مقدمة :
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وبعد، تعالت مؤخرا أصوات بعض الجمعيات الحقوقية المغربية مطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام على اعتبار أنها تمس بالشرعية الدولية و بمبد أ الحق في الحياة وأنها تشكل ضربا من الاعتداء اللاإنساني على الجسد والعقل في عصر ندرت فيه المحاكمة العادلة وكثرت فيه الأخطاء القضائية ، من ثم كانت النداءات لاعتماد عقوبات بديلة لعقوبة الإعدام من بينها السجن المؤبد بحيث لا تكون حاطة من الكرامة الإنسانية ولا تتنافى مع حقوق الإنسان التي تنص عليها المواثيق الدولية ، ولكن الشيء الذي يلفت الانتباه في هذه الدعوات والمطالب هو أن الغالبية العظمى من هذه الجمعيات الحقوقية أخذتها الرأفة والرحمة بالقاتل بشكل مبالغ فيه ونسيت حقوق الضحية وأهله ، لدرجة قد يتوهم البعض فيها أن القاتل هو الضحية والضحية هو المجرم الحقيقي لأنه زج بالقاتل بين أحضان المشنقة أو المقصلة ، من أجل كل هذا جاءت هذه الدراسة المتواضعة لتحاول تسليط الضوء على أحكام الشرع الإسلامي والقانون المغربي بخصوص قضية إلغاء عقوبة الإعدام ، وذلك لم يتأتى لنا إلا من خلال بيان حقيقة ومفهوم ومشروعية هذه العقوبة عند فقهاء الشرع والقانون وكذا من خلال تجميع آراء بعض الفقهاء والباحثين في قضية الإلغاء هاته ، وسنحاول بإذن الله وقوته تفصيل هذه العناصر ومناقشتها من أجل الكشف عن العديد من الحقائق ، وذلك من خلال مبحثين على الشكل التالي :
المبحث الأول : مفهوم عقوبة الإعدام ومشروعيتها :
المبحث الثاني : إلغاء عقوبة الإعدام بين مؤيد ومعارض :
وفيما يلي بيان ذلك وتفصيله :
المبحث الأول : مفهوم عقوبة الإعدام ومشروعيتها :
أولا : مفهوم عقوبة الإعدام :
لاشك أن لعقوبة الإعدام مفهوما دقيقا عند المتخصصين من فقهاء اللغة و الشرع والقانون ، كما أن أساسيات البحث العلمي الدقيق تفرض علينا لزاما الخوض في المفاهيم الدفينة لهذا المصطلح لغة وشرعا وقانونا خدمة لموضوع هذه الدراسة وبيانا لمجموعة من الحقائق الخفية، إلا أن ما ينبغي الإشارة إليه قبل الخوض في استعراض مختلف التعاريف و المفاهيم، هو أن عقوبة الإعدام وردت بهذا اللفظ عند فقهاء القانون ، لكنها لم ترد عند فقهاء الشريعة الإسلامية بنفس اللفظ ، وفي هذا الصدد ومن خلال مناقشة تفاصيلها نجد بأنها وردت عندهم عند الحديث عن عقوبة القِصاص ، وفيما يلي مناقشة لهاته المفاهيم لغة وشرعا وقانونا :
وعليه فعقوبة الإعدام لغة : هي إزهاق الروح : يقال قضى القاضي بإعدام المجرم ، إذا قضى بإزهاق روحه قِصاصا ، والقِصاص لغة : مأخوذ من اقتصاص الأثر وتتبعه ، ومن ذلك اشتقاق القِصاص في الجراح ،وذلك أن يفعل به مثل فعله بالأول فكأنه اقتص أثره ، بمعنى أن يوقع على الجاني مثل ما جنى : النفس بالنفس والجرح بالجرح.
أما معنى الإعدام عند فقهاء الشرع الإسلامي فقد سبق أن ذكرنا بأنهم تناولوه عند حديثهم عن عقوبة القِصاص ومعناها عندهم هي : “أن يوقع على الجاني مثل ما جنى ، النفس بالنفس والجرح بالجرح “، أي أن يفعل بالفاعل مثل ما فعل وقد ذكر الأستاذ مصطفى أحمد الزرقا بأن القِصاص نوعان : قِصاص في النفس وذلك في جريمة القتل العمد ، وقِصاص في الأعضاء وذلك في جريمة القطع والجروح العمدية ، وقد عرف الدكتور أحمد الخمليشي عقوبة القِصاص عموما بأنها : “عقوبة مقررة في جرائم القتل العمد والجروح العمدية ، وهي تمثل العدالة والمساواة بين الوقائع المادية للجريمة وبين الجزاء الذي يناله الجاني ، ولكي تكون العدالة حقيقية ، والمساواة مقبولة يتعين أن يؤخذ في الاعتبار الظروف والملابسات الشخصية للجاني ومدى مسؤوليته الأخلاقية عن الجريمة” .
أما عن مفهوم عقوبة الإعدام عند فقهاء القانون الوضعي ، فقد عرفها الدكاترة إبراهيم نجار ، وأحمد زكي ،ويوسف شلالا بأنها : “استئصال المحكوم عليه بإزهاق روحه بعد الحكم عليه نهائيا من محكمة مختصة “.
وبهذا يتضح جليا بأن صورة عقوبة الإعدام في القانون الوضعي تقابل صورة القِصاص في النفس في جريمة القتل العمد عند فقهاء الشريعة الإسلامية السمحة ، إلا أنه على ما يبدو أن أغلب فقهاء الشرع أصبحوا في عرفهم يطلقون لفظة القِصاص ويقصدون بها عقوبة الإعدام ، في حين أن القِِِِِِِِصاص في عرف الشرع يراد منه المماثلة، بمعنى أن يجازى الجاني بمثل فعله ، فإن قتل إنسانا عمدا قتل، وإن جرحه عمدا جرح، وبهذا نخلص إلى أن عقوبة القِصاص في الشرع أعم من عقوبة الإعدام في القانون الوضعي .
ثانيا : مشروعية عقوبة الإعدام :
إن ما تجدر الإشارة إليه هو أن عقوبة الإعدام استمدت شرعية تطبيقها من مجموعة نصوص الشريعة الإسلامية وكذا نصوص القانون المغربي ، وفي هذا الصدد احتج فقهاء الإسلام بمجموعة من النصوص الشرعية التي استقوها من القران الكريم والسنة النبوية الشريفة ، وكذا من المعقول وذلك على الشكل التالي :
فأما القرآن الكريم فنصوصه الداعية إلى تطبيق القِصاص في النفوس في جرائم القتل العمد كثيرة منها قوله تعالى : “يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القِصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم . ولكم في القِصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون ” ،ومنها أيضا قوله جل من قائل :” وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قِصاص، فمن تصدق به فهو كفارة له ،ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ” .
وأما السنة النبوية الشريفة فقد احتجوا بمجموعة من الأحاديث منها قوله صلى الله عليه وسلم : ” لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إلاه إلا الله وأني رسول الله ، إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس والثيب الزاني ، والمفارق لدينه التارك للجماعة ” ، وكذا بما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنهما :” أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين ” .
هذا وإضافة إلى نصوص الكتاب الكريم والسنة الشريفة المشرعة لتطبيق القصاص في النفوس أحتج فقهاء الشريعة الإسلامية فضلا عن ذلك بالمعقول وذكروا بأن الأمر إذا ترك دون قِِِِِِِصاص كانت النتيجة أن يتجرأ المعتدون وأن يثأر أولياء المقتول بأكثر مما اعتدي عليهم ، فينتشر العدوان ويتسع الخرق ، وتزداد النار اشتعالا، فكان من الطبيعي أن يجعل الله للمفسدين والمعتدين على حياة الغير والظالمين عقابا عاجلا في الدنيا لكبح هاته النفوس صيانة للجماعة من شيوع الفساد وتفشي جراثيم الإجرام ، إلا أن ما ينبغي الإشارة إليه في هذا الصدد هو أن ديننا الحنيف بالرغم من أنه قرر إعدام القاتل العمد إلا أنه رغب في العفو وحث عليه وترك بابه مفتوحا أمام أولياء القتيل فلهم العفو عن القاتل أو قبول الدية مصداقا لقوله تعالى ” فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ” ، هذا و يعتبر العفو عن القِصاص عند الإمامين الشافعي وأحمد تنازلا عنه إما مجانا أو مقابل دية ، أما عند الإمامين مالك وأبي حنيفة فإن إسقاط القِصاص مجانا يعتبر عفوا عندهما ، أما إسقاطه مقابل دية فهو ليس عفوا بل صلح ، هذا من جهة ومن جهة ثانية ففي حالة العفو مقابل الدية أو العفو مجانا يرى الإمام مالك بأن يحكم في هذه الحالة على الجاني بعقوبة تعزيرية ، أما الأئمة أبو حنيفة والشافعي وأحمد فلا يجيزون التعزير في حالة العفو ، ولكنه مع ذلك ليس لديهم ما يمنع من التعزير إذا اقتضته المصلحة العامة .
والحقيقة أنه إذا كان فقهاء الشريعة الإسلامية السمحة قد استدلوا على حجية عقوبة القِصاص في النفوس – أي عقوبة الإعدام- بمجموعة من النصوص الشرعية ، ففقهاء القانون المغربي بدورهم استدلوا على حجيتها بمجموعة من الفصول القانونية ، وفي هذا الإطار لابد أن نشير إلى أن القانون الجنائي المغربي تضمن ثلاثين فصلا يخص عقوبة الإعدام ، كما تضمن قانون العدل العسكري أربعة فصول تتطرق إلى الجرائم الموجبة لعقوبة الإعدام ، هذا فضلا عما تضمنه قانون مكافحة الإرهاب من فصول تهم إصدار الحكم بعقوبة الإعدام ، وحسب إحصائيات وزارة العدل ، فقد أصدرت المحاكم المغربية منذ الاستقلال إلى سنة 1994 ، 198 حكما بالإعدام ، وفي سنة 1994 استفاد 13 معتقلا من تحويل عقوبات الإعدام إلى عقوبات سجنية ، وعموما لم يتم تطبيق هاته العقوبة منذ سنة 1982 ، ما عدا استثناء في غشت 1993 في حق الكوميسير ثابت الذي ارتكب عدة جرائم جنسية.
والحقيقة أن الجرائم التي تطالها عقوبة الإعدام في القانون المغربي يمكن إجمالها فيما يلي :
1-الاعتداء على حياة الملك أو ولي العهد ، أو أحد أفراد الأسرة المالكة ، الفصول : 163-165-167 من القانون الجنائي المغربي .
2-جريمة خيانة الوطن الفصلان 181و182 من القانون الجنائي المغربي.
3- جريمة التجسس الفصلان 185و186 من القانون الجنائي المغربي.
4- المس بسلامة الدولة الداخلية أو الخارجية الفصول 190و 201 إلى 203 من القانون الجنائي المغربي.
5-جريمة الإرهاب الفصلان 3/218 و 7/218 حسب القانون الجديد للإرهاب[26].
6-القتل العمد المشدد الفصلان 392و393 من القانون الجنائي المغربي .
7-قتل الأصول عمدا الفصل 396 من القانون الجنائي المغربي .
8-قتل الوليد عمدا الفصل 397 من القانون الجنائي المغربي .
9-التسميم الفصل 398 من القانون الجنائي المغربي .
10-استعمال وسائل التعذيب لتنفيذ جناية الفصل 399 من القانون الجنائي المغربي .
11-الضرب بنية إحداث الموت الفصلان 410و 411 من القانون الجنائي المغربي .
12-اختطاف الأشخاص وتعذيبهم الفصل 438 من القانون الجنائي المغربي .
13-تعريض الطفل للموت بنية إحداثه الفصل 463 من القانون الجنائي المغربي .
14-اختطاف القاصر الذي يعقبه موته الفصل 474 من القانون الجنائي المغربي .
15-إضرام النار عمدا إذا تسبب في موت الفصل 583 من القانون الجنائي المغربي .
16-التخريب بالمتفجرات الناتج عنه موت 588 من القانون الجنائي المغربي .
ويضاف على هذه الجرائم ما ورد في قانون العدل العسكري ، في الفصول 173و179 والفصول من 181إلى 186 ، وهي النصوص التي تجرم تصرفات الجنود زمن الحرب .
هذا من جهة ، ومن جهة أخرى لابد من أن نشير إلى أن المشرع المغربي فضلا عن كل الفصول السالفة الذكر ، منع الأعذار القانونية في بعض الجرائم كالاعتداء على حياة الملك ، وعاقب على المحاولة فيها ، واعتبر الجنايات الماسة بأمن الدولة من القضايا المستعجلة التي لها الأولوية على غيرها في التحقيق والمحاكمة وهذا ما أكده الفصل 216 من القانون الجنائي المغربي.
غير أن المشرع خول من جهة أخرى سلطة منح ظروف التخفيف القضائية في غالبية هاته الجرائم ، وذلك بتحويل عقوبة الإعدام على السجن المؤبد أو السجن المحدد في 30سنة وفقا للفصل 146 من القانون الجنائي ، وذلك في نطاق الظروف القضائية المخففة .
كما أن المشرع المغربي قرر جملة من الأعذار القانونية المعفية أو المخفضة للعقوبة وفقا للفصل 143 من القانون الجنائي المغربي [27].
وعلى العموم وكخلاصة لقضية مشروعية عقوبة الإعدام بين الشرع الإسلامي والقانون المغربي، لابد من التأكيد على أن تطبيقها مشروع وفق مجموعة من نصوص الشريعة الإسلامية والسمحة وكذا بعض نصوص القانون المغربي ، إلا أنه في الآونة الأخيرة ظهرت مجموعة من الأصوات والجمعيات الحقوقية الوطنية والدولية التي تندد باستمرار تطبيق عقوبة الإعدام على اعتبارها -على حد قولهم- مسا صارخا بحقوق الإنسان ، وبذلك تحولت قضية مشروعية تطبيق عقوبة الإعدام إلى إشكال عويص انبثقت عنه عدة اتجاهات فقهية انقسمت بين مؤيد ومعارض لهذه العقوبة ، وذلك ما سنخصه بالنقاش والتحليل والتفصيل في المبحث الثاني من هاته الدراسة بإذن الله .
المبحث الثاني : إلغاء عقوبة الإعدام بين مؤيد ومعارض :
إن ما ينبغي الإشارة إليه في هذا الصدد هو ظهور نوع من الصراع الشرس بين فريقين أساسيين فريق يرفض بشدة التعطيل النهائي لتطبيق عقوبة الإعدام ، وفريق ثان يسعى جاهدا من أجل إقناع الجميع بضرورة وحتمية إلغاء هاته العقوبة في أقرب الآجال ، وبطبيعة الحال فكل فريق منهما حاول تعضيد وجهة نظره بمجموعة من الحجج والمبررات ، وفيما يلي استعراض لهاته الاتجاهات المتصارعة مع مناقشتها :
أولا : الفريق الرافض للإلغاء النهائي لعقوبة الإعدام وحججه :
في الحقيقة لقد اتفق العديد من فقهاء الشرع الإسلامي والقانون المغربي على الرفض التام للإلغاء النهائي لعقوبة الإعدام ودافعوا عن رأيهم هذا بمجموعة من الحجج ، وفي هذا الصدد ذكر الأستاذ مصطفى أحمد الزرقا بأن كل العقوبات غير المتكافئة مع جريمة القتل العمد الفظيعة من حبس أو تغريم أو غيرها إنما تسهل ارتكابها لاطمئنان المجرم إلى أنه سيكون في النهاية سليما رائعا ممتعا ، كما أنها تبقي في النفوس حزازتها فتحمل أهل القتيل على تبييت فكرة الانتقام، فتكون للجناية ذيول جرارة ، وقد كان في الجاهلية قتل شخص واحد يؤدي إلى إفناء قبائل بأسرها ثارا ، فجاء نظام القِصاص علاجا شافيا واقعيا مانعا من كل تجاوز.
وفي هذا الإطار ذكر الدكتور يوسف القرضاوي بأن الذين يدعون إلى إلغاء عقوبة الإعدام هم يسعون إلى تعطيل حكم مفروض من أحكام الدين ، فمعلوم أن القِِِِِصاص مفروض في الإسلام بمقتضى قوله تعالى :” يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القِصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم . ولكم في القِصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون ” ، فيا عجبا لمن يرأفون بالقاتل المجرم ولا يرأفون بالمقتول وأهله ؟
هذا وفي نفس السياق شدد الدكتور محمد يسف الكاتب العام للمجلس العلمي الأعلى على ضرورة الإبقاء على عقوبة الإعدام واعتبرها شأنا دينيا بحيث قال بصريح العبارة : ” …والذي يثير الشفقة حقا هو أن يعلن بعضهم – دون حياء من الناس ولا خوف من الله – أن قضية الإعدام لا شأن للدين بها ، أما يعلم هذا أن من أزهق روحا بغير حق ، فهو بمثابة من أزهق أرواح البشر جميعا، أما يسمع قول الله تعالى : ” ولكم في القِصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون .
أما الدكتور مصطفى بنحمزة رئيس المجلس العلمي بوجدة فهو بدوره ضم صوته إلى صوت جميع الفقهاء الرافضين للإلغاء النهائي لعقوبة الإعدام ، وذهب إلى أن الأصل في الجزاءات والعقوبات المترتبة عن الأفعال التي يجرمها التشريع أن تكون قادرة على حماية المجتمع وصيانته من الجريمة ، واعتبارا لهذا القصد رتب الشارع على القتل العمد أن يقتل القاتل إلا إذا عفى أولياء القتيل أو رضوا بالدية ، وأكد بأنه إذا كانت في عقوبة الإعدام شدة فالقاتل هو الذي اختارها وقبل بها حين أقدم على فعلته .
هذا من جهة ومن جهة ثانيا ذكر الدكتور مصطفى بنحمزة بحكمة الإسلام المعهودة وأكد بأن الشرع يدعو إلى مواجهة القاتل بفعله ، ولا يجيز أنواع القتل التي يمكن أن يتعرض لها الإنسان بسبب مواقفه السياسية أو اختياراته الفكرية، وهذا ما أكده الدكتور أحمد الخمليشي مدير دار الحديث الحسنية ، فهو لا يرى جدوى من وراء الإلغاء الكلي لعقوبة الإعدام ،بحيث يعتبر أن جرائم الرأي مثلا سواء تتعلق بالسياسة أو الدين أو الإيديولوجيا ، لا ينبغي أن تكون فيها عقوبة الإعدام ، عكس جرائم أخرى تهدر فيه الأرواح البشرية بقسوة وفظاعة ، فلا يمكن إلا أن يعاقب مرتكبوها بالإعدام ، وبالتالي فالإلغاء الكلي لهذه العقوبة فيه إفراط فيما يسمى حقوق الإنسان ، كما أن مقولة ” يجب أن يصلح الجاني لا أن ينتقم منه ” فيها نوع من المبالغة ، فهناك جانبان في المسألة جانب الإصلاح وجانب الردع ، ولا يمكن البتة إلغاء عقوبة الإعدام في حالة بعض قتلة الأطفال أو السفاحين بدعوى قداسة الحياة ، لأنه حتى أولئك الضحايا لهم الحق في الحياة ، وليس عدلا أن تتم حماية بعض المجرمين المفسدين تحت غطاء حقوق الإنسان ، وهذا الأمر هو ما أكده المحامي مصطفى الرميد بحيث نبه إلى ضرورة الإيمان والاعتراف بأن هناك بعض الجرائم الفظيعة يستحق أصحابها الإعدام ولا شيء غير الإعدام ، وعلى سبيل المثال لا الحصر السفاح الحقير الذي قام باغتصاب مجموعة من الأطفال الصغار الأبرياء وقتلهم وتشويه جثتهم بمدينة تارودانت ، فمثل هذا المجرم وغيره لا يستحقون عقابا غير الإعدام ، شريطة تمتيعهم بأقصى ضمانات المحاكمة العادلة .
أما الدكتور جلال أمهمول أستاذ القانون الجنائي فقد عارض بدوره وبشدة إلغاء عقوبة الإعدام من المنظومة الجنائية ، وقد أكد بمجموعة من الأدلة الدامغة على أن إلغاء هاته العقوبة سيؤدي لا محالة إلى اختلالات في المجتمع عموما وفي المنظومة الجنائية التي تنبني على نوع من التوازن والتناسب بين الجريمة والعقوبة ، فبقدر ما تكون الجريمة خطيرة ، بقدر ما تكون العقوبة قاسية ،وإلغاؤها سيؤدي إلى أن تكون جميع الجرائم المعاقب عليها بالإعدام معاقبا عليه بالسجن المؤبد ،وينتج عن ذلك أن الجرائم التي يعاقب عليها بالسجن المؤبد ينبغي أن تتحول عقوباتها إلى السجن المحدد ، وهذا ما سيؤدي إلى اختلال في المنظومة الجنائية ، لكن دعاة الإلغاء لا يريدون الدخول في هاته التفاصيل ، فهم يريدون النتيجة فقط وهي إلغاء عقوبة الإعدام ، ويتناسون بأن الإبقاء على هذا النوع من العقوبة تمليه الضرورة السياسية المتمثلة في حماية النظام العام ، والتصدي لكل ما يشكل خطرا على الأمن والاستقرار بهذا البلد العزيز.
عموما ومن خلال استعراضنا لبعض آراء ومبررات فقهاء الشرع الإسلامي والقانون المغربي الرافضة للإلغاء الكلي لعقوبة الإعدام ، يتضح بجلاء بأن أفكارهم تؤكد بأن القاتل هو الذي ورط نفسه في هذه العقوبة القاسية ولو شاء الإفلات منها ما كان ليقدم على فعلته الشنيعة هاته ، كما يلاحظ أيضا من خلال الاتجاه الفقهي المعارض للإلغاء النهائي لعقوبة الإعدام ، استماتة أنصاره في محاولة ضمان حق المجتمع في الدفاع عن نفسه ، لأن العقوبة هي وسيلته للدفاع عن قيمه ومبادئه وثوابته ، في وقت كثرت فيه الجرائم وتناسلت وتطورت في كل دقيقة وثانية .
لكن ما ينبغي الإشارة إليه هو أنه إذا كان بعض فقهاء الشرع والقانون يرون بأن في الإبقاء على عقوبة الإعدام فيه إحقاق للحق وضمان للعدل ، ويقفون بالمرصاد أمام جميع الأصوات الداعية إلى الإلغاء النهائي لهاته العقوبة ، فإن هناك اتجاها فقهيا آخر يرى عكس ذلك ، ويعتقد بأن في الإبقاء على هذه العقوبة القاسية مسا صارخا بحقوق الإنسان وعلى رأسها حق الإنسان المقدس في الحياة ، وهم يدافعون عن وجهة نظرهم بمجموعة من الأدلة والمبررات ، وذلك ما سنفصله بإذن الله وقوته من خلال النقطة الثانية من هذا المبحث .
ثانيا : الفريق المؤيد للإلغاء النهائي لعقوبة الإعدام وحججه :
إن ما تجدر الإشارة إليه هو أنه إذا كان البعض يقف بالمرصاد أمام الإلغاء النهائي لعقوبة الإعدام ، فهناك فريق آخر يناضل من أجل إلغاء هذه العقوبة ، وفي هذا الإطار نجد بعض الجمعيات الحقوقية تطالب بإلغاء عقوبة الإعدام على اعتبار أنها تمس بمبدأ الحق في الحياة ، وأنها تشكل ضربا من الاعتداء على الجسد والعقل ، وأن الشخص المنفذ في حقه الإعدام يخضع لعقوبة لا إنسانية ، خاصة في غياب المحاكمة العادلة ، وفي وجود الأخطاء القضائية ، وحجة هؤلاء أن هذه العقوبة تستعمل لتصفية الخصوم السياسيين وتنفذ في حق الأطفال والمرضى العقليين ،وتدعو إلى اعتماد عقوبات بديلة بشرط ألا تكون حاطة من الكرامة الإنسانية ، ولا تتنافى مع حقوق الإنسان التي تنص عليها المواثيق الدولية ، وهذا ما صرح به العديد من أنصار هذا الاتجاه المؤيد للإلغاء النهائي لعقوبة الإعدام.
وفي نفس السياق تعتبر الأستاذة خديجة رياضي رئيسة الجمعية المغربية لحقوق الإنسان ، أن إلغاء عقوبة الإعدام هو مطلب إنساني قبل أن يكون جزءا من المواثيق الدولية لحقوق الإنسان ،وهو من الأمور التي أقرتها المنظومة الدولية خاصة في البروتوكول الملحق بالعهد الدولي الخاص بحقوق الإنسان ، وترى أيضا بأنها وسيلة تبين – حسب وجهة نظرها – أنها غير كافية لردع الجريمة ، ففي الغالب تكون كشكل من الانتقام ، كما أن الحكم بالإعدام في العديد من المرات يكون خاطئا وينفذ في حق الأبرياء ، فالإعدام عند الأستاذة خديجة رياضي هو جريمة مقننة في حق الإنسان.
أما الأستاذ إدريس ولد القابلة رئيس تحرير صحيفة المشعل فهو ينحو نفس المنحى السابق ،ويرى –حسب وجهة نظره الشخصية -بأن الدعوة لإلغاء عقوبة الإعدام هو ليس دفاعا عن مرتكبي الجرائم ، ولكنه منع لمعالجة الجريمة بجريمة أقسى وأبشع منها، ويرى أن هاته الدعوة لا تتناقض مع رأي الشريعة الإسلامية والتي وإن كانت قد أقرت تلك العقوبة لكنها فضلت عقوبة أخرى عليها وهذا ما نصت عليه الآية الكريمة:” يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القِصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ” ، ففي هذه الآية يتبين أن بديل عقوبة الإعدام يكون في أداء الدية ، إذا ما عفا أولياء المقتول عن القاتل وأسقطوا حقهم في القِصاص .
هذا وقد واصل المناهضون للإبقاء على عقوبة الإعدام دفاعاتهم المستميتة من أجل تفعيل حقيقي لهذا الإلغاء ، مستدلين بمجموعة لا متناهية من الأدلة والحجج التي يرون حسب وجهة نظرهم الشخصية بأنها دامغة ومقنعة ، وفي هذا الصدد ذكر الأستاذ محمد بوبكري بأن إلغاء عقوبة الإعدام هو تجسيد للشرعية الدولية وحقوق الإنسان وطالب في هذا الصدد بالدعوة إلى ضرورة استقلال القضاء ، بحيث يرى بأن غياب استقلال القضاء في كثير من الدول العربية تنتج عنه في كثير من الأحيان تجاوزات في إصدار الأحكام القضائية بما في ذلك الأحكام المتعلقة بعقوبة الإعدام ، الأمر الذي يشكل مؤيدا قويا للمطالبة بإلغاء هذه العقوبة .
بينما يبرر آخرون سبب دعواتهم المتكررة للإلغاء النهائي لعقوبة الإعدام في أنها لا تناسب إلا الأنظمة الديكتاتورية والاستبدادية ، فالدول التي تسودها مبادئ الديموقراطية والحرية لا مجال فيها لاستخدام عقوبة الإعدام لأغراض تصفية الحسابات السياسية ، كما أكدوا بأن هاته العقوبة القاسية لا تحقق العدالة و لا الردع و لا التخفيف من الإجرام ، فقد أكدت الدراسات التي أجريت على مستوى الأمم المتحدة بأن إلغاء الإعدام في الدول التي أقدمت على ذلك لم ينجم عنه ارتفاع في معدل الجريمة ، بالإضافة إلى انخفاض ملحوظ في الأحكام الصادرة بالإعدام .
والحقيقة وبعد استعراض نماذج من أراء الاتجاه المناهض لإلغاء عقوبة الإعدام ودون الدخول في مناقشة جميع الآراء، يتضح مبالغة البعض في اعتبار هذه العقوبة جريمة قاسية في حق الإنسانية ، هذا فضلا عن أنهم كانوا أرحم بالقاتل المجرم من المقتول وذويه ، وهذا أمر أبعد عن العدل والمساواة ، فالقاتل عندما واجه عقوبة الإعدام فهو الذي ألزم نفسه بها عندما أقدم على فعلته الشنيعة ، ولو شاء النجاة من الموت ما كان ليقدم على جرمه الخطير هذا ، وليس من المنطقي والمعقول أن ننادي بحماية بعض المجرمين المفسدين تحت غطاء حقوق الإنسان والشرعية الدولية ، فالمجتمع بحاجة إلى تطهير من جميع الشوائب التي تعكر صفو عيشه الكريم ، هذا من جهة ومن جهة ثانية ليس من المنطق الاستدلال بانخفاض معدل الجريمة في بعض البلدان التي أقدمت على إلغاء عقوبة الإعدام ، والتي تختلف عن البيئة والتقاليد المغربية بشكل كلي ، فكل النتائج التي تحققت في هذه البلدان ليست بالضرورة هي نفسها التي ستتحقق بالمغرب الذي يملك ظروفا وبيئة خاصتين ويدين ولله الحمد بالإسلام.
خاتمة :
وصفوة القول حول قضية الإلغاء النهائي لعقوبة الإعدام ، بين أحكام الشرع الإسلامي والقانون المغربي ، لابد من أن نذكر الغافل برأي الشريعة الإسلامية السمحة في هذا الموضوع ، فديننا الحنيف بالرغم من أنه قرر إعدام القاتل العمد إلا أنه رغب في العفو وحث عليه وترك بابه مفتوحا أمام أولياء القتيل فلهم العفو عن القاتل أو قبول الدية مصداقا لقوله تعالى ” فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ” وهذا الحكم الشرعي في غاية الأهمية فلا ينبغي علينا أن نتناسى حقوق القتيل و أوليائه ، فإن عفى ولي الدم عن القاتل عن طيب خاطر وقبل الدية فذلك أمر محمود وكلنا نتوق إليه، لكنه إن أبى عن العفو فهو إذاك يطالب بحق شرعي من حقوقه و هو لا يطالب بأكثر من حقه ، لأنه إن لم يقتص من القاتل فذلك سيؤدي إلى انتشار فوضى الثأر والانتقام في المجتمع ،فمن قتل له شخص واحد قد يقتل في مقابله قبيلة بأكملها والتاريخ خير شاهد على ذلك،والحقيقة وبعيدا عن عقوبة الإعدام في جرائم القتل العمد لابد من التأكيد على أن التفكير في تعطيل هاته العقوبة عموما من بعض الجرائم ممكن في جرائم الرأي وسواء كانت تتعلق بالسياسة أو الدين أو الإيديولوجيا ،خصوصا وأن الإسلام بسماحته وحكمته المعهودة لم يجز قط إعدام إنسان بسبب مواقفه السياسية أو بسبب اختياراته الفكرية أما الحديث عن الإلغاء الكلي لعقوبة الإعدام من جميع الجرائم بما فيها جرائم القتل العمد فهو حقا أمر غير مقبول على الإطلاق وانحراف خطير عن جادة المنطق والصواب ، ولا أظن بأن هذا الإلغاء سيكون حلا جذريا و رادعا للمجرمين ،فالكل يتابع عن كثب التطور الخطير للجريمة الذي تشهده بلادنا ففي كل دقيقة وثانية تظهر أنواع كثيرة من الجرائم الغريبة والعجيبة التي لم نكن نسمع عنها قط، بل إن الجريمة أصبحت اليوم إلكترونية أيضا ، والمجرمون أصبحوا يتفننون في القتل وسفك الدماء و في النهب وقطع الطريق ، ويبدو أننا إذا ما ألغينا عقوبة الإعدام -لا قدر الله – فذلك سيكون ضربة قاضية لحق المجتمع في الدفاع عن نفسه ، بل وانتصارا لإرادة المجرمين والمنحرفين الخبيثة ، وسيسود قانون واحد لا ثاني له ، ألا وهو قانون الغاب ، بحيث ستكون إذاك الغلبة للأقوى والأشرس، عافانا الله وإياكم من ذلك و أرجعنا إلى جادة الرشد والصواب.