يبدو البحث في الشأن العراقي بشكل عام، وكيفية تنظيم العلاقة بين مكوناته الاساسية على وجه الخصوص امرا بالغ الصعوبة، ليس فقط لحداثة التجربة العراقية وقلة التشريعات المنظمة لتلك العلاقة، وانما بسبب الضغط النفسي الذي يواجهه الباحث جراء التسابق المحموم لاقتطاع ما يمكن اقتطاعه من املاك الرجل المريض، بدلا من تضميد جراحه النازفة والبحث عن دواء لامراضه المزمنة.
فاذا كانت المكوّنات المختلفة للشعب العراقي قد تعايشت بسلام منذ بدء الخليقة وفق قواعد دياناتها الخاصة وقواعد اعرافها (غير المكتوبة)، فان الواقع الراهن، والذي يفرضه شكل دولتها الجديد، يتطلب صياغة قواعد جديدة للعيش المشترك، الامر الذي لا يمكن فعله دون اللجوء الى التجربة الانسانية والموروث الايجابي بهذا الخصوص.
يضع التطور الاجتماعي القائمين على امور الدولة امام مهمة بالغة التعقيد وهي تامين وحدة المنظومة القانونية، تلك المهمة التي رافقت الدولة والحق منذ نشوئهما كتوأم سيامي يكاد الفصل بين جزئيه يكون مستحيلا.
واذا كان فصل التوأم ممكنا بالتضحية باحدهما، فان فصل الحق عن الدولة سيؤدي لا محالة الى القضاء على كليهما، الامر الذي يؤدي الى سيادة بدائل الدولة المختلفة، مع كل ما يترتب على ذلك من انشاء جيوش وقوى (امن) ومحاكم وسجون وما الى ذلك من هياكل هي اقرب الى مؤسسات القطاع الخاص منه الى اجهزة دولة، الامر شهدنا، وما نزال نشهد، فصوله الماساوية في التجربة العراقية الراهنة. ويبدو الامر اكثر تعقيدا في الدول التي اتخذت من الفيدرالية شكلا للدولة، ذلك ان الطبيعة الشائكة للعلاقات بين المركز ومكوّنات الدولة لابد وان تلقي بظلالها على المنظومة القانونية ايضا.
من هنا لجأ منظرو القانون الدستوري والمشرعون الى اعتماد آليات مختلفة لحل هذه الاشكالية التي اصبحت ثلاث منها الاكثر شيوعا في تطبيقات الدول الفيدرالية المعاصرة. وتتلخص اولى تلك الآليات في توسيع اختصاصات السلطات المركزية، اما الثانية فتذهب الى تحديد الأطر العامة لتشريع الاطراف الفيدرالية، فيما يتم على اساس الثالثة اعتماد نموذج موحد لتشريعات الاقاليم المختلفة. بمعنى وضع نموذج يصبح معتمدا من قبل جميع مكوّنات الدولة الفيدرالية.
ان حصيلة عملية التكامل في المجالين الاقتصادي والسياسي افضت ، كما تثبت التجربة، الى توسيع صلاحيات اجهزة السلطة الفيدرالية. ففي بلدان ما يسمى بالحق العام (الولايات المتحدة، كندا، استراليا) توسع الصلاحيات هذا يجري خلال عملية تفسير القواعد القانونية من قبل المحكمة الفيدرالية العليا.
في حين يتم ذلك (توسيع الصلاحيات) في بلدان اخرى عن طريق سن دساتير جديدة (دستور البرازيل لعام 1988)، او من خلال ادخال تعديلات على التشريعات السارية (التجربة الهندية).
فمعالجة التناقض والتنازع والنقص في تشريعات الاطراف الفيدرالية (الاقاليم والولايات والمحافضات والاراضي…الخ) تتم من خلال توسيع صلاحيات السلطات المركزية وفق اليات ينص عليها دستور الدولة، او الاتفاقيات (العقود) الفيدرالية.
اذ عادة ما يتم تضمين الدستور جملة من الممنوعات، يكون هدفها الاساسي قطع الطريق على الاطراف الفيدرالية ومنعها من اعتماد تشريعات قد تفسح المجال لتعسف اجهزة السلطة فيها، وخصوصا في مجال حقوق المواطنين وحرياتهم الاساسية، او خرق التزامات تلك الاطراف، سواءا تجاه السلطات المركزية او في العلاقة مع مكوّنات الفيدرالية الاخرى (اطرافها)، ذلك ان تنظيم الكثير من العلاقات في الدولة الفيدرالية يتم بابرام عقود فيدرالية، تكون لخرقها تبعات قانونية قد تصل، كما تشير التجربة، الى تفعيل مبدأ التدخل الفيدرالي.
ان المتتبع لحركة التطور في عملية تكامل المنظومة القانونية للدولة (اية دولة كانت) سيلمس بسهولة لوحة متناقضة وبالغة التعقيد. ففي كثير من الاحيان تتاخر حركة التكامل القانوني عن عمليات التكامل في مجال الاقتصاد والسياسة. وربما كان ذلك ناتجا عن اولوية الاقتصاد والسياسة بالمقارنة مع الحق، والذي يلعب، في جميع الاحوال، دور الخادم لمالكي (مفاتيح) الاقتصاد وصانعي السياسة.
من هنا التشوش الكبير في المنظومة القانونية العراقية، والتي لا اعتقد ان هناك ضرورة لاعطاء توصيف للوضع العراقي الراهن، سواء في مجال الاقتصاد او السياسة. ويبدو امر التكامل القانوني اكثر تعقيدا وتشابكا في الدول، التي اتخذت من الفيدرالية شكلا للدولة، فوجود منظومات قانونية اخرى، ممثلة بتشريعات الاقاليم، والتي تعكس هي الاخرى ارادة القوى السائدة اقتصاديا وسياسيا في تلك الاقاليم، يجعل من الضروري ايجاد الية للتنسيق بين تلك المصالح والارادات، وبالشكل الذي يؤمن التوازن الاجتماعي في جميع اقاليم الدولة الفيدرالية، الامر الذي يساعد على استقرار سلطة الدولة كاملة.
وربما كانت تجربة الاقاليم الالمانية في حسم التنازع بين المنظومات القانونية، وخصوصا بعد توحيد الالمانيتين، امرا جديرا بالدراسة.
حيث يشغل اقليم هيسين المرتبة الثانية من بين اقاليم (اراضي) الدولة بعد اقليم بادن فيوتيمبيرغ، فيما كان هدف الاقاليم الالمانية الجديدة الارتقاء بمناطقها الى مستوى الاطراف الغربية من الدولة، حتى وان كان ذلك على حساب استقلالها النسبي وحجم الصلاحيات الممنوحة لسلطاتها المحلية. ولتنفيذ تلك الاهداف تم التوصل الى توافق يهدف الى تقليص الشروط التي تحول دون حصول السلطات المركزية على اختصاصات اضافية للنهوض بواقع الاراضي الجديدة، وذلك عن طريق تصديق البندوسرات (المجلس الذي يمثل الاقاليم في البرلمان) على تلك الصلاحيات.
في ذات الوقت تكتفي السلطات الفيدرالية باصدار (قوانين الاطار) دون اللجوء الى اصدار تعليمات صارمة تتدخل في تفاصيل تطبيق تلك القوانين، الامر الذي يتيح للسلطات المحلية في الاقاليم حرية القيام بالاجراءات التكميلية.
فيما اجهض تحالف اغلبية اقاليم الدولة مع السلطات المركزية مطالب منطقة هينيس المتلخصة بمنح الاقاليم حقوق اضافية في مجال الاختصاصات المشتركة، الامر الذي كان من شأنه تقليص تاثير السلطات الفيدرالية على اجهزة السلطة في اقاليم الدولة.
اما الاسلوب الثالث لتحقيق تكامل المنظومة القانونية للدولة الفيدرالية فيتلخص بقيام الاطراف الفيدرالية بسن واعتماد تشريعات متجانسة (موحدة).
ففي الولايات المتحدة الامريكية، على سبيل المثال، يتم صياغة تلك التشريعات في الكونفرنسات الوطنية المتخصصة بتوحيد قوانين الولايات.
اما في كندا والمانيا واستراليا فيتم تنفيذ هذه المهمة خلال مؤتمرات واجتماعات ممثلي السلطة التنفيذية، حيث يتم احالة مشاريع القوانين المصاغة من قبل تلك الهيئات الى اجهزة الاقاليم التشريعية (البرلمانات) لاقرارها.
وربما يكون من المفيد هنا القول بان واحدا من اسباب الاشكاليات المرافقة لبناء الدول العراقية الجديدة هو غياب الآلية، التي من شانها ازالة الشوائب التي تكاد تكون ملازمة لتشريعات الاطراف الفيدرالية، وخصوصا اذا ما سنّت تلك التشريعات في اجواء الارتباك السياسي وظروف المرحلة الانتقالية.
ان واحدا من اهداف التكامل القانوني هو تفعيل مبدأ علوية التشريعات الفيدرالية وسريان قواعدها على كامل تراب الدولة، بما في ذلك اقاليمها، والتي تصدر اجهزتها المحلية تشريعات يقتصر سريانها على اراضي الاقليم. فقد نص الدستور المكسيكي على ان سريان قوانين الولايات تسري بحدود اراضيها ولا تكون الزامية خارج حدود الولاية (المادة 121).
ذات الامر ممكن العثور عليه في الدستور الهندي لعام 1952، والذي اكد ان لبرلمان الولاية اصدار قوانين في مجال اختصاصاته، بحيث تسري احكامها على الافراد والمنشات الموجودة على اراضي الولاية المعنية (المادة 499). وفي هذا الاطار اكدت (المادة v ) من الدستور الامريكي على عدم جواز تعارض دساتير وقوانين الولايات مع الدستور الفيدرالي والعقود الموقعة من قبل الولايات المتحدة الامريكية.
فيما ثبت القانون الاساسي لجمهورية المانيا الفيدرالية افضلية القانون الفيدرالي على تشريعات الاراضي (المادة 31). وكانت الفقرة (2) من المادة (4) من الدستور الروسي لعام (1993) واضحة حين نصت على ان” دستور روسيا الفيدرالية والقوانين الفيدرالية تمتلك العلوية على كافة مساحة روسيا الفيدرالية”.
ان من المسائل التي استأثرت باهتمام واسع من قبل الباحثين في الشأن الفيدرالي هي مسألة التنازع بين التشريعاات الفيدرالية وتلك الصادرة عن اجهزة السلطة في الاطراف. فكون التشريع الفيدرالي يسري في جميع انحاء الدولة، يكون احتمال تنازع قواعده مع القوانين المحلية للاقليم امرا واردا.
وفي جميع الاحوال فان التنازع ممكن الحصول في مجال الاختصاصات المشتركة، والتي عادة ما تثير تنافسا، حول هذه القضية او تلك، بين السلطات المركزية واجهزة السلطة في الاقاليم.
فيما يبدو التنازع غير ممكن في مجالات الاختصاص الحصري للاقاليم، وخصوصا في الدول التي ذهبت دساتيرها الى تحديد الاختصاصات بالشكل الذي لا يدع مجالا للتأويل والقراءات المختلفة. وربما كانت الضبابية وعدم الوضوح وامكانية القراءات المختلفة للقواعد المنظمة لتوزيع الاختصاصات بين السلطات الاتحادية واجهزة السلطة في الاقاليم، والتي تضمنها الدستور الدائم لدولة العراق (2005)،
ربما كان كل ذلك سببا في السجال الدائر حاليا بين السلطات المركزية وسلطات اقليم كردستان لاقدام الاخيرة على توقيع عقود مع شركات اجنبية للتنقيب عن النفط في كردستان العراق، دون التنسيق مع السلطة المركزية. الامر الذي يؤشر، كما نعتقد، الى بداية غير سليمة للعلاقة بين السلطات الاتحادية وسلطات الاقليم، ويشكل في حال تعميمه على الاقاليم المزمع تكوينها تهديدا لوحدة العراق وامنه الاقتصادي.
عند الحديث عن التكامل القانوني في الدولة الفيدرالية لابد من الاشارة الى ان مبدأ علوية التشريعات الفيدرالية يشكل الأساس الاهم لتفعيل الرقابة الدستورية.
حيث تقوم السلطات القضائية المختصة (المجلس الدستوري، المحكمة الدستورية الفيدرالية، المحكمة الاتحادية العليا…الخ) بدور بالغ الاهمية في تعزيز التشريعات الفيدرالية، وهنا اجد من المفيد التاكيد على الخصوصية التي تميز بها القضاء الدستوري الكندي، والذي لا يؤدي قراره باعتبار الاولوية للتشريع الفيدرالي الى الغاء قانون المحافظة، وانما الى ايقاف العمل به. فيما يؤدي الغاء العمل بالتشريع الفيدرالي الى اعادة الحياة لقانون المحافظة (المجمد).
بالاضافة الى ذلك فان حل التنازع بين القاعدة الفيدرالية ومثيلتها في تشريع الاقليم يتم فقط من خلال التاكد من دستورية القاعدة الفيدرالية، ذلك ان الاقرار بدستورية الاخيرة يغني عن الاستمرار بالنظر في القضية، موضوعة التنازع.
اما في الولايات المتحدة الامريكية فان تاكيد علوية التشريع الفيدرالي تزامنت مع تطوّر اختصاص الاستئناف بالنسبة للمحكمة الاتحادية العليا، والتي بامكانها استئناف بعض القضايا المنظور بها من قبل محاكم الولايات، استنادا الى قرار الكونغرس الامريكي لعام 1789، والذي ربط امكانية استئناف تلك القضايا بحكم صادر عن محاكم الدرجات العليا للولاية او المحاكم الاتحادية الدنيا، يعتبر قانون الولاية مخالفا لدستور الولايات المتحدة الامريكية او القانون الفيدرالي وكذلك الاتفاقيات الدولية المصادق عليها من قبل برلمان الدولة.
ويمكن ان يطال الاستئناف كذلك قرارات محاكم الدرجة الاولى في الولايات والاتفاقات الدولية والقوانين الفيدرالية، اذا استنتجت المحكمة الفيدرالية العليا بان قواعد تلك التشريعات والقرارات والعقود تمس قضايا الاتحاد.
الامر الذي يؤكد اهمية القضاء في تعزيز مركزية المنظومة القانونية للدولة الفيدرالية. ولم تكتف المحاكم الفيدرالية الامريكية بالنظر في قضايا تنازع قوانين الولاية مع التشريع الفيدرالي فقط، وانما في القضايا الناشئة عن تنازع قواعد تشريعات الولايات فيما بينها.
ان عملية تكامل المنظومة القانونية للدولة الفيدرالية وتفعيل مبدأ علوية التشريع الفيدرالي لا تقتصر على القوانين الصادرة عن جهاز الدولة المخوّل (البرلمان في اغلب الاحيان) وقرارات المحاكم الاتحادية وانما تنسحب ايضا على جميع اللوائح الصادرة عن اجهزة الدولة، بما في ذلك الجهاز التنفيذي (الحكومة)، اي كل ما يمكن ادراجه تحت عنوان مصادر الحق، بمعناه الواسع.
فالقرارات الصادرة عن الحكومة الفيدرالية تمتلك قوة قانونية ملزمة، حتى بالنسبة لدستور الطرف الفيدرالي (الاقليم).
وهنا اجد مناسبا الاشارة الى ان النموذج الروسي في تحديد القوة القانونية لمصادر التشريع يكاد يقترب من الدوّل البسيطة، مع ان روسيا تعتبر واحدة من اكبر واعقد الدوّل الفيدرالية في العالم المعاصر، حيث تظم في الوقت الحاضر 84 مكوّنا، ستصبح اعتبارا من اذار القادم 83 نتيجة لحملة اندماج كيانات الدولة المختلفة.
واذا كان ثمة من خلاصة يمكن الخروج بها هنا فهي ان التكامل، بما في ذلك في مجال الحق، اصبح من سمات العصر المميزة. وان مهمة بناء دولة الحق والمؤسسات تكون اكثر صعوبة، وربما مستحيلة، دون ايجاد القاعدة المتينة من التشريعات المتجانسة
اترك تعليقاً