحرمان ، أو الزيادة والنقصان .
ولا مندوحة من الإشارة إلى أنّ هذه الشروط يجب اشتراطها في عقد الوقف وقت إنشائه ، ولا يصحّ العمل بها إن اشترطت بعد ذلك ، بل لا أثر لها إطلاقاً في هذه الحالة ، كما وإنّ من حقّ الواقف أن يشترط هذه الشروط للناظر على الوقف كما ولنفسه ، والأهمّ أنّ للواقف عندما يشترط أحد أو بعض هذه الشروط الحقّ في أن ينفّذها لمرّةٍ واحدةٍ فقط ، إلا إن عبّر في صيغة الوقف التي تتضمّن هذه الشروط عن رغبته في تكرار تنفيذها مراراً . وفي كلّ الحالات فإنّ ما يجوز للواقفين اشتراطه في أوقافهم ، وبعض ما لا يجوز لهم اشتراطه ، يبقى مبنيّاً ومستنداً إلى القواعد العامّة الثلاث التي استنبطها فقهاء المسلمين وتقدّم ذكرها ، لإعمال أحكام شروط الواقفين ، واعتماداً على القاعدة العامّة الرئيسية التي أقرّها الفقهاء في هذا الخصوص وهي أنّ شرط الواقف المعتبر شرعاً كنصّ الشارع في دلالته ومفهومه وفي وجوب العمل به .
وإعمالاً للمبادئ العامّة التي أقرّها الاجتهاد الفقهي في شروط الواقفين ، فلقد سعى الفقهاء والعلماء المسلمون منذ بداية البحث والتأليف في أصول الفقه ، من أجل تكريس هذه المبادئ وما تضمّنته من قواعد وما اتّصل بها من أحكامٍ ، من خلال ما أصدروه من آراء فقهيةٍ وفتاوى شرعيةٍ في شؤون شروط الواقفين المعتبرة وقواعدها المعتمدة في إنشاء الأوقاف ، ومن خلال ضابطها الأهمّ الذي يؤسّس لوجودها ويضمن صحّتها وهو عدم مخالفة نظام الوقف التشريعي والعملي لأحكام الشريعة الغرّاء ومقاصدها النبيلة ، وتعدّدت هذه الفتاوى وتنوّعت مع تعدّد وتنّوع المسائل والحالات ، ومع تفاوت الشروط التي يضعها الواقفون ، وعدم القدرة على حصرها ضمن مجموعةٍ معيّنةٍ أو دائرةٍ محدّدةٍ ، لاختلاف الاعتبارات الشخصية ، أو الظروف النفسية أو الأسباب الموضوعية المتعلّقة بمنشئي الوقفيات . ولقد استند الإفتاء إلى القواعد العامّة التي أقرّها الاجتهاد في مسائل الوقف عموماً وفي مسائل شروط الواقفين على وجه الخصوص فيما أطلقه وأصدره من أحكامٍ على هذه المسائل ، ولأنّ المستجدّ منها بات لا يُحصَر بنماذج وقفيّةٍ معيّنةٍ ، كما ولا يمكن إحصاء مضامين أنواع شروط الواقفين ، لما ذكرناه من اعتباراتٍ ، لذا كان ضرورياً أن يواكب الإفتاء الفقهي الحديث في هذا المجال ، كلّ الحالات المستجدّة أو المسائل الطارئة ، خاصّةً مع تطوّر نظام الوقف في عصرنا الراهن ، واتّساع مجالاته وتنوّع مصارفه وتفاوت أشكاله وتعدّد أغراضه . ولقد لبّت مجموعات الفتاوى الكثيرة والمتنوّعة في مواضيع شروط الواقفين إلى حدٍّ كبيرٍ الغرض المطلوب منها ، خاصّةً فيما يتعلّق بالحالات الجديدة ، والإشكالات التشريعية والقانونية الحديثة بعد تقنين قوانين وتشريعات ونُظِم الأوقاف في الكثير من الدول الإسلامية ، ونتمنّى أن يؤدّي الإفتاء الفقهي الرشيد دوره الحيوي المهمّ في مجال التشريع الوقفي ، لإيجاد الحلول المناسبة لهذه الحالات والإشكالات ، لترفد أحكامه الصحيحة وآراؤه السديدة تقنين الأوقاف على الدوام ، كي لا يصيب الجمود نظام الوقف ، وكي لا تتعارض أحكام التشريعات الوقفية السارية في بلدان العالم الإسلامي مع الأحكام الشرعية والمضامين النافعة لنظام الوقف ، لأنّ التعارض في حال حدوثه يعني القضاء على مضمون الوقف برمّته ، باعتبار أنّ هذا المضمون لا يصحّ إلا بصحّة القواعد والشروط والأركان والعناصر التي تعطي للوقف مقوّماته الشرعية وبنيته المصلحية ، فيستمدّ منها أسباب مشروعيّته . ولأنّه لا مجال كما ذكرنا لسردٍ أو تعدادٍ تفصيليٍ دقيقٍ لمكوّنات وعناصر شروط الواقفين وأشكالها إلا أنّ مجموعة مسائل وحالاتٍ عامّةٍ في هذا الصدد يمكن أن نعتبرها أكثر شيوعاً من غيرها أو أكثر حضوراً من الناحية العملية ، ولقد كرّس الإفتاء الفقهي لها الاهتمام والعناية لتقديم أجوبةٍ عمليةٍ واضحةٍ عليها رغبةً في تكوين رؤيةٍ مشتركةٍ واضحةٍ وحلولٍ متوافقةٍ منسجمةٍ ، بما يفيد في استقرار الأحكام والتشريعات الوقفية ، وبما يغني عن الوقوع في مغبّات التعارض أو المخالفة لأحكام الشريعة الإسلامية ومقاصدها ، وكلّ ذلك اعتماداً على ما استقرّ في الاجتهاد الفقهي الإسلامي للوقف وأحكامه وقواعده من أصول شرعيةٍ معتبرةٍ . وانطلاقاً من ضرورة ضبط شروط الواقفين على الدوام وفي كلّ الحالات الجديدة مع مقاصد الشريعة الإسلامية التي لا ينبغي لنظام الوقف مخالفتها . ولقد ظهر ذلك خصوصاً في الفتاوى التي عُنيت بتقديم مصلحة الوقف على ما يعارضها من شروط الواقفين وإن كانت صحيحةً أو جائزةً ، وكذلك في الفتاوى التي التفتت إلى وجوب العناية بتحقيق مصالح المستحقّين في الوقف ، لأنّ في كلي الأمرين تأكيدٌ على تحقيق الوقف لغايته وهي المصلحة ، ومخالفة شروط الواقفين لهذا الاعتبار ستؤدّي إلى فساد مضمون الوقف وانتفاء شرعيته وعلّة وجوده . ولا ريب أنّ النهل من عموم الاجتهاد الفقهي الإسلامي في فروع الوقف وأصوله دون اقتصارٍ على مسلكٍ محدّدٍ أو مذهبٍ بعينه ، سيسهم بفاعليةٍ في إيجاد حلولٍ ومخارج عمليةٍ ، لنماذج حديثةٍ أو حالاتٍ جديدةٍ تعيشها المؤسّسات الوقفية في عصرنا الحديث ، خاصّة بعد أن أخذت نظرية المقاصد العامّة للشريعة الإسلامية دورها الحيوي الفاعل في تأصيل الفقه الوقفي . ونرى أنّ العمل على إيجاد تشريعٍ وقفيٍ موحّدٍ أو مرجعيٍ بين الدول الإسلامية أو العربية يجب أن يؤخذ فيه هذا الاعتبار ، لأنّ تنوّع المصادر الفقهية في الفروع العملية من الفقه والوقف من أهمّها ، سيثمر عن نتائج جيّدة ، ويحقّق آثاراً حميدةً وغاياتٍ نفعيةً جليلةً ، وإنّ شعوب الأمّتين العربية والإسلامية أحوج ما تكون إلى ذلك اليوم .
المبحث الثاني – دور شروط الواقفين الشرعية في كفاءة الوقف ومدى نجاح أغراضه
عندما أقرّ الفقه الإسلامي القواعد الثلاث الماضي ذكرهنّ وما تفرّع عنهنّ من ضوابط شتّى استند إليها الاجتهاد والإفتاء الشرعي ، وجعلها دليلاً معتمداً في معرفة الجائز والمعتبر من شروط الواقفين ، فإنّ لذلك أصلٌ حكم تلك القواعد بقوّةٍ وحزمٍ ورصانةٍ ، وهو الجوهر الذي بُنيت عليه هذه القواعد ، ووجه هذا الجوهر واضح الملامح ، تدركه العقول قبل أن تراه العيون . ويمكن أن نسمّيه بدون تردّدٍ : ” وجه الخير ” . لأنّ ملامح هذا الوجه ، مقاصد طيّبةٌ حملتها شريعة الإسلام ، لا إلى المسلمين فحسب بل إلى الناس قاطبةً ، ونصوصٌ إلهيّةٌ مباشرةٌ خاطبتِ الإنسانية جمعاء ، وكرّست لأجل سعادتها وكرامتها تعاليم المحبّة والتسامح والعدالة والمساواة ، ونصوصٌ إلهيّةٌ أخرى غير مباشرةٍ جرت على يدَي ولسان خاتم الرسل الكرام ، تأكيداً وتوضيحاً وتفسيراً وتفريعاً لكلّ مسألةٍ إيمانيةٍ تعبّديةٍ ، وكما لكثيرٍ من المسائل الدنيوية العملية . ولأنّ التشريع نهرٌ لا تنضب روافده ، ونبعٌ لا يغور ماؤه ، لذا فإن ملامح هذا الوجه الجميل الذي نتحدّث عنه ، لا تنتهي عند النصوص التشريعية القرآنية والنبوية ، فقد قيّض الله سبحانه وتعالى لهذه الشريعة أن تستمرّ ما أَذِن لها ، ولهذا سخّر لها ما يحقّق استمرارها ويحافظ على حيويتها ويؤكّد تجدّد روحها الزكية ، وبواعثها النبيلة . فهيّأ ربّ العزّة لشريعته ما يحقّق هذا المنال من خلال بقيّة مصادر التشريع ومناهله المعتبرة . والمؤمنون بجمال الوجه التشريعي للإسلام وعنفوانه ، لن يجدوا أدنى حرجٍ في الاعتراف بأنّ ذلك الوجه الحسن لم يأتِ من فراغٍ . لأنّ قبيح الفعل لا يحقّق الأهداف النبيلة ، ولأنّ سوء النيّة لا يخلّف سوى الخراب ، ولأنّ الخير لا يُثمر إلا بفعل القلوب الطيّبة والعمل الصالح والظروف الحسنة . وقد تكون العبارة الأخيرة أدلّ من أيّ توضيحٍ يمكن اللجوء إليه من أجل التعبير عن ” الوقف الناجح ” ، بل ومن أجل التعبير عن العمل الخيري الناجح مهما انصرف إليه . فنجاح الوقف منوطٌ بالفاعل الطيب المواظب على أداء ما انصرفت إليه نواياه الطيّبة ، وكذلك بانصراف نيّته إلى تنفيذ هذه النوايا الطيّبة من خلال الأحكام الشرعية الصحيحة التي تُضفي على عمله مقوّماته التشريعية ، ومن ثمّ فمن خلال الظروف الملائمة والتدابير الصحيحة والأوضاع التشريعية والعملية والذاتية والبيئية التي تحقّق هذا النجاح . ولأجل ذلك انصرف الفقه الإسلامي في تشريع الوقف وما تعلّق به من أحكام وقواعد ، وما تفرّع عنه من مسائل وحالاتٍ ، نحو محاولة تفعيل دور مقاصد الشريعة الإسلامية في الوقف وغايتها منه في كلّ تلك المسائل والحالات ، واتّجه التفكير والبحث الفقهي وخاصّةً في الفترة الأخيرة إلى معالجة المستجدّات في شؤون الأوقاف في إطار هذه المقاصد ، لأنّ مرور الزمان وتطوّر الأوضاع وتغيّر الأحوال ، جعل من المحتّم على الباحثين والدارسين في هذا المجال أن يلتمسوا السبل إلى إيجاد حلولٍ للمشكلات والتطوّرات المستجدّة في الوقف ، وإلى تحديد القواعد المناسبة الناظمة للحالات المستحدثة فيه ، لاستقراء الوقائع ، واستخلاص النتائج ، واستنباط الحلول الشرعية المناسبة لكلّ الحالات والمستجدّات ، بما ينسجم مع نصوص الشريعة وأحكامها ويتواءم مع مقاصدها وغاياتها . وما من منهجٍ أحرى بالاتّباع والعناية أكثر من منهج مقاصد الشريعة لإيجاد المخارج والتماس الحلول المناسبة في الشؤون الوقفية ، وذلك لسببين : أوّلهما أنّ الوقف مقاصديٌّ بطبيعته ، ويمكن أن يلاحِظ هذه الطبيعة كلّ ناظرٍ إلى ما يؤدّيه نظام الوقف من وظائف ، وما يحقّقه من أهدافٍ ، إضافةً إلى ملاحظة البواعث التي أدّت إلى إنشاء الأوقاف ففي هذه البواعث أيضاً يتّضح البعد المقاصديّ للأوقاف ، والسبب الثاني أنّ منهج المقاصد وإن لم يكن محدّداً بطرقٍ ووسائل معيّنةٍ ، إلا أنّه محكومٌ بأحكام الشريعة من جهةٍ ، وبنفسه من جهةٍ أخرى ، ونقصد بذلك أنّ الوسائل المتّبعة لتحقيق مقاصد الشريعة يجب ألا تخالف أحكامها ، وينبغي أيضاً أن تكون هذه الوسائل موجّهةً في سبيل تحقيق مصلحةٍ حقيقيّةٍ معتبرةٍ لا يشوبها فسادٌ أو تُفضي إلى مضرّةٍ . ونحن نرى أنّ هذه المعادلة على قدرٍ من اليسر والسهولة ، وفي ذات الوقت فإنّها على درجةٍ كبيرةٍ من الخطورة ، بسبب أنّ اختلال التوازن بين الوسائل والغايات في التشريع عموماً وفي الوقف بشكلٍ خاصٍّ يعني انهيار البنية التشريعية التي يقوم عليها الوقف أو غيره من المعاملات . ومع هذا فإنّ النوايا الطيّبة والعمل الذي لا يخرج أو ينفرد عن أسس التشريع وأحكامه يمكن أن يقدّما حلّ هذه المعادلة ويحقّقا التوازن المطلوب ، ويبقى للوقف أخيراً أن تحيطه بيئةٌ تشريعيةٌ وعمليةٌ ، تفعّل دوره وتساهم في إنجاحه ورفع درجة كفاءته .
ونعتقد أنّ الوعي الاجتماعي في هذا العصر بحاجةٍ إلى تنبيهٍ وتحريضٍ دائمَين من أجل الإسهام في خلق هذه البيئة التشريعية والعملية للأوقاف ، كي تعود مؤسّساتها إلى لعب الدور العظيم الذي ترأّست من خلاله أعلى مراتب العمل الاجتماعي والاقتصادي والتعليمي طيلة قرونٍ من عمر المجتمع الإسلامي ، وعلى أن يسير الوعي الاجتماعي جنباً إلى جنبٍ مع وعيٍ فقهيٍ يمتلك مقوّمات الحداثة والمرونة والتجدّد ، مع احتفاظه بأصوله الشرعية ومستنداته الإسلامية الأصيلة ، لكي يحظى نظام الوقف بالمحيط المناسب والأجواء الملائمة لبقائه وتطوّره واستمراره . والوقف نظامٌ عمليٌ يختصّ بميّزاتٍ أفردته عن بقية الأنظمة أو المعاملات المادّية أو المالية التي شرّعها الإسلام ونظّمها ، كالزكاة أو الميراث أو الوصيّة ، بما له من مواصفاتٍ تميّزه عن بقيّة الأنظمة أو المعاملات ، ولطابعه الفريد الذي يجمع بين غاية الواقف منه وهي العبادة والتقرّب للمولى عزّ وجلّ ، وبين وسيلته إلى ذلك وهي التبرّع بالمال على ملك الله لمصلحة الموقوف عليهم .
ولقد أسلفنا أنّ للوقف عناصر وأركانٌ ومقوّماتٌ وشروطٌ متعلّقةٌ بها ، كما وأنّ للواقفين شروطٌ تلعب الدور الأكبر في إعطاء الوقف الصحيح المكتمل العناصر والأركان شكله الشرعي المطلوب ، وطابعه العملي المفيد . وأوجزنا في ذكر بعض الحالات المستنِدة إلى القواعد الفقهية التي اعتمدها الفقهاء لتحديد ما يجوز وما لا يجوز وما يقع وما لا يقع وما يصحّ وما لا يصحّ وما يبطل الوقف أو لا يبطله من شروط الواقفين . ولكنّ المسألة الأهمّ التي تؤثّر فيها شروط الواقفين في الأوقاف التي ينشؤونها هي مدى ملاءمة هذه الشروط وانسجامها وتأثيرها من الناحية العملية في الوقف كمشروعٍ خيريٍ هادفٍ له غايةٌ عامّةٌ أو غرضٌ خاصٌّ أو مهمّةٌ بعينها أو هدفٌ ذو ملامح أساسيةٍ ، أو إطارٌ يشمل عدّة أغراضٍ يهدف الوقف إلى تحقيقها . وعنصر المصلحة التي ينبغي أن يتمثّله نظام الأوقاف الذي شرّعته الشريعة الإسلامية ، هو العنصر الجوهري الذي تصبّ في مجراه كلّ الروافد الأخرى التي تعطي للوقف شكله الشرعي ومضمونه الهادف . ولذلك فإنّ توافر المصلحة في الوقف هو أساس هذا النظام وعلى هذا الأساس بنيت وشرّعت كافّة الأحكام والقواعد المتعلّقة بها ، وحَكَمَ هدف الوقف في تحقيق المصلحة شروط الواقفين فيه ، كما حَكَمَ هذا الهدف بقيّة الأحكام والقواعد والعناصر والأركان والشروط الأخرى المتعلّقة بالوقف . فكان لزاماً أن تنسجم هذه الشروط مع هذا الهدف الذي هو الغاية من تشريع الوقف . ورأينا أنّ الفقهاء الذين وضعوا أصول وقواعد الأحكام على الوقف في مسائله وحالاته المختلفة لتحديد الأوقاف الصحيحة والجائزة ، اشترطوا ألا تخالف شروط الواقفين أحكام الوقف ومحتواه وألا تُفسد مضمونه ، كما اشترطوا ألا تؤدّي هذه الشروط إلى تعطيل مصلحة الوقف أو مصلحة الموقوف عليهم ، لأنّ المصلحة هي الأساس التشريعي الذي بُني الوقف عليه . ولأنّ المصالح تتعارض حيناً ، وتتفاوت أحياناً ، وتتغيّر أو تنعدم في أحيانٍ أخرى ، كان من الجدير متابعة هذا التعارض أو التفاوت أو التغير أو الانعدام الذي قد يطرأ على المصلحة التي يقدّمها الوقف إلى الموقوف عليهم ، كي يكون هنالك حلولٌ مستمرّةٌ في هذه الأحوال التي لا يمكن حصرها بتعدادٍ ، ومادامت المصلحة هي أساس الوقف وسبب وجوده ، لذا كان من الضرورة بمكان أخذ هذا الأمر بعين اعتبارٍ بالغٍ ، وبقدرٍ كبيرٍ من الاهتمام والعناية ، كي يبقى الوقف مؤدّياً دوره ، ومحقّقاً غرضه . وينعكس مفهوم المصلحة في الأوقاف كما نرى من خلال الواقع العملي والتطبيقي لها ، ومن خلال النتائج المادّية الملموسة على صعيد ما يؤدّيه الوقف وما ينتجه وينجزه من المهامّ الموكلة له ، ليبقى متمتّعاً بشكله ومضمونه المطلوبين . وليساير في أدائه وكفاءته كلّ التطوّرات التي تطرأ عليه من دون أن يفقد كَنَهَ وجوده وهو المصلحة ، أو ينأى عن سبب صحّته وهو موافقته لأحكام الشريعة ومقاصدها . وللواقفين في هذا المجال المكانة الأعظم والدور الأرحب لتحقيق هذه الغاية في تأكيد كفاءة أداء الوقف ، وحسن استخدامه واستثماره واستغلال منفعته بالطريقة المُثلى ، وتسبيل هذه المنفعة بأفضل شكلٍ ممكنٍ ، وفي الحفاظ على عين المال الموقوف ، وفي حُسْن اختيار المتولّين والناظرين عليه ، وفي كلّ ما يتعلّق بكلّ هذه الأمور ويصبّ في صالح الوقف ويحقّق استمراره بالشكل المطلوب من كلّ ناحيةٍ ، وكلّ ذلك من خلال ما يشترطه الواقفون من شروطٍ عند إنشائهم لأوقافهم .
ولذلك وإن كان الفقه في مسألة شروط الواقفين قد فتح أبواب التقصّي والبحث عن الحلول لمشاكل الوقف من خلال القواعد الشرعية المتّبعة في هذا المجال ، إلا أنّ لهذه الشروط بدءاً الدور الأكبر في إنشاء أوقافٍ شرعيةٍ صحيحةٍ وتتمتّع بالكفاءة وحسن الأداء ، منذ بداية العقد الذي يعقده الواقفون فينشؤون أوقافهم من خلاله . وهنا فإنّ شروط الواقفين وإنِ انعقدت صحيحةً وصحّ الوقف بها ، إلا أنّ ذلك لا يعني أنّ الأوقاف التي تصحّ شروط واقفيها وتقع صحيحةً فجميعها على درجةٍ واحدةٍ من الكفاءة أو تحقّق مرتبةً متماثلةً في الأداء ، أو مستوىً متكافئاً من النجاح . لأنّ لشروط الواقفين الدور الأهمّ في تفعيل نشاط وعمل وكفاءة الأوقاف الشرعية التي استوفت شروطها الصحيحة ، من خلال ما تتضمّنه هذه الشروط من حيثيّاتٍ وتفاصيل تحدّد المبادئ العامّة للوقف وشكلياته التفصيلية ، ومراميه وبواعثه و جوانبه العملية .
وسنرى في الجزء القادم من هذا البحث ، ومن خلال دراسةٍ حول مؤسّسةٍ وقفيةٍ خيريةٍ في القطر العربي السوري كيف يمكن تفعيل نظرية المقاصد من أجل إنجاح عمل الأوقاف وأدائها ، من خلال ضبط عمل المؤسّسات الوقفية بمقاصد الشريعة الإسلامية ، ومن وجهة نظر المقاصد يمكن تحليل أي مؤسّسة وقفية لمعرفة مدى الكفاءة التي تحقّقت فيها من خلال مراعاتها لمقاصد الشريعة .
الباب الرابع : تحليل نموذجٍ وقفيٍ من وجهة نظر المقاصد العامّة للشريعة
الفصل الأوّل – مدخلٌ حول الواقع التشريعي للأوقاف في الجمهورية العربية السورية
لا يكاد الواقع الفعلي للأوقاف في معظم البلدان الإسلامية يخلو من منغّصاتٍ ومشكلاتٍ تعيق بعض الجوانب العملية و الأدائية لنظام الأوقاف ، ولذلك أسبابٌ كثيرةٌ تتفاوت في أهمّيتها ، وتتفاوت تبعاً لها خطورة النتائج المتمخّضة عنها . وسنعرّج في نهاية البحث إنشاء الله على ذكر أهمّ الأسباب والظروف التي تؤثّر في أداء الأوقاف وفي مستويات كفاءتها ودرجات نجاحها في تلبية الأهداف المطلوبة ، وتحقيق الفائدة المرجوّة والنفع المنشود منها . وبرأينا أنّ أهمّ الأسباب التي أثّرت سلباً في مدى فاعليّة نظام الأوقاف ، هو عدم استقلال مؤسّساته ، وارتباطها أو بالأحرى ربطها قسراً لدى كثيرٍ من الحكومات والأنظمة ، بمؤسّسات الدولة ووزاراتها ومديريّاتها الحكومية ، بالشكل الذي أدّى مع مرور الزمن وانقراض الواقفين ومن بعدهم طبقاتٌ عديدةٌ من المستحقّين إلى صيرورة الاستحقاق في أغلب الأحيان إلى الدولة نفسها ممثّلةً بهيئةٍ تابعةٍ للحكومة أو وزارة من وزاراتها . وهذا يخالف الأصل الشرعي لوجود الأوقاف ، والذي يستند أساساً إلى مجموعة الشروط المعتبرة للواقفين الذي أنشؤوا هذه الأوقاف ، كما ويعتمد على صحّة الشروط والأركان والعناصر والمقوّمات الأخرى التي تُعطي للأوقاف طبيعتها المطلوبة ، وتمنحها شرعيتها ، وتضمن لمؤسّساتها الكفاءة وحسن الأداء . ويُلاحَظ أنّ عدداً كبيراً لا يستهان به من المؤسّسات والعقارات الوقفية على تنوّعها واختلاف أغراضها في العالمين العربي والإسلامي ، تعود للحقبة العثمانية التي امتدّت طوال أربعة قرونٍ ومضى على انحسارها ما يقارب قرناً من الزمان ، ما يجعل من الصعوبة بمكانٍ مراجعة الوقائع الحقيقية لإنشائها ، دون الحصول على صكوك الحجج الوقفية التي أنشأتها ، وإن كان ذلك متيسّراً في العديد من الأوقاف المتميّزة أو المشهورة ، إلا أنّ أغلب المؤسّسات الوقفية الأخرى وخاصّةً المتوسطة والصغيرة منها ، قياساً لحجم ما تؤدّيه من خدماتٍ أو تدرّه من ريوعٍ ، فإنّه من المتعذّر حقاً معرفة الهدف الحقيقي من إنشائها استناداً لنصّ شروط الواقفين الذين لم يعودوا معروفين أصلاً في حالاتٍ كثيرةٍ جدّاً . خاصّةً وأنّ الكثير من التشريعات الوقفية الحديثة في عالمنا الإسلامي ذهبت بعد إحصاء هذه الشريحة من المؤسّسات الوقفية إلى تمليكها للدولة ، ممثّلةً بوزارةٍ أو مديريةٍ مختصّةٍ تحت اسم وزارة أو مديرية الأوقاف ، دون أن تُعرَف هويّة المالك الحقيقي ولا شروطه التي أنشأ وقفه بناءً عليها ، ومع أن ذلك لم يكن متعذّراً أصلاً ، إلا أنّ الإهمال المقصود أو غير المقصود تارةً واتّجاه النيّة إلى إلحاق هذه الأوقاف بملكيّة الدولة تارةً أخرى ، استيلاءً هدفه تحقيق مآرب الحكومات في المؤسّسات الوقفية بعيداً عمّا يجب أن يكون ، وهو اعتبار شروط الواقفين واحترامها وإعمال العمل بها ، لأنّ غير ذلك يعني بدون أدنى شكٍّ مخالفةً لأحكام الشريعة الإسلامية وقواعدها المقرّرة في إنشاء الأوقاف ، من خلال عدم احترام المكانة البالغة الأهمّية لشروط الواقفين وضوابطهم .
وبالنسبة للجمهورية العربية السورية ومع أنّنا لسنا بصدد تقديم قراءةٍ أو دراسةٍ حول التشريع السوري في مجال الأوقاف ” على فرض وجوده ” ، ولكن لا بدّ من الإشارة إلى بعض النقاط ، وتوجيه العناية إليها ، قبل البدء في تحليل ودراسة أحد النماذج الوقفية في سورية بسبب ما أفرزته من آثارٍ خطيرةٍ . فالتشريع السوري في مجال الأوقاف تشريعٌ نعدّه الأضعف بين مجموعةٍ كبيرةٍ من التشريعات الإسلامية والعربية الحديثة التي طالعناها ، بل إنّه ليكاد لا يعدو كونه مجموعةً من القوانين والقرارات المتفرّقة هنا وهناك ، إضافةً إلى مرسومين تشريعيين أحدهما صدر لإلغاء الأوقاف الذُرّية والآخر للتعريف بالوقف الخيري الإسلامي ولتشريع الاستيلاء الحكومي عليه ، والجميع بحاجةٍ إلى مراجعةٍ وتعديلٍ كبيرين إن لم نَقُلْ لإلغاءٍ وتبديلٍ . وأسباب ذلك كثيرةٌ أهمّها ما ظهر جليّاً من ناحية المخالفة الشرعية الواضحة لكثيرٍ من الأحكام والفتاوى الفقهية المتّفق عليها ، ومنها مسألة إلغاء الأوقاف الذُرّية وإنهاء ولاية المتولّين عليها بقانونٍ وضعيٍ ، دون توضيح الأسباب الموجبة لذلك أو تقديم حججٍ معقولةٍ لهذا الإجراء ، مع أنّه لا يوجد سندٌ تشريعيٌ أو اجتهادٌ فقهيٌ معروفٌ ومعتمدٌ على ما نعلم ، يقرّ أو يؤيّد ذلك .
ومن ذلك أيضاً وعلى سبيل المثال وهو نموذجٌ صارخٌ في مخالفته لأحكام الشريعة الإسلامية ، المادّة الرابعة من المرسوم التشريعي رقم 128 وتاريخ 11/6/1949 والتي تنصّ على أنّه : ( لمديرية الأوقاف العامّة أن تدير الأوقاف الخيرية على الصورة التي تحقّق مصالح المسلمين العامّة ، وجهة الخير التي أرادها الواقف دون التقيّد بشروطه ) ! . ناهيك عن أنّ قيام الدولة ممثّلةً بوزارة الأوقاف أو أيّة جهةٍ أخرى باتّخاذ صفة الولاية والإدارة على الأوقاف جبراً ، ليس إلا خرقاً واضحاً لأحكام الوقف الشرعية ، التي تعطي للواقف حقّ تولية الناظر من ضمن الشروط التي يرغب بوضعها في وقفه ، بل التي أوقف وقفه بناءً عليها مع ثقةٍ منه بأن شروطه هذه معتبرةٌ ومحقّقةٌ . كلّ ذلك أدّى إلى ضعف الثقة لدى الراغبين في إنشاء الأوقاف الخيرية في سورية منذ صدور قانون الوقف الخيري الإسلامي ” الذي لا نراه إسلامياً ” ، وغيره من التشريعات الوقفية المربكة والمريبة في الوقت ذاته ، كيف لا وهذا القانون ينصّ في مادّته الثانية على أنّ مديرية الأوقاف العامّة وفروعها في المحافظات هي من يتولّى إدارة الأوقاف الخيرية ، ولا يجوز ” في الفقرة الثانية من نفس المادّة ” أن يشترط الواقف التولية لأحدٍ في الأوقاف الخيرية التي تنشأ بعد صدور هذا المرسوم ” أي في العام 1949 ” وإلا اعتُبر الشرط باطلاً ! ، أي أنّ الوقف يصحّ فتضع الدولة ممثلةً بجهةٍ حكوميةٍ يدها على هذه الأوقاف ، ثم تلغي شرط التولية الذي اشترطه الواقف ، وبعدئذٍ تقوم بإدارة الأوقاف على الصورة التي تحقّق مصالح المسلمين العامّة وجهة الخير التي أرادها الواقف ” من وجهة نظر وزارة الأوقاف دون تقيّدٍ بشروطه الأخرى ” كما تنصّ المادّة الرابعة المذكورة من نفس القانون . ولذلك لم نعثر على أيّ وقفٍ خيريٍ حقيقيٍ بعد هذا العام في كلّ المحافظة التي نقطن فيها ، بل وفي كلّ المحافظات الأخرى ! . ولا غرابة في ذلك .. لأنّ شروط الواقفين غير معتبرةٍ لدى مديرية الأوقاف العامّة التي أصبحت وزارةً في العام 1961 ، وبقي عدم اعتبار هذه الشروط قائماً ، ولو كانت معروفةً من قبل هذه الجهة التي ولّت نفسها على الأوقاف بموجب قانونٍ وضعيٍ خالف في هذه الناحية الأصول الشرعية المتّبعة كما خالفها في نواحٍ كثيرةٍ أخرى ، فأفرغ الأوقاف التي كانت قائمةً من محتواها الشرعي ، وأدّى إلى إضعاف الثقة لدى الراغبين في إنشاء الأوقاف بعد صدور هذه التشريعات التي منعتهم من الاشتراط ، وجعلت للدولة حقّ التصرّف والإدارة والاستغلال للأوقاف ، بدون رقيبٍ أو حسيبٍ بل بدون أيّ وجه حقٍّ . والغريب في الأمر أنّ قرار إنشاء المجلس الأعلى للأوقاف في سوريا عام 1921م قضى بأنّ ” الذين وقفوا الأوقاف من المسلمين إنما قصدوا بذلك الخير والتقوى ، فأوقافهم هي دينيةٌ إسلاميةٌ محضةٌ ، وبما أن ” الشريعة الإسلامية تقضي بأن تُصرف إيراداتها طبقاً لشروط الواقف ” وبما أنّ الأوقاف الإسلامية هي ملك المسلمين ، وأنّ المراقبة عليها ليس لها أسبابٌ إلا ما تقتضيه منافع المسلمين ، لذا يجب المحافظة على استقلالها وخصوصيّاتها وأن يقوم على شؤونها أناسٌ مقتدرون”. ولذلك فإنّه من المؤسف حقّاً أن ينشأ هذا الوضع التشريعي الشاذّ للأوقاف في بلدٍ عرفتِ الأوقاف الخيرية منذ عهدها بالإسلام ، وبأشكالٍ على غايةٍ من الأهميّة والتنوّع والغِنى في أصناف مؤسّساتها الوقفية التي سادت في بلاد الشام على مرّ عصور الإسلام ابتداءً من الحقبة الأموية . والتاريخ يخبرنا عن أنواعٍ وأشكالٍ من الأوقاف الخيرية عرفتها هذه البلاد ممّا لم تعرفه مؤسّسات الخير والنفع العامّ الموجودة في بلدان العالم المتقدّم حتّى وقتنا الراهن ، وقد ذكرنا بعضها في الفصل الأوّل من الباب الأوّل لهذا البحث . وبالتحرّي والبحث في سجلات القضاء الشرعي بدمشق ، عن نماذج للأحكام القضائية الصادرة بإنشاء الأوقاف ، وجدنا أنّه ومنذ التسعينيات من القرن الماضي استقرّ العمل القضائي على تجاوز أحكام الشريعة في إنشاء الأوقاف وإشهارها . فبعدما كان الوقف يَثبُت بواسطة الحجج الوقفية التي يُنشئها الواقفون أو بشهادة الغير إن لم يوجد حججٌ وقفيةٌ مكتوبةٌ ، وجدتِ المحاكم الشرعية دون مبرّرٍ مقبولٍ بعض صعوبات في إكساء أحكامها الصادرة بتثبيت الأوقاف صيغة التنفيذ . فمرّةً كانتِ الأحكام الصادرة عن المحاكم الشرعية تنصّ على إلزام أمانة السجلّ العقاري في دمشق بتسجيل الأوقاف التي صدرت الأحكام بتثبيتها باسم مديرية الأوقاف في دمشق ، ومرّةً كانت هذه الأحكام تصدر دون هذا النصّ ، ممّا جعل مديرية الأوقاف نفسها تقوم عن طريق ممثّلها القانوني باللجوء إلى المحاكم المدنية طالبةً إكساء الأحكام الشرعية بإنشاء الأوقاف صيغة التنفيذ وإلزام أمانة السجلّ العقاري بتسجيل العقارات الموقوفة باسم المديرية . ولذلك جرتِ العادة بعد ذلك على قيام الواقف ” الذي لم يعد واقفاً في هذه الحالة ” بالتبرّع إلى مديرية الأوقاف مباشرةً أو بحكمٍ قضائيٍ ، وقد يَشترط أن يكون العقار مسجداً أو مستوصفاً أو مدرسةً أو غير ذلك ، وهذا ليس وقفاً بطبيعة الحال .. وإنّما هو هبةٌ مشروطةٌ ! . وإذاً فإنّ القضاء السوري سار أيضاً في طريق مخالفة أحكام الوقف الشرعية ، متذرّعاً بالقانون الذي أطّر أحكام الأوقاف في سورية فأفرغها من محتواها ، وخالف مضمون الوقف وتشريعه الإسلامي . ويؤكّد الواقع الحالي للأوقاف في مدينة دمشق وجميع المحافظات السورية على أنّ جميع الوقفيّات الموجودة في القطر العربي السوري هي مجرّد عقاراتٍ تعود ملكيّتها لمديريّات الأوقاف في المحافظات ، وتخضع لأحكام الباب السابع من قانون تنظيم وزارة الأوقاف في سورية ، ويتضمّن هذا الباب أحكام إيجار العقارات الوقفية ، وطرق جباية وتحصيل أجور هذه العقارات ، ويحدّد الباب الثامن من نفس القانون المسائل والشؤون المالية للأوقاف ، فيما يتعلّق بالنفقات عليها وطرق توزيع مصارفها ووارداتها ، ويتمّ هذا التحديد بموافقة المجلس الأعلى للأوقاف أو وزير الأوقاف ، فيبقى لموظّفي الحكومة المعيّنين تعييناً كلّ الصلاحيّات التي تخوّلهم بالتصرّف والإدارة المالية للأوقاف بعيداً عن الاعتبارات الشرعية المعروفة في إنشاء الأوقاف وتنظيم عملها وتحديد مصارفها وفق ما تمّ إنشاؤها لأجله ، وبعيداً عن شروط واقفيها الأصليين وضوابطهم المقرّرة ، ونأياً بنظام الأوقاف عن هدفه ومضمونه وحكمته وقواعده وأحكامه الشرعية . وإن كنّا قد أطلنا في سرد بعض جوانب واقع الأوقاف العملي في سورية ، فلأنّنا أردنا الوقوف على هذا الواقع وبيان بعض ظروفه غير المطُمئِنة ، قبل أن نخوض في دراسةٍ أو تحليلٍ لإحدى المؤسّسات الوقفية في سورية ، كي نوضّح بعضاً من ملامحه التشريعية والإدارية والتنظيمية ، وعسى أن نضع لبنةً صغيرةً في طريق بناء التشريع الوقفي في سورية وغيرها من دول العالمين العربي والإسلامي ، كما نتمنّى أن يكون هذا البناء . وقد آن الأوان لتنظيم تشريعٍ موحّدٍ يُعنى بمضمون هذا النظام العريق ، ويلتفت إلى كلّ جانبٍ عمليٍ وتشريعيٍ فيه ، ليحقّق الأهداف التي شُرّع من أجلها هذا النظام ، وبأعلى درجةٍ ممكنةٍ من الكفاءة ، وبما يثري الحاجات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية المتنامية لشعوب الأمّة الإسلامية ، ويحفّز دور الأوقاف في النهوض بها على مختلف المستويات الإنسانية والحضارية .
وبعد بحثٍ دؤوبٍ وجهدٍ حثيثٍ بذلناه ، بسبب هذا الواقع المتردّي للأوقاف السورية ، توصّلنا إلى نموذجٍ وقفيٍ ، نعدّه الأفضل كما وجدنا بين عشرات الأوقاف التي طرقنا أبواب البحث فيها ، فلم نعثر على ما يستحقّ الدراسة ! ، لأنّها وبعد عشرات السنوات من صدور قانون الوقف الخيري في سورية ، بموادّه التي أخضعت العقارات والأموال الوقفية لسلطة الدولة ممثّلة بمديريّات ووزارة الأوقاف ، اقتصر النشاط الوقفي في أفضل الأحوال على تأجير هذه العقارات لجهاتٍ خيريةٍ أو صحّيةٍ أو اجتماعيةٍ معيّنةٍ لتُفيد من انخفاض أجورها ، مع تمكينها من استغلال عوائد هذه العقارات إن أمكن ذلك ، للاستفادة منه في تأمين نفقات هذه الجهات ، كما في بعض الأراضي الزراعية أو الأبنية والحوانيت التجارية .
وإذاً فقد حاولنا العثور على نموذجٍ وقفيٍ يوافق قدر الإمكان مفهوم الوقف الشرعي ونظامه العملي ، فعثرنا على وقفٍ مهمٍّ في دمشق لم تتملّكه وزارة الأوقاف السورية حتّى اللحظة ، بفعل قرارٍ أصدره وزير الأوقاف بهذا الخصوص ، وبعد عددٍ من الدعاوي القضائية التي أقامتها الجمعية الخيرية المتولّية لهذا الوقف ودعوى أقامتها مديرية الأوقاف بدمشق على الجهة الواقفة وعلى الجمعية نفسها ، وقد كان لهذه المؤسّسة الوقفية وقفٌ واحدٌ على ما يبدو فضُمّت إليه أوقافٌ أخرى لصالح نفس المؤسّسة ، كما أوقف بعض المحسنين عقاراتٍ أخرى لصالحها فيما بعد . والآن فإنّ الجمعية الخيرية الوقفية تُدعى جمعية الشيخ بدر الدين الحَسَني وتضمّ ثلاثة عقاراتٍ كبيرةٍ في مناطق متفرقةٍ من دمشق ، تمتلكها الجمعية ويعود لمجلس إدارتها حقّ التولية عليها ، وتحديد مصارفها بالطرق الشرعية المعتبرة ، وبما ينسجم مع الأهداف الرئيسية للوقف المُنشأ ، وبما يواكب التطوّر العصري الذي نعيشه ، ويكرّس كلّ الإمكانيّات المتاحة لتحقيق المصلحة المرجوّة من الوقف ، والغاية المنشودة من إنشائه .
الفصل الثاني – دراسة وتحليل مؤسّسةٍ وقفيةٍ خيريةٍ” أوقاف جمعية المحدّث الأكبر الشيخ بدر الدين الحَسَني نموذجاً “
المبحث الأوّل – لمحةٌ عن تاريخ الجمعية ومنشآتها ، وواقعها الشرعي والقانوني
لم تكنِ الجمعية الخيرية تحمل هذا الاسم عند إنشائها وترخيصها من قبل وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل بتاريخ 17/12/1959 ، بل كانت تحمل اسم جمعية إسعاف طلاب العلوم الشرعية الإسلامية، فمنذ العام 1957 عكف الداعية الإسلامي محمّد بدر الدين عابدين على إعادة تفعيل دور الوقف الخيري الذي كان قائماً في مدرسة الأشرفية منذ العام 1835 وإحياء الأهداف التي أُنشئ لتحقيقها وهي تدريس العلوم الشرعية ، فأنشأ جمعية إسعاف طلاب العلوم الشرعية الإسلامية في دمشق ، وكانت في البداية مخصّصةً للطلاب الأتراك الوافدين إلى دمشق من أجل دراسة هذه العلوم ، فقام الشيخ محمّد بدر الدين عابدين بجمعهم ورعايتهم وأسكنهم في مدرسة المقدّمية وهي وقفٌ قديمٌ خُصّص أيضاً لنفس الغاية ، ثمّ تمّ إشهار الجمعية في العام 1959 فأخذ عدد الطلاب بالازدياد ، وانتقلتِ الجمعية والمدرسة إلى وقفٍ آخر هو المدرسة الأمينية ، وبعد ذلك تمّ استئجار مقرٍّ جديدٍ في باب الجابية ، وفي العام 1963 تخرّجت من مدرسة هذه الجمعية الخيرية الوقفية أوّل دفعةٍ من الطلاب وكانوا ثلاثة وعشرين طالباً ، غادروا دمشق إلى بلدانهم بعد أن تزوّدوا بالعلوم الشرعية النافعة ، وبعدئذٍ بدأت أعداد الطلاب تستمرّ بالازدياد ، وكانوا من أقطارٍ وجنسيّاتٍ مختلفةٍ ، وحصلت الجمعية على موافقة مديرية الأوقاف في دمشق لضمّ غرف التكيّة السليمانية لمجموع الأوقاف التي كانت الجمعية تمتلكها أو تُفيد منها حتى ذلك الوقت . و صدر بتاريخ 20/2/1984م قرارٌ من وزير الأوقاف قضى بربط جميع المدارس والمعاهد الشرعية بمديرية التعليم الشرعي في وزارة الأوقاف إدارياً وعلمياً ومسلكياً ومالياً . وفي21/7/1985 أصدرت رئاسة مجلس الوزراء كتابها الذي يقضي بتبعية المعاهد والمدارس التعليمية التابعة للجمعيات الخيرية إلى وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل . وفي العام 1997عُدِّل اسم الجمعية ليصبح ( جمعية المحدث الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني ) . وأصبحتِ الجمعية الآن تضمّ مجموعةً من الأوقاف الإسلامية الخيرية القديمة والحديثة ، ومنها ما انتقل إلى ملكية الجمعية ، ومنها ما هو في ملكية وزارة الأوقاف ومخصّصٌ لجمعية الشيخ بدر الدين الحَسَني ، وكلا القسمين يخضع لإدارة وتصرّف الجمعية ممثلةً بمجلس إدارةٍ حُرِصَ على انتقاء أعضائه من بين مجموعة من الأساتذة والأعيان المشهود لهم بالكفاءة والنزاهة . ولذلك فإن هذه التجربة الوقفية أثبتت تفوّقها ونجاحها من خلال توسّع مجالات الوقف وتعدّد أهدافه التعليمية والإرشادية والدعوية عبر عشرات السنين ، دون إخلالٍ بطبيعة الوقف الأساسي الذي أنشئ من أجل تحقيق نفس الغايات التي تسعى الجمعية إلى تحقيقها الآن ، مع تطوّرٍ كبيرٍ وتقدّمٍ ملفتٍ ، وعنايةٍ واهتمامٍ بالغَيْن من القائمين على إدارة شؤونها ، وتوجّهٍ محمودٍ من مجموعةٍ كبيرةٍ من المحسنين والمتبرّعين والواقفين لأجل تقديم كل ما يحقّق نجاح هذه المؤسّسة الوقفية وكفاءتها . وإذاً فإن الوقف الخيري الذي أنشأه الشيخ يوسف الحَسَني قبل أكثر من مائةٍ وخمسين عاماً لأجل رعاية طلبة العلوم الشرعية ، تمّ إحياؤه من جديدٍ على أوقافٍ أخرى ، فأصبح اليوم مجموعةً كبيرةً من المنشآت الوقفية الخيرية التي تُعنى بذات الأهداف والغايات الأولى للواقف المرحوم ، مراعيةً بذلك بواعثه الإنسانية الخاصّة في إنشاء ذلك الوقف ، وعلى نفس الضوابط الشرعية التي أراد تحقيقها ، فقد اعتمد الواقفون الجدد نفس الشروط في أوقافهم الحديثة ، وتشكّل أوقاف الجمعية الآن مجموعةً من المؤسّسات التعليمية الشرعية المشهورة والمشهود لها بالكفاءة والنجاح ، والمؤلّفة من : 1- مجمّع المحدّث الأكبر الشيخ بدر الدين الحَسَني للذكور ( المعهد الشرعي للذكور – السكن الداخلي ) ، ويدرس فيه طلابٌ سوريون وعربٌ وأجانب يبلغ عددهم حوالي خمسمائة طالب ، ويحوي هذا المعهد مبيتاً للطلاب ، وقاعاتٍ للدراسة ، ويقع في منطقة باب الصغير من دمشق ، على وقفٍ خيري أوقفته لصالح الجمعية السيدة بهيّة الحسني ، وأنفق على إنجازه المرحوم عبد الهادي الدبس وذووه من بعده وتمّ إنجازه في العام 1999 ، ووفق شروط الواقف وضوابط حجّته الوقفية . 2- معهد المحدّث الأكبر الشيخ بدر الدين الحَسنَي للإناث ، وهو ثانويةٌ شرعيةٌ للإناث من كافّة الأقطار الإسلامية ، وتضمّ الآن نحو ألفٍ وستمائة طالبةٍ ، ويقع على عقارٍ كبيرٍ أوقفه آل البردان في منطقة كفر سوسة لصالح الجمعية في العام 1994 من أجل إقامة معهدٍ شرعيٍ للإناث . 3- السكن الداخلي للإناث ويتكوّن من مائة وسبعة عشر غرفةً ، ويقع على عقارٍ مجاورٍ للعقار السابق ، اشترته السيّدة براءة الحلاق من مالكيه ، وأوقفته لصالح الجمعية في العام 1997 ، وتعهّدت بتجهيزه وتجهيز معهد الإناث مع السيّدة رفيدة كزبري ، وبالفعل انتهى هذا المشروع في العام 1999 . 4- معهد الذكور – فرع الزهراء ، وهو وقفٌ تملكه مديرية الأوقاف في دمشق ، في قبو جامع الزهراء بمنطقة المزّة ، وقد قامت المديرية بمنح جمعية الشيخ بدر الدين الحَسَني حقّ الانتفاع بهذا الوقف فتمّ إكساء هذا القبو وتجهيزه على نفقة السيّدين علي وعادل الرفاعي ، وأصبح مدرسةً ثانويةً شرعيةً للذكور ، وعدد طلبتها الآن ما يقارب ثلاثمائة طالب ، ويبيتون في قبو جامع عليٍّ بن أبي طالب رضي الله عنه في المزّة منذ العام 1989 ، بعد توجيهٍ وإشرافٍ من المرحوم عبد المجيد الطرابلسي وزير الأوقاف آنذاك .
وإذاً فإنّ أوقاف الجمعية تضمّ الآن ثلاثة عقاراتٍ أوقفها أشخاصٌ وقفاً خيرياً لصالح الجمعية ، وبشروطهم المعتبرة والمعتمدة من قِبَل الجهة المتولية التي تمتلك هذه العقارات الآن ، وعقاران خُصّصا لصالح الجمعية من قِبَل مديرية الأوقاف بدمشق دون أن يدخلا في ملكية الجمعية . وهذه الأوقاف جميعاً تؤدّي اليوم بانسجام بينها ، الدور المطلوب منها بكفاءةٍ عاليةٍ ، ونجاحٍ ملحوظٍ وتطوّرٍ مستمرٍّ ، دون إخلالٍ بشرط من شروط الواقفين ، ولقد استطعنا الحصول على نسخةٍ عن حجّتين وقفيتين من حجج الأوقاف الثلاث التي تملكها الجمعية . ونستعرض ما جاء فيهما على النحو التالي :
الحجّة الأولى : وهي حجّة وقف آل البردان ” وعددهم أربعون شخصاً ” بين ذكورٍ وإناثٍ لصالح جمعية الشيخ بدر الدين الحَسَني ، وقد أقرّ هؤلاء الواقفين وقفيّتهم هذه أمام القاضي الشرعي في دمشق بقولهم : ( بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّدٍ ، وعلى آله وصحبه أجمعين : فقد أخرجنا كامل حصصنا الإرثية بالغةً ما بلغت ، ومن أيّ مورّثٍ كان من العقار 275 قنوات بساتين ، وهو عبارةٌ عن قطعة أرض سقي تزرع خضرواتٍ متنوّعةً ، ووقفناها وقفاً خيرياً صحيحاً شرعياً ، وحبساً مؤبّداً على جهات الخير والبرّ والإحسان ، وإنشاء المعاهد الدينية ، وقد أخلينا أيدينا عنه ، وسلّمناه إلى متولّي الوقف الموما إليه ) .
وأمّا الحجّة الثانية : فهي حجّة وقف السيّدة براءة الحلاق والتي تقرّر الواقفة فيها بعد حضورها أمام القاضي الشرعي في دمشق ، أنّها : ( أوقفت كامل العقار رقم 273 من منطقة قنوات بساتين ، وقفاً خيرياً لصالح جمعية بدر الدين الحَسَني الخيرية ، لإقامة معهدٍ شرعيٍ للإناث ، وأبنيةٍ لمبيتهنّ، وفي حال انحلال الجمعية لا سمح الله ، يعود هذا الوقف إلى مديرية أوقاف دمشق ، معهداً شرعياً للإناث ، حسب شرط الواقف حصراً ) .
وأهمّ ما يُلاحَظ في الحجّتين أنّ الجهة المتولّية احترمت شروط الواقفين فيهما ، وأولتها كلّ احترام ، ونفّذت ما جاء فيها بكلّ دقّةٍ ، فالتزمت بعقد الوقف الالتزام الواجب ، ما حقّق صحّته وأكّد شرعيته ، وأدّى بالنتيجة إلى نشوء مؤسّسةٍ وقفيةٍ نموذجيةٍ ، شروط الوقف فيها صحيحةٌ ، وضوابط الواقفين فيها معتبرةٌ . وبعد ذلك فإنّ الجهة المتولّية للوقف وهي الجمعية الخيرية التي نتحدّث عنها ، استطاعت بكفاءةٍ إدارة الأوقاف التي تولّتها بالطريقة المثلى وفي كلّ ما يتعلّق بمصارفها ووارداتها ونفقاتها ، وذلك لسببين : أوّلهما دقّة وحسن اختيار القائمين على إدارة الجمعية ، والآخر غزارة الموارد الخيرية التي تدرّ على أوقاف الجمعية ومنشآتها الريع اللازم لتحقيق أهدافها وأغراضها ، من خلال أداءٍ مثاليٍ وهمّةٍ عاليةٍ لم تَخْفَ على أحدٍ من مراقبي عمل الجمعية والمهتمّين بشؤونها ومصالحها . وتعدّد الواقفين في الحجّة الأولى ليس مستغرباً باعتبارهم مجموع الوارثين للعقار الموقوف ، ولكنّ المثير للإعجاب إجماعهم دون خلافٍ على هذا الوقف الذي أنشؤوه ، وربما يقول قائلٌ إنّ هذا التعدّد الكبير يعني أنّ قيمة الحصص التي آلت إلى كلٍّ منهم ليست ذات قيمةٍ كبيرةٍ ، بسبب قلّتها ، ما دفعهم إلى هذا الإجماع ، ولكنّنا علمنا أنّ العقار الذي أوقفوه ” وهو خالٍ من أيّة إشارة رهنٍ أو حجزٍ أو مرصدٍ أو مانعٍ قانونيٍ من وقفه أو التصرّف فيه ” كما جاء في قرار المحكمة الشرعية ، تبلغ مساحته ألفان وخمسمائة وخمسون متراً مربّعاً ، في منطقةٍ يبلغ سعر المتر المربّع الواحد فيها ، لا أقلّ من خمسين ألف ليرة سورية ” في ذلك الوقت ” ، وهذا يعني أنّ سعر العقار عندما أوقفه آل البردان كان يبلغ نحو مائة وخمس وعشرون مليون ليرة سورية ، أي ما يعادل مليونان وثمانمائة ألف دولار أمريكي ، ونحو سبعمائة وخمس وثلاثون ألف دينار كويتي ، وهو مبلغٌ كبيرٌ حتّى ولو تمّ توزيعه على أربعين شخص ، لأنّ الحصّة الواحدة ستبلغ نحو ثلاثة ملايين ومائتي ألف ليرة سورية .
ويلاحَظ أنّ اشتراط المذكورين وقف العقار على أوجه البرّ والإحسان والخير وإنشاء المعاهد الدينية ، دون تحديدٍ ، يعطي للجمعية الموقوف لصالحها والتي تتولّى الوقف ، الحقّ بالتصرّف فيه وفقاً لهذا الشرط العامّ ، ما يتيح لها حرّيةً واسعةً في إنشاء ما تراه مناسباً في هذا الإطار ، وقد رأت المؤسّسة الوقفية تخصيصه معهداً شرعياً للإناث ، وأفادت من العقار المجاور الذي أوقفته السيّدة براءة الحلاق ، لتخصيصه مبيتاً لطالبات المعهد كما اشترطت على سبيل الحصر في وقفيتها التي ذكرناها ، فحقّق الوقفان وظيفتين منسجمتين من خلال ذلك ، وباعتبارٍ واضحٍ واحترامٍ بالغٍ لشروط الواقفين . وتجدر الإشارة بالنسبة لوقف السيّدة براءة ، أنّها اشترطت لنفسها حقّ الانتفاع على جزءٍ من العقار الذي أوقفته ، ممّا لم نجد له ذكراً في حجّة الوقف التي أنشأتها أمام المحكمة الشرعية ، ولكنّنا علمنا أنّ ذلك كان بالاتّفاق والتنسيق مع الجمعية نفسها ، وبموجب قرارٍ من مجلس إدارتها . وكان الصحيح أن تشترط لنفسها هذا الحقّ في حجّة الوقف التي أنشأتها ، بل إن ذلك عنصرٌ أساسيٌ في شروط الواقفين ، فليس للواقف أن يشترط شيئاً لنفسه أو لغيره من الشروط التي يحقّ له اشتراطها من بعد إنشاء الوقف ، ولذلك سجّلنا هذه الملاحظة .
وعلى أيّ حالٍ فقد تمتّعتِ الحجّتان المذكورتان بالشكل الشرعي المطلوب إلى حدٍّ كبيرٍ لم نكن نتوقّعه ، بسبب فرادتهما واختلافهما عمّا أصبح متّبعاً في المحاكم الشرعية السورية منذ أوائل التسعينيات كما ذكرنا في بداية الفصل السابق ، وكذلك بسبب خروج ملكية الواقفين إلى ملكية الجمعية التي أوقفوا أموالهم لصالحها وولّوها عليها ، ممّا يخالف أحكام القانون الخيري الإسلامي في سورية ، ويتّفق مع أحكام الشريعة الإسلامية في الوقف . وإن كان ذلك قد حدث بفعل قرارٍ حكوميٍ شجاعٍ اتّخذه رجلٌ كان يقبع على رأس الهرم التنظيمي لوزارة الأوقاف ، لكنّه وجد أنّ الوزارة لا تملك ” من الناحية الشرعية ” أن تضمّ إلى أملاكها عقاراً بغير وجه حقٍّ .
وقد أوردنا نصّ الحجّتين وعلّقنا عليهما ثمّ سردنا الوقائع السابقة ، وكنّا قبلاً قد تحدّثنا بأكبر اقتضابٍ ممكنٍ عن بعض تاريخ الجمعية ومكوّناتها ، قبل أن نَلِجَ في تحليلها من منظور مراعاة مقاصد الشريعة الإسلامية . وذلك من أجل توضيح بعضٍ من واقع هذه المؤسّسة الوقفية وظروفها المعقّدة من ناحيةٍ ، والمبشّرة الواعدة من ناحيةٍ أخرى . ما يفسح المجال لتكوين أفكارٍ عامّةٍ حول هذه المؤسّسة تساعد في إعداد دراسةٍ أكثر تفصيلاً حول المصارف والأولويّات ، في ضوء هذا الواقع التشريعي والتنظيمي الذي تحدّثنا عنه .
المبحث الثاني – تحليل الواقع العملي لجمعية الشيخ بدر الدين الحَسَني من وجهة نظر المقاصد العامّة للشريعة الإسلامية
ذكرنا سابقاً أنّ الفقهاء المسلمين متّفقون على تقسيم مقاصد الشريعة الإسلامية ، من خلال المصالح التي تهدف إلى تحقيقها ، إلى مقاصد ضروريةٍ ، وحاجيةٍ ، وتحسينيةٍ . واعتمدنا تعريف رائد علم فقه المقاصد الإمام أبي إسحاق الشاطبي ، في توضيح المقصود منها ، كما وذكرنا أنّ الوقف بحكم جوهره النفعي الشامل وطبيعته العملية المرنة قادرٌ على تحقيق مستويات المقاصد الثلاثة على تفاوت أهمّيتها ، بسبب اتّساع دائرة الأغراض التي يؤدّيها نظام الوقف ، وتنوّع المطارح التي يمكن أن تصبّ فيها مصارفه ، وتنوّع الأشكال والطرق التي يمكن أن تحقّق هذه الغاية . وبالنسبة لجمعية بدر الدين الحَسَني التي اخترناها نموذجاً لتحليل واقعها في ظل مقاصد الشريعة ، فإنّنا نعتقد أنّها حقّقت إلى حدٍ كبيرٍ كما سنرى بعد قليلٍ ، هذه الشمولية في أداء وإنجاز درجات المقاصد الثلاث ، من خلال تنوّع وتدرّج ما قدّمته وتقدّمه من أساسياتٍ و منافع وخدماتٍ ، ما يدخل تحت مضمون الضروريات والحاجيات والتحسينات معاً . وقبل أن نستعرض ذلك بتفصيلٍ ، نودّ أن نذكر بعض النقاط أو الملاحظات :
أوّلاً – الجمعية الوقفية الخيرية التي ندرسها الآن ، لم تكن تؤلّف عند تأسيسها أوّل الأمر ، مؤسّسةً وقفيةً بالمعنى الدقيق للعبارة ، فقد بدأت بمجهودٍ شخصيٍ لرجلٍ أراد إحياء سنّة أستاذه الذي تلقّى عنه علومه الشرعية في المدرسة الأشرفية التي تقدّم الحديث عنها ، من خلال أداء نفس المهمّة التي أدّاها أستاذه ووالد أستاذه من قبل ، حينما جمع الطلبة الأتراك وأسكنهم ورعاهم في مدرسة المقدّمية وهي من الأوقاف العتيقة في دمشق . وقد استطاع الرجل رحمه الله بهمّته ومواظبته ، تحقيق هذا المنال من خلال إشهار جمعية خيرية عام 1959 تهدف إلى إنجاز مهمّةٍ مشابهةٍ لما قام به الشيخان يوسف الحَسَني وابنه بدر الدين الحَسَني منذ العام 1835 . ولم يشكّل الوقف الذي اعتمد عليه آنذاك لإنجاز ما كان يصبو إليه مؤسّسةً وقفيةً نموذجيةً ، ولكنّ هذا المجهود والاندفاع الشخصي الكبير جعل للجمعية أصولاً عريقةً من ناحية ارتباطها بالفكرة التي تأسّست منذ ذلك الوقت وهي تدريس العلوم الشرعية ، وكذلك من ناحية محافظتها بعد أكثر من مائةٍ وسبعين سنةً على هذا الأساس الذي قام عليه الوقف الأول وأُنشئ لأجله . وإن لم يكن ثمة اتّصالٌ عمليٌ بين ذاك الوقف والأوقاف الحالية للجمعية . ولكنّ ذلك يؤكّد أمرين : أوّلهما ما للدوافع النفسية والشخصية من دورٍ كبيرٍ في وجود الأوقاف واستمرارها ، وكذلك في نجاحها ، بسبب ما تحمله النفوس المندفعة إلى إنشائها من مثابرةٍ وحرصٍ وجدّيةٍ واهتمامٍ بذلك ، ما يساهم بشكلٍ كبيرٍ في تحقيق المأمول من خلال تلك الدوافع على اختلاف أنواع الخير الذي تقصده . والأمر الثاني فهو ما يظهر من خلال ذلك العنصر النفسي أو الأسباب الشخصية التي تدفع أصحابها لإنشاء الأوقاف من أهمّيةٍ بالغةٍ لدور شروط الواقفين ، ومدى ما يمكن لها أن تحقّقه في إنجاح الوقفيات على تنوّعها ، بسبب اندفاع المعنيين بهذه الشروط إلى تنفيذها ، بدافع الحرص على أداء الأمانة التي أُوكل إليهم أداؤها ، وكذلك بسبب إيمانهم أنّ ذلك من أهمّ أحكام تشريع الوقف ، ما سيؤدّي بالنتيجة إلى خلق إحساسٍ قويٍّ ومؤثّرٍ لديهم بأنهم يقومون بإنجاز مهمّاتهم في إدارة الوقف وتصريف شؤونه ، وفقاً لِما تقرّه الشريعة وتحقيقاً لمقاصدها .
ثانياً – النقطة الثانية التي نودّ إثارتها هي أنّ المؤسّسة الوقفية التي نتحدّث عنها ، لا تحقّق الاكتفاء الذاتي من الناحية المادّية أو المالية ، إذ لا يوجد في جملة الأوقاف التي تتولاها جمعية الشيخ بدر الدين الحَسَني الخيرية ، ما يُدرّ من الريع أو يسبل من المنفعة غير أعيان هذه الأوقاف باعتبار ما تحقّقه من غرضٍ في وقفها لأجل التعليم الشرعي . فالعقارات التي أُوقِفت لصالح الجمعية أو سُخِّرت من أجلها لا تدرّ على الجمعية منفعةً سوى منفعة استغلالها بالشكل الذي حدّدته صكوك إنشائها ، وهذا يعني أن الوقف انصبّ على عين المال الموقوف بشكلٍ مباشرٍ وعلى منفعة استغلالها ، من دون أن يكون لها ثمارٌ أو عائداتٌ مباشرةٌ ، وبقيت هذه المنفعة متعلّقةً بالظروف المواتية الصالحة التي يمكن من خلالها تحقيق مآرب الواقفين والجمعية اعتماداً على توافرها ، ولذلك فإنّ الأوقاف التي تتولاها الجمعية غير كافيةٍ بحدّ ذاتها من أجل توفير النفقات اللازمة لتحقيق أهداف الجمعية عموماً وأهداف الوقف الذي أُنشئ لصالحها على وجه الخصوص . وإنّما يلزم لإنجاز هذه الأهداف وتحقيق الغاية من الأوقاف تغطية النفقات المطلوبة بوسائل أخرى . ولذلك اعتمدت الجمعية على موارد متنوعةٍ كالتبرّعات والهبات والصدقات والأعطيات العينية أومساعدات الهيئات والمؤسسات العامّة والخاصّة ، من أجل إنجاز الأهداف التي تسعى إليها ، فانطبق عليها نظام الجمعيات عموماً من حيث خضوعها لأحكام تشريعات الجمعيات ، خاصّةً بشأن انحلالها أو إفلاسها لا سمح الله ، لأنّ هذا رهنُ بتوفّر الموارد اللازمة لاستمرارها ، وحمداً لله فإنّ الجمعية التي نحلّل واقعها الآن ، ذات موارد متعدّدةٍ وكثيرةٍ ، نتمنّى ألا تنقطع أيدي المحسنين والمتبرعين عن أدائها ، بالنسبة لهذه الجمعية وغيرها من الجمعيات الخيرية والإنسانية على اختلاف أهدافها . وكلّ ذلك يعني أنّ الجمعية مع أوقافها القديمة التي لم تكن تمثّل مؤسّساتٍ وقفيةٍ من الناحية العملية ، قد سبقت زمنياً الأوقاف الهامّة الجديدة التي خُصّصت لها ، فكانت بواعث الجمعية عنصراً مهمّاً ، وسبباً دافعاً لتشجيع الواقفين على إنشاء وقفياتهم لصالح الجمعية مع ثقتهم بأهمّية الأهداف التي تنشدها ، وكفاءة الإدارة التي تتولاها . وحفّزت ذات البواعث والأهداف غير هؤلاء الواقفين على تقديم الإعانات المالية والعينية للجمعية لتستمرّ في إنجاز وتحقيق أهدافها . ولذلك فإنّ الأوقاف الخيرية التي أُنشئت لصالح الجمعية وإن كانت لاحقةً لها ولم تكن تدرّ من دخلٍ أو تحقّق من منفعةٍ سوى انتقال رقبة ملكيّتها إلى الجمعية وفق ما حدّدته صكوك إنشائها ، إلا أنّها أدّت الدور المطلوب منها والذي نشده واقفوها ، مع التذكير بأنّ مجموع قيمة هذه العقارات الموقوفة يبلغ مئات الملايين من الليرات ، وهذا كافٍ للقول بأنّ أوقاف الجمعية أدّت غرضاً بنّاءً عظيماً .
ثالثاً- إنّ ما تتلقّاه الجمعية أو غيرها من المعونات على تنوّعها بين أثاثٍ وعُددٍ وأجهزةٍ وتجهيزاتٍ وغير ذلك ، يدخل في مفهوم وقف المنقول أو المنقول المرتبط وظيفياً ” إن صحّ التعبير ” بالعقار ، الذي ذكرنا ذات مرّة أنّه من المفيد إجازته واعتماده في العصر الحديث بسبب ما يحقّقه من فوائد في ظلّ هذا التنوّع الكبير للمنقولات وما يمكن أن تحقّقه من منافع قد لا تقلّ أهمّيةً عما يحقّقه وقف العقارات أو منافعها ، ويُفيد هذا في التأكيد على نقطةٍ أخرى كنّا قد أثرناها سابقاً ، وهي الفائدة التي تتحقّق من خلال اعتماد جميع المناهل والمذاهب والاجتهادات الفقهية في شؤون الوقف دون اعتماد مَعينٍ أو منهلٍ بعينه ، ما يفيد في إثراء وتعدّد المطارح التي يمكن أن ينصبّ الوقف إليها . ويؤكّد ذلك أمران هما عدم وجود تعارضٍ جوهريٍ بين المذاهب الإسلامية في مسائل الوقف وشؤونه وقد أشرنا إلى هذا مراراً ، وكذلك فإنّ المقاصد العامّة للشريعة الإسلامية في الوقف ، تهدف إلى أن يحقّق مضمون الوقف المصلحة والمنفعة ، دون أن يُخلّ بأحكام الشريعة ، ووقف المنقولات لصالح عقارٍ موقوفٍ يؤدّي إلى مصلحةٍ محضةٍ لا يمكن إنكارها ، ولا يُخلّ هذا بحكمٍ شرعيٍ وإن خالف مذهباً فقهياً أو أكثر . والمقصود أنّ الاعتماد على مجموع مصادر الفقه والاجتهاد ، والاحتكام إلى مقاصد الشريعة الإسلامية في شؤون الوقف ، يقدّم حلولاً مناسبةً لحالاتٍ كثيرةٍ ، والمقياس في ذلك هو عدم مخالفة أحكام الشريعة وقصد المصلحة من وراء ذلك .
نعود إلى أوقاف الجمعية ، ونجد أنّها مخصّصةٌ بالكامل من أجل التعليم الشرعي ، سواءً كان لتدريس العلوم الشرعية ، أو لتوفير احتياجات أو خدمات طلاب وطالبات هذه العلوم . ولذلك يمكن تقسيم ما تقدّمه أوقاف الجمعية وفق معيار ” الضروري والحاجي والتحسيني ” إلى ثلاثة أقسامٍ :
أوّلاً – الضروريات : وهي الأمور التي لا بدّ منها في قيام مصالح الدين والدنيا ، فإن فُقدت لم تجرِ مصالح الدنيا على استقامةٍ ، كما يقول الإمام الشاطبي . وتعليم العلوم الشرعية من الضروريات المتّفق عليها بين فقهاء الشريعة الإسلامية ، وفي ذلك حفظٌ للدين من ضياعه ، وحفظٌ للنفس والعقل أيضاً ، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول : ( طَلَبُ العِلمِ فَريضَةٌ على كلّ مُسْلِمٍ ) . ولقد كانتِ الأوقاف الإسلامية منذ القدم رائدةً في هذا المجال فخُصّصت عبر التاريخ الكثير من أراضيها وأبنيتها وأموالها لإقامة المدارس ودور العلم على اختلاف أشكالها واختصاصاتها ، وللإنفاق على طلبة العلم وتأمين احتياجاتهم ولوازمهم . وذلك من أجل تحقيق هذه الضرورة ، وهي التعلّم الشرعي أو العامّ . ومقصد الشريعة الإسلامية من ضرورة التعليم الشرعي هو حفظ دين الإسلام وعلومه من الضياع ، وإعداد فئةٍ من المسلمين تقوم بمهمّة صون العقيدة وتفقيه الناس وتنوير عقولهم ، كما ولنشر هذه الرسالة المباركة في أصقاع الدنيا وبين شعوبها . وكذلك فإنّ في الحثّ على تعلّم العلوم الإنسانية النظرية والعملية مقصدٌ ضروريٌ تتوخّى الشريعة تحقيقه ، وهو حفظ العقول والأنفس بالقضاء على الجهل وآثاره البغيضة ، وإعداد مجتمعٍ ناهضٍ يسير في ركب التقدّم ، ويستطيع أن يجنّب نفسه التبعية الفكرية أو التنموية لغيره من المجتمعات . وتقوم المؤسّسة الوقفية التي تتولاها جمعية بدر الدين الحَسَني بهذا الدور على أكمل وجهٍ وأمثل صورةٍ كما رأينا من خلال واقع أوقاف الجمعية ، ولقد اطّلعنا على أرض الواقع على المنشآت التي شُيِّدت من أجل أن تكون معاهد شرعيةً ، ليس للذكور فقط ، بل للإناث أيضاً ، حتّى وإنّ عدد الطالبات اللواتي يدرسن الآن في الثانوية الشرعية للإناث ضعف عدد الطلاب . وفي هذا دورٌ هامٌّ جدّاً تقوم به المؤسّسة الخيرية الوقفية ، فغير خافيةٍ الآثار الحميدة الناتجة عن ذلك ، فتعليم المرأة العلوم الشرعية تهذيبٌ لها ومنفعةٌ لمحيطها ولأسرتها مهما كان موقعها فيها ، ابنةً أو أختاً أو زوجةً أو أُمّـاً .. ، وكنّا نتصوّر الوقف الذي تقوم عليه المدرسة الشرعية المعنية بذلك بناءً صغيراً أو شقّةً في طابق ، فإذا به بناءٌ كبيرٌ يقوم على مساحة ألفين وخمسمائة متر مربع ، ويتألّف من أكثر من أربعين شعبةٍ دراسيةٍ ، ويضمّ أكثر من ألفٍ وخمسمائة طالبةٍ من مختلف الفصول الدراسية ، ومع انتشار المعاهد الشرعية الخاصّة بالذكور في سورية ، وندرة المعاهد الخاصّة بالإناث ، فإنّ تجربة المؤسّسة في هذا المجال تعدّ رائدةً حقاً . ولذلك فإنّ أوقاف الجمعية المخصّصة للتعليم وهي ثلاثة أوقافٍ ، تقوم بتلبية ضرورةٍ شرعيةٍ معتبرةٍ ، من خلال إنشاء جيلٍ شابٍّ مسلمٍ يدرس علوم شريعته ويتفقّه فيها ، ويستفيد منها في حياته وعمله ، كما يُفيد بها غيره من الناس في المحيط الذي يعيش فيه . والله سبحانه وتعالى يقول : ( وَمَا كانَ المُؤمِنُونَ لِينْفرِوا كَافَّةً ، فَلَوْلا نَفًرٌ مِنْ كُلِّ فِرْقِةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فَيْ الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجِعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرٌونَ ) . وشكّلت هذه المهمّة أولويّات الأوقاف ، بحكم ضرورتها من جهةٍ ، ولالتزامها بشروط الواقفين التي تستحقّ الثناء من جهةٍ أخرى .
كما تقوم الجمعية بدورين خاصَّين آخرين على غايّةٍ من الأهمّية : – أنّها تقبل الطلبة المسلمين من كافّة أنحاء العالم ، وتقدّم لهم أكثر مما تقدّم لغيرهم من المقيمين في دمشق أو الذين بإمكانهم الذهاب والعودة من منازلهم في الضواحي أو المدن القريبة . ولذلك خُصّص في وقف مجمّع الباب الصغير مبيتٌ للطلاب الذين لا مبيت لهم في دمشق وخاصّة الأجانب منهم . – كذلك فإنّ الجمعية الآن تتّجه إلى تعليم العلوم العصرية لطلابها ، كعلوم الحاسوب واللغات الأجنبية ، بدافع تطوير بنيتهم المعرفية ، لمواكبة الحداثة التي يشهدها عصرنا . وهذين الدورين يعزّزان مع ما سبق وتحدّثنا عنه ، تحقيق المؤسّسة الوقفية لهذا المقصد الضروري من مقاصد الشريعة الإسلامية وغاياتها في حفظ الدين والعقل والنفس .
ويمكن تقييم ما أدّته هذه المؤسّسة لتحقيق هذه المقاصد بأنّه ذو درجة كفاءةٍ عاليةٍ ، خاصّةً مع هذا الواقع التشريعي المتردّي للأوقاف في سورية بشكلٍ عامٍّ ، كما أنّ الجمعية وإن ظفرت بتولّي الأوقاف التي أُنشئت بسببها ، ولكن ذلك أدّى إلى غياب الدعم الحكومي الذي تقدّمه وزارة الأوقاف للمعاهد الشرعية العائدة لها ، فكان استقلال الجمعية سلاحاً ذا حدّين ، وخضعت أحكامها الإدارية والمالية وأنظمتها الداخلية إلى قوانين وأنظمة الجمعيات ، ولوائح وتعليمات وقرارات وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل . ومع ذلك فإنّ البنية المادّية التي تُديرها هذه المؤسّسة إضافةً إلى البنية المعرفية والأخلاقية والاجتماعية التي تُميّز إدارتها وموظفيها ، قد ساهمت مع اتّساع منابع الواردات المالية وتعدّد مصادرها الخيرية ، بتفعيل أداءٍ جيّدٍ ومتوازنٍ نتمنّى ألا تهبّ رياح التغيير عليه إلا نحو الأفضل .
ثانياً – الحاجيات : يقول الإمام الشاطبي : ( وأمّا الحاجيّات فمعناها أنه مفتَقرٌ إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدّي في الغالب إلى الحرج والمشقّة اللاحقة بفوت المطلوب ) . والمعاملات في الحاجيات لا يتوقّف عليها حفظ الضروريات ، ويعتبر الشاطبي أنّ الضروري أصلٌ لما سواه من الحاجي والتكميلي ، ولكن قد يلزم لاختلال التحسيني بإطلاقٍ أو الحاجي اختلال الضروري بوجهٍ ما . كما أنّه ينبغي المحافظة على الحاجي والتحسيني من أجل الضروري . وأوقاف الجمعية المخصّصة لمبيت الطلاب وتقديم لوازم ذلك لهم ، تدخل بمجموع ما تؤدّيه في هذا المجال من أغراضٍ تحت قسم المقاصد الحاجية ، وهي حاجياتٌ ينبغي المحافظة عليها ، لارتباطها العضوي بالضروريات التي تؤدّيها هذه الأوقاف ، بل إنّها مخصّصةٌ لتحقيق المقصد الضروري وهو طلب العلم بالشكل المطلوب . وسيكون من العسير على الطلاب أو الطالبات وخاصّةً الأجانب وأبناء المحافظات البعيدة ، تحقيق مآربهم في تحصيل العلوم الشرعية ونيل الدرجات التي تؤهّلهم للإسهام في نقل علومهم حفاظاً على الدين وإعلاءً لكلمته ، إن لم تتهيّأ لهم الظروف المناسبة لذلك ، فكان المبيت الذي خُصّص لأجله وقفان من أوقاف الجمعية حاجةً ملحّةً لا بدّ منها .
وقد تطوّر هذا المبيت وتوسّع مع الزمن ، في ظلّ تزايد أعداد الطلاب ، بل إنّ وجود هذا المبيت ساهم في تزايد هذه الأعداد ، ولذلك قلنا أنّ سكن الطلاب والطالبات الذي تقدّمه الجمعية ، وإن لم يدخل تحت باب الضروريات الخمس ، ولكنّه حاجةٌ ملحّةٌ ، ينبغي المحافظة عليها ، لأنّ اختلالها يسبّب اختلال الضروري بوجهٍ ما ، كما يقول الإمام الشاطبي . وفي مؤسّستنا الخيرية الوقفية الآن مبيتٌ للطلاب ، وآخر للطالبات ولأنّ الأعداد آخذةٌ بالتزايد عاماً بعد عامٍ ، لذلك وضعت إدارة المؤسّسة مجموعة اعتباراتٍ للقبول في السكن المخصّص لهم ، ومنها اشتراط أن يكون الطالب أو الطالبة من خارج مدينة دمشق ، والأفضلية للذين يقطنون في الأماكن الأبعد ، فإن زادت أعدادهم على ما يمكن للمبيت الطلابي أن يحتويه ، فالأفضلية لمن حاز على درجاتٍ دراسيةٍ أعلى في المرحلة السابقة لالتحاقه بالمعهد أو الثانوية الشرعية أو في المرحلة اللاحقة من أجل الدراسة في السنة التي تليها ، ثمّ إنّ الأفضلية أيضاً للسابقين في تقديم طلبات الانتساب الدراسية والإقامة . ولا يقتصر السكن الطلابي على المبيت ، وإنّما يشمل ذلك إطعام المُبيتين ، وفيه صالة مطعمٍ كبيرةٌ تتسّع لجميع نزلاء السكن ، وتقدّم فيها وجبات طعامٍ جيّدةٌ ومتنوّعةٌ . ومن ناحيةٍ أخرى فإنّ الطلاب والطالبات يتلقّون رواتب شهريةً ، لتأمين بعض نفقاتهم الخارجية ، وإن كانت هذه الرواتب زهيدةً ، إلا أنّ مِنَحاً ماليةً متقطعةً تُصرف أيضاً في المناسبات أو الأعياد الدينية ، وكذلك في شهر رمضان المبارك . كما خُصّص لكلٍّ من معهدي الإناث والذكور مكتبتان بلغ عدد عناوين الكتب فيهما نحو ألفين وخمسمائة عنوانٍ في مكتبة معهد الذكور ، وخمسة آلاف عنوانٍ في مكتبة معهد الإناث . وكذلك فإنّ المؤسّسة تقدّم لطلابها وطالباتها الطبابة المجانية ، عن طريق كوادر طبّيةٍ مختلفةٍ تتبرّع في هذا المجال ، أو من الإعانات المختلفة التي تتلقّاها الجمعية .
وعلى هذا فإنّ هذه المؤسّسة الوقفية قد أدّت دوراً مقبولاً آخذاً بالتطور والتحسّن مع مرور الوقت ، من خلال ما تقدّمه من منافع وتؤدّيه من أغراضٍ في هذا المجال ، والتي تدخل تحت باب الحاجيات على اختلاف درجات أهمّيتها ، وبكفاءةٍ معقولةٍ تحكمها الظروف المادّية للمؤسّسة وظروفها الداخلية ، من حيث أعداد الطلاب الذين يمكن استيعابهم ، وأوضاعهم الأسرية والمعيشية والمالية ، وكذلك مجموعة من الظروف الخارجية المتعلّقة بالواردات والمصادر التي تؤمّن المصارف اللازمة لتحقيق هذه الحاجيات.
ثالثاً – بالنسبة للتحسينات : وهي كما يقول شيخ المقاصد الإمام الشاطبي : ( معناها الأخذ بما يليق من محاسن العبادات ، وتجنّب الأحوال المداسات التي تأنفها العقول الراجحات ، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق .. . ” وأنّ هذه الأمور راجعةٌ إلى محاسن زائدةٍ على أصل المصالح الضرورية والحاجيّة ، إذ ليس فقدانه بمخلٍّ بأمرٍ ضروريٍ ولا حاجيٍّ ، وإنّما جرت مجرى التحسين والتزيين ) . ويمكن أن نعدّد من هذه التحسينات التي لاحظناها في أوقاف جمعية بدر الدين الحسني المجموعة الكبيرة من التجهيزات والمفروشات والأثاث الحديث الذي جهزت به مقرّات الدراسة وغرف وأروقة المبيت وصالات الطعام وقاعات الحاسوب والمكتبات ، ويوجد أيضاً جناحٌ حديثٌ لغسيل الملابس وكيّها ، وخُصّص للإناث مطبخٌ لتعليم شؤون التدبير المنزلي ، وقاعة اجتماعاتٍ واسعةٌ ، وقاعةٌ أخرى لاستقبال أهالي الطالبات ، إضافةً إلى المصاعد الكهربائية والمبرّدات على أنواعها ، وتِعدّ المؤسّسة الآن في مقرّ المعهد الشرعي للذكور مجموعة حدائق وملاعب رياضية , وغير ذلك ممّا يدخل في مفهوم التحسينات اللائقة .
ويمكن القول بعد استعراض هذه الأمثلة أنّ المؤسّسة الوقفية استطاعت أن تشمل بأدائها مختلف المقاصد الضرورية والحاجية والتحسينية من خلال ما استعرضناه ، وهذا دليل نجاحٍ باهرٍ ، لأنّ ذلك مؤشّرٌ واضحٌ على قدرةٍ كبيرةٍ في تحقيق أغراض الوقف ، وتأكيد شموليته التي تُميّز طابعه الخيري العملي المرن . وبنتيجة الدراسة لمصارف المؤسّسة الخيرية الوقفية ولأولويّات أهدافها وأغراضها من وجهة نظر مقاصد الشريعة الإسلامية يمكن أن نخلُص إلى ما يلي :
أوّلاً – تبنّتِ المؤسّسة الطابع الشرعي للوقف إلى حدٍّ كبيرٍ من خلال عدّة أمور ، فلقد اعتمدت شروط الواقفين أساساً لها ، فلم تَحُدْ عمّا اشترطه الواقفون عند إنشاء وقفياتهم ، بل عملت بكفاءةٍ قلّ نظيرها على تطوير ذاتها في نفس الإطار العامّ لرغبات الواقفين وضوابطهم الشرعية ، من خلال ما طوّرته من مصارف جديدةٍ متنوّعةٍ تصبّ لتحقيق الأغراض الأصلية المبتغاة من الأموال الموقوفة على تعدّد أشكالها . وكذلك فإنّ المؤسّسة عملت على تحقيق استقلالٍ ذاتيٍ عن الوصاية الحكومية ، سواءً من حيث ما بُذِل من جهودٍ مضنيةٍ جماعيةٍ أو فرديةٍ بمواجهة الجهات القضائية أو الإدارية أو غيرها من أجل تسجيل العقارات الموقوفة باسم الجمعية التي أُوقِفت هذه العقارات لها ، وقرّر الواقفون توليتها عليها ، عملاً بأحكام الوقف الشرعية التي يخالفها القانون السوري ، أو من حيث ما بُذِل من مجهودٍ عمليٍ للحفاظ على هذا الاستقلال من خلال تأمين أكبر دخلٍ ممكنٍ من الموارد والإعانات على اختلاف صورها ، لتحافظ المؤسّسة على استمرارها ونجاحها ، وتبتعد عن التدخّل الحكومي والإداري في شؤونها . ومن وجهة نظر مقاصد الشريعة فإنّ استقلال الأوقاف أمرٌ مهمٌّ ومطلوبٌ ، نأياً بها عن توجيه مقدّراتها ومصارفها بالشكل الذي يخالف الأساس الذي قامت عليه ، فمفهوم الوقف لا يُجيز تملّك السلطة له ، وانفرادها في تحديد مطارحه ومصارفه ونفقاته ووارداته ، فذلك من حقّ الواقفين كما يشترطون ، ومقاصد الشريعة الإسلامية في الوقف وغيره ، تنصرّف إلى رعاية حقوق الناس واحترام رغباتهم الشرعية ، لما يخلق هذا من ثقةٍ لديهم ، تعزّز في أنفسهم روح المبادرة على التبرّع عموماً وعلى إنشاء الأوقاف خصوصاً ، من خلال شعورهم بعدالة واستقرار المحيط الاجتماعي والاقتصادي والتشريعي الذي يعيشون فيه .
ثانياً- راعتِ المؤسّسة في ترتيبها للمهامّ التي تقوم بها ، الترتيب العامّ لدرجات المقاصد ، فكانت الحاجيات لاحقةً للضروريات ، ومكمّلةً لها في نفس الوقت ، فبُذِلتِ الجهود أوّلاً لإنجاز معهدَي الدراسة الشرعية ، ثمّ لبناء مقرّاتٍ للسكن والطعام والدراسة ، وبعد ذلك تمّ الالتفات إلى تحسين ما تمّ إنجازه من خلال إضافاتٍ مختلفة الأشكال كانت مقبولةً ومفيدةً ، فحقّقتِ المؤسّسة الوقفية من خلال التزامها بترتيب أولويّات المقاصد مشروعاً متكامل الجوانب ومترابط الأهداف وذا بعدٍ حضاريٍ لافتٍ وجميلٍ .
ثالثاً- استطاعتِ المؤسّسة أن تُحيط كلّ جوانب الأهداف التي تتوخّاها جانباً كبيراً من العناية ، وبتوازنٍ ملحوظٍ بينها ، فكان التوسّع في تحقيق هذه الأهداف يجري بشكلٍ منظّمٍ ، ومن ذلك الالتفات إلى مسائل الأعداد المتزايدة للطلاب والطالبات ، وتحديد القدرة الاستيعابية للمؤسّسة ، من خلال إمكانياتها الفعلية ، فيما يتعلّق بالواردات والوضع المالي عموماً ، وكذلك بالنسبة للمستلزمات الضرورية الأخرى كالمبيت والأثاث والتجهيزات المختلفة .
وهذا يدلّ على نجاحٍ وتفوّقٍ إداريٍ وتنظيميٍ في تصريف شؤون المؤسّسة بأسلوبٍ مدروسٍ . ولا يخفى التأثير الإيجابي في ذلك على المؤسّسات الوقفية من حيث الأداء والفاعلية ، ومن حيث تحديد حجم المصارف والقدرات المادّية والفعلية ، لكي لا تصبح مجرّد مشاريع عبثيةٍ تقدّم الغثّ من الخدمات أو الهزيل من المنافع ، ما يؤدّي إلى تهالكها وانقراضها ، وزوال الوقف أو زوال منفعته ، ومقاصد الشريعة الإسلامية في هذا واضحةٌ ، لأنّ القصد الجليّ الذي تقرّه من وراء الأوقاف هو المصلحة التي تقدّمها ، فكان من اللازم الحفاظ على بقاء هذه المصلحة من خلال إدارة الوقف بالطريقة المثلى لتحقيق أفضل أداءٍ ممكنٍ له ، ولذلك يمكن القول أنّ المؤسّسة راعت مقاصد الشريعة من خلال اعتمادها على تنظيمٍ عمليٍ جيّدٍ وتخطيطٍ إداريٍ حَسَنٍ للعمل على نجاح أهدافها وبقاء الأوقاف التي تقوم عليها واستمرار تقديمها لجملة منافعها وخدماتها .
رابعاً – من جانبٍ آخر فإن مقاصد الشريعة الإسلامية في ناظري الأوقاف ومتولّيها والمتصرّفين بشؤونها والقائمين عليها ، أن يكونوا أكفياء لهذه المهمّة ، وهذا جزءٌ من النظام الناجح المطلوب وجوده في الأوقاف لتحقيق المصلحة ، ونعتقد أنّ المؤسّسة حقّقت في هذا المجال نجاحاً لمسناه ، بسبب اعتمادها دائماً على العناصر البشرية الجيّدة ، وتولية إدارتها إلى نخبةٍ من الأساتذة والمربّين الأفاضل ، وقد اطّلعنا على سِيَر أعضاء مجالس إدارتها منذ تأسّست وحتّى الآن ، ومعظمهم من المشهود لهم بالسيرة الحسنة والسمعة الطيّبة والنزاهة ، وكانوا يُنتخبون تارةً من قِبل أعضاء الجمعية أو يتمّ اختيارهم بتوافقٍ بين هؤلاء الأعضاء ، وواضحٌ ما لهذا الأمر من تأثيرٍ على عمل المؤسّسات الوقفية بأشكالها ، وكيف يحقّق الاختيار المناسب للناظرين مقاصد الشريعة في إنجاز الوقف لأهدافه المصلحية .
خامساً – تعكف المؤسّسة من خلال إدارتها والعاملين فيها على زيادة دائرة الاهتمام بشؤونها ووظائفها ونشاطاتها وخدماتها من الناحية الاجتماعية وليس من الناحية المادّية فقط ، وقد لاحظنا ذلك من خلال شبكة العلاقات العامّة التي تربط الجمعية بهيئاتٍ ومؤسّساتٍ خيريةٍ أخرى وأعدادٍ كبيرةٍ من المحسنين والمتبرّعين والمهتمّين بشؤون المؤسّسة أو المتابعين لها ، وتزداد هذه الشبكة اتّساعاً كلّ يومٍ بسبب هذا النشاط الجدّي الذي تقوم به المؤسّسة ، وكلّ ذلك يؤدّي إلى اتّساع دائرة العمل الخيري في المجتمع ، وخلق وعيٍ اجتماعيٍ لمفهوم الوقف الخيري وأهدافه . ما يُسهم في تحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية في الحثّ على الإنفاق على وجوه الخير والبرّ والإحسان .
سادساً – تحقّق المؤسّسة من خلال هذه العلاقات القويّة التي تربطها بغيرها من المؤسّسات أو الهيئات الخيرية ، ومن خلال طبيعتها المزدوجة التي تجمع بين الوقف الخيري والعمل الجماعي الخيري ، مصلحةً كبيرةً من خلال تنويع أغراضها وأهدافها ، وهذا يمنح بنيتها المادّية والمعنوية قوّةً في الأداء وقدرةً على الاستمرار ، كما يُفيد في تكوين أنظمةٍ وقفيةٍ مترابطةٍ متعاونةٍ ، ينجز مجموعها مهمّاتٍ شتّى ويقدّم مصالح متنوعةً ، ما يحقّق مقاصد الشريعة في تنويع مصارف الوقف وتوسيع دائرة أغراضه لما في ذلك من مصلحةٍ ونفعٍ .
أخيراً – يبدو أنّ هذه التجربة الوقفية ، قد قُيّض لها النجاح بفعل العوامل المادّية والبشرية والاجتماعية والتنظيمية التي تضافرت معاً ، فأثمرت عن إحدى أهمّ المؤسّسات الوقفية التعليمية الدعوية في سورية ، ولكنّ القدرة على التجدّد والتحديث المستمرّ لكلّ مرافق هذه المؤسّسة وبتخطيطٍ وتوازنٍ ملحوظَين ، منحها أرضاً خصبةً قادرةً على العطاء في كلّ المواسم ، وأعطتها أسباب استمرارها ، ونأَت بها عن الركود والجمود ، وينسجم هذا مع الطبيعة الحيوية للوقف ، بل لا ينسجم غير ذلك مع طبيعته ، لأنّ الوظائف التي ينبغي أن تؤدّيها الأوقاف ليست محدّدةً بزمنٍ أو مقصورةً على واقعٍ واحدٍ. وعدم قدرة المؤسّسات الوقفية على الانبعاث الدائم والتطوّر المستمرّ سيؤدّي إلى انهيار كلّ المجهود الإنساني والمادّي الذي بُذِل من أجلها ، وهذه الطبيعة الحيوية للوقف هي من مقاصد الشريعة فيه كي لا يفقد جوهره المصلحي إن أصاب نظامه الخلل بسبب خمول مؤسّسته وقصورها عن تلبية الحاجات المستجدّة مع تطوّر الظروف وتغيّر أحوال الناس وطرق انتفاعهم من خيرات الأوقاف ومواردها .
والخلاصة .. أنّ المؤسّسة الوقفية التي تتولاها جمعية الشيخ بدر الدين الحَسَني ، حقّقت نجاحاً مشهوداً على مختلف الأصعدة ، ابتداءً من التزامها بشروط الواقفين واعتباراتهم ، ومروراً بالجانب التشريعي الذي نظّم ملكية أوقافها وإدارتها ، والجانب التطبيقي والطريقة العملية في تنفيذ المهامّ وتحقيق الأهداف المبتغاة ، وكذلك بالنسبة للنسيج الإداري والتنظيمي والاجتماعي الذي يغطي أداء المؤسّسة وأسلوب عملها ، ومجموعة العوامل المادّية والمعنوية التي توافرت لإنجاح هذا الأداء ، وكلّ ذلك من خلال التزامٍ شرعيٍ لافتٍ ، وفي إطارٍ مقاصديٍ واضحٍ ، فتحقّق من خلال ذلك الالتزام بأحكام الوقف الشرعية ، ومن خلال إحاطة الأبعاد العظيمة لمقاصد الشريعة الإسلامية بعمل المؤسّسة وطرق أدائها لوظيفتها وتحديدها لأولوياتها ومصارفها ومواردها وجوانبها العملية والإدارية والاجتماعية ، درجةً عاليةً من الكفاءة وقدراً كبيراً من النجاح .
الباب الخامس – نظرية المقاصد ودورها في رفع كفاءة الأوقاف المعاصرة
الفصل الأوّل – في دور مقاصد الشريعة لرفع كفاءة الأوقاف ومستويات نجاحها
لاشكّ أنّ نظرية المقاصد العامّة للشريعة الإسلامية قد حلّت جزءاً كبيراً من حالاتٍ فقهيةٍ ومشاكل عمليةٍ كثيرةٍ ، بما قدّمته من تصوّرٍ جديدٍ ورؤيةٍ مرنةٍ في الاجتهاد والإفتاء الفقهي الإسلامي ، خاصّةً في العصر الحديث لما زخرت به جوانبه الحياتية بكلّ أشكالها من تطوّر وتنوّع على مختلف الأصعدة ، فقد قدّمت هذه النظرية حلولاً عمليةً وموضوعيةً لأغلب المستجدّات الطارئة على حياة الناس ومعاملاتهم الدنيوية الآخذة بالتشابك والتعقّد والاتّساع يوماً بعد يومٍ ، واستطاعت رسم أفقٍ جديدٍ مبشّرٍ في جملة الموروث الفقهي التقليدي ، دون أن تنزع إلى إفساد بنيته المصدرية أو مكوناته المعرفية أو جذوره الأصولية التوافقية ، بل إنّها أكّدت من خلال ما قدّمته من مفاهيم وأفكار وقيمٍ متانة العلاقة وعمق الصلة بين التشريع الإسلامي وبين جملة البواعث الظاهرة أو الخفية من وراء وجود هذا التشريع ، فترجمت ما وراء سطور قواعده وأحكامه ، لأنّ ما وراء السطور هو بيت القصيد الذي أُنشئت الكلمات والحروف من أجل تحقيقه . ونظرية المقاصد العامّة للشريعة الإسلامية ذات أبعادٍ إنسانيةٍ حضاريةٍ من جهةٍ ، ومن جهةٍ أخرى فإنّ لها بعداً فلسفياً عملياً يمكن أن نلاحظه من خلال ما تقدّمه من روابط منطقيةٍ بين المقدّمات والأسباب والنتائج ، ومن خلال ما تتضمّنه آلية العمل المعتَمَدة من تنظيمٍ دقيقٍ لأولويات المقاصد واهتمامٍ بالغٍ لتحقيقها بالترتيب الذي يحقّق نجاح النظرية وصحّة دلائلها وحكمة فحواها . وينعكس هذا البعد العملي على مختلف الحالات التي تحكمها نظرية المقاصد من زاوية تحديد الناجح فالأكثر نجاحاً ، بمعنى أن الربط السليم بين أسباب المقاصد ونتائجها ، والترتيب الصحيح لقيمة الأولويّات التي تتّجه بواعث المقاصد لتحقيقها ، هما المعياران اللذان يؤثّران في تحديد مدى نجاح أداء المهمّات الدنيوية العملية المختلفة ، على ألا يغيب الالتزام بأحكام الشريعة ومصادرها المعتبرة عن الذهن المقاصدي ، لأن غياب هذا الالتزام يعني غياب مشروعية المقاصد نفسها . ونظام الأوقاف واحدٌ من تلك المهمّات التي برهنت على أنّها مقاصديةٌ بامتيازٍ ، بفعل تركيبته الملوّنة ونسيجه الإنساني العملي الذي يتّحد بانسجامٍ تامٍّ مع كلّ مكوناته الحيوية ومقوّماته التشريعية . ويمكن أن نؤكّد بعد ملاحظة هذا الامتياز الذي يتمتّع نظام الوقف به على مدى أهمّية توافر هذه الصفة في ارتفاع فاعلية الأوقاف ومؤسّساتها المختلفة . لنخلص أنّ مقدار الالتزام الذي تتمتّع به المؤسّسات الوقفية بمقاصد الشريعة الإسلامية هو ما يضبط مجموع الوظائف التي تؤدّيها هذه المؤسّسات ، ويحدّد أيضاً قدراتها وكفاءاتها العملية ومستويات ودرجات نجاحها النهائية . ولذلك كان من المهمّ لأجل تحقيق أعلى درجات النجاح والوصول إلى أفضل مستويات الأداء الوقفي ، تحريض الأسباب التي تحقّق هذه الغاية والنهوض بها وتفعيلها ، للتمكّن من الحصول على النتائج المطلوبة بأفضل ما يمكن أن تتحقّق . فالوقف يستمدّ أسبابه وبواعث وجوده من مقاصد الشريعة الإسلامية ، وهذه المقاصد هي التي تضبط القواعد والأحكام التشريعية له ، وتحكم في ذات الوقت واقعه العملي ، فيستمدّ وجوده من خلالها ويعتمد عليها في بقائه ، وتتحدّد مدى فاعليته بمدى تفاعله معها والتزامه بها . ويمكن لجملةٍ من الأمور أن تُساهم بشكلٍ فعّالٍ في رفع كفاءة الأداء الوقفي من منظور المقاصد وبسبب الإيمان بوجود هذه الرابطة البنيوية الوثيقة بين مقاصد الشريعة الإسلامية والوقف :
أوّلاً- نعتقد أنّ رفع سويّة الفهم العامّ لنظرية المقاصد في منظومة الوقف العملية يساعد كثيراً على بناء شعورٍ قويٍّ بأهمّية الدور النفعي الشمولي الذي تؤدّيه الأوقاف ، ويساهم في توجيه الأنظار نحو تعزيز هذا الدور وتكريس الجهود المختلفة من أجل إيجاد أنظمةٍ وقفيةٍ متطوّرةٍ تؤدّي الأغراض المتنوّعة التي تضطلع بأدائها بأكبر فعّاليةٍ ممكنةٍ ، بسبب إدراك أهمّية المنجزات التي تسعى منظومة الوقف إلى تحقيقها . ولأن المصلحة هي فحوى المقاصد العامّة للشريعة الإسلامية ، فإنّه من البديهي أن تتضافر الجهود الفقهية والفكرية والثقافية والمعرفية والاجتماعية والاقتصادية من أجل تحقيق أكبر قدرٍ مشروعٍ من المصلحة ، ضمن الإطار الذي يهدف إلى تحقيقها وهو مقاصد الشريعة ، خاصّةً وأن الحاكم الذي يضبط مفهوم المصلحة مرِنٌ بطبيعته دون تفريطٍ منه بأحكام الدستور الذي سنّه المشرّع لتحديد المقبول والمعقول والمرفوض ، والتعريف بالمفروض والمحرّم والمباح والمكروه والمندوب. فإن لم يغب عن المصلحة ما يخالف أحكام هذا الدستور الإلهي ، فلا ضير إذاً من اعتبارها وإعمالها بالوسائل التي تكفل لها الحدّ الأعظم لتحقيق الجدوى الأمثل منها ، لأنّ المقصود أصلاً في مفهوم المصلحة أن تتمّ بأفضل وسيلةٍ وأنسب طريقٍ ، وأن تحقّق أكبر قدرٍ من النفع و الخير .
ثانياً- للنظرية تجليّاتها الحديثة التي لم تكن واضحة المعالم قبل بزوغ شمس الحداثة العصرية ، فقد كانت مفاهيمها مقتصرةً على مجموعة البواعث والدوافع والغايات التي تنشدها الشريعة من وراء التشريع لتحقيق مصلحة الناس العاجلة أو الآجلة ، المباشرة أو غير المباشرة ، الظاهرة أو الخفيّة . ولكن المفاهيم الاجتماعية والفكرية الحديثة للمصلحة قدّمت أشكالاً على قدرٍ كبيرٍ من التنوّع والتشعّب والتشابك ، ما زاد في فاعلية الدور الذي تؤدّيه المقاصد من خلال مواكبتها للمفاهيم الجديدة ، ولا يمكن أن يتحقّق ذلك إلا من خلال تجديد الفكر المقاصدي وتوجيهه لاستيعاب هذه المستجدّات المصلحية ، من أجل أن يكون قادراً على إنجازها ، وكي لا تغرّد المصالح الجديدة المشروعة خارج سرب المقاصد الذي تنتمي إليه . وأوقاف العالم الإسلامي والعالم العربي اليوم وأنظمتها ومؤسّساتها ، أحوج ما تكون من أيٍّ وقتٍ مضى لأن تحكمها المقاصد الحديثة كي تلبّي المصالح المبتكرة في هذا العصر ، فقد ازدادت بشكلٍ مضطردٍ وتوسّعت بسرعةٍ كبيرةٍ الجوانب العملية والمعيشية التي يمكن أن يفتح الوقف أبوابها . ونعيش اليوم في عالمين بل في عوالم شتّى ، محكومةٍ بأنظمةٍ اقتصاديةٍ مختلفةٍ ، أحدها هو النظام الاقتصادي الإسلامي ، الذي تشعّبت مواضيعه وتنوّعت اهتماماته وتعدّدت وسائله فأصبح علماً مستقلاً بذاته ، وفقهاً قديماً حديثاً متجدّداً ، يحمل كلّ مقوّمات النجاح المطلوبة ، ويهدف إلى إعادة تفعيل الرؤية الاقتصادية الإسلامية من خلال منظوماته العديدة كالزكاة وأحكام المواريث والوصايا والتبرّعات على أشكالها وسائر المعاملات المالية والمادّية الأخرى ضمن المحيط الحيوي الحديث الذي نعيشه ، ولا يوجد في هذا النظام الدقيق المتشعّب الحريّ بالاتّباع والتطبيق منظومةٌ أكثر قدرةٍ على التلاؤم والانسجام مع الحداثة كما ” الوقف ” . ويمكن القول أنّ ما يمكن للأوقاف أن تنجزه من مشاريع وتحقّقه من أهدافٍ ، بات لا يمكن حصره تحت أبواب المصارف التقليدية القديمة التي كانت الأوقاف تطرقها ، فقد فتح هذا العصر أبواباً كثيرةً جدّاً لمصارف الوقف كما وكشف عن مصالح جديدةٍ لم تكن في الأفق المنظور قبلاً ، ما فعّل بالنتيجة دور مقاصد الشريعة لتأصيل مشروعية هذه المصالح وتعزيز الإيمان بأهمّيتها ، من خلال التأكيد على ارتباطها بمجمل القصد التشريعي منها ، وهو قصدٌ صالحٌ لكلّ زمانٍ ومكانٍ ، وسائل تحقيقه الشرعية لا تُعَدّ ولا تُحصى ، وهي مرنةٌ ومتلائمةٌ مع الظروف والأحوال بطبيعتها .
ثالثاً – من جانبٍ آخر فإنّ نظرية مقاصد الشريعة الإسلامية بارتباطها الوثيق مع مجموعة المؤسّسات أو الأنظمة النفعية الخيرية التي شرّعها وأقرّها الإسلام ومنها الوقف ، فإنها تؤدّي دوراً مهمّاً جدّاً في التأكيد على الطبيعة الإنسانية الحضارية للإسلام ، لذا فإنّ الاهتمام بتطوير وتكريس الآفاق العملية التطبيقية لهذه النظرية على مختلف الأصعدة يعني تعزيزاً للدور الحضاري والتنموي الذي تؤكّد الشريعة الإسلامية على ضرورة الاهتمام به وإعطائه كلّ عنايةٍ والتفاتٍ ، لما يهدف إليه من تحقيق جملةٍ من الأهداف كمحاربة الفقر والبطالة والتفاوت المادّي ” إذ لا تفاوت طبقي في الإسلام ” والاهتمام بالعلم والتعليم ونشر ثقافة التسامح الاجتماعي والتكافل الاقتصادي وغير ذلك مما يدخل في إطار المصلحة العليا لنظام الإسلام بشكلٍ عامٍّ . وكلّ ذلك يمكن للوقف الناجح كنظامٍ مستقلٍّ أن يؤدّيه ويحقّق غيره من الأهداف التنموية فيؤكّد بدوره على هذه الطبيعة الإنسانية الحضارية للإسلام . وعلى أنّ تفعيل دور المقاصد في الوقف ، هو تفعيلٌ لدورها في التأكيد على تلك الطبيعة . رابعاً – يشير الواقع العملي لكثيرٍ من الحالات والتجارب الوقفية إلى أنّ الابتعاد عن المقاصد في الوقف أو محاولة الالتفاف عليها لتحقيق مآرب مخالفةٍ أو غير منسجمةٍ مع الغايات التي تنشدها مقاصد الشريعة على تعدّدها في الأوقاف إلى أنّ الفشل كان نتيجةً حتميةً لهذه الحالات ، بسبب الخروج عن جادّة الطريق الشرعي الذي تحكمه الشريعة وتؤطّره مقاصدها . وكانت دائرة هذا الفشل وآثاره تزداد اتساعاً كلّما اتّسعت الفجوة بين التطبيق العملي في الوقف وبين القصد التشريعي منه . لذلك نتجت عن انصراف النوايا إلى تحقيق ما يخالف مقاصد الشريعة ولا ينسجم مع المفهوم التشريعي والعملي للوقف ، عواقب وخيمةٌ قوامها إفراغ الوقف من محتواه تماماً ، والخروج به إلى محيطٍ آخر لا علاقة له بالمحيط التشريعي الذي ينتمي إليه ، بل وأعطى ذلك مبرّراً للأنظمة القانونية التي أرادت تمكين السلطات التي شرّعتها من مقدّرات الأوقاف ، عن طريق استغلال العثرات المقصودة وغير المقصودة في مخالفة المقاصد . كاستغلال المشكلات التي حدثت في الأوقاف الذُرّية مبرّراً لإلغائها كما حدث في سورية وغيرها من الدول . وأهمّ هذه المشكلات خروج الواقفين عن مقاصد الشريعة في الوقف الذُرّي ، ومحاولة الالتفاف على أحكامه للاحتيال على قواعد الإرث ، أو لتحقيق غاياتٍ شخصية أو بواعث نفسيةٍ تخالف مقاصد الشريعة منه ، وقد أثبتت هذه الحالات فشل المؤسّسات الوقفية التي أصابها هذا الخروج عن المقاصد حتّى وإن لم تتدخّل الأنظمة الحكومية أو التشريعات الوطنية من أجل تصفيتها .
خامساً – ويكشف التحليل العملي لأبعاد نظام الوقف الإنسانية وآفاقه الحضارية والتنموية ومجموعة أهدافه الحيوية كثيرة التنوّع ، ليس عن شموليةٍ يتميّز بها هذا النظام من حيث ما يمكن أن ينجزه من وظائف ومهامّ فحسب ، بل عن عمومية هذا النظام أيضاً وصلاحيته العالمية الفائقة لتحقيق المصلحة الإنسانية ككلّ ، فمن جهةٍ هو ليس نظاماً يختصّ العالم الإسلامي منفرداً بما يقدّمه من مصالح ، باعتبار أنّ المصالح التي تنشدها مقاصد الشريعة مصالح عامّةٌ تخاطب الناس وتتوجّه لهم جميعاً وتُعنى بنظامهم العالمي على اختلافهم لأنّ حفظ هذا النظام وإصلاح أحوال الناس هما مقصد الشريعة الإسلامية ، ومن جهةٍ ثانيةٍ فإنّ طبيعة ما يقدّمه الوقف من وظائف وخدماتٍ وما يؤدّيه من مصارف ويدرّه من موارد وما يلبّيه من ضرورياتٍ وحاجياتٍ وتحسيناتٍ يدخل كلّه ضمن مفاهيم العدالة الاجتماعية والاقتصادية ومرافق النفع العامّ ومشاريع الاستثمار الخيري التي تحاول الأنظمة الديمقراطية الحرّة في العالم تبنّيها وتكريسها في مختلف المجالات الاجتماعية والنشاطات الاقتصادية والتنموية من أجل تعزيز دور مواطنيها ورفع مستوياتهم المادّية والمعيشية ، تحقيقاً لشعارات العدالة والحرّية والمساواة . ومقاصد الشريعة الإسلامية تتبنّى هذه الشعارات ذاتها من قبل أن تنشأ وتتبلور مفاهيمها عبر العصور في وعي الفكر البشري ، لأهمّيتها من أجل مصلحة وسعادة الإنسانية ، وهي ذاتها بعضٌ من أهداف الشريعة المتوخّاة في نظام الأوقاف ، على اعتبار ما يسعى هذا النظام إلى إنجازه وما يُسهم به في تحقيق العدالة والمساواة الاجتماعية والاقتصادية وتحرير النفوس من الطمع والأنانية ، ودفعها إلى فعل الخير العامّ بدوافع إيمانيةٍ وذاتيةٍ . ولذلك فإنّ تفعيل نظرية المقاصد في الوقف يعني تفعيلاً للدور العالمي الذي يمكن أن يؤدّيه ، وتأكيداً على أصالة جذورها العميقة ، وبرهنةً على انتماء نظام الوقف لمجموعة أغصان شجرة التشريع الإسلامي التي تتغذّى من تربة المقاصد الصالحة لكلّ حالٍ ومآلٍ .
الفصل الأخير من البحث – نتائج البحث وبعض المقترحات
لم نكن عندما شرعنا في كتابة وإعداد صفحات هذا البحث على وعيٍ كبيرٍ أو إدراكٍ شاملٍ لأهمّية الدور العملي المؤثّر الذي تؤدّيه مقاصد الشريعة الإسلامية في ترسيخ الأحكام التشريعية للوقف والوظيفة العملية التي تؤدّيها هذه المقاصد من خلال ما تتضمّنه من محتوىً هدفيٍ عمليٍ منتجٍ وإطارٍ إيجابيٍ منطقيٍ مقنعٍ ، وكان شغفنا للاطّلاع على جوانب هذه المرجعية الإنسانية القويّة لنظام الوقف والإحاطة بمختلف مستوياته المصلحية يزداد كلّما اتّسعت دائرة البحث والدراسة لمختلف المناهج والطرائق المتّبعة في هذا الصدد ، وقد كان لنا بضع محاولاتٍ متواضعةٍ للوقوف على بعض الفروع الفقهية العملية لدراستها بشكلٍ مقارنٍ مع أوضاعها التشريعية في القانون الوضعي ، كالهبة ، والوصية في مرض الموت ، وبعض أنواع البيوع ، ولكنّنا للصدق لم نطرق قبلاً باب الدراسة الفقهية من زاوية مقاصد الشريعة الإسلامية لأيٍّ من المواضيع أو الفروع العملية التي شرّعها الإسلام وحدّدت الشريعة قواعدها وأحكامها . ولذلك شعرنا في بداية العمل بشيءٍ من التوجّس والحذر ، سرعان ما تجاوزنا جلّ آثاره عندما بدأنا نشعر بالمسؤولية العلمية التي ارتضينا أن نتحمّلها ، فزاد هذا الشعور من ثقتنا ، وازدادت هذه الثقة كلّما شرعنا بفتح فكرةٍ جديدةٍ من أفكار هذا البحث ، والحقيقة أنّ ما ساعدنا على تجاوز هذه الحالة سلاسةٌ وجدناها في التنقّل بين مختلف أفكاره ، بسبب طبيعة موضوعه الرئيسي ، وسهولة سلوك سبل مواضيعه الفرعية ، وعاد كلّ ذلك إلى مرونةٍ فائقةٍ تميّزت بها المحتويات المقصودة بالدراسة ، وبمعنى أنّ سهولة التنقّل والربط والاستنباط والتوصّل إلى النتائج من خلال المقدّمات والوقائع والحقائق التشريعية والعملية لموضوع ” الوقف ومقاصد الشريعة ” ، كان المحرّك الأساسي في تيسير عرض جملة الأفكار التي تطرّقنا إليها أو لمسنا بعضاً من جوانبها ، ولذلك فإنّ أوّل نتيجةٍ خلصنا إليها بعد ذلك اعتقادٌ خالصٌ وإيمانٌ عميقٌ بقوّة هذا الارتباط الحيوي البنّاء بين الوقف ومقاصد الشريعة الإسلامية ، فقد شعرنا في كلّ جزءٍ من أجزاء الدراسة أنّنا كلّما ذكرنا نظام الأوقاف وتذكّرنا مزاياه ووظائفه فإنّنا نخوض في الحديث عن مقاصد الشريعة الإسلامية وغاياتها ، وكلّما خُضنا في هذا الحديث انصرف تفكيرنا إلى الوقف . فكان ذلك الشعور نتيجةً لقوّة هذا الترابط بين الموضوعين ما جعلهما موضوعاً واحداً ، كنّا نخشى ألا يحالفنا التوفيق في طرق باب محاولة البحث فيه ، فساعدنا الموضوع نفسه على أداء تلك المحاولة ، ونرجو أن تُقبَل منّا . ولقد خلُصنا بعد ذلك كلّه إلى مجموعةٍ من النتائج التي استخلصناها في نهاية هذه الدراسة ، وكذلك إلى بعض المقترحات والتوصيات والأمنيات التي نرجو أن تتحقّق لتثري واقع الأوقاف وتسدّ الثغرات المختلفة التي تنغّص طُرُق أداء الوظائف والمهامّ التي شرّع الوقف من أجلها .
أوّلاً – نتائج البحث :
1- إنّ الوقف تشريعٌ إسلاميٌ أصيلٌ ، لا يمكن لأحد أن ينكر مشروعية وجوده ، أو يتملّص من الأحكام التشريعية الثابتة فيه ، لأنّه يستمدّ هذه المشروعية من كتاب الله تعالى وسنّة نبيه الكريم المصطفى بقسميها القولي والفعلي ، كما يؤكّد هذه المشروعية استقرار العمل به من قبل الصحابة منذ عصور الإسلام الأولى ، وإجماع الصحابة والتابعين ومن تبعهم من الأئمّة والمجتهدين والفقهاء والعلماء ، وأنّ السند الحقيقي الذي من أجله شُرّع الوقف ، هو ما لجوهره من خصائص وميّزاتٍ مصلحيةٍ تنعكس برمّتها على عموم الناس وتؤدّي من أجلهم دوراً إنسانياً وحضارياً متنوّعاً ومتجدّداً ، لا يمكن حصره بجوانب معيّنةٍ أو قصر أهدافه على تحقيق غاياتٍ محدّدةٍ . 2- يتمتّع الوقف بطبيعةٍ مزدوجةٍ من حيث طبيعة الأهداف التي ينشدها ، فله أهدافٌ تتمثّل بالبواعث والدوافع الخاصّة التي تدفع الواقفين إلى إنشائه ، على تعدّد وتنوع هذه البواعث والدوافع الذاتية إيمانيةً كانت أو شخصيةً أو نفسيةً أو معنويةً ، وله غاياتٌ عامّةٌ تُسبغ عليه الصورة العملية التي يظهر من خلالها كنظامٍ يؤدّي مهمّاتٍ ووظائف تتجاوز بواعثه ودوافعه الذاتية إلى تحقيق أهدافٍ شاملةٍ وأغراضٍ عامّةٍ تعود بالنفع على المجتمع كلّه . 3- إنّ المنفعة التي يهدف نظام الوقف إلى إنجازها والمصلحة التي يُرجى منه تحقيقها هي مقصدٌ عامٌّ تتوخّاه الشريعة الإسلامية من ضمن ما تتوخّاه في مجمل أحكامها وفرائضها وضوابطها ، لأنّ هذه المنفعة هي غاية الله عز وجل لخلقه وتمثّلها إرادته في إصلاحهم وصلاح أحوالهم ، ولذلك فإنّ شريعته لم تقدّم للناس إلا ما يحقّق هذه الغاية ، فهي ” عدلٌ كلّها ورحمةٌ كلّها ومصالحُ كلّها ” كما يعبّر ابن القيّم عن ذلك ، وإن كانت المنفعة مؤجّلةً أو غير مباشرةٍ أو خفيّةً لا تلاحَظ ، فإنّ ذلك لا يعني غيابها ، وقد تكون بعض منافع الوقف كذلك ولكن التماس المنفعة وتبيّن المصلحة لا يكون آنيّاً على الدوام كما في المشاريع الكبرى والمؤسّسات الغنية ، وإنّ الوقف إن أُحسن استغلاله وتوجيهه وإدارته لَمِن أكبر المشاريع والمؤسّسات الإنسانية التي تحقّق عموم الفائدة ووفرة المنفعة وأمثل المصالح المبتغاة على كافّة المستويات والظروف ومع مرور الزمن . 4- إنّ إطلاق الأحكام على غاية الشريعة من تشريع الوقف وسائر المعاملات ، إنّما يستند إلى مقاصد الشريعة الإسلامية ، لأنّ هدف المقاصد تحقيق المصالح ودفع المفاسد ، ولذلك يجب أن تكون الوسائل التي تُفضي إلى ذلك مشروعةً لا تخرج عن أحكام الشريعة ، فأحكام الشريعة هي ضابط الوسائل وغايات الشريعة هي مقاصدها في تحقيق مصلحة الناس . ومقاصد الشريعة في الوقف هي دوافعها من أجل تشريعه لما يحقّقه من مصلحةٍ عامّةٍ ومنفعةٍ شاملةٍ ، ويجب أن تكون وسائل الوصول إليها مشروعةً إعمالاً للقاعدة العامّة في المعاملات ، وهذا يعني أنّ الوقف الصحيح هو الوقف الذي يحقّق غايات الشريعة فيه من جهةٍ وهي تحقيق المصلحة ، ولا يخالف أحكام الشريعة من جهةٍ أخرى. 5- بسبب هذه العلاقة الترابطية بين الوقف ومقاصد الشريعة ، فإنّ فقه الوقف اعتمد منذ البداية على هذه المقاصد كأساسٍ تشريعيٍ له ، وأطّر الفقه والاجتهاد الإسلامي قواعد الوقف وأحكامه وحدّد عناصره وشروطه من خلال فهمٍ عميقٍ لطبيعته المصلحية وارتباطه بالمقاصد ، وإن لم تكن مؤلّفات فقه الوقف تُشير إلى ذلك صراحةً . وهذا يدلّ على قوّة علاقة الوقف بنظرية المقاصد . 6- إنّ الاختلاف الفقهي الرئيسي في الوقف سببه اختلاف أسلوب فهم مقصد الشريعة الإسلامية منه ، فتفرّعت الأحكام والقواعد الفقهية التي قرّرها كلّ مذهبٍ من المذاهب الإسلامية ، من خلال الجانب الذي نُظر منه إلى الوقف ، هل هو قربةٌ وصدقةٌ أم عطيّةٌ وهِبةٌ أم أنّه كلّ تلك معاً ، لتفسير مقصد الشريعة من الوقف . وقد تفرّعت عن هذا التفسير سائر أحكام الوقف وقواعده المقرّرة في جميع المذاهب ، ومع هذا لم يؤدِّ الاختلاف إلى مساسٍ بطبيعة الوقف ومضمونه بسبب اعتماد المقاصد أصلاً لفقه الوقف ، وقد أفضى هذا الاختلاف عملياً إلى تنويع أشكال الوقف ومصارفه وتوسيع دائرة الأهداف والأغراض التي يمكنه تحقيقها . ولذلك فإنّ الاختلاف الفقهي هو اختلافٌ على فروعٍ معيّنةٍ وليس على أصلٍ متّفقٍ عليه ، فالأصل أن يحقّق الوقف مقصد الشريعة الإسلامية منه وهو المصلحة ، وأن ينأى عن مخالفة أحكام الشريعة الإسلامية التي أقرّته ، وأيُّ خلافٍ فرعيٍ آخر لا يؤثّر على هذا الأصل المعتبر لدى فقهاء كافّة المذاهب ، ولذلك كان لهذا الخلاف فائدةٌ عمليةٌ واضحةٌ يمكن أن تعطي نتائج عظيمةً إذا وُظّفت ضمن الأصل التشريعي للوقف ، خاصّةً في هذا العصر الذي تتّسع فيه يوماً عن يومٍ أشكال المصالح والحاجات الإنسانية ، فلا ضير من الرجوع عن الوقف أو عن بعضه على مذهب الإمام أبي حنيفة إن تعرّض الواقف لظروفٍ سيّئةٍ تجبره على ذلك ، على أن يكون ذلك بإذن القاضي وقناعته السليمة ، ولا ضير من وقف المنقول على مذهب الإمام مالك لأنّ في ذلك فوائد جمّةٌ ، خاصّةً في هذا العصر الذي تعدّدت فيه أنواع المنقولات والمنافع العظيمة التي تؤدّيها ، كما لا ضير من الوقف المؤقّت وإن لم يجِزه سوى المالكيون ، أو ليس الوقف المؤقّت أفضل من عدم الوقف ؟ . كما لا إشكال في أن ينصرف الوقف إلى عين المال الموقوف أو إلى ثماره ومنافعه وغير ذلك من الحالات التي لكلٍّ منها فرعٌ فقهيٌ لا يخالف الأصل وهو تحقيق المصلحة وعدم مخالفة الشريعة . 7- إنّ شروط الواقفين في الوقف تعبّر عن مجموعة البواعث النفسية التي أنشأ الواقفون أوقافهم بسببها ، فدوافع الواقفين لإنشاء الأوقاف متعلّقةٌ برغباتهم التي عبّروا عنها من خلال ما اشترطوه في أوقافهم ، ولذلك كان احترام هذه الشروط واعتبارها أمراً واجباً من قبل الجهات الموقوف عليها ومن قبل المتولّين ، على ألا تخالف هذه الشروط أحكام الشريعة ومقاصدها في الوقف ، فلا ينبغي أن تفضي إلى تعطيل مصلحة الشيء الموقوف أو مصلحة المستحقّين ، لأنّ مقاصد الشريعة تتمثّل في الوقف من خلال المصلحة التي يؤدّيها ، وهذا يدلّ على انصراف المقاصد إلى كافّة أحكام الوقف التشريعية ، والاهتمام الفقهي الكبير بشروط الواقفين كان من أجل خلق حالةٍ من التوازن بين واجب احترام هذه الشروط وبين واجب مراعاتها لأحكام الشريعة وتحقيقها للمصلحة . إضافةً إلى ضرورة وجود اهتمامٍ عمليٍ حقيقيٍ بالمطلوب والمقصود من هذه الشروط بشكلٍ دقيقٍ ، بسبب ما لها من أهمّيةٍ في نجاح مؤسّسة الوقف ورفع فعّالية أدائها ، حين يستكمل الواقفون المقوّمات الشرعية لشروطهم ، ثمّ يسعَون من أجل تحقيق خطّة عملٍ مدروسةٍ كي ينفّذوا هذه الشروط بأمثل طريقةٍ وأفضل وسيلةٍ ممكنةٍ ، مع فهمٍ واستيعابٍ منهم لنتائج هذا التنفيذ والمصلحة المنشودة من خلاله . 8- في بحثنا عن بعض واقع الأوقاف في الجمهورية العربية السورية وجدنا من خلال ما طالعناه من مجموعات القوانين الوقفية المبعثرة والمتضاربة ، ومن خلال ما لمسناه على أرض الواقع العملي للأوقاف في هذا القطر ، فراغاً تشريعياً كبيراً إن كان على صعيد الاجتهاد والإفتاء الفقهي ، أو على صعيد الشرح والتفسير القانوني ، وذلك بسبب التحكّم الحكومي بتطبيق النصوص القانونية ، وغياب دور الأوقاف الخيرية بسبب هذه النصوص ، فقد أثّرت مخالفة أحكام الشريعة في الأوقاف على واقعها بشكلٍ مخيفٍ فانعكس ذلك على شعور الراغبين في إنشاء الأوقاف ، خاصّةً بالنسبة لعدم اعتبار شروط الواقفين ، والتولية الحكومية الجبرية على الأوقاف ، فبدؤوا يلتمسون حلولاً أخرى كالهبة المشروطة للجمعيات الخيرية ، أو التبرّع المباشر لهيئاتٍ ومشاريع خيريةٍ مستقلّةٍ ، وهذا أدّى إلى ضياع كثيرٍ من الأموال التي كان بالإمكان أن تساهم في فعاليّاتٍ تنمويةٍ كثيرةٍ يحتاج إليها المواطنون السوريون ، خاصّةً وأنّ نظام الجمعيات والمؤسّسات الخيرية يقضي عند انحلالها بانتقال أملاكها إلى الدولة ، وضياع الفائدة التي كانت محقّقة من خلال إنشاء المؤسّسات الوقفية ، ويدلّ ذلك كلّه على مدى كارثية العواقب والآثار الناتجة عن مخالفة أحكام الشريعة ومقاصدها في الوقف . 9- زاد من شعورنا بتردّي الواقع التشريعي الوقفي في سورية الصعوبة الكبيرة التي وجدناها للعثور على نموذجٍ وقفيٍ مناسبٍ لإجراء الدراسة عليه وتحليل ترتيب أولويّاته ومصارفه من وجهة نظر مقاصد الشريعة الإسلامية ، وكنّا نأمل إنجاز هذه الدراسة على مشروعٍ وقفيٍ لا موارد له سوى ما يدرّه ريع الأوقاف نفسها ، فلم نوفّق في ذلك لأنّ المؤسّسة التي قُمنا ببحث جوانبها العملية ومحيطها التشريعي وأولويّات المقاصد التي تحقّقها وسبل مصارفها كانت نموذجاً وحيداً فريداً ، لم نعثر على شبيهٍ له طيلة أسابيع من البحث والتقصّي . ولكنّنا وجدنا أنّ الطبيعة المزدوجة لهذه المؤسّسة ساعدت كثيراً في إنجاح المهامّ التي تؤدّيها ، ما يدلّ على أنّ ارتباط الأنظمة الوقفية بغيرها من المؤسّسات أو الجمعيات الخيرية ذا فائدةٍ كبيرةٍ ، شرط أن يتحقّق الانسجام بين الأهداف ، وأن تنصرف النوايا إلى الالتزام بمقاصد الشريعة وبشروط الواقفين ، وأن تكون الجهة المتولّية واعيةً لذلك ومواظبةً على أداء الأمانة الموكلة إليها بكلّ حرصٍ ونزاهةٍ وكفاءةٍ . 10 – لا بدّ من أجل رفع كفاءة الأوقاف العملية والوصول إلى أعلى مستويات النجاح أي تحقيق أكبر قدرٍ ممكنٍ من المصلحة ، تعزيز دور الدوافع التي سبّبت تشريع الوقف ، وهي مقاصد الشريعة الإسلامية ، لذلك كان من اللازم إعمال الفهم والوعي لهذه المقاصد وتكريس الجهد العملي والاجتماعي من أجل الإفادة من كلّية نظرية المقاصد ومرونتها التطبيقية وطابعها الإنساني ، لتحقيق المصالح الأمثل والمنافع الأكثر شمولاً من وراء إنشاء الأوقاف .
ثانياً – بعض المقترحات والأمنيات في موضوع البحث :
1- أصبحتِ الحاجة ماسّةً في ظلّ هذا الوجع التنموي والسياسي الذي أصاب العالمين العربي والإسلامي بعد ركودٍ حضاريٍ وفكريٍ طويلٍ إلى إعادة النظر في مصادر الدخل العامّة ، وتفعيل دور المؤسّسات الوقفية الإسلامية على تعدّد أغراضها الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والثقافية والإرشادية الدعوية ، من أجل إيجاد طرقٍ ووسائل جديدة تعزّز قدرات الطاقات البشرية والموارد الطبيعية والبنى التحتية الوطنية ، وتسهم في زيادة واردات الدول والمواطنين . والوقف بما له من طبيعةٍ بنّاءةٍ مستقرّةٍ دائمةٍ شاملة الأغراض عامّة التوجّه ، يستطيع الآن أن يلبّي جزءاً كبيراً جدّاً من هذه الحاجة الملحّة ، بما يؤدّيه من أهدافٍ وما يحققه من مصالح ، بدءاً من دوره في تحقيق التكافل الاجتماعي وبناء نظامٍ اقتصاديٍ متينٍ ، ومروراً بما يحقّقه من تضييقٍ للفوارق المالية بين الناس وإعادةٍ لتوزيع الثروات المادّية بينهم ، وأدواره الأخرى في مجال التعليم والصحّة والخدمات والمرافق العامّة وغير ذلك مما لا يدخل تحت حصرٍ ، وانتهاءً بالوظيفة الدعوية التي أدّتها الأوقاف بتمكّنٍ عبر قرونٍ طويلةٍ من التاريخ الإسلامي . 2- لا بدّ من أجل تحقيق التنمية الوقفية إيجاد محيطٍ اجتماعيٍ مناسبٍ لتحريض كلّ الأسباب اللازمة من أجل ذلك ، وهذا يتطلّب عملاً جادّاً وجهداً فائقاً تؤدّيه المؤسّسات العلمية والفعاليات الفكرية والثقافية الإسلامية ، من أجل خلق حالةٍ من الشعور والفهم الاجتماعي بأهمية نظام الأوقاف وجلال الدور الذي يؤدّيه في المجتمع ، وشمولية الأهداف التي يحقّقها وعمومية المنافع التي يقدّمها على مختلف الأصعدة ، لأنّ الوعي الجماعي لأهمّية الأوقاف يولد اندفاعاً نفسياً وذهنياً عامّاً وخاصّاً باتّجاه العمل على تبنّي مفاهيم الوقف الخيرية للقيام بإنشاء الأوقاف والاهتمام بشؤونها والمحافظةعلى طابعها ، مع الوعي لأهمّية الدور الذي تقوم به ، كما ومن المهمّ إرشاد الواقفين إلى أهمّية ترتيب أولويّات الأوقاف التي يرغبون بإنشائها في شروطهم من حيث مقاصدها الضرورية والحاجية والتحسينية ، لِما في ذلك من دورٍ كبيرٍ في تفعيل كفاءة هذه الأوقاف وقيامها بتحقيق الأهداف الأهمّ كلّما أمكن ذلك . 3- لن ينجح إيجاد محيطٍ اجتماعيٍ وفكريٍ يتبنّى مفاهيم الوقف ويعي أهمية دوره ويقوم بتفعيل هذا الوعي على أرض الواقع العملي ، إلا من خلال إيجاد بنيةٍ تشريعيةٍ وقفيةٍ تتميّز بالخصوبة والمرونة والقدرة على احتواء كلّ الحالات الوقفية الشرعية ، لتحقيق أكبر قدرٍ ممكنٍ من المصلحة العامّة ، فلا تكون مجموعة القوانين والتشريعات الوقفية الوطنية عائقاً أمام إنشاء الأوقاف أو حاجزاً في وجه تحقيقها لأهدافها وإنجازها لمهامّها . والسبيل إلى ذلك التزام التشريعات الوقفية بأحكام الوقف الشرعية واستنادها إلى المقاصد العامّة للشريعة الإسلامية ، دون أن تتقيّد برأيٍ فقهيٍ معيّنٍ أو تعتمد على مذهبٍ أو مذاهب محدّدةٍ . وذلك لتعزيز القدرات الوقفية واستيعاب جميع الحالات والمستجدّات وإيجاد الحلول المناسبة لها على اختلاف الظروف ، خاصّةً في هذا العصر الذي تدور رحى الحداثة فيه بسرعةٍ عجيبةٍ ينبغي لتداركها التسلّح بالمقوّمات الحضارية المناسبة ومنها القانون العادل المرن . والأجمل أن يكون للوقف في شتّى دول العالم الإسلامي تشريعٌ موحدٌ عامٌّ يحقّق الربط التنظيمي بين مختلف المؤسّسات والأنظمة الوقفية ، ويساعد في بعض الأحوال على إيجاد وحدةٍ إداريةٍ وغرضيةٍ بين مؤسّساتٍ وقفيةٍ متعدّدةٍ تؤدّي أدواراً متشابهةً في دولٍ مختلفةٍ ، وقد أثبت الواقع العملي أنّ اتّحاد المؤسّسات يقوّي كيانات شخصيّاتها الاعتبارية ويعزّز من قدراتها العملية . 4- ينبغي أن تنعم المؤسّسات الوقفية بالاستقلال فلا يكفي أن تتمتّع بالاستقرار التشريعي ، لأنّ القانون الذي يضمن للأوقاف استقرارها من خلال أحكامه ونصوصه ، لن يأمن عليها من تدخّل السلطات الشتّى في شؤونها ، إن لم تَسُدِ الأجواء التي تمنع هذا التدخّل ، ونحن لا نقصد استقلال الأوقاف التامّ عن أيّ ارتباطٍ رسميٍ أو تنظيميٍ مع الجهات الحكومية لأنّ ذلك صعب للغاية في ظلّ تشابك العلاقات الداخلية الوطنية بين الأفراد والهيئات العامّة وبينها وبين المؤسّسات الخيرية المختلفة ، ولكنّنا نقصد إبعادها عن العبث بمقدّراتها ، وعن الروتين الذي يصيبها بالجمود والركود ، وقبل ذلك عن أيّ تجاوزٍ لأحكام القوانين الشرعية في شؤون الوقف ، بل إنّ الدول والحكومات مطالبةٌ بتقديم مختلف أنواع الدعم للمؤسّسات الوقفية والمحافظة عليها إن كانت راغبةً في تحقيق التنمية وتوجيه مقدّرات البلاد لصالح مواطنيها ، للمساهمة في إنجاز نهضةٍ تنمويةٍ واجتماعيةٍ واقتصاديةٍ وفكريةٍ شاملةٍ .
5- أخيراً وليس آخراً فقد لفت نظرنا أنّ نسبة الأوقاف الدينية الموجودة في سورية أي المكرّسة لإنشاء الجوامع والمساجد وملحقاتها ” ونعتقد أن ذلك ينسحب إلى معظم الدول الإسلامية ” هي نسبةٌ فائقةٌ جدّاً بالنسبة إلى أنواع الوقفيات الأخرى . ومع ثقتنا بالدور الدعوي الذي يؤدّيه بناء المساجد والثواب الجزيل للواقفين من أجل هذا الغرض ، ولكنّ الحاجات التعليمية والصحّية والاجتماعية والخدمية المختلفة أصبحت أكثر إلحاحاً من ذي قبلٍ في ظلّ تزايد عدد السكان وتزايد حجم الاستهلاك والإنفاق العامّ ، ما يجعل من الضرورة بمكان توجيه الوعي الاجتماعي نحو إنشاء الأوقاف التي تؤدّي هذه الحاجات والتأكيد على أهمّية المنفعة التي تؤدّيها وأن الثواب الذي تحقّقه لا يقلّ شأناً عماّ يحقّقه وقف الأوقاف الدينية ، ما يساهم في تحقيق التنمية وسدّ أبواب الحاجة والعوز . خاصّةً وأنّ أعداد الجوامع في شتّى بلدان العالم الإسلامي كبيرةٌ ، وفي دمشق وحدها أكثر من ثلاثمائة جامعٍ وقفيٍ . وكذلك فإنّ تشييد الجوامع وتجهيزها والإنفاق عليها هو من مسؤوليّات الدولة ضمن ما تتحملّه من أعباءٍ .
كلمة أخيرة .. . نتمنّى أن يأخذ ما قدّمناه دوره الصغير المتواضع بين مئات الأبحاث الوقفية التي تمّ إنجازها في عالمنا الإسلامي والعربي طيلة السنوات الماضية ، وأن تؤدّي هذه الحركة الدعوية العلمية الثقافية الحديثة الماضية قُدُماً من أجل تحقيق واقعٍ وقفيٍ معاصرٍ متقدّمٍ دورها المطلوب في ذلك ، وأن تكون واحدةً من العوامل الأخرى التشريعية والاجتماعية والسياسية التي ينبغي الأخذ بها والعمل على تفعيلها ، من أجل تعزيز مكانة نظام الأوقاف في مجتمعاتنا ، واسترجاع دوره التاريخي العظيم ، وإعادة بنائه وفقاً للأسس الموضوعية المنضبطة بأحكام الشريعة ، والمستمدّة من روحها السمحة ومقاصدها النبيلة ، لتنعم هذه المجتمعات بثمار هذا النظام ومنافعه ، وليعود جزءاً مهمّاً من مجمل أنظمتها التنموية الحضارية . وقد آن الأوان لفتح باب العمل من أجل ذلك على مصراعيه ، وحثّ الجهود وتحريض الإرادات والهمم على بذل المطلوب من أجل إنجاز ذلك .
كلّ الشكر للأمانة العامّة للأوقاف في دولة الكويت على رعايتها العلمية والفكرية لهذه التظاهرة البنّاءة ، وعلى كلّ جهدٍ تقدّمه في مجال الأوقاف والعمل الخيري ، وعلى لفتِها وتشجيعها الكريم لنا ولغيرنا من أجل المساهمة في مجمل المجهود الفكري والبحثي في هذا المجال .
” وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين “
مصادر البحث
أوّلاً – المصادر التشريعية الكريمة :
1- القرآن الكريم . 2- السنة النبوية الشريفة ومصادرها : صحيح البخاري وصحيح مسلم وكتب الأحاديث المختلفة : ( الترمذي ، وأبو داوود ، وسنن النسائي وسنن البيهقي ، والدراقطني ، ومقدّمة ابن ماجه ، ومسند البزّار ، والبغوي ، والمحاملي ) .
ثانياً – المؤلّفات والشروح الفقهية القديمة والحديثة :
– فتح القدير لابن حجر العسقلاني . – المغني – كتاب الوقف والعطايا لموفق الدين ابن قدامة المقدسي الحنبلي . – الجامع لأحكام القرآن لأبي الوليد محمّد بن أحمد بن رشد القرطبي . – نيل الأوطار للشوكاني . – شفاء الغليل للغزالي . – الموافقات للشاطبي . – حجّة الله البالغة للإمام أبو فيّاض وليّ الله الدهلوي . – الدرّ المختار وشرح تنوير الأبصار للشيخ محمّد علاء الدين الحصكفي . – شرح الزرقاني على مختصر أبي الضياء سيدي خليل للشيخ عبد الباقي الزرقاني . – أعلام الموقعين عن ربّ العالمين لابن قيّم الجوزية . – إعلاء السنن للعلامة ظفر أحمد العثماني التهانوي . – شرح حدود ابن عرفة لأبي عبد الله محمّد الأنصاري – تحقيق الطاهر المعموري ومحمّد أبو الأجفان . – المبسوط في الفقه للإمام السرخسي . – مجموع فتاوى ابن تيمية . – مقاصد الشريعة الإسلامية لمحمّد الطاهر بن عاشور . – الفقه الإسلامي وأدلّته للدكتور وهبة الزحيلي . – محاضرات في الوقف للعلامة محمّد أبو زهرة . – أحكام الوقف في الفقه الإسلامي للأستاذ مصطفى الزرقا . – أحكام الوقف في الشريعة الإسلامية للدكتور محمّد الكبيسي . – الفكر المقاصدي قواعده وفوائده للدكتور أحمد الريسوني . – المقاصد العامّة للشريعة الإسلامية للدكتور يوسف حامد العالم . – مقاصد الشريعة ومكارمها للأستاذ علال الفاسي . – الأوقاف والسياسة في مصر للدكتور إبراهيم غانم البيّومي – الوقف وأثره التنموي للدكتور علي جمعة . – الوقف للأستاذ فرج أبي راشد . – الوقف وأثره على الجانب التوجيهي للمجتمعات للدكتور صالح السدلان . – إحياء سنّة الوقف ( نحو مؤسّسة وقفية تمويلية تنموية ) – مقال للشيخ محمّد حسين يعقوب. – نماذج وقفيّة من القرن التاسع عشر للدكتور عمر زهير حافظ .
ثالثاً – مصادر أخرى متفرّقة :
1- مصادر إلكترونية : شروط الواقفين لسليمان عبد الله الماجد عن موقع الإسلام اليوم ، ومدخل إلى مقاصد الشريعة الإسلامية لمحمّد امبارك بن محمّد أحمد عن نفس الموقع , وحوار مع الدكتور وهبة الزحيلي منشور في موقع إسلاميات الإلكتروني . ومقالة لمحمّد علي ظبيان الكيلاني من موقع جمعية الشيخ بدر الدين الحَسني . 2- مصادر موسوعية : – خطط الشام لمحمّد كرد علي . – الموسوعة العربية العالمية . – معجم نقباء السادة الأشراف في الديار الشامية . 3- مصادر قانونية وإدارية : – القانون المدني السوري . – قانون أصول المحاكمات المدنية السوري . – قانون الوقف الخيري الإسلامي في سورية . – قانون تنظيم وزارة الأوقاف في سورية . – قانون تصفية الوقف الأهلي في سورية . – الاجتهاد القضائي والرأي الفقهي السوري . – مجموعة مراجع قانونية وقرارات إدارية زوّدنا بها مشكوراً الأستاذ المحامي محمّد الغضبان . – النظام الداخلي والإداري لجمعية الشيخ بدر الدين الحَسَني ونتوجّه لمجلس إدارتها بالشكر أيضاً .
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً