بحث قانوني حول الوجه القانوني للتجريم و العقاب
ا/ مرام الهناندة
يتميز القانون الجنائي بتأثره بالفكر السياسي السائد وقت تشريعه، وبقوة تأثيره على أنماط السلوك الاجتماعي ومدى الحريات العامة، ويتجلى ذلك في فرعي القانون الجنائي، قانون العقوبات وقانون أصول المحاكمات الجزائية.
وعلى هذا النحو يمكن تلمس الفروق الجوهرية بين نظام الدولة القانونية الديمقراطية وبين الدولة البوليسية أو الاستبدادية من خلال السياسة الجنائية السائدة. وهذا الفرق هو الذي يفسر اهتمام الفلاسفة والمفكرين والمثقفين عموماً منذ قديم الزمان بالفكر القانوني وخاصة بفرعه الجنائي. لما له من تأثير جوهري على إطلاق أو تقييد الحريات العامة وخاصة حرية المعتقد والتعبير.
وينفذ الأثر السياسي الى القانون الجنائي عبر الدستور من خلال ما يتبناه المشرع الدستوري من سياسة جنائية وما يفرضه من مبادئ دستورية عامة تحكم قواعد هذا القانون وتنظم عملية صياغة الأفكار القانونية او الفلسفة الجنائية التي يتضمنها وهي في حقيقتها تعبير عن ايديولوجية سياسية سائدة سواء كانت رأسمالية او اشتراكية او دينية او علمانية.
ونظراً لان الوثيقة الدستورية تتصف بالعمومية والمرونة في الصياغة يتطلب الأمر الكشف على ما تنطوي عليه من مبادئ عامة ومدلولات سياسية واقتصادية واجتماعية وهذه مهمة الفقه على الصعيد النظري ومهمة القضاء على الصعيد العملي.
والتبادل المعرفي بين الفقه والقضاء مؤكد عبر التاريخ، وغالباً ما يتبنى القضاء نظرية فقهية في التفسير والتحليل وكثيراً ما تبنى الفقهاء أحكام قضائية مبدعة استنبطوا منها نظريات عامة وليحولوها من الخاص الى العام.ويأتي بعد ذلك المشرع ليتبنى النظرية الفقهية ويدمجها في نظامه القانوني عبر التشريع.
ومن جانب اخر يفرض قانون العقوبات أنماطا من السلوك الاجتماعي مقترنة بجزاء قانوني على من يخرج عنها، بهدف حماية المصالح العامة والخاصة والقيم الاجتماعية فضلاً عن حماية الحقوق والحريات العامة.
بينما يتولى قانون أصول المحاكمات الجزائية،الذي يعرف في فقه القانون بأنه قانون الحريات العامة، تنظيم الحماية الدستورية للحقوق والحريات العامة في إطار المبادئ ا الدستورية التي تنظم إجراءات الدعوى الجزائية أثناء التحقيق والاتهام والمحاكمة القضائية وتنفيذ الأحكام وقواعد التوقيف والتفتيش وإلقاء القبض وغير ذلك من إجراءات قضائية.
ان الهدف النهائي لقانون الأصول هو الموازنة بين الحرية الشخصية والمصلحة العامة، بمعنى اخر الموازنة بين حق الدولة في العقاب وحق الفرد في الدفاع عن نفسه عن تهمة قد تكون باطلة.
ونتناول في بحثنا هذا أصل من الأصول القانونية المتصلة بالحقوق والحريات العامة الا وهو مبدأ قانونية الجريمة والعقاب.
المبحث الأول
مبدأ قانونية التجريم والعقاب في المفهوم والأصل التاريخي
من المبادئ المسلم بها دستورياً قاعدة (لا جريمة ولا عقوبة الا بقانون) وتعرف هذه القاعدة في فقه القانون الجنائي بمبدأ الشرعية او مبدأ قانونية الجريمة والعقاب.
ويشكل مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات أحد مبادئ القانون الجزائي الضامنة للحريات العامة وحقوق الإنسان.
ومفاد هذا المبدأ، إن اي فـعـل لا يمكن اعتباره جريمة تترتب عليه عقوبة الا اذا نص القانون على اعتباره جريمة معاقباً عليها، وبخلاف ذلك فان كل فـعـل لـم تحدد أركانه بوضوح في نص وتوضع لـه عقوبة مقررة، لا يمكن ان يعاقب فاعله. لأن الاصل فـي الأشياء الإباحة، وكل فعل لـم يجرم صراحة بنص، لا يجوز المعاقبة عليه ولو خرج على القواعد الأخلاقية وقيم المجتمع. وهذه هـي دولة القانون.
والمبدأ هو نتاج تطور تاريخي طويل يمثل في احد أوجه صورة الصراع بين الشعوب والسلطات الحاكمة لنيل الحرية ومقاومة الاستبداد.
ففي العصور القديمة لم تكن القوانين مكتوبة وكـان كبار رجال القبيلة يفصلون في الجرائم مستندين الى مصلحة الجماعة ولم تكن تخلو في احيان كثيرة من القسوة والتعسف والمزاجية الانية كالصلب والقتل والجلد وتقطيع الأوصال والرمي فـي البحر والإلقاء مـن مكان شاهق، او الالقاء الى الوحوش الـمفترسة.
وكانت هذه العقوبات مبنية اساساً على رغبة الانتقام ولا تعرف للرحمة طريقا الا في حالات نادرة، وعبر الزمن ثم تحولت تلك الاحكام الى اعراف اجتماعية.
وابتدع العراقيون القدماء فكرة القوانين المكتوبة، وعلى هذا النحو سار قانون اورنمو(2111 ـ 2103 ق. م) وقانون لبت عشتار (1934 ـ 1924 ق. م)وقانون حمورابي (1694 ق.م)، وعلى هذا يمكن القول ان جذور المبدأ هي من نتاج الفكر العراقي القديم.
ثم تبعتها لاحقاَ قوانين اليونان (قانون دراكون ـ 620 ق.م) والرومان القديمة (قانون الالواح الاثني عشر 450 ق.م).
ولم يكن المبدأ مضمون التطبيق ولم يترسخ الا بعد نشوء وتطور فكرة الفصل بين السلطات،وان اشارت الى المبدأ بعض المواثيق التي فرضت على الملوك بالقوة مثل ميثاق هنري الاول (1100م) والعهد الاعظم في انكلترا(1215م) ومما جاء فيه (لن يسلب أي رجل حر أملاكه أو يسجن على يد رجال آخرين مساوين له إلا إذا خضع لمحكمة عادلة أو لن نبيع العدالة لأحد ولن ننكرها على أحد، ولن نؤخرها عن أحد.)، فقد كان الملوك يضعون القوانين الصارمة ولكنهم سرعان ما يتخلون عنها في اللحظة التي تتعارض مع مصالحهم، ففي عصور الملكية المطلقة كانت رغبات الملك واوامره بمثابة قانون غير ملزم له، وفي القرون الوسطى كان للقضاة سلطة التجريم والعقاب بصورة تحكمية ودون نص من القانون.
ان الظلم المتولد عن الاحكام التعسفية والجائرة هز ضمير الفلاسفة والمفكرين والادباء فاشتدت الدعوات تدريجياً الى تحكيم مبادئ العدل والأنصاف.
وفي العصور الحديثة تبنى كبار الفلاسفة والمفكرين مبدأ قانونية الجريمة والعقوبة، مثل روسو ومونتسكيو وفولتير وتلامذتهم الذين اسسوا العلوم الجنائية واقاموهـا عـلـى فكرة العدل والحق، ويقف عـلـى راس هؤلاء الايطالي بيكاريا.
فقد ذهب بيكاريا الى ان القوانين هـي وحدهـا الـتـي تستطيع ان تضع العقوبـات، الـمطبقة عـلـى الجرائم.
وتنسب صياغة القـاعـدة القانونـيـة، بشكلها الحديث الى الالـماني فيرباخ الـذي عاش فـي القرن الثامن عشر.
ومنذ اواخر القرن الثامن عشر اصبح المبدأ مبدأً دستورياً حين تبنته الولايات الـمتحدة الامريكية فـي دستورهـا عـام 1774، وتبعتهـا فرنسا بعد ثورتهـا عـام 1789.
كما اضحى المبدأ من الحقوق المنصوص عليها في الوثيقة الدولية لحقوق الانسان ممثلة في الاعلان العالمي لحقوق الانسان لسنة 1948 الصادر عن هيئة الأمم المتحدة في المادة 11 / 2 منه.كما ونصت عليه لاحقاً العديد من الاتفاقيات والمواثيق الدولية، فضلاً عن اغلب دساتير دول العالم.
ان فلسفة مبدأ قانونية الجريمة والعقاب تتمحور حول فكرة اساسية مفادها الموازنة بين المصلحة العامة والحريات العامة وتهدف في آن واحد الى حماية المصلحة العامة وحماية الحريات الفردية.
ان حماية المصلحة العامة تتجسد في اسناد وظيفة التشريع الى المشرع وحده تطبيقاً لمبدأ انفراد المشرع بالاختصاص التشريعي في تنظيم الحقوق والحريات العامة لتكون بيد ممثلي الشعب لا بيد رجال السلطة التنفيذية.
بينما تتجسد حماية الحريات العامة من خلال تبصير الافراد بما هو غير مشروع من الافعال قبل الاقدام عليها بما يضمن لهم الطمأنينة والامن الشخصي ويحول بذلك دون تحكم القاضي بحرياتهم الشخصية.
وقد يرد المبدأ بالصيغة الاتية (لا جريمة ولا عقوبة الا بقانون او بناءاً على قانون)، ويترتب على اختلاف الصيغتين اثار قانونية مهمة سنوضحها لاحقاً.
ويترتب على هذا المبدأ عدة اثار،هي احتكار المشرع لسلطة التجريم والعقاب وان الاصل في الافعال الاباحة وعدم رجعية القانون الجنائي وان ليس للقاضي ان يخلق جريمة او عقوبة لم ينص عليها القانون ونتناول ذلك في اربعة مباحث يضاف اليها مبحث عن المبدأ في الشريعة الاسلامية.
المبحث الثاني
سلطة التجريم والعقاب
يهدف قانون العقوبات الى حماية المجتمع على نحو يضمن ممارسة المواطنين لحقوقهم وحرياتهم بطريقة سلمية. ووسيلة قانون العقوبات الى ذلك هو احداث التوازن بين المصلحة العامة والمصالح الخاصة من خلال تحديد نطاق التجريم والعقاب بوضوح تام، واذا نص الدستور على حرية او حق معينين فلا يجوز ان تمتد اليهما يد التجريم من قبل السلطة التشريعية، كما ان ممارستها لا تتوقف على سن تشريع تطبيقاً لمبدأ علوية الدستور.
ووفقاً لمبدأ قانونية الجريمة والعقاب فان المشرع لوحده هو الذي يحتكر سلطتي التجريم والعقاب في المجتمع، بمعنى اخر ان مصدر قانون العقوبات هو التشريع حصراً، والى هذا التشريع يرجع فقط لبيان ما إذا كان فعل ما او امتناع عن فعل ما يخضع للتجريم ام لا ومن ثم تحديد الجزاء المترتب على ذلك الفعل اذا تبين انه يشكل بالفعل جريمة.
وينبغي ان تكون نصوص التجريم دقيقة وواضحة وغير قابلة للتأويل لان الغموض في قواعدالتجريم والعقاب قد يكون سبباً في تجريد هذا المبدأ من قيمته الدستورية وسبباً للتعسف في الاحكام.
وتطبيقاً لمبدأ الشرعية، لا جريمة ولا عقوبة الا بنص، فان التشريع هو المصدر الوحيد لقانون العقوبات، الا انه بصدد تطبيق مبدأ الشرعية، يميز فقه القانون الجزائي بين نوعين من القواعد الجزائية:
أـ القواعد الجزائية الايجابية: وهي القواعد التي تبين الجرائم والعقوبات المقررة لها، مثل القاعدة التي تعاقب على القتل والسرقة والرشوة وغيرها.
وهذه مصدرها التشريع لوحده تطبيقاً لمبدأ الشرعية (لا جريمة ولا عقوبة الا بنص)، فان لم يوجد نص يحكم واقعة معينة، ومهما كانت الواقعة مضرة او مسيئة للنظام العام والاداب العامة في المجتمع، فان على القاضي ان يحكم بالبراءة وليس له في اية حال ان يخترع جريمة او ان يقرر عقوبة لها، لان المشرع لوحده هو القادر على ذلك في مثل هذه الاحوال. فضلا عن ان هذه القواعد يجب ان تفسر تفسيراً ضيقاً، لان القواعد الجزائية انما تأتي خلاف الاصل، والاصل هو حرية الانسان والاستثناء هو تقييد حريته، وكل تفسير يؤدي الى اضافة جريمة او عقوبة لم يقررها المشرع يعتبر مخالفة للدستور والقانون، لان مبدأ الشرعية، مبدأ نص عليه الدستور والقانون.
ب ـ القواعد الجزائية السلبية: وهي القواعد الجزائية التي تقرر قواعد البراءة واسباب الاباحة وموانع المسؤلية وكذلك احكام العفو العام والعفو الخاص مالم ينص على خلافه، وكل قاعدة تؤدي الى افلات المتهم من العقاب أي تعالج اوضاعاً لصالح المتهم كتلك التي تستبعد العقاب او تخفف منه.
وهذه القواعد لا تعتبر استثناء من الاصل، بل انها صورة من صور الاصل،لانها تنحو نحو الحرية والبراءة، ومن ثم لا يسري عليها مبدأ الشرعية (لا جريمة ولا عقوبة الا بنص) لانها لاتوجد اسباباً للجريمة وانما اسباباً للبراءة والحرية، هذا من جانب ومن جانب اخر فانها تخضع للتفسير الواسع لارتفاع قيد الاستثناء الذي يرد على القواعد الجزائية الايجابية، فهي قواعد تنحو نحو الحرية، والحرية لا تعد استثناء بل اصل، واذا زال المانع عاد الممنوع، أي اذا سقط القيد عاد حكم ما كان ممنوعا.
وعلى هذا جاز التوسع في تفسيرها والقياس عليها على اتفاق من الفقه والقضاء.
ومن تطبيقات ذلك ان القضاء والفقه في مصر استقر على اعتبار الدفاع الشرعي سبباً عاما لاباحة كافة الجرائم وان كان نص المادة (245) عقوبات مصري قد نص على اباحة القتل والضرب والجرح في حالة الدفاع الشرعي، فاذا نص القانون على اباحة القتل في حالة الدفاع الشرعي، واكتفى المدافع بفعل دون القتل، كالضرب او الجرح، فلا شك في اباحة الضرب والجرح قياساً على اباحة القتل من باب اولى، لان من يباح له الاشد يباح له الاخف،ومن يملك الاكثر يملك الاقل. وعلى هذا لا يعتبر سارقاً من جرد من شرع بقتله من سلاحه واحتفاظه به مؤقتا، ولا يعتبر تقييداً للحرية من حجز في غرفة من حاول قتله او قيده، او من حاول اضرام النار في في مكان عام او خاص، بشرط توفر جميع اركان وشروط الدفاع الشرعي وابلاغ السلطات فوراً او في اقرب فرصة متاحة.
وفي باب موانع العقاب كانت المادة (312) عقوبات مصري تنص قبل تعديلها على مانع عقاب فيما يتعلق بالسرقة بين الاقرباء والزوجين، ولكن القضاء المصري مد تطبيق مانع العقاب على سبيل القياس الى جرائم النصب وخيانة الامانة والغصب والتهديد بين الاقرباء والزوجين.
وهذا ما سار القضاء الفرنسي عليه ايضاً. وقد وضع الفقه الالماني والايطالي لنفسه قاعدة في هذا الصدد تقضي بالتفرقة بين نوعين من القياس هما قياس لصالح المتهم وقياس لغير صالحه، فالاول جائز والثاني غير جائز مع وجود مبدأ قانونية الجرائم والعقاب.
اترك تعليقاً