المبادئ العامة للتدابير الوقائية
ظلت العقوبة لحقبة طويلة من الزمن الصورة الأساسية إن لم تكن الوحيدة للجزاء الجنائي. ومع تطور الفكر العقابي تبث عجز العقوبة عن القيام بالدور المنوط بها والذي يتجلى في الحد من ظاهرة الإجرام والقضاء عليها داخل المجتمع، مما أدى إلى ظهور ما يسمى بالتدابير الوقائية على يد المدرسة الوضعية كنظرية، أي أن التدابير كانت من قبل ظهور المدرسة الوضعية. وبذلك لم يعد الهدف من الجزاء الجنائي هو إيلام المجرمين المحكوم عليهم والانتقام منهم، بل غدا ذلك الهدف متمثلا في فكرة إعادة تأهيل هؤلاء المحكوم عليهم وإدماجهم في المجتمع.
وللوفاء بهذه الأهداف الجديدة في مجال العقاب ظهرت كما سبق القول فكرة التدابير الوقائية التي تتميز ببعض الخصائص ولتطبيقها يجب أن تتوفر بعض الشروط كما أنها تخضع لضمانات وقواعد قانونية. هذه التدابير لا تهدف إلى إيلام المجرم والانتقام منه كما هو الشأن بالنسبة للعقوبة وإنما تهدف إلى إصلاح المجرم وإعادة تكييفه مع المجتمع ومساعدته على الانخراط والاندماج من جديد في حظيرة المجتمع.
إذن سنعمل من خلال هذا الفصل الأول على بيان ماهية هذه التدابير وتطورها التاريخي وذلك في (فرع أول)، ثم بيان خصائصها وشروطها، وكذلك الضمانات والقواعد القانونية التي تخضع لها هذه التدابير في (فرع ثاني).
الفرع الأول : ماهية التدابير الوقائية وتطورها التاريخي
المبحث الأول : ماهية التدابير الوقائية
اختلف الفقهاء في شأن الطبيعة القانونية للتدابير الوقائية وكان هذا الموضوع مثارا لتضارب الآراء نظرا للصراع القائم بين الاتجاهات المذهبية في السياسة الجنائية لتحديد طبيعة العقوبة( ). وكان من المتعين اتخاذ موقف لتحديد المدلول القانوني للتدابير الوقائية، وما إذا كانت جزاء جنائي تتحقق له جميع صفات الجزاء الجنائي، أو أنه مجرد إجراء أو معاملة أو إعادة تأهيل، وقد انعكس هذا الخلاف على طبيعة التدابير الوقائية أيضا، فيرى جانب من الفقه أنها تدابير ذات طبيعة قضائية، ويرى جانب آخر أنها إجراءات إدارية. ويترتب على هذا الخلاف الأخير تحديد خضوعها لنطاق قانون العقوبات أو القانون الإداري( ). ويذهب الرأي الراجح في الفقه إلى أن التدابير الاحترازية جزاء جنائي، كما أنها ذات طبيعة قضائية وتخضع بالتالي لقانون العقوبات، كما يلاحظ أن هناك تعدد في التسميات التي أعطيت لهذه التدابير وأيضا في التعريفات. وسوف نبرز ذلك من خلال التطرق إلى تعريف التدابير الوقائية (مطلب أول) وإلى أهمية هذه التدابير (مطلب ثاني) وطبيعتها (مطلب ثالث).
المطلب الأول : التعريف بالتدابير الوقائية
أعطيت للتدابير الوقائية عدة تعريفات لكن قبل التطرق إلى هذه الأخيرة لابد من الإشارة إلى أن هناك اختلاف حول تسمية هذه التدابير فهناك من يطلق عليها التدابير الاحترازية ومن التشريعات التي تسير في هذا الاتجاه نذكر مصر ولبنان والأردن وهناك من يطلق عليها تدابير الأمن وهناك من يطلق عليها اسم التدابير الوقائية، وقد صار المشرع المغربي في هذا الاتجاه وهذا ما يلاحظ من خلال الفصل الأول من القانون الجنائي المغربي. أما بالنسبة للتعريفات فهناك عدة تعريفات ومن بينها التعريف الذي قال إن التدبير الوقائي هو معاملة فردية قسرية ينص عليها القانون لمواجهة الخطورة المتوافرة لدى الأفراد للدفاع عن المجتمع ضد الجريمة. فهو معاملة فردية تنزل بشخص معين بعد أن تثبت خطورته على المجتمع لتحول دون إجرامه( ) وتوصف كذلك بأنها قسرية وقانونية( ).
ويوضح هذا التعريف الخصائص الأساسية للتدبير الوقائي في أنه مجموعة من الإجراءات تقتضيها مصلحة المجتمع في مكافحة الإجرام، ومن ثم كان لها طابع الإجبار والقسر، فهي تفرض على من ثبت أنه مصدر خطر على المجتمع، ولا يترك الأمر فيها إلى خياره ولو كانت تدابير علاجية، أو أساليب مساعدة اجتماعية يستفيد منها من توقع عليه، ومصدر الالزام والإجبار أن الهدف الأخير للتدبير هو حماية المجتمع من الظاهرة الإجرامية، وليس من المنطق أن يكون تحقيق هذه المصلحة مرتهنا بمشيئة فرد، وقد لا تلتئم هذه المشيئة مع تلك المصلحة( ). فهناك تعريف آخر يعرف التدابير بأنها وسائل للحماية والوقاية لمنع خطورة المجرم من احتمال عودته إلى ارتكاب جريمة في المستقبل( ).
ويعرفها البعض الآخر بأنها جزاء جنائي يستهدف مواجهة الخطورة الإجرامية الحالية لدى الأشخاص لدرئها عن المجتمع، ويرى أنصار هذا التعريف أنه يتعين بيان أنه جزاء جنائي يتخذ في مواجهة الحالات التي ينزل بها التدبير قبل ارتكاب الجريمة وليس قاصرا على المجرم، وأن تعريف التدابير الوقائية بأنه ينزل بأحد الأشخاص وليس الأفراد يجعله يشمل الأشخاص المعنوية أيضا( ).
ويرى البعض أنه يمكن تعريف التدابير بأنها مجموعة من الإجراءات القضائية صادرة ضد الأشخاص الطبيعيين والاعتباريين والأشياء لمواجهة الخطورة الإجرامية التي تتواجد لديهم إذا ما ارتكبت جريمة من أجل الدفاع عن المجتمع( ).
هذه جملة من التعاريف التي أعطيت للتدابير الوقائية، أما بالنسبة للمشرع المغربي ومن خلال تصفح النصوص القانونية المنظمة للتدابير الوقائية وذلك ما بين المادة 61 إلى المادة 104 من القانون الجنائي المغربي يلاحظ أنه لم يقم بتقديم تعريف لها، ويمكن تقديم تعريف لها وذلك من خلال الخصائص التي تميزها، هذا التعريف يمكن تلخيصه فيما يلي : بأنها نظام قانوني يرمي أساسا إلى حماية المجتمع من الخطر الكامن في بعض الأفراد الذين أصبحوا بحكم استعدادهم الإجرامي مهيئين أكثر من غيرهم لارتكاب ما من شأنه أن يؤدي إلى الاضطراب الاجتماعي، كالمجانين والعائدين والأحداث، ويكون ذلك إما بالتحفظ عليهم وإما بعلاجهم وإما بتهذيبهم وإصلاحهم بقصد إعانتهم على استرداد مكانتهم وإدماجهم من جديد في المجتمع.
فالتدبير إذن لا يعتبر عقوبة يجب إيقاعها على الشخص بسبب ارتكابه لأحد الأفعال المخالفة للقانون الجنائي والتي تعد جريمة كما هو الأمر بالنسبة لنظام العقوبة، وإنما يراد بها مواجهة ما قد يصدر عن الشخص من خطر في المستقبل وجرائم. فالمجنون مثلا الذي يرتكب جريمته وهو في حالة جنون لا يمكن معاقبته من الناحية الجنائية لانعدام مسؤوليته الجنائية ولكن يجوز الحكم بوضعه في مؤسسة لعلاج الأمراض العقلية لمدة غير محددة تنتهي حتما بشفائه والغاية من هذا الوضع بالأساس حفظ المجتمع مما قد يرتكبه هذا الشخص غير الممكن مساءلته من جرائم قد ارتكبها وبالتالي سوف يتم الحد من هذه الخطورة. إذا كان هذا هو تعريف التدابير الوقائية فأين تتجلى أهميتها ؟ وهذا ما سنتطرق له في المطلب القادم.
المطلب الثاني : أهمية التدابير الوقائية
<–SS– type=text/–SS–>// < ![CDATA[ google_ad_client = “pub-9798252250438997”; /* 300×250, date de création 29/09/09 */ google_ad_slot = “1011142806”; google_ad_width = 300; google_ad_height = 250; // ]]>
<–SS– type=text/–SS– src=”http://pagead2.googlesyndication.com/pagead/show_ad s.js”>
سبقت الإشارة إلى أن التدابير الوقائية تعد الوسيلة الثانية للسياسة الجنائية في مكافحة الإجرام، وذلك إلى جانب العقوبة والتي ظلت أي هذه الأخيرة وقتا طويلا الوسيلة الواحدة في مجال محاربة الظاهرة الإجرامية وذلك عبر حقب طويلة من الزمن. غير أن قصور العقوبة في مواضع متعددة عن أداء وظيفتها الاجتماعية، مما اقتضى البحث عن نظام يحل مكانها في هذه المواضع، أو يقف إلى جانبها لكي يساندها ويضيف إليها ما تفتقده من فاعلية، ويتجلى قصور العقوبة في تحقيق هدفها والمتمثل في تطهير المجتمع من آفة الإجرام في مواضيع عدة من بينها حالة انعدام المسؤولية الجنائية كالشخص المجنون الذي يرتكب عدة جرائم فلا يمكن توقيع العقوبة وذلك بسبب انعدام مسؤوليته الجنائية أي انعدام الركن المعنوي للجريمة، ومن خلال هذا القصور تبرز أهمية التدابير الوقائية والتي يمكن تطبيقها أي هذه الأخيرة على الحالة السابقة وكذلك في مواضع أخرى تبدو غير كافية العقوبة فيها لمواجهتها وذلك مثل الخطورة الإجرامية كحالة معتاد الإجرام فلو اكتفى المشرع بالعقوبة وحدها لعجز عن مكافحة الإجرام، ومن ثم كان التبرير الحقيقي للتدابير هو سد مواضع الثغرات والقصور في نظام العقوبة وهذا لا يعني الانتقاص من قيمة العقوبة التي تظل الأساس الأول في مواجهة ومكافحة الظاهرة الإجرامية. كما تتجلى أهمية التدابير الوقائية في أنها تحرص على حماية الحريات العامة فأغلب هذه التدابير لا مفر للمجتمع من اتخاذها، لأنها الوسيلة الوحيدة لوقايته من خطورة لاشك فيها وذلك مثل تدبير إيداع المجانين في مؤسسة للعلاج. وبذلك فإن التدابير تسعى إلى إعادة إدماج الجانحين من عديمي المسؤولية والمعتادين داخل المجتمع فالتدبير الذي يضع المجنون في مستشفى للعلاج لا يقصد به المشرع معاقبة هذا المجنون وذلك بإيلامه عن الجريمة التي ارتكبها سابقا وإنما المقصود به التحفظ عليه وعلاجه إذا أمكن وهكذا بالنسبة لباقي أنواع التدابير الأخرى والتي وإن كان تنفيذها في حق الشخص قد يؤدي إلى إيلامه بعض الأحيان إلا أن هذا الإيلام غير مقصود لذاته وإنما المقصود منه هو اتقاء خطورته والتحفظ عليه أو علاجه بالدرجة الأولى وحماية المجتمع من الخطورة الإجرامية الكامنة فيه، جاء في مذكرة تقديم مجموعة القانون الجنائي لسنة 1962 “تعتبر التدابير الوقائية من بين أهم ما استحدثه القانون الجنائي وما استعاره من التشريعات المعاصرة، إذ تهدف مقتضياته إلى تفادي الخطر الاجتماعي الكامن في بعض المجرمين كما تتضمن كذلك، وهذا يتجلى من اسمها إما تدابير للحماية الفردية وإما وسائل للدفاع، وإذا كان أكثر هذه التدابير يوافق عقوبات إضافية سبق التنصيص عليها في القوانين السابقة، فإن البعض منها يعتبر حديثا”( ). من هنا إذا تتجلى أهمية التدابير الوقائية والتي يجب الاعتناء بها حتى تحقق الأهداف المرجوة منها.
المطلب الثالث : طبيعة التدابير الوقائية
اختلف الفقهاء بشأن طبيعة التدابير الوقائية وذلك من ناحية هل يمكن اعتبارها جزاء جنائي أم أنها مجرد إجراء أو معاملة أو إعادة تأهيل (أولا) ومن ناحية أخرى هل تعتبر تدابير ذات طبيعة قضائية أم أنها ذات طبيعة إدارية (ثانيا).
أولا : التدبير الوقائي جزاء جنائي
اختلف الفقه الجنائي فيما إذا كان للتدابير الوقائية صفة الجزاء الجنائي أو لا وذلك إلى اتجاهين :
الاتجاه الأول : يرى أن التدابير الوقائية ليس لها صفة الجزاء تأسيسا على أن العقوبة جزاء رادع يطبق بعد ارتكاب الجريمة وليس لمنع ارتكاب جرائم جديدة، والعقوبة لا تدافع ولا تعالج ولا تكيف بل تعاقب، أما التدابير الوقائية فهي على العكس إجراءات مانعة تطبق بعد ارتكاب الجريمة ولكن ليس بسبب الجريمة ولا تهدف إلى الجزاء ولكن منع الخطر، ولهذا فإن التدابير ليست ألم، بل إجراء يؤدي إلى جعل الجاني الخطر في موقف يستحيل معه الضرر أو زيادة هذا الضرر، ومن ثم فإن العقوبة والتدابير الوقائية تمثلان قطاعان متوازيان ومتقابلان في مجال القانون الجنائي بالمعنى الواسع، فالعقوبة تحقق القانون الرادع، أما التدابير فتحقق القانون المانع( ).
فهذا الاتجاه يرى أن التدابير الوقائية ليس جزاء، إذ أن أهم ما يميز الجزاء أنه تعبير عن لوم الشارع، ومن ثم كان مفترضا مسؤولية من يوقع عليه ذلك أن الجزاء يفترض أمرا أو نهيا يعيه من يوجه إليه، ويستطيع الامتثال إليه ولذلك ينتظر منه المشرع ذلك فإذا خالفه كان جدير باللوم وكان الجزاء الذي يوقع عليه هو التعبير القانوني عن هذا اللوم، وليس التدبير الوقائي كذلك إذ يتجرد من معنى اللوم والجزاء فلا يستهدف مقابلة خطأ، وإنما مجرد مواجهة خطورة فهو مجرد أسلوب دفاع اجتماعي، ومن ثم كان متصورا اتخاذه إزاء أشخاص غير مسؤولين كالمجانين ومن وضعتهم الظروف الاجتماعية في حالة خطرة كالمتشردين والمتسولين( ). وهذا هو التبرير الذي اعتمده هذا الاتجاه وقد أيد الفقيه “روكس” هذا الاتجاه بقوله إن التدابير أكثر اتساعا من فكرة العقوبة، ولذلك فإن التدابير الوقائية ليست جزاء أخلاقيا لخطأ، ولكن طبيعة العقوبة في الإيلام والزجر على خلاف طبيعة التدابير التي تتجرد من إلحاق ضرر بالجاني وإيلامه، أي أن التدبير لا يتضمن عناصر التهديد والإيلام، وردع الغير ذلك أن أسلوب التدبير يتمثل في حماية المجتمع من خطورة محتملة( ).
وينتهي الفقيه “بترو سيلي” إلى ذات النتيجة، وإن كان يؤسس رأيه على تقسيم التدابير إلى تدابير جزائية وغير جزائية، والتي يمكن اختصارها إلى عقوبات وتدابير، وتتضمن التدابير الجزائية أو العقوبات تهديد بوضع قيود على النشاط القانوني للفرد الذي يتمتع بالأهلية، وتوجب كذلك استخدام إكراه نفسي يؤدي إلى إلزام هذا الفرد باحترام القاعدة القانونية الآمرة، وتوقع العقوبات بعد ذلك العصيان وبسببه. أما التدابير غير الجزائية فهي التي تقرر إسباغ الحماية على الشخص بلا اشتراك لإرادته في ذلك وحيث لا توجه إليه القاعدة القانونية. وعلى هذا فإن جميع التدابير الدفاعية هي تدابير غير عقابية، وبالتالي فإن التدابير الجزائية هي العقوبة، والتدابير غير الجزائية هي التدابير الوقائية( ). وهذا الاتجاه هو السائد في الفقه الإيطالي ويستند أنصار هذا الاتجاه إلى الحجج والأسانيد الآتية :
ـ أن الصراع ضد الجريمة لا يقتصر على استخدام العقوبة لأنه سيظل هناك مجرمون خطرون حتى بعد تنفيذ العقوبة عليهم، كما سنجد مجرمين غير معاقبين ولا يمكن معاقبتهم ولكنهم خطرين.
ـ أن لكل من العقوبة والتدابير الوقائية تنظيم خاص به، فالعقوبة هدفها الردع والتدابير الوقائية هدفها المنع، والعقوبة دائما رادعة وتنسب إلى الجريمة التي وقعت وحيث لا يوجد جزاء لا يوجد عقاب.
ـ أن التدبير يتجه إلى المستقبل ليواجه احتمالا قد ينطوي عليه، ويعني ذلك أنه لا يتجه إلى الماضي فليس من أغراضه أن يكون حسابا للجاني من أجل سلوك إجرامي صدر عنه وليس من شأنه أن يكون جزاء عن جريمة ارتكبت فعلا.
ـ أن مهمة المشرع لا تقف عند وضع جزاءات، وإنما تتضمن في المقام الأول تحديد الحقوق والمصالح الجديرة بالحماية الجنائية، وبيان عناصرها ورسم نطاق الحماية التي يسبغها عليها، وحين يفرغ من ذلك يحدد الجزاء الجنائي للاعتداء على هذا الحق أو المصلحة.
الاتجاه الثاني : يذهب إلى أن التدابير الوقائية لها صفة جزائية تأسيسا على أن الوظيفة الوقائية للتدابير وإن كانت تختلف بالطبع عن وظيفة العقوبة التي يناط بها أساسا الردع إلا أنها لا تحول دون اعتبار التدابير من قبيل الجزاءات الجنائية خاصة وأنه لا يوجد في التشريع ما يمنع من قبول تعريف واسع لفكرة الجزاء يشمل الجزاء الرادع، والجزاء الوقائي، وعلى ذلك فإن الجزاء الجنائي إما عقوبات وإما تدابير وقائية( ).
ويرى “أنتروليزي” أن التدابير الاحترازية هي عقوبات جزائية ذلك لأنها تفترض وقوع فعل مخالف لقواعد النظام القانوني المعمول به، وهذه التدابير ما هي إلا رد فعل على هذا السلوك ذاته، وبالرغم من أن للتدابير الوقائية وظيفة مانعة على خلاف العقوبة التي لها وظيفة رادعة فإن ذلك لا يمنع الباتة من أن تكون التدابير عقوبات جزائية( ).
ويرى “مارك آنسل” أن التدابير لها صفة الجزاء الجنائي، فالعبرة عنده بالجزاء الجنائي سواء كان عقوبة أو تدبير، ولا خلاف بين الاثنين من الناحية الجزائية، وأن الدور الذي يقوم به القاضي الجنائي في العقوبة واحد وهو مجرد عمل اجتماعي من أجل تقويم المجرم واستعادته إلى حظيرة المجتمع، ويضيف “آنسل” بأن المقابلة بين العقوبة والتدابير لا تفهم إلا بالتمييز بين من يمكن إسناد الأفعال إليهم، ومن لا يمكن ذلك بالنسبة لهم، وبين المسؤولين وغير المسؤولين، ويرتب على ذلك أنه لا يوجد مبرر للتمييز النظري المجرد بين العقوبة والتدبير لأن العبرة بالمحتوى الذي يهدي إلى معالجة المجرم اجتماعيا وأنه يجب أن تندرج التدابير والعقوبات في نظام موحد للدفاع الاجتماعي حيث لا توجد عقوبات ولا تدابير بل جزاءات غير مسماة، والتي ستكون مستوحاة بواسطة معايير نفسية واجتماعية وأخلاقية( )، كما أن الذي يهم الدفاع الاجتماعي ليس هو اسم الجزاء وإنما مضمونه الذي يجب أن يتجه إلى علاج المحكوم عليه( ).
ويستند أنصار هذا الرأي الذي يرى أن للتدابير الوقائية صفة الجزاء إلى الأسانيد الآتية :
ـ أن التدابير جزاء جنائي يجري تطبيقه عملا بإخضاع المحكوم عليه لطبيب جسماني أو نفسي أو لمحض إجراء تحفظي. وهو جزاء جنائي لأن فيه انتقاص من حق المحكوم عليه( ).
ـ أن تدابير التقويم التي فرضها المشرع لمن يجرم من الأحداث كالوضع في مؤسسة إصلاحية والتوبيخ وغيرها، الغرض منها تقويم الأحداث والأخذ بيدهم في الطريق المستقيم منعا لهم من المضي في انحرافهم، وهي تعتبر بمثابة جزاءات أصلية فرضها المشرع لمثل هؤلاء الأحداث( ).
ـ يعد التدبير الوقائي والعقوبة بمثابة الدعامتين اللتين ينبغي إقامة صرح لكل تعديل جنائي عليهما، ولذلك ينبغي بالضرورة تحديد دور هذين الجزائين الجنائيين في القانون الجنائي الحديث، وحيث يتطلب ذلك أن يكون الجزاء الجنائي صادرا من جهة قضائية وبعد ارتكاب جريمة( ).
ـ أن مباشرة إجراءات الدفاع الاجتماعي تتضمن فضلا عن العمل على إصلاح الفرد وإعادته إلى المجتمع صفة الجزاء على أساس أن إجراء التدبير يتضمن صفة الجزاء( ).
ـ تشكل بعض الجزاءات الجنائية في آن واحد عقوبات وتدابير احترازية كغلق المؤسسة، والتي تحقق غرضا واحدا هو مجازاة المتهم، وحماية العامة من منع تجدد الجريمة مستقبلا( ).
ـ أن كلمة الجزاء ذات معنى عام، فهي تشمل رد فعل مخالفة أي فرع من فروع القانون بيد أن كلمة العقوبة تفصح عن أشد جزاءات القانون ومن ثم تندرج التدابير تحت وصف الجزاءات.
ويلاحظ أن المشرع المغربي يسير في الاتجاه الذي يعتبر التدابير الوقائية جزاء جنائيا وذلك من خلال الفصل الأول من القانون الجنائي الذي يورد التدابير على جانب العقوبة وذلك باعتبارهما من الوسائل التي يعتمدها المشرع وذلك كجزاء عن مخالفة نصوص القانون الجنائي.
ثانيا : الطبيعة القضائية للتدابير الوقائية
اختلف الفقه الجنائي في تحديد طبيعة التدابير كما سلف الذكر وذلك ما إذا كانت ذات طبيعة قضائية أم ذات طبيعة إدارية.
الاتجاه الأول : إن التدابير الوقائية هي ذات طبيعة قضائية ويؤيد ذلك طابع الشرعية الذي يسود نظام التدابير، ولا يغير من هذه الطبيعة أن المشرع قد يصف أحيانا التدابير بكونها إدارية ذلك أن وصف المشرع لا يغير من حقيقة الأشياء، كما لا يغير وصف المتعاقدين من الطبيعة القانونية الصحيحة لتعاقدهم( ).
ويرى أنصار هذا الرأي في الفقه الإيطالي أن الأمر يحتاج إلى التفرقة بين الولاية القضائية والولاية الإدارية، إذ أن المعروف أن الصفة المميزة للولاية القضائية تتلخص في الحياد بين الطرفين، كما أن الجهاز المنفذ للولاية القضائية يقوم بحماية الحقوق الموضوعية من غير أن يكون طرفا ذا مصلحة فيها، بينما نجد أن الجهاز المخول له ممارسة الولاية الإدارية يعمل كصاحب للحق الشخصي بسبب تحقيق مصلحته الذاتية( ). ويستند أنصار هذا الرأي إلى المبررات الآتية( ) :
ـ أن تطبيق التدابير الاحترازية لا يمكن تصويره على أنه إجراء إداري والسبب في ذلك أن هذا التطبيق مخول للسلطة القضائية فقط، وفي حالة قيام القاضي بوظائف إدارية فهذه من الأعمال الاستثنائية.
ـ أن التشريعات الجنائية تتبع مبدأ الشرعية أيضا في نطاق التدابير الاحترازية، كما أن تقنين الإجراءات الجنائية يعالج التدابير الاحترازية بنفس الوسائل والأشكال الخاصة بالدعوى القضائية.
ـ أن من بين سلطات قاضي التنفيذ في القانون الإيطالي رخصة تطبيق وتعديل واستبدال وإلغاء الأحكام التي أعلن عنها قاضي الموضوع( ).
ـ أن التدابير الاحترازية ليست لها وحدها خصيصة عدم تحديد مدتها إذ توجد نظم أخرى تعرف عدم التحديد بالنسبة للعقوبة غير محددة المدة كما في الولايات المتحدة الأمريكية.
ـ أن التدابير جزء من قانون العقوبات ذلك لأن التقنين الجنائي قد نص عليها ونظمها، وأنها وسيلة من وسائل الكفاح ضد الجريمة.
الاتجاه الثاني : يرى الرأي الثاني في الفقه أن التدابير هي إجراءات من طبيعة إدارية، فقد قيل إن وظيفة القاضي الجنائي تتمثل في التعرف على الجزاء الجنائي المنصوص عليه في القانون وتطبيقه، فإذا تولى القاضي وظيفة مختلفة كما في حالة وقاية المجتمع من أخطار محتملة فإن عمله حينئذ لم يعد قضائيا بل أصبح إداريا( ).
ويستند أنصار هذا الرأي على الحجج والمبررات الآتية :
ـ من المعروف أن التدابير الاحترازية تهدف إلى منع وقوع ضرر اجتماعي، وحيث أن وظيفة منع الأضرار الاجتماعية الناتجة من نشاط الأفراد من اختصاص الشرطة، ونظرا لأن اختصاصات الشرطة تدخل في نطاق القانون الإداري، فالتدابير إذن إجراءات إدارية.
ـ أن التدابير الوقائية ليست بعقوبة، وتطبق على الأشخاص الذين لا تستند إليهم الأفعال المكونة للجريمة، فهي بذلك تدخل أيضا في نطاق قانون الشرطة لأن قواعده تمارس في حق هؤلاء الأشخاص السابق ذكرهم.
ـ تتصف التدابير بعدم التحديد، وهي الصفة التي تضم هذه التدابير إلى مجال العقوبات الإدارية التي تسود فيها قاعدة عدم التحديد الناتجة عن مناسبة العقوبة للضرر.
ـ أن التدابير الاحترازية ما عدا المصادرة قابلة للإلغاء والتعديل والاستبدال، كما أن مبدأ حجية الشيء المقضى به لا تسري في مواجهة التدابير الاحترازية حيث أن قاضي التنفيذ يستطيع الذهاب إلى عكس ما حكمت به محكمة الموضوع.
ويذهب الفقيه “بيتول” على القول بأنه إذا تأكد الطابع الإداري للتدابير فإنه ليس من الصعب إدماج التدابير في مهام الشرطة تلك المهام التي تهدف بحكم طبيعة الأشياء إلى الدفاع عن المجتمع ضد خطر أضرار اجتماعية( ).
ونرى أن التدابير الوقائية في التشريع المغربي هي ذات طبيعة قضائية، فهي تخضع لمبدأ الشرعية وتوقع بواسطة القضاء وهذا ما يتجلى من خلال تسمية بعض أنواع هذه التدابير مثل الوضع القضائي في مؤسسة للعلاج وأيضا الوضع القضائي في مؤسسة فلاحية وبالتالي فهي تخضع لإشراف السلطة القضائية التام.
اترك تعليقاً