الحق في التزام الصمت أمام الضابط القضائية
بين النظرية والواقع
بقلم : ذ. عزيز لعويـســـي
لقد نصت مختلف المواثيق والتشريعات الدولية ذات الصلة بحقوق الانسان على مبدأ الحق في المحاكمة العادلة لما له من تعزيز وتوطيد لحقوق الإنسان ومن ضمانة لحقوق الأشخاص المعتقلين في جميع أطوار المحاكمة بما فيها مرحلة الأبحاث التمهيدية التي تباشرها الشرطة القضائية ، والمغرب وكغيره من الدول قام بتنزيل هذا الحق على مستوى التشريع الأساسي (الدستور)والتشريع الجنائي الشكلي (قانون المسطرة الجنائية) ، حيث خول للشخص المعتقل على خلفية قضية من القضايا الجنحية أو الجنائية جملة من الحقوق والضمانات القانونية في طليعتها مبدأ “قرينة البراءة” وحقه في الإشعار بدواعي إيقافه وإخبار عائلته وحقه في الاتصال بالمحامي والمساعدة القضائية وكذا الحق في “التزام” الصمت ، وسنتوقف عند الحق الأخير في مرحلة البحث التمهيدي الممارس من قبل الشرطة القضائية ،ليس فقط باعتباره يعكس مدى تقدم الدولة في المجال الحقوقي والقانوني ، ولكن أيضــا بالنظر إلى بعض الصعوبات العملية التي يمكن أن يطرحها تطبيقه في هذه المرحلة التمهيدية للمحاكمة العادلة ،وعليه سنتوقف عند الحق في التزام الصمت وأساسه النظري الوطني (أولا) ثم مقاربة هذا الحق على مستوى واقع الممارسة(ثانيا) .
أولا : الحق في التزام الصمت وأساسه النظري :
1-مفهوم الحق في التزام الصمت :
يقصد بالصمت بشكل عام امتناع الشخص عن التعبير عما بداخله، والتعبير عن الإرادة يكون تعبيرا صريحا أو ضمنيا ، والتعبير الصريح يكون باللفظ وهو الوسيلة المعتادة أو بالكتابة أو بالإشارة المتداولة عرفا (1) ، كما يقصد بــه أن يضل المتهـــم صامتا لا يتكلـــــم لا بالسلب ولا بالإيجاب ، ســـــواء كان ذلك في مرحلة جمــــع الاستدلالات أمام الشرطـــة ،أو في مرحلة التحقيق الابتدائــي أمام النيابــة العامــة أو قاضي التحقيق ، دون أن يعــد صوته بأي حال من الأحــوال، قرينة أو دليــلا ضــده (2) ، وعليه يمكن القول أن الحق في التزام الصمت هو تلك الحرية التي يمنحها القانون للمتهم ،والتي يستطيع بموجبها الامتناع عن إبداء أجوبة أو تصريحات سواء أمام الشرطة القضائية أم أمام السلطات القضائية ، وهذا الحق يتيــح للمعني بالأمر /المتهم عند سؤاله أو استجوابه رفــض الإجابة عما يوجه إليه من أسئلــة إما جزئيا أو كليا ، دون أن يفهم من هذا الامتناع على أنه قرينــة على ثبوت الاتهام ضـده .
2- الأساس النظري للحق في التزام الصمت حسب التشريع الوطني :
بعيدا عن المواثيق والقوانين الدولية ذات الصلة بمجال حقوق الإنسان التي أحاطت الأشخاص الموقوفين أو المعتقلين بجملة من الضمانات القانونية تدعيما وتعزيزا للحق في المحاكمة العادلة (3)، فقد سار التشريع الوطني في نفس الاتجاه بالنظر إلى أهمية هذا الحق في توطيد حقوق الإنسان ، وفي هذا الصدد فقد كرسه الدستور المغربي(4) من خلال التنصيص على أن قرينة البراءة والحق في محاكمة عادلة مضمونان . وأن كل شخــص معتقل يتمتـع بحقوق أساسيــة، وبظروف اعتقال إنسانية ( الفصل 23) ، كما كرسه من خلال الفصل الفصل 23 الذي أوجب إخبار كل شخــص تم اعتقاله، على الفـــور وبكيفية يفهمها، بدواعي اعتقاله وبحقوقه، ومن بينها حقه في التــــزام الصمت” ، ولم يتوقف المشرع الدستوري عند هذا الحد ، بل صان السلامة الجسدية أو المعنوية للشخص من خلال الفصل 22 ومنع المساس بهــا في أي ظــرف ، ومن قبل أي جهـــة كانت، خاصة أو عامة . وكذا التنصيص على عدم جــواز معاملة الغيــر، تحت أي ذريعة، معاملة قاسية أو لا إنسانية أو حاطة بالكرامة الإنسانيـة ، معتبرا أن ممارسة التعذيب بكافة أشكاله، جريمة يعاقب عليها القانون ، وقد سار التشريع الجنائي المسطري على نحو التشريع الدستوري ، من خلال التنصيص في المادة الاولى (5) على أن البراءة هي الأصل الى أن تثبت إدانة الشخص بحكم مكتسب لقوة الشئ المقضي به بناء على محاكمة عادلة تتوفر فيها كل الضمانات القانونية، وتنزيلا لمقتضيــات الوثيقة الدستوريـــة ، فقد عزز هذا التشريع الجنائي المسطري المحاكمة العادلة بعدما أحاط الشخص المقبوض عليه من قبل الشرطة القضائية بمجموعة من الضمانات القانونية ومن ضمنها إخبــار الشخص المقبوض عليه أو الموضوع تحت الحراسة النظريـــة فورا وبكيفية يفهمها بدواعي اعتقاله وبحقوقه ومن بينها حقه في التزام الصمت (6) إضافة لحقه في الاستفادة من مساعدة قانونية ومن إمكانية الاتصال بأحد أقربائه والحق في تعيين محام وكذا الحق في طلب تعيينه في اطار المساعدة القانونية ، وهو نفس الاتجاه الذي سار عليه المشرع من خلال مسودة قانون المسطرة الجنائية (7) .
ثانيا : واقع تطبيق مبدأ الحق في التزام الصمت :
لقد أنيطت بضباط الشرطة القضائية بموجب التشريع الجنائي المسطري جملة من المهام والاختصاصات من قبيل تلقي الشكايات والوشايات وإجراء الأبحاث التمهيدية وممارسة السلطات المخولة لهم في إطار حالة التلبس بجناية أو جنحة ( المادة 21) ، وبالتالي فمؤسسة الضابطة القضائية تقوم بأدوار متعددة الأوجه فيما يتعلق بمحاربة الجريمة بمختلف مستوياتها ، وعملها يشكل المدخل الأساس للمحاكمة العادلة ، لذلك وعلى مستوى واقع الممارسة ، تجد هذه الضابطة القضائية نفسها أمام معطيين إثنين :
أولا ضرورة تعميق الأبحاث والتحريات بشأن القضايا المعروضة عليها لمساعدة القضاء في الوصول إلى الحقيقة ، ثانيا ضرورة الالتزام بصيانة الحقوق التي متع بها المشرع الأشخاص المقبوض عليهم أو الموضوعين رهن تدبير الحراسة النظرية وعدم المساس بها و في طليعتها “الحق في التزام الصمت” ، وهؤلاء الأشخاص يختلفون حسب المستويات الاجتماعية والاقتصادية ، إذ يمكن أن نميز فيهم بين عديم السوابـق العدلية وبين من اعتاد على الجريمة ، بين المثقف وغير المثقف ، بين المشتغل والعاطل ، بين الموظف العادي والموظف الإطــــــار ، بين المستخــدم ومدير الشركة ، بين العامل والمهندس ، بين الممرض والطبيب … إلخ ، وبالتالي وفي ظل هذا الاختلاف ، قــد يتأثر ضابط الشرطة القضائية بالوضع الاجتماعي والاقتصادي للمشتبه فيه -الماثل أمامه- في إطار قضية من القضايا الجنحية أو الجنائية ، مما قد ينعكــس على منهجية تعامله مع الحقوق القانونية للمعني بالأمر ومن ضمنها حقه في التـــــزام الصمت ، فمثلا إذا كــان المشتبه فيه “عاطل” أو”من ذوي السوابق العدلية” قــد يتعامل ضابط الشرطة القضائية المعني بالبحث بنوع من “البراغماتية” في التعامل مع الحقوق القانونية ، حيث قد يتجاوزها بشكل ناعم ويكتفي بتضمينها بالمحاضر احتراما لشكليات هذه الأخيــرة خلافا للواقع ، تفاديا للوقوع فيما قد ينجم عن استعمال هذا الحق من عرقلة للإجراءات المسطرية ومن تضييق لدائرة الأبحاث والتحريات ، وقد يحدث العكس تماما ، لما يكون ضابط الشرطة القضائية –مثلا- أمام مشتبه فيه “طبيب” أو “مهندس” أو”إطار بشركة ” على وعي بما يخول له القانون من حقوق وضمانات ، ففي هــذه الحالة ، لايجد مناصا من تطبيق مقتضيات النص الجنائي المسطري ، بالحرص على اطلاع المعني بالأمر على كافة حقـوقه القانونيــة ، تفاديا لأية تداعيات لاحقة أو ردود أفعال من جانب الشخص المعني ، وســواء تعلق الأمر بالحالة الأولى أو بالثانية ، يمكن ربط “الحق في الالتزام بالصمت بواقـــع الممارسة ، وبالتالي التســاؤل هل كل ضباط الشرطة القضائية يقومون بتفعيل مقتضيات المادة 66 من قانون المسطرة الجنائية فيما يتعلق باطلاع المشتبه فيهــم بكافة حقوقهم القانونية ومن ضمنها حقهم في التـــزام الصمت ، بغــــض النظر عن مستوياتهم الاجتماعية والاقتصاية ؟ أم أن تطبيق مقتضيات هذه المادة تتحكم فيه عــدة اعتبارات من قبيل الوضع الاجتماعبي والاقتصادي للمشتبه فيه وضغط القضايا وهاجس احترام مدة الوضع تحت الحراسة النظرية والتقديم إلى العدالة ،وطبيعة الفعل الجرمي المقترف من قبيل جرائم الإرهــاب وتبييض الأموال وغير ها ، والتي تحتل فيها المعلومة المصرح بها أهميـة بالغــة ، وكــذا مدى جرأة ضابط الشرطة القضائية في تطبيق النص القانوني وما يقتضيه من إجراءات مسطرية ( الحق في تعيين محام ) أو ما قد تترتب عنه من آثار من شأنها التأثيــر على مسار البحــث (الحق في التزام الصمت) ، وبغــض النظر عن الكيفية التي تنزل بها الحقوق القانونية على مستوى واقــع الممارسة ، لا بد من الإشــارة إلى أن هذا الحق يعطي للمشتبه فيه إمكانية قانونية لالتزام الصمت وبالتالي عــدم الرد على الأسئلة الموجهة إليه ، وهو في ذات الآن يمس بحقوق أخرى من ضمنها حق الضحية في الوصول إلى الحقيقة وإدانة الطرف الجاني/ المشتبه فيه وحق القضاء بدوره في الوصول إلى الحقيقة والتي على ضوئها يتم تحديد الجزاء الذي يتناسب ودرجة الفعل المقترف ، وقبل هذا وذاك يمس بصميم عمل الضابطة القضائية ويغل يدها فما يتعلق بالأبحاث والتحريات التي تباشرها في إطار القضايا المعروضة عليها ، ذلك أن ضابط الشرطة القضائية إذا تجاوز “الحق في الالتزام بالصمت” بطريقة “ناعمة” واكتفى فقط بتضمينه بمحضر الاستماع كإجراء شكلي ، فهذا لن يثييــر أي إشكال من الناحية المسطرية ، لكن في حالة إذا مــا قرر المشتبه فيه “الالتزام بالصمت” بعد اطلاعه أن ذلك يبقى حقا قانونيا ، فهـــذه الوضعية قد تضع ضابط الشرطة القضائية في المحـك ، ممــا سيعرقل مجريات البحث والتحري ويقلص من فرص التوصل إلــى الحقيقــة ، مثلا إذا قرر المشتبه فيه الإجابــة عن أسئلة والتزم بالصمت في أسئلة أخـــــرى ، أو إذا شــرع في إبداء تصريحاته ولما تخابـر مع محاميه قرر الإلتزام بالصمت بشكل كلــي ، أو إذا صمـــم منذ البدايــة على الالتزام بالصمت بما في ذلك عــدم الإفصاح عن البيانات المتعلقــة بهويته الكبـــرى ، ففــي أي حالة من الحالات المذكورة إما يستقبل ضابط الشرطة القضائية تصريحات جزئيـــة لا تسعفــه في التعرف على درجة تورط الشخص المقبوض عليه وكذا الأشخاص المتورطين بمعيته في القضيــة (مشاركون، مساهمون) ، أو يواجه بالتزام “كلي” يجعله أمام نــوع من “المأزق المسطــري” مما يضيق من هوامش البحــث ، ويؤثر بالتالي على جودة المحاضر خاصة تلك المنجزة في إطار الجنح و التي يوثق بمضمنها إلى أن يثبت العكس بأية وسيلة من وسائل الاثبات (المادة 290من ق م ج)خصوصا إذا كانت وسائل الإثبات محدودة أو غير كافية لإدانة المشتبه فيه/ ملتزم الصمت (8).
وعليه فإذا كان هذا الحق تدعيما لحقوق الإنسان وضمانا قويا للمحاكمة العادلة ، فهذا الحــق قد يستغل من طرف بعض الأشخاص المشتبه فيهم لتقييد عمل الضابطة القضائية في الوصول إلى الحقيقة كما هو الشأن بالنسبة لقضايا الاتجار الدولي في المخدرات التي تقتضي نوعا من السرية والكثمان ، حيث يمكن استثمار هذا الحق القانوني إما لإبعاد الفعل الجرمي أو للتغطية على أفراد الشبكة ، ومــع ذلك لا يمكن لضابط الشرطة القضائية اللجوء إلى وسائل الإكراه لكسر حاجز الصمت وإرغام المشتبه فيه عن التصريح سواء كان الإكراه مادي (العنف، الحرمان من النوم والطعام والإرهاق …) أو معنوي (التهديد ، التخويف ،الإغراء ، الخداع …)(9) ، واستنادا إلى مبدأ “قرينــة البراءة” ، فالشخص المشتبه فيه ، لا يمكن عموما مطالبتــه بأي دليل لنفي الأفعال المنسوبــة إليــه ، أي أنه غيــر مطالب بإثبــات “براءة” قائمــة أصـــلا ، كما أن صمته لا يصــح أن يفســر على نحـو يضــر بمصلحتــه ، وفي ظل هذا الواقـــع ، فعبئ الإثبـــات يلقـــى على ضابط الشرطة القضائية المكلف بمباشرة البحــث ، من خلال البحث عن كل وسائل الإثبــات التي من شأنها إدانة المشتبه فيه الملتزم بالصمــت (معاينة ، حجز أدوات الجريمة أو مستندات ، شهود ، خبرات ، شهود ، مبلغين …إلخ) ، أما بعــض وسائل الإثبات الحديثــة كالاستجواب عن طريق التخدير أو استعمال جهــاز كشف الكذب أو التنويم المغناطيسي ،فنحن نــرى أن هكذا وسائل من شأنهــا أن تسلب الإرادة الحـــرة للشخص المشتبه فيـه ، ممــا سيشكـل مسا صارخا بالحق في التزام الصمــت.
إذن تأسيسا على ما سبق ، ورغــــم ما يلاقيه الحق في التزام الصمت من معارضة ، فإنه يعــد تقوية لحقوق الإنسان وضمانة قوية من ضمانات المحاكمة العادلة ، وهـــو حــق يضــع ضباط الشرطة القضائيــة أمــام تحـــدي البحث عن كل وسائل الإثبــــات القانونية في ظل الاهتمام المتزايد بالحق في المحاكمة العادلة ، وهذا لن يتأتى إلا بحسن تطبيق مقتضيات النص الجنائي المسطــري ، وتطوير آليات ووسائل عملهــا ، في ظل واقــــــــــع قانوني تهاوت فيه مقولــة “الاعتراف سيد الأدلــة ” .
الهوامــش
ساهر ابراهيم الوليد ،حق المتهم في الصمت وفقا للقانون الفلسطيني ، ص 35 ، موقع جامعة الازهر غزة فلسطين ،تاريخ التصفح : 02 دجنبر 2017 .
مقال حول موضوع حق المتهم في الصمت ، منشور بموقع الأهرام ، تاريخ التصفح : 02 دجنبر 2017 .
(3) من أجل المزيد من المعطيات حول المحاكمة العادلة ، ينظر في هذا الصدد : يونس العياشي، المحاكمة العادلة بين النظرية والتطبيق على ضوء المواثيق والمعاهدات الدولية والعمل القضائي ، سلسلة رسائل نهاية تدريب الملحقين القضائيين ، العدد 4 ، مطبعة دارالسلام الرباط ، يناير 2012 .
(4)الدستور الجديد للمملكة المغربية المراجع بموجب استفتاء يوليوز 2011 ، الجريدة الرسمية عدد : 5952 مكرر بتاريخ 14 رجب 1432 (17 يوليوز 2011)
(5)نصت المادة الاولى من المسطرة الجنائية على ما يلي كل متهم او مشتبه فيه بارتكاب جريمة يعتبر بريئا الى ان تثبت ادانته بمقرر مكتسب لقوة الشئ المقضي به بناء على محاكمة عادلة تتوفر فيها شروط الضمانات القانونية
(6)المادة 66 من قانون 22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائية .
(7) المادة 2-66 من مسودة قانون يقضي بتغيير وتتميم قانون المسطرة الجنائية ، وزارة العدل والحريات.
(8) لكي يتم الوثوق بمضمن المحاضر يتعين أن تجتمع فيها الشروط التالية : أن تكون محرر من طرف ضابط شرطة قضائية ، أن يتعلق الأمر بجنحة أو مخالفة ، ألا يتم إثبات عكــس ما تضمنه المحضر بكل وسائل الإثبــات ، ينظر في هذا الصدد :عبداللطيف بوحموش ، دليل الشرطة القضائية في تحرير المحاضر وتوثيق المساطر، مطبعة الأمنية بالرباط، الطبعة الاولى 2010 ، ص 175.
(9) مقال حول الحق في التزام الصمت، منشور بموقــع الإعلام الأمني ، ص 22,21 ، تاريخ التصفح : 02 دجنبر 2017 .
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً