مصطفى رفيق
باحث بسلك الدكتوراه
جامعة محمد الخامس
بالرباط
دور المصالحة في تسوية نزاعات الشغل الجماعية
مقدمة :
يتبوأ الشغل مكانة مهمة في حياة الفرد والمجتمع، وهذا راجع لكونه المصدر الأول لمعيشة الغالبية العظمى من الأفراد كما يعد محركا أساسيا لعملية البناء والتقدم وكذا تحقيق تنمية مستدامة. ولا يمكن تحقيق هذه التنمية إلا بوجود سلم اجتماعي، هذا السلم والذي من خلاله يمكن للجميع مواجهة المنافسة الدولية التي أضحت لا ترحم الضعيف.[1]
وإذا كان المشغل هو صاحب رأس المال ويساهم في خلق الثروة الوطنية باستثماره، واليد العاملة تساهم في إرساء وتقوية لبنات الاقتصاد الوطني، فإن ما يلفت الانتباه هو أن علاقات الشغل تميزت بصراعات حادة بين الأجراء والمشغلين، الذين دفعهم بحثهم المستمر لتحقيق الربح، إلى فرض ظروف عمل قاسية[2] مقابل أجور هزيلة، وضعية دفعت العمال إلى التكتل في شكل نقابات من أجل مواجهة جشع المؤاجر، وقد تمخض عن هذه الصحوة العمالية فرض مجموعة من التشريعات والقوانين والتي سعت إلى تنظيم سوق الشغل وضمان الحد الأدنى من الأجور، وغير ذلك من الإجراءات.
وتعد مدونة الشغل تتويجا للصراع بين الأجراء والمشغلين حيث سعت للتوفيق بين المصالح المتضاربة لأطراف عقد الشغل، ولعل أبرز ما سعت إليه مدونة الشغل بالإضافة لتسوية نزاعات الشغل الجماعية.
وحري بالبيان بأن نزاعات الشغل تولد في إطار علاقات مهنية بمناسبة أداء العمل ، إلا أنه يجب التميز في هذا الصدد بين نزاعات الشغل الفردية التي تنشب بين مشغل وأجير ، وبين نزاعات الشغل الجماعية التي تهم مجموعة من الأجراء والمنضويين تحت لواء نقابي من جهة ومشغل أو مجموعة من المشغلين أو منظمة مهنية للمشغلين من جهم أخرى .
والحديث عن نزاعات الشغل، يقودنا للحديث عن الإغلاق من جانب المشغلين والإضراب من جانب الأجراء، ورغم ما قد تحققه هاتان الوسيلتان من مكاسب، إلا أنها قد تؤدي بالمؤسسة أو المقاولة إلى الإفلاس وضياع المشروع مما يتولد معه تسريح اليد العاملة وهذا ما يولد أزمات ومشاكل اجتماعية صارخة[3].
وقد تغيرت وضعية الدولة من دولة حارسة إلى دولة متدخلة؛ بحيث أصبحت تلعب دورا متميزا في الحياة الاقتصادية والاجتماعية؛ وذلك بخلق فرص الشغل وسن التشريعات التي تحكم الحياة الاقتصادية وما تعرفه من معاملات وعلاقات اجتماعية.[4]
سعى المشرع من خلال مدونة الشغل[5]، لتكريس المقاربة التشاركية بين أطراف الإنتاج من أجل تحديث فضاء العلاقات الاجتماعية داخل المقاولة ، وبالتالي إحداث آليات ومساطر حديثة بالدرجة الأولى للحد من نزاعات الشغل الجماعية وتيسير حلها والحفاظ على مصالح أطراف العلاقة التعاقدية.
يجب الإشارة إلى أن المشرع خصص الكتاب السادس من مدونة الشغل لموضوع نزاعات الشغل الجماعية، وذلك من خلال المواد 549إلى585 من مدونة الشغل؛ حيث تطرق لمسطرتي المصالحة والتحكيم كآليتين لتسوية نزاعات الشغل الجماعية، نشير في هذا السياق إلى أن المشرع لم يتطرق لمسطرة الوساطة كآلية لتسوية نزاعات الشغل الجماعية، على غرار بعض التشريعات المقارنة واكتفى بالوسيلتين المذكورتين أعلاه.
تعتبر المصالحة الوسيلة الأولى لتسوية نزاعات الشغل الجماعية بواسطة هيئات المصالحة ، وقد تتالت الظهائر التي نظمت موضوع المصالحة والتحكيم وكذا مجموعة من مشاريع مدونة الشغل التي استغرقت أكثر من عشرين سنة أي من 1979 إلى 1999.[6]
وتبرز أهمية دراسة المصالحة كآلية لتسوية نزاعات الشغل الجماعية في كون هذه الوسيلة تعد من الوسائل الأكثر انتشارا في التشريعات المقارنة، وهذا ليس من باب الترف التشريعي أو التنظيري، وإنما لدواعي الحاجة والضرورة العلمية والعملية.
تتجلى أهمية دراسة هذا الموضوع، في كونه لم يحظ بالاهتمام الكافي من طرف الفقه المغربي وكذا المقارن، وهذا وحده يعد سببا كافيا لبحث هذا الموضوع والتصدي له بالدراسة والتحليل ، تثور إشكالية بخصوص موضوع دور المصالحة في تسوية نزاعات الشغل الجماعية حول مدى توفق المشرع في إقرار تشريع قوي يضمن استقرار علاقات الشغل بين المشغلين والأجراء وكذا تحقيق سلم اجتماعي وأمن قانوني؟
ولمعالجة هذه الإشكالية سنقوم بدراسة مجموع القواعد القانونية التي تسعى لتسوية نزاعات الشغل الجماعية بصفة نهائية، والتي تشكل في مجموعها المصالحة في نزاعات الشغل الجماعية.
على ضوء ما سبق سنتناول الموضوع من خلال:
المحور الأول : دور الأجهزة المتدخلة لتسوية نزاعات الشغل الجماعية
المحور الثاني : مسطرة المصالحة في نزاعات الشغل الجماعي
المحور الأول : دور الأجهزة المتدخلة لتسوية نزاعات الشغل الجماعية
إن السعي الحثيث لتحقيق سلم اجتماعي شامل وعادل، داخل المحيط المقاولاتي والمؤسساتي في ظل قانون للشغل، يبقى مطمح المشرع سواء المغربي أو المقارن، من خلال خلق آليات ومؤسسات وأجهزة تتولى الحلول السلمية لجميع مظاهر الانفلات والتشنج، التي تقع داخل محيط قانون الشغل، والتي بطبيعة المجال الذي يغطيه، تبقى هذه الإنفلاتات سهلة الوقوع؛ خصوصا ما لم تكن هناك أجهزة قادرة على التدخل السريع واحتواء ما من شأنه أن يعكر صفو علاقة الشغل بحكم تكوينها المتعدد[7]، ولعل وعي المشرع الكبير بتسوية نزاعات الشغل الجماعية، يعد سببا كافيا له لإقرار وسائل سلمية لحل نزاعات الشغل الجماعية وكذا المصالحة؛ وذلك عبر اللجوء إلى مفتش الشغل أو المندوب الإقليمي للشغل (الفقرة الأولى)، وفي حالة فشل هذا الأخير يتم اللجوء إلى اللجنة الإقليمية للبحث والمصالحة وكذا اللجنة الوطنية للبحث والمصالحة التي تحيل بدورها النزاع للجنة الوطنية للبحث والمصالحة.
الفقرة الأولى: دور مفتشية الشغل في المصالحة في نزاعات الشغل الجماعية
باستقراء المادة 551 من مدونة الشغل، نجد أنها قد أشارت لعدة مستويات للمصالحة، وقد أوكل المشرع المغربي، على غرار مجموعة من القوانين المقارنة[8]، مهمة المصالحة إلى هيئات متعددة بالنظر إلى رقعة النزاع، فإذا كان الخلاف يشمل أكثر من مقاولة، فإن محاولة التصالح أمام المندوب الإقليمي المكلف بالشغل، أما إذا كان النزاع يشمل مقاولة واحدة فإن محاولة التصالح تجرى أمام العون[9] المكلف بتفتيش الشغل.
قبل صدور مدونة الشغل الحالية، فقد كان المشرع المغربي يحصر الاختصاص الرئيسي لمفتشية الشغل في وظيفة مراقبة تطبيق مقتضيات قانون الشغل، في مجال العلاقة بين المشغل وأجرائه؛ بحيث أن مخالفة أي من هذه المقتضيات تخول لأعوان التفتيش إنجاز محاضر بالمخالفات تحال وفق مسطرة معينة، كان يحددها ظهير 2 يوليوز 1947 للقضاء، هذا بخصوص نزاعات الشغل الفردية[10].
أما بالنسبة لنزاعات الشغل الجماعية فإن ظهير 19 يناير 1946 الملغى المنظم لمسطرة المصالحة والتحكيم، لا يسند لعون تفتيش الشغل مهمة المصالحة بالنسبة للنزاعات الجماعية، لكن الواقع العملي أبان عن مدى مساهمة تدخل مفتش الشغل في التقليل من عدد النزاعات الجماعية، والحد من إغلاق المؤسسات[11] وكذا توقيف الإضرابات[12]، التي لا تخدم الاقتصاد الوطني[13].
هكذا وانطلاقا من مقتضيات المادة 551 من مدونة الشغل، فإن كل خلاف بين الشغل، من شأنه أن يؤدي إلى نزاع جماعي، يكون موضوع محاولة للتصالح، تتم حسب حجم ومستوى النزاع الجماعي، إما أمام العون المكلف بتفتيش الشغل أو أمام المندوب المكلف بالشغل لدى العمالة أو الإقليم، أو أمام اللجنة الإقليمية للبحث والمصالحة ، أو أمام اللجنة الوطنية للبحث والمصالحة[14].
ويمكن القول أن مفتشي الشغل قد نجحوا نسبيا في تخفيف العبء عن القضاء، وذلك بحل النزاع قبل أخذه أشكال أخرى وكذا قدرته على ثني الأطراف عن الدخول في نزاعات الشغل الفردية، بل حتى في نزاعات الشغل الجماعية التي صار أعوان التفتيش يعتبرون تدخلهم لتفاديها أو حلها عند نشوبها، من الاختصاصات الجوهرية في وظيفتهم، وإن كان ذلك بدون سند قانوني[15].
غير أن الإشكال الذي يثور في هذا الصدد هو عن مدى واقعية إسناد مهمة المصالحة لمفتشي الشغل وكذا المندوبين الإقليميين للشغل؟
يعارض بعض الفقه توجه المشرع في إسناد مهمة التصالح لأعوان الشغل، لأن في ذلك تعارضا مع مهامهم التقليدية المتمثلة في مراقبة تطبيق التشريع المتعلق بالشغل مستندين في ذلك إلى كون المغرب قد صادق على الاتفاقية 81[16]، وهي اتفاقية الشغل الدولية الخاصة بتفتيش الشغل والصناعة.
ويعتبر بعض الفقه أن التكوين المحدود، لأعوان تفتيش الشغل، أمرا يقتضي، حسب هذا الجانب من الفقه ليس فقط التكوين في الجانب القانوني، بل أيضا على المستوى التقني، وعلى مستوى علم النفس الاجتماعي، وعلى المستويين المالي والاقتصادي، وهو تكوين لا يتوفر في معظم أعوان التفتيش، مما يجعلهم غير مؤهلين للاستجابة للأهداف المتوخاة من المصالحة في نزاعات الشغل الجماعية[17].
وإذا كان هذا التوجه الفقهي يعارض إسناد مهمة المصالحة لمفتش الشغل، فإن جانب آخر من الفقه يتشبث بالتوجه التشريعي في هذه النقطة، باعتبار أن أعوان تفتيش الشغل يقومون بدورهم في الحفاظ على السلم الاجتماعي، فضلا على ذلك قرب جهاز تفتيش الشغل من واقع المقاولة ، وإلمامه الدقيق بالظروف التي تعيشها الطبقة العاملة يسمح له بالإحاطة بالأعراف والتقاليد السائدة في الأوساط التجارية والصناعية في دائرة اختصاصه، مما يساعده ويسهل مهمته في إجراء محاولة التصالح بين أطراف خلافات أو نزاعات الشغل الجماعية والمساهمة في تقريب وجهات نظر الأطراف المعنية بها والمساهمة في إيجاد الحلول الملائمة لها[18].
ونحن نميل إلى التوجه الثاني الذي يدعو إلى إسناد المهمة التصالحية لمفتش الشغل، ولعل المشرع كان حكيما في إسناد هذه المهمة الحساسة لمفتش الشغل نظراً لاحتكاكه الدائم بطرفي علاقة الشغل.
نعتقد أنه لكي تضطلع مفتشية الشغل بمهامها القانونية، يجب أولا الزيادة في عدد أطر مفتشية الشغل لأنه لا يتناسب مع الرقعة الجغرافية التي يغطونها؛ حيث يجب أن تتناسب مع الزيادة في حجم اختصاصاتهم، كما أن علاقات الود التي تربطهم بأطراف علاقة الشغل، تكون دافعا لهم، لحث طرفي الخلاف أو النزاع الجماعي على الحوار وعلى التفاوض، من أجل تسوية سلمية لخلافهما أو لنزاعهما حفظا للسلم الاجتماعي الذي لا مندوحة عنه لخير المقاولة وخير الاقتصاد الوطني[19].
بالإضافة لأخذ المشرع المغربي بمسطرة المصالحة على مستويين، عون التفتيش وكذا المندوب الإقليمي المكلف بالشغل، وذلك بحسب اتساع أو ضيق نزاع الشغل الجماعي، فقد نصت مدونة الشغل على إضافة مستوى ثالث للمصالحة يتم أمام لجان البحث والمصالحة سواء الإقليمية أو الوطنية والتي سنتناولها من خلال الفقرة الثانية.
الفقرة الثانية: لجان البحث والمصالحة ودورها في تسوية نزاعات الشغل الجماعية
يعد الحرص على تذويب الخلاف الاجتماعي للشغل في وقت مناسب، وكذا الحفاظ على استقرار علاقات الشغل، رهانات تشريعية لا محيد عنها، جعلت المشرع يكرسها من خلال مدونة الشغل والذي سبقه فيها مشرع ظهير 19 يناير 1946. ويلاحظ من خلال مدونة الشغل تنامي رغبة الدولة، ممثلة في السلطة المحلية على مستوى كل عمالة أو إقليم، في ضبط العنف على مستوى العلاقات المهنية، ثم التحكم في نسبة التوتر الاجتماعي، بين الأطراف المتنازعة وهو الأمر الذي كان وراء تقرير الطابع الإلزامي لمسطرة المصالحة . وفي هذا الإطار يذهب البعض إلى أن مشروعية الإضراب أو الإغلاق المضاد له تتوقف وجودا وعدما على مدى التقيد باحترام مسطرة المصالحة أمام لجان البحث[20].
أ ـ اللجنة الإقليمية للبحث والمصالحة
باستقراء المادة 556 من مدونة الشغل، فإنها تنصص على أنه في حالة ما إذا لم تسفر محاولة التصالح عن أي اتفاق، أمام مندوب الشغل أو مفتش الشغل، فإنه يحق إما لأحد طرفي النزاع أو مفتش الشغل أو مندوب الشغل رفع النزاع داخل أجل ثمانية أيام أمام اللجنة الإقليمية للبحث والمصالحة.
وفي حالة فشل مسطرة المصالحة أمام إدارة الشغل يمكن لهذه الأخيرة رفع النزاع أمام اللجنة الإقليمية للبحث والمصالحة. وبالعودة للمادة 557 من مدونة الشغل نجدها قد نصت على أنه “تحدث لدى كل عمالة أو إقليم، لجنة تسمى اللجنة الإقليمية للبحث والمصالحة يترأسها عامل العمالة أو الإقليم، تتكون بالتساوي من ممثلين عن الإدارة وعن المنظمات المهنية للمشغلين، والمنظمات النقابية للأجراء الأكثر تمثيلا، على أن يتولى كتابتها المندوب الإقليمي المكلف بالشغل”.
يذهب جانب من الفقه إلى أن إسناد رئاسة اللجنة الإقليمية للبحث والمصالحة لعامل العمالة أو الإقليم هو اختيار غير موفق من طرف المشرع، ويستند في ذلك إلى أن المصالحة في نظرهم أسلوب لتفادي الخلافات والنزاعات الجماعية، ووسيلة ترمي لتقريب بين وجهة نظر كل من طرفي الخلاف أو النزاع الجماعي. كل هذه الأدوار حسب هذا الفقه[21]، تتطلب من المكلف بمهمة المصالحة أن تكون له علاقة شخصية مباشرة وطبية مع أطراف النزاع الجماعي، إضافة إلى الإحاطة بالمعطيات الخاصة بالوسط المهني، بالإضافة إلى الخبرة في المجالات الاقتصادية والمالية والاجتماعية.
تتشكل اللجنة الإقليمية للبحث والمصالحة بالتساوي من ممثلين عن الإدارة والمنظمات المهنية للمشغلين، والمنظمات النقابية للأجراء الأكثر تمثيلا.[22]
في هذا الصدد نتساءل، كما تساءل بعض الفقه[23]، عن المقصود هنا، هل هو المنظمات المهنية للمشغلين، على المستوى الجهوي، خاصة وأن الأمر يتعلق باجتماع يرأسه عامل العمالة أو الإقليم، ونفس التساؤل يتبادر بالنسبة لنقابات الأجراء هل المقصود هو النقابة الأكثر تمثيلا على مستوى المقاولة أو النقابات الأكثر تمثيلا على مستوى العمالة أو الجهة أو الإقليم وما يبرر هذا التساؤل هو أن رب العمل قد يكون هو المعني بالنزاع ولكنه لا ينتمي إلى منظمة مهنية أكثر تمثيلاً، وقد تكون النقابة أيضا المعنية بالنزاع على مستوى المقاولة ليست هي الأكثر تمثيلا وهكذا فللخروج بحل نرى أن حضور أطراف النزاع يظل ضروريا، في اللجنة الإقليمية للبحث والمصالحة إلى جانب المنظمات المهنية المعنية والنقابات الأكثر تمثيلا للأجراء ويصل القصور التشريعي حد عدم تحديد مدونة الشغل لعدد الممثلين عن الإدارة والمنظمات الممثلة للمشغلين أو المنظمات المهنية الأكثر تمثيلا، وقد كان على المدونة أن تحدد عددهم في كل فريق.[24] والملاحظ أن حضور مفتش الشغل يعتبر أمرا ضروريا في اللجنة الإقليمية للبحث والمصالحة، وذلك لتتبع أطوار النزاع كما يحق له إبداء الملاحظات أو بعض الحلول. ويرى بعض الفقه أنه كان جديرا بمشرع مدونة الشغل، التنصيص على إمكانية دعوة كل شخص ترى في حضوره فائدة، وذلك مثل رجال القانون المتخصصين في قوانين الشغل وقوانين العلاقات المهنية والحوار الاجتماعي، ودعوة خبراء آخرين في الاقتصاد والتسيير[25].
وإذا حصل أن امتد النزاع الجماعي للشغل إلى عدة أقاليم أو عمالات أو إلى مجموع التراب الوطني، وكذا إذا لم يحصل اتفاق أو تصالح بين الأطراف أمام اللجنة الإقليمية للبحث والمصالحة، فإن النزاع يحال مباشرة إلى اللجنة الوطنية للبحث والمصالحة[26]، والتي سنحاول من خلال الشق الثاني من هذه الفقرة تسليط الضوء على تكوين هذه اللجنة واشتغالها مع محاولة إيجاد بعض الحلول لبعض الثغرات القانونية في هذا الصدد.
ب :اللجنة الوطنية للبحث والمصالحة
يرفع النزاع الشغل الجماعي مباشرة أمام نظر اللجنة الوطنية للبحث والمصالحة، وذلك إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق على مستوى اللجنة الإقليمية للبحث والمصالحة.بمساءلة المادة 565 من مدونة الشغل فإن اللجنة الوطنية للبحث والمصالحة تتدخل في النزاع الجماعي في حالتين هما:
1 : إذا امتد نزاع الشغل الجماعي إلى عدة عمالات أو أقاليم أو إلى مجموع التراب الوطني.
2 : إذا لم يحصل أي اتفاق بين أطراف النزاع أمام اللجنة الإقليمية للبحث و المصالحة.
وتتكون هذه اللجنة، من رئيس ممثلا في وزير الشغل أو من ينوب عنه، بالإضافة أنها تتكون بالتساوي من ممثلين عن الإدارة والمنظمات المهنية للمشغلين، وممثلين عن المنظمات النقابية للأجراء الأكثر تمثيلا، كما نصت المادة 564 من مدونة الشغل، على أنه يحق لرئيس اللجنة استدعاء أي شخص يرى فائدة في حضوره، بالنظر لما يتمتع به من كفاءات في مجال اختصاص اللجنة ويتولى كتابة أشغال هذه اللجنة رئيس مصلحة تفتيش الشغل لدى الوزارة، والملاحظ أن المشرع المغربي قد انتبه للحالة التي قد يمتد فيها النزاع إلى مجموع التراب الوطني أو إلى عدة أقاليم أو عمالات، ومادام النزاع يكون على امتداد التراب الوطني فقد تقرر إحداث اللجنة الوطنية للبحث والمصالحة، تكون ممثلة على المستوى الوطني[27].
ونحن نرى أن تخويل رئاسة هذه اللجنة للوزير المكلف بالشغل أو من ينوب عنه، تحصيل حاصل، كون الوزير المسؤول عن الوزارة التي تعتبر الوصية الأولى على القطاع. وإذا كان المشرع التونسي من خلال مدونة الشغل في مادتها 378،[28] قد حدد بشكل دقيق أعضاء اللجنة المركزية.[29] عكس المشرع المغربي الذي لم يتحرى الدقة، وهو في هذا الصدد مدعو لتحري الدقة في تكوين اللجنة الوطنية للبحث والمصالحة.
المحور الثاني: مسطرة المصالحة في نزاعات الشغل الجماعية
أولى المشرع المغربي شأنه شأن جل التشريعات المقارنة، أهمية بالغة للنزاعات الشغل الجماعية، وقد سعى إلى تبسيط المساطر المتبعة أمام هيئات المصالحة من أجل الوصول إلى حل توافقي يجهض من خلاله النزاع في مرحلته الجنينية، ولعل المرونة والابتعاد عن الشكليات تعدان حجر الزاوية في هذه المساطر والتي تختلف اختلافا جذريا عن المساطر المتبعة أمام القضاء، وسنحاول من خلال هذا المحور الحديث عن مسطرة المصالحة أي أمام مفتش الشغل أو المندوب الإقليمي اللجنتين الإقليمية للبحث والمصالحة وفي الثانية عن تنفيذ اتفاقيات المصالحة.
الفقرة الأولى: مسطرة المصالحة أمام جهات المصالحة
بالاطلاع على المواد المنظمة لمسطرة المصالحة المواد 551 إلى المواد 566 من مدونة الشغل، نجد أنها تمر بثلاث مراحل أو مستويات[30].
أ ـ المصالحة على مستوى مفتشية الشغل[31]
جاء في المادة 553 من مدونة الشغل، “يتم الشروع فورا في محاولة التصالح سواء بمبادرة من الطرف الراغب في التعجيل وذلك بمقال يحدد فيه نقط الخلاف أو بمبادرة من المندوب المكلف بالشغل لدى العمالة أو الإقليم، أو من العون المكلف بتفتيش الشغل في المقاولة[32]“.
إن مفتش الشغل مدعو بعد توصله بطلب إجراء الصلح، يقوم باستدعاء أطراف النزاع بواسطة برقية داخل أجل لا يزيد عن 48 ساعة ابتداء من تاريخ رفع النزاع إليه، ويجب على الأطراف الحضور شخصيا، ويمكن لهم أن ينيبوا عنهم شخصا مؤهلا لإبرام اتفاق التصالح؛ وذلك في حالة وجود سبب قاهر يمنع الأطراف الحضور بصفة شخصية[33].
ويحق للأطراف أن يؤازروا بعضو نقابي، أو المنظمة المهنية التي ينتمي إليها الطرف الآخر، كما يحق لكل طرف أن يقدم إلى مفتش الشغل أو المندوب الإقليمي للشغل مذكرة كتابية، تتضمن ما لديه من ملاحظات بخصوص النزاع الجماعي، كما يتعين على مفتش الشغل أو مندوب الشغل تبليغ نسخة من المذكرة المقدمة إليه إلى الطرف الآخر. وقد عين المشرع أجل 6 أيام، لمفتش الشغل من أجل التقريب بين وجهتي نظر الطرفين المتنازعين ويجب عليه أن يبذل قصارى جهده لتسوية النزاع الجماعي.
وفي ختام جلسات الصلح يعمد مفتش الشغل إلى تحرير محضر، يثبت فيه ما توصل إليه الأطراف من اتفاق جزئي أو نهائي[34] أو عدم التصالح[35]، أو يتم إثبات عدم حضور الأطراف[36]، ويقوم الأطراف بالتوقيع على المحضر المذكور، وإذا لم تسفر محاولة التصالح أمام المندوب الإقليمي للشغل أو مفتش الشغل، فإن النزاع يحال إلى اللجنة الإقليمية للبحث والمصالحة.
ب ـ المصالحة أمام اللجنة الإقليمية للبحث والمصالحة:
نصت المادة 557 من م.ش أنه،” تحدث لدى كل عمالة أو إقليم لجنة تسمى اللجنة الإقليمية للبحث والمصالحة، يترأسها عامل العمالة أو الإقليم وتتكون بالتساوي من ممثلين عن الإدارة والمنظمات المهنية للمشغلين وممثلي المنظمات النقابية للأجراء الأكثر تمثيلا”. عند إحالة النزاع الجماعي للشغل أمام أنظار اللجنة الإقليمية للبحث والمصالحة، فإن عامل العمالة أو الإقليم بصفته رئيسا لهذه اللجنة، يقوم باستدعاء أطراف النزاع بواسطة برقية داخل أجل لا يزيد عن 48 ساعة. وهنا يجب على الأطراف الحضور شخصيا، واستثناءا انتداب شخص مؤهل ينوب عنهم لإبرام اتفاق التصالح، وذلك إذا حال دون حضورهم سبب قاهر[37]. وإذا كان مشرع مدونة الشغل لم يكلف نفسه عناء تحديد الحالات التي يعتبر فيها المانع جسيما، فالفقه متفق على ضرورة الرجوع إلى القواعد العامة التي تخول اللجنة الإقليمية المختصة الحق في تقدير ماهية العائق أو السبب القاهر.[38]
ونحن نعتقد أن سبب إحجام المشرع عن تحديد ماهية السبب القاهر، هو الرغبة في تخويل اللجنة الإقليمية للبحث والمصالحة، سلطة تقديرية لتقدير السبب القاهر لكي لا يقف هذا الأخير عائقا أمام إتمامها لمهامها ، خاصة أن تداعيات الخلاف الجماعي قابلة للتطور من الناحية الزمنية بشكل قد يتعذر معه فيما بعد التحكم في نتائجه[39]. ويجب على اللجنة الإقليمية للبحث والمصالحة بذل جهودها من أ جل تسوية النزاع الجماعي بغية التوصل لاتفاق بين الأطراف، وذلك من أجل ستة أيام من تاريخ رفع النزاع إليها.
خول مشرع مدونة الشغل للأطــراف الحق في الإدلاء بمذكرة كتابية تتضمن ما لديه من ملاحظات، غير أن الرئيس الذي يتلقى هذه المذكرة ملزم بتبليغ نسخة منها إلى الطرف الآخر.[40] وفي مقابل المهام الموكولة لرئيس اللجنة الإقليمية للبحث والمصالحة، فإن الأخير يضطلع بمجموعة من المهام، حيث يتولى تقصي أوضاع المقاولات وأوضاع الأجراء المعنيين بنزاع الشغل الجماعي، وكذا إجراء الأبحاث والتحريات لدى المقاولات والأجراء، كما يمكنه أن يطلب من الأطراف كل المستندات ليستنير بها، وأن يستعين بالخبراء في هذا المجال[41].
عند نهاية أشغال اللجنة، فيجب أن يتمخض عملها اتفاق سواء كان جزئيا أم نهائيا، وفي جميع الحالات فاللجنة ملزمة بتحرير محضر مع الإشارة إلى نقط الخلاف، ورغم سكوت النص عن إمكانية توقيع المحضر، فإننا نرى أنه يجب أن يوقع من طرف الرئيس والأعضاء، بالإضافة إلى أطراف النزاع الحاضرة بجلسة الصلح أو من يمثلها، وتسلم نسخة من المحضر إلى الأطراف ووزارة التشغيل، ويبلغ إليهم عند الاقتضاء. وفي حالة عدم نجاح محاولات التصالح أو امتد النزاع إلى عدة عمـــالات أو أقاليـــم أو إلى مجموع التراب الوطــني، فإن النزاع يحــال إلى المستوى الثالث من المصالحة والمتمثل في اللجنة الوطنية للبحث والمصالحة.
ج ـ اللجنة الوطنية للبحث والمصالحة
نظمت المادة 564 من مدونة الشغل عمل اللـــجنة الوطنيـــة للبــحث والمصــالحة،حيث تبدأ المصالحة باستدعاء كل شخص يتمتع بكفاءات عالية في مجال اختصاص اللجنة، كما يتولى كتابة اللجنة رئيس مصلحة التفتيش،ولا يتم ذلك إلا بعد عرض النزاع عليها من قبل رئيس اللجنة الإقليمية للبحث والمصالحة، وذلك من خلال المواد 558 إلى 561 من مدونة الشغل بخصوص مسطرة ومهام هذه اللجنة.[42] وبالحديث عن المقتضيات المنظمة لعمل اللجنة الإقليمية للبحث والمصلحة، فإنها نفسها تجري على اللجنة الوطنية للبحث والمصالحة، وقد جاء في الفقرة الثانية من المادة 566 أنه تباشر هذه اللجنة مهامها، وفقا للمسطرة المقررة لعمل اللجنة الإقليمية للبحث والمصالحة في المواد 558 و559 و560 و561 من مدونة الشغل.
المعلوم أن المشرع منح اللجنة الإقليمية أجل 6 أيام لإتمام محاولة المصالحة، وهو الأمر نفسه ينطبق على اللجنة الوطنية للبحث والمصالحة، ونحن ندعو المشرع منح مزيد من الوقت لهذه اللجنة، خاصة وأن النزاع يشمل قطاعات واسعة تهم التراب الوطني.
المشرع اليوم مدعو لإعادة النظر في مجموعة من المقتضيات والتي سنحاول أن نتطرق إليها في الآفاق المستقبلية للمصالحة. وقد خوّل المشرع لرئيــس اللــجنة الوطنية على غرار رئيـــس اللــجنة الإقليمية، مجموعة من الصلاحيات حتى يقوم بالدور المنوط به على أحسن وجه،[43] حيث يقوم رئــــيس اللجنة بالتقصي والبحث حول أوضاع المقاولات وأوضاع الأجراء المعنيين بالنزاع الجماعي، كما له أن يقـــوم بجميع التحريات اللازمة في الموضوع، كما يمكنه مطالبة الأطــراف بتقديم التسهيلات والمستندات والمعلومات، كيفمــا كان نوعها وطبيعتها، والتــي من شأنها أن تساعد على القيام بمهمته، كما يجوز له الاستعانة بالخبراء أو أي شخص يرى أن تدخله سيفيد في تسوية النزاع الجماعي[44]. وتجدر الإشارة إلى أن القـــرارات التي تتخذها اللجنة، لا تتخذ عن طريق التصويت وإنما التوافق والتراضي والإقناع؛ لأن الهـــدف هو الوصول إلى تسوية نزاع الشغل الجماعي عن طريق التصالح وليس التصويت[45]. بهذا يكون المشرع المغربي ختم آخر مستوى من مستويات الصلح في نزاعات الشغل الجماعية، وكما هو ملاحظ فإن المشرع تحرى التفصيل في جميع إجراءات ومساطر التصالح في علاقات الشغل الجماعية، متشبثا بالطريق السلمية لتسوية النزاعات ومكرسا للعدالة التصالحية، كل ذلك حفاظا على السلم الاجتماعي وخدمة لمصالح الاقتصاد الوطني[46].
وأخيـــــرا، لا يسعنا إلا أن نقول بأن المشرع المغربــــي، من خلال مدونة الشغل، أخذ بالمستقر عليه في العديد من التشريعات الأجنبية، حيث عمـــل على خلق هيئة للبحث والمصالحة على المستوى الوطني، أناط بها اختصـاص النظـر في نزاعات الشغل الجماعية، ولعل المتأمل في الإحصائيات المتـعلقة بدور اللجنة الوطنـــية للبحث والمصــالحة، في تسوية نزاعات الشغل الجماعية، سيلمس لا محالة الدور المهم الذي تلعبه في هـــــذا الإطار[47]. مرورا بالمراحل أعلاه، تأتي مرحلة أساسية والمتعلقة بالحالة التي تنجم عنها المصالحة، وما يتطلبه الأمر من تنفيذ الاتفاقيات، التي توصل إليها أطراف النزاع الجماعي؛ هذا ما سنحاول معالجته من خلال الفقرة الثانية.
الفقرة الثانية: تنفيذ اتفاقيات التصالح
فرض المشـرع المـغربي على الهيئـات المتـدخلة في مســطرة التصـالح، تحرير محـضر يثبت فيه ما توصل إليه الأطـــراف بعد الانتهاء من المراحل التي سطرها المشرع من اتــفاق جزئـي أو عــدم اتفاق أو عـدم حضورهم.
نتساءل هنا حول الطبيعة القانونية لمحضر إنهاء النزاع، فنظرا للظروف الساخنة التي يوقع فيها الأطراف محضر إنهاء النزاع، يجعل من النادر التفكير في الطبيعة القانونية لهذه الوثيقة. فإذا نفذ مضمون محضر إنهاء النزاع طبقا لالتزامات الطرفين، فإنه لا توجد ضرورة لطرح مسألة طبيعته القانونية، أما إذا ظهرت خلافات حول تطبيق محتواه، فإنه يصبح من الضروري تحديد تصنيفه القانوني، ليمكننا من معرفة درجة إلزاميته بالنسبة للأطراف الموقعة عليه[48]. فإذا كان المشرع المغربي لا يعطينا جوابا على هذا التساؤل، فإن المشرع الفرنسي يعتبر الاتفاق المتوصل إليه في ختام إجراءات المصالحة، بمثابة اتفاقية جماعية؛ بحيث أن هذا الاتفاق يكون موضوع إشهار.
أمــــا بالــنسـبة للمـشـرع الإنجـليـزي فــإنه لا يعـطيه مـثـل هــذه الاتفـاقـات القـوة اللازمة بـل يعتـبره مـجرد اتفـاق بين طرفيـن، فـي حـين نـجد المـشرع المصـري قد سكـت عـن بـيان طـبيـعـته[49]. والمعلوم أنه إذا تم عرض النزاع أمام مفتشية الشغل، ولم يسفر عن أي اتفاق فإن عون التفتيش، أو المندوب الإقليمي، أو أي أحد من الأطراف المعنية يبادر داخل أجل ثلاثة أيام إلى رفع النزاع إلى اللجنة الإقليمية للبحث والمصالحة للنظر فيه بحسب ما تنصص عليه المادة 556 من مدونة الشغل.
وإذا قلنا سلفا بأن نزعات الشغل الجماعية تعتبر مسألة حساسة نظرا للأضرار الوخيمة التي تصيب الاقتصاد الوطني وما يسببه ذلك في العديد من المعضلات الاجتماعية، فإن المشرع مدعو لتحري الدقة لتفادي أي غموض في النصوص القانونية والمتعلقة بتسوية نزاعات الشغل الجماعية.رغم أن موقف التشريعات المقارنة بخصوص طبيعة محضر إنهاء النزاع يتميز بالتباين والاختلاف، فإن ذات التباين والاختلاف طبع أيضا موقف الفقه بخصوص طبيعته، حيث انقسم إلى اتجاهين.[50]
الاتـــجاه الأول يـعتبر محــــضر إنـهاء نـــزاع الشــغل الجـــماعي، مــثله مثل عــقد الصــلح أما الاتجاه الثاني فيذهــــب إلى اعتبار محـضر إنهــاء نـزاع الشـــغل بمــثابة اتفـــاقــية جــماعيــة، وإذا كنا لا نتـــفق مع الاتجاه الثاني نظــرا لــكون الاتفاقية الجماعية تبرم في ظل سلم اجتماعي واقتصــادي بين أطراف عقد الشغل، بحــيث لا يكــــون هنــاك نــــــزاع بين طـــرفي العلاقة الشغـــلية، في حين الاتـــفاق المــتوصل إليه بمنـــاسبة المصـــالحة يـــــطبعه التباعد والنفور. تبقى هذه الفرضيات مـقــبولة إذا ما توفر اتفاق التصالح على الشــروط والخصائص التي تميزه، لكن خــصوصية ميدان الشغل وباعـتبار المصالحة وسيلة تســـاعده على بلورة قـــانون جماعي للشــغل بعيدا عن تدخل الدولة، لا يمــكن أن نــلبس اتفــاق التصــالح المنـــبـثق عنها ثوب القانون المدني ولا أن نجعله بمثابة اتفـاقية جماعية بقدر ما نسير في اتـجاه إعطائه خصوصية تميزه عنهما، وتجـــعله يأخذ فعـاليته القـانــونية انــطلاقا من محيطـه القانوني الذي قد ينشأ فيه، أي ضمن علاقـــات الشغل الجــماعية الخاضعة للتغير والتطور تبعـا لتغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية[51].
وتجدر الإشارة إلى أنه ينبغي في حالة إذا ما تمخضت إجراءات المصالحة عن اتفاق، فإن هذا الأخير تكون له قوة تنفيذية وفق القواعد المنصوص عليها في قانون المسطرة المدنية.
إلا أن التساؤل يثار عن الحالة التي يمتنع فيها أطراف النزاع الجماعي عن تنفيذ اتفاقيات المصالحة.
ويـرى بعض الفقه[52] على أن الاتفاقيـات التي يـتم التوصل إليها بين الأطراف أمام اللجنة الإقليمية للبحث والمصالحة أو أمام اللجنة الوطنية للبحث والمصالحة أو أمام مفتشية الشغل، تكون لها قوة تنفيذية مثل القوة التـنفيذية لأي اتفاق أو صلح أو حكم وفق ما ينصص عليه قانون المسطرة المدنية في هذا الشأن؛ وهذا ما تنصص عليه المادة 581 من مدونة الشغل والتي جاء فيها: «يكون لاتفاق التصالح والقرار التحكيمي قوة تنفيذية وفق القواعد المنصوص عليها في المسطرة المدنية»[53]. وبهذا فإن كل اتفاقيات التصالح كما قرارات التحكيم لها نفس القوة التنفيذية من الناحية القانونية؛ أي أنها تخضع لقواعد التنفيذ الجبري كون اتفاق المصالحة بمثابة حكم يتم التنفيذ فيه بناء على طلب المستفيد من الاتفاق أو قرار التحكيم أو من ينوب عنه.
خاتمة:
تبقى المصالحة من أهم الوسائل السلمية، لتسوية نزعات الشغل الجماعية والتي تبنتها معظم التشريعات المقارنة، وتعتبر الأسلوب الأكثر انتشارا وقبولا من طرف الفرقاء الاجتماعيين لما لها من مزايا على جميع المستويات.[54] كما أن هدف التشريعات في جل البلدان العربية إضفاء الطابع السلمي على العلاقات المهنية، وذلك من أجل إقامة السلم الاجتماعي.[55]
ولا يخفى على أحد الدور الكبير الذي يلعبه جهاز تفتيش الشغل في تسوية إضرابات ونزاعات الشغل، سواء منها الفردية أو الجماعية، وقد ظلت الدراسات والإحصائيات تبين دائما مدى قدرة هذا الجهاز على فض نزاعات الشغل بتفوق كبير على الجهاز القضائي في هذا الشأن[56].
قائمة المراجع:
هشام الدرقاوي : الوسائل السلمية لحل نزاعات الشغل الجماعية ورهانات الحوار الاجتماعي، أطروحة لنيل الدكتوراه، جامعة محمد الأول وجدة، السنة الجامعية 2009-2010.
عبد اللطيف خالفي : الوسيط في مدونة الشغل، الجزء الثاني، علاقات الشغل الجماعية، المطبعة والوراقة الوطنية ، بتاريخ 8 دجنبر 2007.
عمر تيزاوي : مدونة الشغل والتنمية الاقتصادية والاجتماعية ، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص ، جامعة الحسن الثاني الدار البيضاء 2006/
مولاي البشير الشرقي : النظام القانوني لنزاعات الشغل الجماعية وفق مدونة الشغل المغربية، جامعة محمد الخامس، كلية الحقوق الرباط السنة الجامعية 2008/2009.
نادية اتبينة : الوسائل البديلة لتسوية نزاعات الشغل الجماعية، رسالة لنيل دبلوم الماستر، جامعة محمد الخامس ـ السويسي، السنة الجامعية: 2011-2012.
جليلة البحري : عمل مفتش الشغل بين النص القانوني والواقع العملي، رسالة لنيل دبلوم الماستر، جامعة محمد الخامس ـ السويسي، السنة الجامعية: يوليوز 2010.
محمد معن : مفتشية الشغل بين مطرقة تحديات العولمة وسندان منهجية التهميش، نشرة الاتصال، عدد مارس 2002، .
نادية أكاو : مفتشية الشغل كهيئة متدخلة في علاقات الشغل، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص، جامعة محمد الخامس أكدال، السنة الجامعية 2006/2007.
محمد الكشبور : نظام تفتيش الشغل الواقع الحالي والآفاق المستقبلية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء 1997، .
محمد الشرقاني : مدى مشروعية الإضراب العمالي بالمغرب ، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون الخاص، جامعة محمد الخامس، الرباط، السنة الجامعية 1990-1991.
الحاج الكوري : مدونة الشغل الجديدة رقم 99-65، أحكام عقد الشغل، مطبعة الأمنية، الرباط، طبعة 2004.
محمد المكي : الصلح في نزاعات الشغل بين التشريع والقضاء، رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون الخاص، جامعة محمد الخامس ـ السويسي، السنة الجامعية: 2008/2009.
محمد سعيد جراندي :التصالح والتحكيم كوسائل بديلة لتسوية نزاعات الشغل الجماعية الندوة الجهوية الحادية عشرة، احتفاء بالذكرى الخمسينية لتأسيس المجلس الأعلى 1-2 يونيو 2007.
Abdellah BOUDHRAIN : le droit du travail au Maghreb à la croisée Algérie Libye Mauritanie Tunisie, Imprimerie Najah El Jadida, 1ère édition, 2001.
محمد سعيد بناني : قانون الشغل في ضوء مدونة الشغل، علاقات الشغل الفردية، ج: II، م I، مكتبة دار السلام، ط يناير 2007.
عبد الله معوني : نزاعات الشغل الجماعية وطرق تسويتها، المعهد الوطني للدراسات القضائية، 1999-2001.
يوسف حنان : المصالحة كآلية لفض نزاعات الشغل الجماعية، مجلة العلوم القانونية، العدد الأول، سنة 2003، مكتبة دار السلام، الرباط.
[1] – هشام الدرقاوي : الوسائل السلمية لحل نزاعات الشغل الجماعية ورهانات الحوار الاجتماعي، أطروحة لنيل الدكتوراه، جامعة محمد الأول وجدة، السنة الجامعية 2009-2010، ص: 255.
[2] -تتجلى هذه القسوة في فرض المشغل على أجراءه ساعات عمل أطول من المنصوص عليه قانونا، كما يعمد المشغل لعدم تجهيز المقاولة بوسائل الحماية.
[3] – نقصد بهذه الأزمات والمشاكل الاجتماعية الصارخة ؛ تفشي البطالة والإجرام والتشرد والهدر المدرسي مظاهر تسعى الدولة للقضاء عليها لا خلق أسباب تفريخها.
[4] – عبد اللطيف خالفي : الوسيط في مدونة الشغل، الجزء الثاني، علاقات الشغل الجماعية، المطبعة والوراقة الوطنية ، بتاريخ 8 دجنبر 2007.
[5] -عمر تيزاوي : مدونة الشغل والتنمية الاقتصادية والاجتماعية ، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص ، جامعة الحسن الثاني الدار البيضاء 2006/ 2007 ص157 .
[6] – عمر تيزاوي : مدونة الشغل والتنمية الاقتصادية والاجتماعية ، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص ، جامعة الحسن الثاني الدار البيضاء 2006/ 2007 ص157 .
[7] – مولاي البشير الشرقي : النظام القانوني لنزاعات الشغل الجماعية وفق مدونة الشغل المغربية، جامعة محمد الخامس، كلية الحقوق الرباط السنة الجامعية 2008/2009ص 223.
[8] – كما هو الحال بالنسبة للمشرع الفرنسي والتونسي.
[9] – إن استعمال المشرع لكلمة عون لقيت انتقادا كبيرا من طرف بعض الفقه على اعتبار أن استعماله لها قد يفهم منها أنه مسخر من طرف جهة أخرى أثناء مزاولته مهامه والحال أنه يعد إطاراً فاعلا في علاقة الشغل.
[10] – نادية اتبينة : الوسائل البديلة لتسوية نزاعات الشغل الجماعية، رسالة لنيل دبلوم الماستر، جامعة محمد الخامس ـ السويسي، السنة الجامعية: 2011-2012.
[11] – أحجم المشرع المغربي عن إعطاء تعريف لإغلاق المؤسسة فاسحا المجال للفقه الذي ذهب بعضه لاعتباره بأنه إجراء يتخذه المشغل نتيجة خلاف جماعي ويمتنع عن فتح مؤسسته في وجه العمال ويتملص من أداء الأجر.
[12]– نشير أن المشرع المغربي أحجم عن تعريف الإضراب وهذا ما نلمسه من خلال كافة الدساتير المغربية، فيما يذهب بعض الفقه لتعريفه بأنه “الترك المؤقت للشغل في المؤسسة المعنية والمنفذ سلميا عن مجموعة من ثلاثة عمال على الأقل، تمثل 60% من العمال بالمؤسسة قصد دعم أو الدفاع عن مصالحهم الاقتصادية أو الاجتماعية المشتركة”.
[13]– جليلة البحري : عمل مفتش الشغل بين النص القانوني والواقع العملي، رسالة لنيل دبلوم الماستر، جامعة محمد الخامس ـ السويسي، السنة الجامعية: يوليوز 2010، ص 24.
[14]– عبد اللطيف خالفي : الوسيط في مدونة الشغل، ج II، علاقات الشغل الجماعية، ط I، 2006، ص 210.
[15]– محمد معن : مفتشية الشغل بين مطرقة تحديات العولمة وسندان منهجية التهميش، نشرة الاتصال، عدد مارس 2002، ص 7.
[16] – جاء في الاتفاقية الخاصة بتفتيش العمل في الصناعة والتجارة، والصادرة عن مؤتمر العمل الدولي رقم 6.
المادة 3 :
وظائف نظام تفتيش العمل هي:
أ ـ تأمين إنفاذ الأحكام القانونية المتعلقة بظروف العمل وحماية العمال أثناء قيامهم بهذا العمل مثل الأحكام الخاصة بساعات العمل والأجور والسلامة والصحة والرعاية واستخدام الأطفال والأحداث وغير ذلك من أمور بقدر ما تكون هذه الأحكام منوطة بمفتش العمل.
ب ـ تقديم المعلومات التقنية والمشورة لأصحاب العمل والعمال المعنيين بشأن أكثر وسائل الالتزام بالأحكام القانونية،
وتعريف السلطة المختصة بجوانب النقص أو التعسف التي لا تغطيها الأحكام القانونية القائمة بشكل محدد.
[17] – نادية أكاو : مفتشية الشغل كهيئة متدخلة في علاقات الشغل، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص، جامعة محمد الخامس أكدال، السنة الجامعية 2006/2007.
[18] – محمد الكشبور : نظام تفتيش الشغل الواقع الحالي والآفاق المستقبلية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء 1997، ص 365.
[19] – نادية أكاوا : مفتشية الشغل كهيئة متدخلة في علاقة الشغل ، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص، جامعة محمد الخامس، أكدال ـ السنة الجامعية: 2006-2007، ص 91.
[20]– محمد الشرقاني : مدى مشروعية الإضراب العمالي بالمغرب ، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون الخاص، جامعة محمد الخامس، الرباط، السنة الجامعية 1990-1991، ص 318.
[21] – لمزيد من التفصيل انظر مؤلف الأستاذ عبد اللطيف خالفي الوسيط في مدونة الشغل، ج II الخاص بعلاقات الشغل الجماعية.
[22] – تنص المادة 557 من مدونة الشغل : “تحدث لدى كل عمالة أو إقليم لجنة تسمى” اللجنة الإقليمية للبحث والمصالحة” يترأسها عامل العمالة أو الإقليم، وتتكون بالتساوي من ممثلين عن الإدارة والمنظمات المهنية للمشغلين والمنظمات النقابية الأكثر تمثيلا.
[23] – الحاج الكوري : مدونة الشغل الجديدة رقم 99-65، أحكام عقد الشغل، مطبعة الأمنية، الرباط، طبعة 2004، ص 342.
[24] – عبد اللطيف خالفي : مرجع سابق، ص 216.
[25] – الحاج الكوري : مرجع سابق، ص 343.
[26] – نادية اتبينة : مرجع سابق، ص 18.
[27] – محمد المكي : الصلح في نزاعات الشغل بين التشريع والقضاء، رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون الخاص، جامعة محمد الخامس ـ السويسي، السنة الجامعية: 2008/2009، ص 133.
[28] – حددت مدونة الشغل التونسية أعضاء اللجنة المركزية في:
ـ وزير الشؤون الاجتماعية أو من يمثله بصفته رئيسا.
ـ ممثلان لكل من المنظمة النقابية للعمال والمؤاجرين.
ـ ممثلان اثنان عن نقابات العمال المعنيين.
ـ ممثلان عن المؤاجرين أو نقابات المؤاجرين المعنيين.
[29] – للتوسع أكثر في هذه النقطة أنظر:
Abdellah BOUDHRAIN : le droit du travail au Maghreb à la croisée Algérie Libye Mauritanie Tunisie, Imprimerie Najah El Jadida, 1ère édition, 2001, p 566.
[30] – محمد سعيد جرندي : التصالح والتحكيم كوسائل بديلة لتسوية نزاعات الشغل الجماعية الندوة الجهوية الحادية عشرة، احتفاء بالذكرى الخمسينية لتأسيس المجلس الأعلى 1-2 يونيو 2007، ص 168.
[31] – استعملنا مصطلح مفتشية الشغل عوض مندوبية الشغل، رغم أن هذا الأخير هو أعم وأشمل من الأول ومندوبية الشغل هي الوصية على المفتش، ولكن المشرع تحدث من خلال الفرع الأول من الباب الثاني في الكتاب السادس عن “محاولة التصالح على مستوى مفتشية الشغل”.
[32]– المادة 553 من مدونة الشغل.
[33] – الحاج الكوري : م.س، ص 340.
[34] – أنظر الملحق النموذج1 المتعلق بمحضر اتفاق الصلح الكلي والجزئي المبرم في إطار مسطرة التصالح.
[35] – أنظر الملحق النموذج2 المتعلق بمحضر عدم الاتفاق الكلي أو عدم الصلح.
[36]- أنظر الملحق النموذج3 المتعلق بمحضر عدم حضور الأطراف المعنية.
[37] – القوة القاهرة : عرفها صاحب التحفة: وكل ما لا يستطاع الدفع له جائحة مثل الرياح المرسلة
والجيش معدود من الجوائــح كفتنته وكالعدو الكاشــــــــــــــح
وجاء في الفصل 269 من ق.ل.ع: «القوة القاهرة هي كل أمر لا يستطيع الإنسان توقعه، كالظواهر الطبيعية (الفيضانات والجفاف، والأمراض والحرائق والجراد) وغارات العدو وفعل السلطة، ويكون من شأنه أن يجعل التنفيذ مستحيلاً.
[38] – محمد سعيد بناني : قانون الشغل في ضوء مدونة الشغل، علاقات الشغل الفردية، ج: II، م I، مكتبة دار السلام، ط يناير 2007، ص 56.
[39] – هشام الدرقاوي : م.س، ص 215.
[40] – المادة 559 من م.ش.
[41] – أنظر المادة 561 من م.ش.
[42] – محمد سعيد جرندي : م.س، ص 170.
[43] – محمد المكي : مرجع سابق، ص 135.
[44] – محمد المكي : مرجع سابق، ص 135.
[45] – أنظر المادة 561 من مدونة الشغل المغربية.
[46] – محمد المكي :مرجع سابق، ص: 136.
[47] – قامت اللجنة الوطنية للبحث والمصالحة، بدراسة ومعالجة 17 نزاعا جماعيا خصصت لها 27 اجتماعا، وقد تمت تسوية 9 نزاعات من مجموع هذه النزاعات، أي بنسبة 53%..
– أنظر التقرير الصادر عن وزارة التشغيل بخصوص النصف الأول من سنة 2010.
[48] – عبد الله معوني : نزاعات الشغل الجماعية وطرق تسويتها، المعهد الوطني للدراسات القضائية، 1999-2001، ص 63.
[49] – عبد الله معوني : مرجع سابق، ص 63.
[50] – عبد اللطيف خالفي : الأطروحة السابقة، ص 329.
[51] – مولاي البشير الشرفي : مرجع سابق، ص 258.
[52] – الحاج الكوري : مرجع سابق، ص 358.
[53] – أنظر المادة 581 من مدونة الشغل.
[54] – يوسف حنان : المصالحة كآلية لفض نزاعات الشغل الجماعية، مجلة العلوم القانونية، العدد الأول، سنة 2003، مكتبة دار السلام، الرباط، ص 180.
[55] – المنتدى النقابي الأورو متوسطي : دراسة مقارنة لقانون العمل في البلدان العربية الشريكة، الطبعة والسنة غير مذكورتين، ص 102.
[56] – عبد اللطيف خالفي: “الوسيط في مدونة الشغل، الجزء الثاني، علاقات الشغل الجماعية”، مرجع سابق، ص 232.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً