بحث قانوني و دراسة حول الركن المادي للجريمة

بحث قانوني و دراسة حول الركن المادي للجريمة

تصنيف الجرائم على أساس الركن المادي للجريمة
علي عبدالله حمادة

ذهب أكثر الشراح إلى انه لا يمكن اعتبار من امتنع عن أداء واجبه بقصد وقوع جريمة مسؤولا عنها كمسؤولية الذي ارتكبها بالفعل ، إلا عندما ينص القانون على ذلك صراحة ، وهم يؤكدون بأن القانون الفرنسي لا يسوي بين الفعل وبين الامتناع عن الفعل إذا اتحدت نتيجتهما إلا بالنص .
وفي غير الحالات التي ينص عليها الشارع صراحة لا يمكن أن يكون الجاني مسؤولا عن جريمة ايجابية إلا إذا كان قد قام بعمل مادي في سبيلها ، ولا يكفي الموقف السلبي ولو أدى إلى النتيجة ذاتها التي يعاقب عليها القانون . وهذا الرأي لا اعتراض عليه في الأحوال التي لا يكون الجاني فيها ملزما بواجب يتعارض مع موقفه السلبي لان الأمر لا يخرج في هذه الحالة من نطاق الواجبات الأدبية

تصنيف الجرائم على أساس الركن المادي للجريمة .
المبحث الأول : تصنيف الجرائم على أساس صور الفعل ( مظهر السلوك الإجرامي )
المطلب الأول : الجرائم الايجابية والجرائم السلبية .
الفرع الأول : مفهوم الجريمة الايجابية والجريمة السلبية .
الفرع الثاني : أهمية تصنيف الجرائم إلى ايجابية وسلبية .
الفرع الثالث : الموقف من معاقبة فاعل الجريمة بالترك أو الامتناع في القانون السوري والقانون المقارن .
المطلب الثاني : الجرائم التامة والجرائم الناقصة ( المشروع بها ) والجريمة المستحيلة .
الفرع الأول : مفهوم الجريمة التامة .
الفرع الثاني : مفهوم الجريمة الناقصة ( المشروع بها ) .
– الشروع التام
– الشروع الناقص
الفرع الثالث : مفهوم الجريمة المستحيلة .
أولاً : نظرية الجريمة المستحيلة في الفقه الوضعي .
أ – الاستحالة المطلقة والاستحالة النسبية .
ب – الاستحالة القانونية والاستحالة المادية .
ثانياً – رفض نظرية الجريمة المستحيلة وموقف القانون السوري منها .
المبحث الثاني : تصنيف الجرائم على أساس نتيجة الفعل
الجرائم المادية والجرائم الشكلية
الفرع الأول : مفهوم الجرائم المادية والجرائم الشكلية .
الفرع الثاني : أهمية تصنيف الجرائم إلى جرائم مادية و جرائم شكلية .
المبحث الثالث : تصنيف الجرائم على أساس توقيت النشاط الإجرامي أو استمراره أو زمن اكتشافه .
المطلب الأول : الجرائم الفورية و الجرائم المستمرة و الجرائم المتعاقبة والجرائم الفورية ذات الأثر المستمر .
الفرع الأول : مفهوم الجرائم الفورية و الجرائم المستمرة .
الفرع الثاني :مفهوم الجرائم المتعاقبة والجرائم الفورية ذات الأثر المستمر.
الفرع الثالث : أهمية تصنيف الجرائم إلى جرائم فورية و جرائم مستمرة وجرائم متعاقبة .
المطلب الثاني : الجرائم المشهودة و الجرائم غير المشهودة .
الفرع الأول : مفهوم الجرائم المشهودة و الجرائم غير المشهودة .
الفرع الثاني : أهمية تصنيف الجرائم إلى جرائم مشهودة و جرائم غير مشهودة .
المبحث الرابع : تصنيف الجرائم على أساس انفراد النشاط الإجرامي أو وجوب تعدده .
الجرائم البسيطة وجرائم الاعتياد
الفرع الأول : مفهوم الجرائم البسيطة وجرائم الاعتياد .
الفرع الثاني : عقاب الجرائم البسيطة وجرائم الاعتياد .
الفرع الثالث : أهمية تصنيف الجرائم إلى جرائم بسيطة وجرائم اعتياد
تتمة جزء (2 )

المبحث الأول : تصنيف الجرائم على أساس صور الفعل ( مظهر السلوك الإجرامي )

المطلب الأول : الجرائم الايجابية والجرائم السلبية .

الفرع الأول : مفهوم الجريمة الايجابية والجريمة السلبية :

الجريمة الايجابية :
هي الجريمة التي تتكون من فعل ايجابي مخالف للقانون ، ولا بد من اجل تحققها أن يقوم المجرم بنشاط جرمي يظهر في العالم الخارجي .
لذلك فان أغلب الجرائم التي ينص عليها قانون العقوبات هي من هذا النوع ، وفي كل تلك الجرائم وأمثالها يرتكب الجاني فعلا مادياً ظاهراً ُيجرمه القانون وهو الإقدام على اخذ مال الغير المنقول دون رضاه في جريمة السرقة ، أو إزهاق روح المجني عليه في جريمة القتل ، أو اغتصاب فتاة كرهاً في جريمة هتك العرض ، أو إعطاء مال للموظف بقصد الرشوة ، أو تحريف الحقائق في جريمة التزوير، أو الانتساب إلى إحدى الوحدات العسكرية في جيش الأعداء في جريمة حمل السلاح في صفوف العدو .

أما الجريمة السلبية :
فتتكون من الامتناع عن القيام بعمل ُيوجبه القانون ويفرض إجراءه تحت طائلة العقاب مثل جريمة امتناع الشاهد عن الحضور إلى المحكمة لأداء الشهادة التي دعي إليها ، وعدم التبليغ عما يجب تبليغه إلى الجهات المختصة من أمور كحوادث الزواج أو الولادة أو الوفاة والامتناع عن إضاءة مصابيح السيارة ليلا (1). والامتناع عن تسليم الطفل إلى من له حق حضانته ، و الامتناع عن دفع النفقة المحكوم بها قضائياً ، و الامتناع عن قبول النقود السورية بالقيمة المحددة لها (2)
ولمعرفة ما إذا كانت الجريمة ايجابية أم سلبية يجب الرجوع إلى ماهية الفعل المادي الذي يحرمه القانون فإذا كان عملا ينهي الشارع عن فعله فان ارتكابه يكون جريمة ايجابية ،وإذا كان عملا يأمر الشارع به فان الامتناع أو الإحجام عن امتثاله والقيام به يعد جريمة سلبية .
_______________________
( 1 ) – د . سعدي بسيسو ، مرجع سابق ، ص 179.
( 2 ) – د. عبود السراج ، مرجع سابق ص 159 .
( 18 )

الفرع الثاني أهمية تصنيف الجرائم إلى ايجابية وسلبية :
وليس لهذا التقسيم من أهمية عملية إلا في موضوع الشروع في الجريمة لأن الشروع لا يكون إلا في الجرائم الايجابية ولا يتصور وقوعه إطلاقا في الجرائم السلبية التي إما أن تقع تامة أو لا تقع .
وهذا الرأي سديد إذا ما استبعدنا من الجرائم السلبية الجرائم التي تدعى (( الجرائم الايجابية التي تقع بطريق الترك أو الامتناع )) (1). كالشاهد الذي يدعى للشهادة فإما أن يذهب للمحكمة ممتثلا تلك الدعوة آو أن لا يذهب إليها ويمتنع عن تلبية ما كلف به . وكسائق السيارة فإما أن يضيء مصابيحها ليلا وفقا لما يوجبه القانون أو أن يحجم عن ذلك ويرتكب جريمة سلبية . والجرائم السلبية تأبى بطبيعتها والحال هذه أحكام الشروع لأنها لا تقع إلا تامة و كاملة 0 .
ومما ينبغي الانتباه إليه وجوب التفريق بين الجريمة السلبية التي أوضحناها وبين جريمة الارتكاب بالامتناع . كالأم التي تريد قتل وليدها الذي حملت به سفاحا فتمتنع عن إرضاعه عمدا بقصد قتله فيموت جوعا ،أو كالسجان الذي يستمر في الامتناع عن تقديم الطعام إلى السجين بقصد قتله .
إن الجريمة السلبية تتحقق كما رأينا عند الامتناع عن تنفيذ أمر يفرضه القانون ، وهذا الامتناع لا يغير في الحالة الخارجية التي كانت قائمة قبل حصوله ، أما جريمة الارتكاب بالترك أو الامتناع فتتحقق بالامتناع عن القيام بفعل معين يؤدي إلى نتيجة خارجية يعاقب عليها القانون , فالامتناع قائم في الحالتين ولكنه في الجريمة السلبية لا يترك أثرا خارجيا أي لا يأتي بجديد على الحالة القائمة قبل حصوله ولكنه في الجريمة الأخرى يؤدي إلى نتيجة خارجية لا تحدث عادة إلا بعمل ايجابي وما كان لهذه النتيجة أن تتحقق بدونه .
أي أن الجاني لا يرتكب في الحالة الأخيرة عملا ايجابيا بل يتخذ لنفسه موقفا سلبيا صرفا ينجم عنه وقوع نتيجة غير شرعية هي وفاة الوليد أو السجين جوعا في المثالين السالف ذكرهما ، وان هذه النتيجة قد تحققت بموقفه السلبي البحت الذي هو الامتناع عن إرضاع الوليد والامتناع عن تقديم الطعام للسجين فالنتيجة إذن كانت ايجابية حصلت بسلوك سلبي ، ومنها يظهر أن الجريمة الايجابية كما تقع كذلك بالإحجام والامتناع أي بموقف سلبي (2) 0
__________________________
( 1 ) – د. عبود السراج ، مرجع سابق ص 159 .
( 2 ) – د . سعدي بسيسو ، مرجع سابق ، ص 180- 181 .

( 19 )

الفرع الثالث : الموقف من معاقبة فاعل الجريمة بالترك أو الامتناع

في القانون السوري والقانون المقارن :

1- في القانون السوري :
والشارع السوري لا يفرق بين السلوك الايجابي والسلوك السلبي في وقوع الجرائم ويستحق الفاعل العقاب سواء ارتكب الجريمة بعمل ايجابي أو بالترك والامتناع فقد نص قانون العقوبات السوري على مبدأ هام في هذا الصدد بقوله : ((تعد الجريمة مقصودة وان تجاوزت النتيجة الجرمية الناشئة عن الفعل قصد الفاعل إذا كان قد توقع حصولها فقبل بالمخاطرة )) (1) .
وقوله أيضا )) : تكون الجريمة غير مقصودة سواء لم يتوقع الفاعل نتيجة فعله أو عدم فعله المخطئين وكان في استطاعته أومن واجبه أن يتوقعها )) (2) . فهذه النصوص تسوي بين الجرائم مقصودة كانت أو غير مقصودة التي تنجم عن الفعل أو عدم الفعل أي عن سلوك ايجابي أو سلوك سلبي يتمثل في الترك أو الامتناع0

2- في القانون الألماني : لقد ثار خلاف كبير بين العلماء الألمان حول معاقبة فاعل جريمة الارتكاب بالترك أو الامتناع فانقسموا إلى فريقين :
الفريق الأول : قال أنصاره بعدم العقاب في جميع الأحوال لان الترك أو الامتناع عدم ، ولا يمكن أن ينتج العدم إلا العدم وان القتل بالامتناع مثلا ليس كالقتل نفسه فهو غير معاقب ، ولكن هذا رأي خاطىء لان الواقع الملموس يؤكد أن الترك يؤدي إلى نتيجة غير شرعية أي الجريمة وهي ليست عدما وإنما حدث حقيقي له معالمه وآثاره 0.
الفريق الثاني : قال أنصاره بمعاقبة المجرم بطريق الامتناع كالمجرم بطريق الفعل الايجابي إذا كان الشخص الممتنع مكلفا قانونا بالعمل الذي أحجم عنه أو كان مفروضا عليه التدخل لحماية حياة المجني عليه وصحته بحكم القانون أو بالتزام تعاقدي . كالأم التي تمتنع عن إرضاع وليدها قاصدة قتله ، أو حارس السكة الحديدية الذي يمتنع عن تحويل خط القطار قاصدا إحداث اصطدام ، اواجير الأعمى لقيادته وحراسته الذي يتركه يسقط في حفرة قاصدا إيذاءه 0
__________________________
( 1 ) – المادة {188} قانون العقوبات السوري .
( 2 ) – المادة {190} قانون العقوبات السوري 0
(20)

أما إذا لم يكن على الشخص واجب ينص عليه القانون أو يوجبه عقد فلا تبعة عليه حين يمتنع عن فعل هذا الواجب ولو كان في الامتناع مخالفة لمبادىء المروءة والإحسان لان القانون لا يفرض على الناس الفضيلة ومكارم الأخلاق .

3- في القانون الفرنسي :
ذهب أكثر الشراح إلى انه لا يمكن اعتبار من امتنع عن أداء واجبه بقصد وقوع جريمة مسؤولا عنها كمسؤولية الذي ارتكبها بالفعل ، إلا عندما ينص القانون على ذلك صراحة ، وهم يؤكدون بأن القانون الفرنسي لا يسوي بين الفعل وبين الامتناع عن الفعل إذا اتحدت نتيجتهما إلا بالنص .
وفي غير الحالات التي ينص عليها الشارع صراحة لا يمكن أن يكون الجاني مسؤولا عن جريمة ايجابية إلا إذا كان قد قام بعمل مادي في سبيلها ، ولا يكفي الموقف السلبي ولو أدى إلى النتيجة ذاتها التي يعاقب عليها القانون . وهذا الرأي لا اعتراض عليه في الأحوال التي لا يكون الجاني فيها ملزما بواجب يتعارض مع موقفه السلبي لان الأمر لا يخرج في هذه الحالة من نطاق الواجبات الأدبية 0غير أن المسألة تختلف إذا كان الامتناع الذي أدى إلى حصول النتيجة الضارة مخالفا لواجب مفروض على الممتنع وكان هذا الامتناع هو السبب المباشر في وقوع تلك النتيجة المعاقب عليها، بحيث يكون مساويا عندئذ للعمل الايجابي في إحداثها . كالأم والسجان في المثالين السابق ذكرهما حيث أن المجني عليه فيهما الوليد أو السجين ليس عاجزا عن حماية نفسه أو إعاشتها فقط بل انه لا غنى له عن معاونة الجاني ذاته نظرا للوضع الخاص الذي يوجد فيه أو الرابطة الخاصة التي تربطه به ، ففي هذه الصورة يجب أن يكون الممتنع مسؤولا جزئيا بامتناعه كما لو أحدث الفعل بعمل ايجابي 0 أما إذا كان الامتناع لا يؤدي مباشرة إلى وقوع الحادث فلا يعد الممتنع مسؤولا عنه ، كالشرطي الذي يرى لصوصا يسرقون من منزل فيتخلف عن ضبطهم أو يشاهد شخصا يحاول أن يقتل آخر ويحجم عن منعه وصده عنه .
وكذلك فان الممتنع يكون مسؤولا جزائيا إذا حصلت النتيجة غير الشرعية بسبب حالة أوجدها هو بنفسه ، كمن خطف طفلا ثم امتنع عن تقديم الطعام إليه لأنه ملزم بإطعامه (1) .
___________________________
( 1 ) – د. سعدي بسيسو ، مرجع سابق ، ص 181-183 0 ( 21 )

المطلب الثاني : الجرائم التامة والجرائم الناقصة ( المشروع بها ) والجريمة المستحيلة .

تنقسم الجرائم من حيث آثارها ونتيجتها إلى جرائم تامة و جرائم ناقصة وجرائم مستحيلة .ً

الفرع الأول : الجريمة التامة :
هي الجريمة التي يقوم فيها الفاعل بجميع الأفعال اللازمة لوقعها وتتحقق نتيجتها كاملة كمن يريد ارتكاب جريمة سرقة منزل فيدخل إليه ويجمع المسروقات ويفر بها .

الفرع الثاني : الجريمة الناقصة ( المشروع بها ) :
هي التي يبدأ الفاعل بتنفيذها ولكنه لأسباب مانعة لم يكن هو فيها مختارًا لم تظهر الجريمة للوجود ، كمن يطلق النار على شخص قاصدا قتله فيخطئه ولا يصبه ،أو انه يصبه في غير مقتل ولا يموت . وقد عرف قانون العقوبات السوري الشروع في المادة 199 بأنه :
كل محاولة لارتكاب جناية بدأت بأفعال ترمي مباشرة إلى اقترافها تعتبر كالجناية نفسها إذا لم يحل دون إتمامها سوى ظروف خارجة عن إرادة الفاعل (1).
والشروع أما أن يكون ناقصا ،وإما أن يكون تاما :
1ً – الشروع الناقص: ويسمى هذا الشروع ب الجريمة الموقوفة .وفيه تتوقف الجريمة عند البدء بمراحلها الأولى .كمن يريد قتل غريمه فيصوب بندقيته نحوه ، ويهم بإطلاق النار عليه ، فيدركه شخص ثالث ، ويمسك بيده ويحوله دون ضغط يده على الزناد . ويطلق المشروع السوري على هذا النوع من الشروع اسم (الجريمة المشروع فيها ) .
2ً – الشروع التام : ويسمى هذا الشروع بـ (( الجريمة الخائبة )) . وفيه يقوم الفاعل بجميع الأفعال التنفيذية الرامية إلى الحصول على النتيجة ،إلا أن هذه النتيجة لا تتحقق ،أو يتحقق جزء منها فقط .كمن يطلق النار على خصمه فيخطئه ،أو يصبه إلا أن إصابته لا تكون كافية لإحداث الوفاة .ويسمي المشرع السوري هذا النوع من الشروع الجريمة الناقصة .
تعبير الجريمة الناقصة الذي اخذ به المشرع السوري ، ليعبر عن الشروع التام هو تعبير معيب ،لان الجريمة الموقوفة (الشروع الناقص )هي جريمة ناقصة أيضا ، وان النقص فيها أظهر منه و أوضح في الجريمة الخائبة (الشروع التام ) ولكي يتحقق الشروع في الجريمة لابد من أن يكون عدم إتمامها ناجما عن ظروف خارجة عن إرادة الفاعل ،ولولا هذه الظروف لأتمها ولو صل إلى النتيجة الجرمية التي كان يبغي تحقيقها من مسعاه الإجرامي(2) .
_________________________
( 1 ) – د. سعدي بسيسو ، مرجع سابق ، ص 186
( 2 ) – د. عبود السراج ،قانون العقوبات ، مرجع سابق ص 207 + سمير الشناوي ، الشروع في الجريمة ، ف 252 ، ص 376 . ( 22 )

– الفرع الثالث : الجريمة المستحيلة :
هي شروع في ارتكاب فعل يستحيل على الفاعل تحقيق نتيجته . كمن يضع يده في جيب شخص ليأخذ ما فيه فيكون الجيب خاليا ،وكمن يطلق النار على شخص بقصد قتله من مسدس فارغ ،أو يطلق النار عليه فيكون ميتا قبل ذلك ، وكمن يضع مادة غير سامة في طعام شخص بقصد قتله .

أولاً : نظرية الجريمة المستحيلة في الفقه الوضعي :
اختلف الفقهاء في مفهوم الجريمة المستحيلة ، فمنهم من قال بأنها جريمة خائبة ،لم تتحقق نتيجتها لظروف خارجة عن إرادة الفاعل ولولا هذه الظروف لنال بغيته وحقق غرضه الجرمي ،فهو إذن يستحق العقاب . وهؤلاء هم أصحاب النظرية الشخصية .ومنهم من قال بأن الجريمة المستحيلة تختلف عن الشروع لان نتيجتها غير ممكنة التحقيق .وإمكانية الحصول على النتيجة الجريمة شرط لابد منه ليكون البدء في التنفيذ معتبرًا .لذلك فمن غير الجائز المعاقبة عليها وهؤلاء هم اصحب النظرية المادية .
واغلب الفقهاء الذين اخذوا بنظرية الجريمة المستحيلة، فرقوا بين الاستحالة المطلقة والاستحالة النسبية من جهة ، والاستحالة القانونية والاستحالة المادية من جهة أخرى (1).

أ – الاستحالة المطلقة والاستحالة النسبية :
تكون الاستحالة مطلقة حينما يكون موضوع الفعل أو طبيعة الوسيلة المستعملة ،غير قابلين في جميع الظروف لإحداث النتيجة الجرمية . والمثال على الاستحالة المطلقة من حيث الموضوع ان يطلق الفاعل النار على شخص ميت أو يشرع بإسقاط امرأة غير حامل.
.والمثال على الاستحالة المطلقة من حيث الوسيلة محاولة إطلاق النار على شخص من بندقية خالية من المقذوف ، أو وضع سكر في طعام شخص بدلا من مادة سامة (2).
أما الاستحالة النسبية : فتكون عندما يوجد محل الجريمة ولكن ظروف الزمان أو المكان من حيث الموضوع أو الوسيلة هي التي تلعب دورا أساسيا في عدم تحقيقها ، ولولا هذه الظروف لأصبح تنفيذ الجريمة ممكنا .
________________________
( 1 ) – د. عبود السراج ،قانون العقوبات ، مرجع سابق ص 210 .
( 2 ) – د. محمد الفاضل ،شرح قانون العقوبات – القسم العام ، ص 336 .
( 23 )

ومثال هذه الاستحالة من حيث الموضوع أن يطلق الفاعل النار على شخص يحسب أنه موجود في مكان معين ، فيتبين انه غادر المكان قبل لحظات ، أو يضع الفاعل يده في جيب شخص ليسرقه فيكون الجيب خاليا .ومثال الاستحالة النسبية من حيث الوسيلة ،أو أن يلقي الفاعل قنبلة على جمع من الناس ،فلا تنفجر لعدم معرفته بطريقة استعمالها ،أو أن يضغط على زناد بندقية فلا يخرج المقذوف لعدم اشتغاله والفقهاء الذين فرقوا بين الاستحالة المطلقة والاستحالة النسبية ،قالوا بعد معاقبة الفاعل إذا كانت جريمته مستحيلة استحالة مطلقة ، ومعاقبته إذا كانت جريمته مستحيلة استحالة نسبية .

ب – الاستحالة القانونية والاستحالة المادية :
رأى عدد من الفقهاء عدم جدوى التفريق بين الاستحالة المطلقة والاستحالة النسبية ، وفرقوا بين الاستحالة القانونية والاستحالة المادية .
حيث تكون الاستحالة قانونية : عندما تفقد الجريمة ركنها القانوني ومثالها أخذ مال مملوك لمن يأخذه وهو يظن أنه مملوك للغير ، أو إطلاق النار على ميت لقتله .
أما الاستحالة المادية : فتنشأ عن ظروف مادية جعلت النتيجة غير ممكنة التحقق ، ومثالها محاولة السرقة من جيب خال من النقود ، أو وضع مادة سامة في طعام شخص فلا يتأثر بها ، لأن الكمية الموضوعة غير كافية لإحداث الوفاة حتى لطفل صغير .
وقد قال هؤلاء الفقهاء بالمعاقبة إذا كانت الاستحالة مادية وبعدم المعاقبة إذا كانت الاستحالة قانونية .وواضح هنا مدى التقارب بين هذين النوعين من الاستحالة ، والاستحالة المطلقة والنسبية . فاغلب حالات الاستحالة القانونية تشكيل حالات الاستحالة المادية تعد من قبيل الاستحالة النسبية.

ثانياً – رفض نظرية الجريمة المستحيلة وموقف القانون السوري منها :
نصت المادة 202 من قانون العقوبات السوري على ما يلي :
1_ يعاقب على الشروع وان لم يكن في الامكان بلوغ الهدف بسبب ظرف مادي يجهله الفاعل .
2_ على الفاعل لا يعاقب على هذه الحالة إذا أتى فعله عن غير فهم .
3- وكذلك لا يعاقب من ارتكب فعلا وظن خطأ انه يكون جريمة
ويمكننا أن نستخلص من هذا النص النتائج الثلاث التالية :
1 ـ رفض المشرع السوري الأخذ بنظرية الجريمة المستحيلة ، واعتبر كل فعل يبدأ الفاعل بتنفيذه ولا يحقق نتيجة هو شروع سواء كانت نتيجته مستحيلة أم ممكنة التحقيق 0
2 ـ إذا قام شخص بفعل ليس بالامكان بلوغ هدفه عن سذاجة وغير فهم ، فلاعقاب عليه . كمن يريد إزهاق روح إنسان عن طريق التعاويذ والسحر ، أو كمن يقيم في دمشق ويطلق النار على شخص يقيم في حلب ظنا منه انه قادر على قتله .
( 24 )
3- إذا ارتكب شخص فعلا لا يعاقب القانون عليه وظن انه يكون جريمة ، فلا شروع ولاعقاب .
وهذا ما يطلق الفقهاء عليه اسم الجريمة الوهمية . ومثالها أن يتجه شخص إلى سرقة شيء فيأخذه ثم يتبين انه هو مالك هذا الشيء. وكمن يهتبل فرصة الظلام في مكان ، فيسرق معطفا ثم يتبين له بعد خروجه انه احذ معطفه الخاص به .
وبهذا يكون المشروع السوري قد تبنى احد ث النظريات ، وأكثرها انسجاما مع الواقع والمنطق القانوني ، وهي النظرية الشخصية ، التي نبذت نظرية الجريمة المستحيلة . وذلك لآن المعتبر في أمور الجريمة هي الأفعال التي تكشف عن نية الفاعل وخطورته ، بصرف النظر عن نتيجتها ، وعما اذا كانت النتيجة ممكنة التحقيق أو غير ممكنة . يستثنى من ذلك الأشخاص الذين يقدمون على فعلهم نتيجة سذاجة او غفلة او عن غير فهم ، والأشخاص الذين لا يرتكبون في الأصل فعلا محرما يعاقب عليه القانون . وهذه الأفعال المستثناة غير معاقب عليها أساسا، فلم يكن من الضروري أن ينص المشروع السوري على إخراجها من نظرية الشروع .
وقد جاء القانونان الفرنسي والمصري خاليين من نص على الجريمة المستحيلة ، ففسر الفقه والقضاء إرادة المشروع هذه ، في كلا البلدين ، بعدم الأخذ بنظرية ، الجريمة المستحيلة ، وبتطبيق قواعد الشروع في جميع الحالات ، دون تفريق بين ما إذا كانت النتيجة ممكنة او مستحيلة .وأخذ بهذا الرأي أيضا القانونان الألماني والسويسري(1) .
يؤكد الدكتور محمود محمود مصطفى اطرح نظرية الجريمة المستحيلة فيقول :

(( الذي يبدو لنا أن كل تفرقة بين أنواع الاستحالة هي تفرقة تحكمية فالاستحالة لا تقبل التدرج ، والجريمة إما أن تكون ممكنة أو مستحيلة ، وفي جميع حالات الاستحالة النسبية أو المادية يكون تحقق الجريمة مستحيلا ولا فارق في الدلالة على نية الفاعل وخطرها على المجتمع بين محاولة سرقة مال موجود أو غير موجود ، فليست هذه إلا صورة من جريمة خائبة استحال فيها تحقق النتيجة لسبب خارج عن إرادة الفاعل 0والقانون لا ينظر في الشروع إلى الناحية المادية أو الناحية القانونية إلا بمنظار الجاني نفسه ، فمتى أتى الجاني أفعالا هي في نظره مؤدية إلى النتيجة المعاقب عليها فانه يعاقب على الشروع ، بصرف النظر عما إذا كان تحقق هذه النتيجة ممكنا من الناحية الواقعية لو الناحية القانونية 0 وهذا النظر يستفاد من عبارة ( بقصد ارتكاب جناية أو جنحة ) الواردة في نص القانون . فالمشرع يكتفي بهذا القصد ، أي باتجاه إرادة الجاني نحو ارتكاب الجريمة ، ولا يستلزم أن تكون الظروف مهيأة لتحققها ، أو أن تكون أركانها القانونية حاضرة 0

__________________________
( 1 ) – د. عبود السراج ،قانون العقوبات ، مرجع سابق ص 212 – 213 .
( 25 )

المبحث الثاني : تصنيف الجرائم على أساس نتيجة الفعل

الجرائم المادية والجرائم الشكلية

الفرع الأول : مفهوم الجرائم المادية والجرائم الشكلية
تنقسم الجرائم من حيث الأثر والنتيجة الناجمة عنها إلى قسمين : الجرائم المادية و الجرائم الشكلية

الجرائم المادية :
الجرائم المادية أو ما يسمى أحيانا (( الجرائم ذات النتيجة )) أ و (( جرائم الضرر ))
هي الجرائم التي تحدث بطبيعتها نتيجة مادية محسوسة وضارة كجرائم القتل والضرب والسرقة والاحتيال والاغتصاب …الخ (1).
والجريمة المادية هي التي يشترط القانون لوجودها نتيجة جرمية ضارة ناشئة عن الفعل الذي ارتكبه المجرم وتعتبر النتيجة فيها من عناصر الركن المادي ، فجريمة القتل مثلاً لا تتم إلا بإحداث الوفاة أي إزهاق الروح ، وجريمة السرقة لا تتم إلا بأخذ مال الغير المنقول دون رضاه (2).
وهذه الجرائم تعبر دائما عن ((حقيقة مادية)) لأن لنتيجتها وجودا ماديا محسوسا في العالم الخارجي .

الجرائم الشكلية :
الجرائم الشكلية أو ما يعبر عنها أحيانا بـ ((الجرائم غير ذات النتيجة )) أو ((جرائم الخطر )) ،
هي الجرائم التي لا تحدث بطبيعتها أية نتيجة مادية ضارة كجرائم حيازة سلاح بدون ترخيص ، وحيازة المخدرات ،و حيازة نقود مزيفة ، وحمل وسام بدون حق ، وارتداء اللباس أو الشارات أو الرتب العسكرية بدون حق الخ . وهذه الجرائم التي ليس لنتيجتها وجود مادي ،تعبر عن
(( حقيقة قانونية )) أي عن اتجاه المشرع إلى تجريم الاعتداء على مصلحة جديرة بحماية القانون الجزائي (3). والجرائم الشكلية يعاقب عليها القانون وان لم ينجم عنها أية نتيجة ضارة ، وفيها لا يكون حصول النتيجة الجرمية عنصراً من عناصر الركن المادي ومثال ذلك حيازة سلاح بدون ترخيص وان لم يستعمل (4).
______________________________ ( 26 )
( 1 ) – د. عبود السراج ، مرجع سابق ص 166 .
( 2 ) – د. سعدي بسيسو ، مرجع سابق ، ص 185 0
( 3 ) – د. عبود السراج ، مرجع سابق ص 166 .
( 4 ) – د. سعدي بسيسو ، مرجع سابق ، ص 185 0

الفرع الثاني : أهمية تصنيف الجرائم إلى جرائم مادية وجرائم شكلية .
تنطبق على الجرائم المادية ، من حيث المبدأ، جميع أحكام النظرية العامة في قانون العقوبات ،
بينما تستثنى الجرائم الشكلية من ثلاث موضوعات رئيسية من مواضيع هذه النظرية وهي :
علاقة السببية ، والشروع ، والخطأ غير المقصود .
أولا ـ لا محل لبحث علاقة السببية في الجرائم الشكلية ،لأن البحث في علاقة السببية لا يثار إلا إذا أدى الفعل إلى نتيجة .إذ أن علاقة السببية أساسا هي رابطة الفعل بالنتيجة ، وعدم وجود نتيجة للفعل بطبيعته ،لا يترك محلا لبحث علاقة السببية في الجريمة المتكونة من هذا الفعل .
ثانيا ـ لا شروع في الجرائم الشكلية ،لان نظرية الشروع تتطلب أن يكون للفعل نتيجة لكي نقول بخيبة الأثر ، أو عدم تحقق النتيجة لظروف خارجة عن إرادة الفاعل . إذن فان الجرائم الشكلية إما أن تقع بوقوع الفعل فتعد جريمة تامة ،وإما أن لا تقع أبدا أو بمعنى آخر ،لا يمكن للجريمة الشكلية أن تكون موقوفة أو خائبة (1) ، لأن الجرائم الشكلية تتحقق بمجرد البدء بتنفيذها ولا يشترط حصول النتيجة فيها كما أسلفنا ويكون الشروع كالفعل التام لصعوبة التفريق بينهما ، أما في الجرائم المادية حيث لا تتم الجريمة إلا إذا حدثت النتيجة الضارة التي هي غرض الفاعل فالشروع فيها ممكن ومتصور
فإذا أطلق أحدهم النار على شخص بقصد القتل فأخطأه ولم يمت لا تعتبر جريمة القتل تامة لأن الوفاة لم تقع ، وإنما ثمة شروع في هذه الجريمة ، أما إذا حمل شخص سلاح دون ترخيص فلا يتصور في هذه الجريمة أي شروع لأن حصول النتيجة غير لازم فيها ، فهي إما أن تقع تامة أو لا تقع إطلاقاً . ورغم أن القانون السوري يعاقب الشروع كالفعل التام إلا أنه أجاز للقاضي أن يخفف العقوبة إذا كانت الجريمة لم تتجاوز حد الشروع ، وفي القانون الفرنسي يعتبر التسميم جرماً شكلياً يستحق الفاعل عليه العقوبة كاملة سواء مات الذي قُدم إليه السم بقصد القتل أم لم يمت ، وسواء أنجده الفاعل نفسه أم لم ينجده (2) .
ثالثا ـ لا يمكن تصور الخطأ غير المقصود في الجرائم الشكلية ،لان المهم في خطأ الفاعل هو النتيجة وليس الفعل الذي يحدثها أما الجريمة المادية فيمكن أن تكون مقصودة ،كما يمكن أن تكون غير مقصودة ، حسب ما إذا توافرت لدى الجاني عناصر القصد الإجرامي أو عناصر الخطأ
_______________________________________ ( 27 )
( 1 ) – د . عبود السراج ، مرجع سابق ص 167 .
( 2 ) – د. سعدي بسيسو ، مرجع سابق ، ص 186 0

المبحث الثالث : تصنيف الجرائم على أساس توقيت النشاط الإجرامي أو استمراره أو زمن اكتشافه .

المطلب الأول : الجرائم الفورية و الجرائم المستمرة و الجرائم المتعاقبة .

– الفرع الأول : الجرائم الفورية و الجرائم المستمرة :

الجريمة الآنية :
وتسمى بالجريمة الوقتية ، وهي التي تقع بمجرد ارتكاب الفعل ،وضمن مدة زمنية قصيرة ومحدودة،كالقتل الذي يقع وينتهي بإزهاق الروح حتى ولو لم يمت المجني عليه إلا بعد فترة من الزمن وكالسرقة التي تقع بأخذ مال الغير دون رضاه،وكالحريق الذي يقع بإلقاء النار على شيء قابل للاحتراق.

الجريمة المستمرة :
وهي فعل جرمي يطول زمن ارتكابه ،او يستمر حدوثه مدة من الزمن كإخفاء الأشياء المسروقة .فحالة الإخفاء هنا تبدأ في وقت محدد ثم تستمر باستمرار حيازة المخفي لهذه الأشياء .ومن الجرائم المستمرة حيازة سلاح ممنوع ،وحيازة مخدرات ، وحبس شخص دون وجه حق ،والامتناع عن تسليم القاصر إلى من له حق حضانته ،واستعمال أوراق مزورة ، وإخفاء شخص مطلوب للخدمة العسكرية ،وامتناع الشخص المطلوب لخدمة العلم عن تقديم نفسه للسلطة المختصة(1) .
والتمييز بين الجرائم الوقتية والمستمرة يكون على أساس النص القانوني الذي يتضمن التجريم ، دون اعتداد بالوقائع ذاتها أو ما يحيط بارتكابها من ظروف أو ملابسات.
فإذا قلنا أن جريمة السرقة وقتية ، فإننا نعني بذلك أن فعل الاختلاس المكون لها هو من الأفعال التي تتم أصلا في فترة زمنية محددة ،لأنه بطبيعته لا يقبل الاستمرار.
أما الجرائم المستمرة فان الأصل في تجريمها هو ارتكاب نشاط يقبل بطبيعته الاستمرار ، كجرائم إخفاء الفارين من وجه العدالة أو جرائم حيازة المخدرات 0
ولا يغير من طبيعة هذه الجرائم أن ينتهي الإحراز أو الحيازة في واقعه من الوقائع عقب تحققها مباشرة ، لان الاستمرار ليس ركنا في الجريمة ، وإنما هو خاصية من خواص السلوك المكون لها(2). ___________________ ( 28 )
( 1 ) – د . عبد الوهاب حومد ، مرجع سابق ص 380 .
( 2 ) – د. سمير الشناوي ، النظرية العامة للجريمة والعقوبة في قانون الجزاء الكويتي ، دراسة مقارنة ، الكتاب الأول :الجريمة ،
طبعة 1988 ، ص 196 – 197.

وهذه الخاصية يمكن التعرف عليها من ذات النص القانوني 0 ويرى البعض أن التمييز بين الجريمة الوقتية والمستمرة يكون أكثر يسرا ووضوحا إذا نظرنا إليها في لحظة تمام الجريمة 0 فمتى وقعت الجريمة ينتهي حتما النشاط المؤدي لها إن كانت الجريمة وقتية ، في حين انه في الجريمة المستمرة يظل النشاط ممتدا فترة من الزمن بعد ارتكابها 0

– الفرع الثاني : الجرائم المتعاقبة و الجرائم الفورية ذات الأثر المستمر :
ويلاحظ أن الجريمة الوقتية قد تختلط في بعض صورها بالجريمة المستمرة ، سواء بسبب طريقة ارتكابها كما هو الشأن بالنسبة للجريمة المتتابعة ، أو بسبب الآثار المترتبة عليها في حالة الجريمة الدائمة 0 وسوف نعرض لبيان هاتين الصورتين مع التأكيد على ضرورة الالتزام في التمييز بين الجرائم الوقتية والمستمرة على طبيعة الركن المادي حسبما يتطلبه المشرع في النص القانوني (1)0

أ – الجريمة المتعاقبة :
الجريمة المتعاقبة وهي الجريمة التي تتجدد الأفعال فيها أو تتكرر بصورة متعاقبة أو متتابعة أو متلاحقة ، كضرب المجني عليه عدة مرات ، أو تكرار تعذيبه ،وسرقة الخادم من مال مخدومه عدة مرات متعاقبة ، أو اختلاس الموظف من المال المؤتمن عليه في وظيفته على عدة دفعات متتالية ، وسرقة الماء والكهرباء عدة مرات متعاقبة ،وأخذ الموظف رشوة على عدة دفعات متتالية ،وتوجيه ألفاظ القدح أو الذم بالهاتف لشخص عدة مرات .. ففي جميع هذه الأمثلة تتعدد أفعال الجاني ، إلا أنها تكون جريمة واحدة لوجود وحدة تجمعها وهي : وحدة الحق المعتدى عليه ، ووحدة الغرض ،ووحدة الإرادة الإجرامية .وهذه الوحدة تجعل من الأفعال المتعددة والمتعاقبة جريمة واحدة وان تعددت عناصرها ،وفصلت بين هذه العناصر فترة أو فترات زمنية متعاقبة .
والفارق بين الجريمة المستمرة والجريمة المتعاقبة ،أن الأولى تتكون من فعل واحد تستغرق نتيجته مدة من الزمن قد تطول وقد تقصر ،أما الثانية فتتكون من عدة أفعال وقتية تتعاقب خلال فترة زمنية قد تمتد طويلا 0 وتختلف الجريمة المتعاقبة عن تعدد الجرائم المادي ، فاللص الذي يسرق عدة أشخاص ي شارع مزدحم بالناس يرتكب عدة جرائم 0 والشخص الذي يضرب شخصا آخر ، وفي وقت تال يضرب شخصا ثان ثم ثالث فانه يرتكب عدة جرائم 0 وتعدد الجرائم هنا راجع لعدم وجود وحدة تجمع بينها في الحق المعتدى عليه والغرض والإرادة الجرمية (2) .
________________________ ( 29 )
( 1 ) – د. سمير الشناوي ، النظرية العامة للجريمة والعقوبة في قانون الجزاء الكويتي ، دراسة مقارنة ، الكتاب الأول :الجريمة ، طبعة 1988 ، ص 197.
( 2 ) – د . عبد الوهاب حومد ، مرجع سابق ص 380 .

الغالب أن تقع الجريمة الوقتية دفعة واحدة 0 فإذا تكرر وقوعها عدة مرات في أوقات متتابعة اعتبر الجاني مرتكبا لجرائم متعددة ، وعوقب عن كل جريمة فيها . فمن يعتدي بالضرب على شخص معين كل صباح لمدة سبعة أيام متتالية ، فأنه يعتبر مرتكبا لسبعة جرائم ضرب وتوقع عليه العقوبة المقررة لكل منها 0 ولا يغير من ذلك في شيء أن يكون الاعتداء واقعا على ذات الشخص ، وأن يكون تنفيذا لخطة مسبقة . ومعظم الجرائم الوقتية من هذا النوع أيضا كجرائم الحريق والتزوير وغيرها (1).
ومع ذلك فمن المتصور بالنسبة لبعض الجرائم أن تقع على دفعات متعددة تنفيذا لمخطط إجرامي واحد ، وتعتبر جميع هذه الدفعات مكونة لجريمة واحدة ، ويطلق عليها حينئذ الجريمة المتابعة . ومن الأمثلة على ذلك أن يدس الجاني للمجني عليه عدة جرعات من مادة سامة في أيام متتالية ، ويستمر في متابعة نشاطه حتى تحدث الوفاة . ومن صورها أيضا سرقة التيار الكهربائي عندما يقع اختلاس التيار بصفة متقطعة في أزمنة مختلفة تنفيذاً لتصميم واحد . وبالرغم من أن تنفيذ الجرائم بعد تجزئتها بهذه الطريقة يستغرق وقتا طويلا ، إلا أنها تعتبر جريمة وقتية متتابعة ،بالنظر إلى طبيعة السلوك المكون لها (2).
إلا أن البعض قد ذهب إلى اعتبار هذه الجرائم من قبيل الجرائم المستمرة ، على أساس أن تنفيذها يستغرق مدة طويلة (3).
ومنهم من يستند في رأيه هذا إلى أن اختلاس التيار الكهربائي يتم بفعل واحد ،هو قيام الجاني بتوصيل السلك بالأسلاك العامة ،ولا يتطلب وقوع أفعال متعددة ، مما يستتبع استبعاد اعتبارها جريمة وقتية متتابعة . ولكن هذا الرأي في تقديرنا غير قائم على أساس صحيح، لأن توصيل الأسلاك الكهربائية ليس من أفعال الاختلاس ، ولكنه مجرد وسيلة لتنفيذ المخطط الإجرامي، شانه في ذلك كشأن إحداث ثقب في جدار .أما اختلاس التيار الكهربائي فيقع كلما أدار الجاني مفتاح الإنارة ، إذ بذلك فقط يتم الاستيلاء على جزء من التيار. وطالما أن تشغيل مفتاح الإنارة يتم على دفعات متتابعة كلما اقتضى الأمر ذلك ، فإننا نكون في الواقع بصدد جريمة وقتية متتابعة (4).
____________________ ( 30 )
( 1 ) – د. سمير الشناوي ، مرجع سابق ، ص 197.
( 2 ) – د . رؤوف عبيد ، مرجع سابق ص 197 .
( 3 ) – ومنهم : د . المستشار محمود إبراهيم إسماعيل و د. محمود نجيب حسني .
( 4 ) – د. سمير الشناوي ، مرجع سابق ، ص 198 .
ومما يؤكد أيضا أن هذه الجرائم ليست مستمرة هو أن النشاط في الجريمة المستمرة يجب أن يكون متصلا ، كأفعال الإخفاء أو الحيازة ،
وذلك بخلاف الجريمة المتتابعة التي يكون النشاط فيها متقطعا على دفعات متتالية ، يفصل بين بعضها البعض فاصل زمني يختلف باختلاف الظروف ، مادامت هذه الدفعات جميعها قد تمت تنفيذا لتصميم سابق. وتعتبر الوقائع الداخلة في تكوين الجريمة المتتابعة بمثابة جريمة واحدة ، مادامت قد وقعت تنفيذا لتصميم واحد وتضمنت الاعتداء على حق واحد ، وفي نفس الوقت فان كل واقعة من هذه الوقائع تكون جريمة قائمة بذاتها ، فإذا تم مساءلة الجاني عن إحدى هذه الوقائع، فان الحكم الصادر فيها يعتبر شاملا لكل الوقائع التي تحتويها هذه الجريمة ، سواء ما كان منها معلوما وما كان خافيا. كما أن الحكم الذي يصدر في الدعوى يمنع من إقامتها مرة أخرى،عند اكتشاف بعض دفعات التنفيذ التي لم تكن قد اكتشفت قبل الحكم .

ب – الجريمة الوقتية ذات الأثر المستمر:

يجب التمييز بين استمرار النشاط المادي المكون للجريمة ، وهو الذي يترتب عليه اعتبار الجريمة مستمرة،وبين استمرار آثار الجريمة وهو ما يتحقق بالنسبة لبعض الجرائم الوقتية والمستمرة على حد سواء . فالجرائم الوقتية التي يتم تنفيذها بمجرد ارتكاب السلوك المكون لها تترتب عليه أحيانا آثار لها صفة الاستمرار .فجريمة القتل العمد التي يبدأ وينتهي تنفيذها في فترة زمنية محدودة ، يترتب عليها آثار دائمة هي وفاة المجني عليه ، كما أن فعل الحريق العمد يؤدي إلى حدوث تلف في الأماكن التي وضعت فيها النار قد تظل لمدة طويلة , وبالمثل فان جريمة الضرب العمد وهي جريمة وقتية قد تؤدي إلى حدوث عاهة دائمة لا يشفى منها المجني عليه مطلقاً .
ويترتب على الجرائم المستمرة أيضا أثار، تمتد فترة من الزمن . فجريمة الاتفاق الجنائي التي تقع بمجرد انعقاد الاتفاق يستمر فيها تلاقي الارادات فترة من الزمن بعد انعقاد الاتفاق .
كما أن جرائم الإحراز أو الحيازة أو الإخفاء من الجرائم المستمرة ،لأنها تقتضي الاستمرار فترة قد تطول أو تقصر حسب الأحوال (1).
__________________ (31 )
( 1 ) – د. سمير الشناوي ، مرجع سابق ، ص 199- 200 .

وتصعب التفرقة أحيانا بين الجرائم الوقتية ذات الأثر المستمر وبين الجرائم المستمرة ،مما دعا إلى وضع معيار للتمييز بينها . والمتفق عليه في هذا الخصوص هو وجوب التمييز بين ما يسمونه الاستمرار الثابت والاستمرار المتجدد .
ويقصد بالاستمرار الثابت انه استمرار الآثار المترتبة على الجريمة ، دون أن يكون بقاء هذه الآثار متوقفا على تدخل إرادي من الجاني ، وبعبارة أخرى فان إرادة الجاني تظهر فقط عند ارتكاب السلوك، أما الأثر المترتب عليه فيظل باقياً بغير حاجة إلى إرادة متجددة تسانده .
والآثار التي من هذا القبيل توجد في الجرائم الوقتية, ويطلق عليها الجرائم ذات الأثر المستمر، أو الجرائم الدائمة من أمثلة ذلك بناء جدار خارج خط التنظيم فهي جريمة وقتية متتابعة لأن السلوك المكون لها، وهو فعل البناء ، يقع على دفعات متلاحقة . أما استمرار وجود الحائط بعد ذلك فلا يعدو أن يكون أثراً مترتبا عليها ، وهو لا يؤثر على طبيعة الجريمة لان وجود الحائط يظل مستمرًا دون حاجة إلى تدخل إرادة الجاني .
أما الجرائم المستمرة فان النشاط المكون لها يستمر فترة من الزمن ، ولكنه استمرار متجدد ، بمعنى إن بقاء حالة الاستمرار يكون متوقفا على إرادة الجاني التي ترتبط بهذه الحالة وتتجدد بتجددها. ويطلق على هذه الجرائم اسم الجرائم المستمرة استمراراً تجددياً .
ويلاحظ أن المسؤولية الجنائية بالنسبة للجرائم الوقتية ذات الأثر المستمر تكون قاصرة على فعل الجريمة، ولا تمتد إلى الآثار المترتبة عليها لأنها ليست جزءا من نشاط الجاني . ولا يعلق القانون على استمرارها أية أهمية .
ولكن الأمر يختلف بالنسبة للجرائم المستمرة استمرار تجددياً ، لان بقاء حالة الاستمرار بعد إقامة الدعوى يشكل جريمة جديدة تستوجب المساء لة الجنائية . ومن ثم فان بيع الخمور في محل عمومي دون الحصول على ترخيص يعتبر جريمة مستمرة (1).
و تطبيقاً على ما تقدم فان جريمة فرار السجناء ، تعتبر في رأي البعض من الجرائم الوقتية ذات الأثر المستمر ، لأن الفرار كواقعة يتم في وقت قصير أما استمرار حالة الفرار فانه يعد نتيجة حتمية للفعل ، ولا أهمية له من الناحية القانونية (2) .
_______________________ ( 32 )
( 1 ) – د. سمير الشناوي ، مرجع سابق ، ص 200 – 201 .
( 2 ) – د . محمود مصطفى ، مرجع سابق ، ص 283 .

الفرع الثالث : أهمية تصنيف الجرائم إلى آنية و مستمرة ومتعاقبة :
للتفريق بين الجرائم الآنية والجرائم المستمرة والجرائم المتعاقبة أهمية عملية من النواحي التالية :

أولا : تطبيق القانون الجزائي في الزمان :
لا تثير الجرائم الآنية أية مشكلة في تطبيق القانون الجزائي في الزمان ،لأنها تقع وتنتهي في زمن واحد.أما الجرائم المستمرة والجرائم المتعاقبة ،فهي ميدان واسع لتطبيق القانون الجزائي في الزمان ، لأنها تمتد خلال فترة زمنية قد تطول كثيرا ،وفي هذه الفترة يمكن ان تصدر قوانين جديدة ،تقضي بتعديل أو إلغاء القوانين القديمة ، أو إضافة أحكام جديدة إليها .وقد وضعت المادة السابعة من قانون العقوبات السوري حلا لهذه القضية بقولها :
((كل قانون جديد ،ولو كان اشد ،يطبق على الجرائم المتمادية والمستمرة والمتعاقبة .. التي ثوبر على تنفيذها تحت سلطانه )). ومعنى هذا النص ، ان زمن الجريمة الذي يؤخذ بعين الاعتبار بالنسبة لتطبيق القانون الجزائي في الزمان هو زمن توقف حالة الاستمرار في الجريمة المستمرة وإنهاء آخر فعل في الجريمة المتعاقبة .

ثانيا ـ تطبيق القانون الجزائي في المكان:
في هذه الحالة أيضا لا تثير الجرائم الآنية أية مشكلة في تطبيق القانون الجزائي في المكان ، لأنها تقع في مكان واحد معين وأما الجرائم المستمرة والمتعاقبة ،فقد تقع بعض أفعالها في مكان ،وتقع أفعالها الأخرى في مكان ثان أو ثالث أو رابع .. ففي هذه الحالة ، وتطبيقا لمبدأ إقليمية القوانين الجزائية ،فان جميع الدول التي يقع فيها أي فعل من الأفعال المكونة للجريمة المستمرة أو المتعاقبة ،يمكنها أن تطبق قوانينها عليها .وقد وقف قانون العقوبات السوري من هذه الناحية موقفا صريحا ، حين نص في الفقرة الثانية من المادة 15 على أن :
(( تعد الجريمة مقترفة في الأرض السورية ، إذا تم على الأرض احد العناصر التي تؤلف الجريمة أو فعل من أفعال جريمة غير متجزئة 000 ))
_______________________ ( 33 )
( 1 ) – د . عبود السراج ، مرجع سابق ص 159 – 160 .

ثالثاـ الاختصاص المكاني :
تختص في الجرائم الآنية المحكمة التي وقع الجرم في دائرتها أما في الجرائم المستمرة والمتعاقبة فينعقد الاختصاص لجميع المحاكم التي وقع في دائرتها فعل من الأفعال المكونة للجريمة (1) . ومن حيث أصول المحاكمة فان الفاعل الذي يرتكب جرما فورياً عدة مرات كأن يسرق عدة سرقات مستقلة عن بعضها يحاكم عن كل سرقة منها ، ويصدر الحكم بالعقوبة التي يستحقها . أما فاعل الجرم المستمر فلا يحاكم إلا عن جرم واحد لأنه لم يرتكب سواه (2) .

رابعاـ التقادم :
يبدأ ميعاد التقادم على الدعوى العامة في الجرائم الآنية من اليوم التالي لوقوعها سواء كانت تامة او مشروعا فيها أما التقادم في الجرائم المستمرة والمتعاقبة فيبدأ سريان ميعاده في اليوم التالي لانتهاء حالة الاستمرار أو انتهاء آخر فعل في الجريمة المتعاقبة 0

خامساـ قوة الشيء المحكوم به :
عندما يصدر حكم مبرم في الجريمة الآنية فانه يحوز قوة الشيء المحكوم به بالنسبة للواقعة التي رفعت الدعوى العامة بشأنها 0 أما الوقائع الأخرى السابقة أو المعاصرة أو اللاحقة من النوع نفسه فإنها لا تكون مشمولة بقوة الشيء المحكوم به ، ويمكن للنيابة أن ترفع الدعوى العامة فيها 0 أما إذا صدر حكم مبرم في الجريمة المستمرة أو الجريمة المتعاقبة ، فانه يحوز قوة الشيء المحكوم به بالنسبة لجميع الأفعال التي كونت الجريمة ، سواء كانت سابقة للحكم أو لاحقة له وعلة هذا الموقف هي أن الجريمة واحدة قبل الحكم وبعده 0 فحيازة سلاح بدون ترخيص مثلا جريمة مستمرة واحدة فإذا صدر فيها حكم مبرم وظل المحكوم عليه يحمل السلاح بعد صدور الحكم فانه لا يرتكب جريمة جديدة ولا يجوز محاكمته عليها لان قوة الشيء المحكوم به تمتد إلى جميع الأفعال المكونة للجريمة المستمرة 0 ولكن بعض الفقه يرى خلاف ذلك 0 فالحكم المبرم في تقديره ينهي حالة الاستمرار وحالة التعاقب 0 فإذا تدخلت إرادة الجاني في استمرار الجريمة أو تعاقبها بعد ذلك فانه يرتكب جريمة جديدة غير الجريمة التي حوكم من اجلها وصدر فيها حكم مبرم (3)0
___________________ ( 34 )
( 1 ) – د . عبود السراج ، مرجع سابق ص 162 .
( 2 ) – د. سعدي بسيسو ، مرجع سابق ، ص 191 0
( 3 ) – د . عبود السراج ، مرجع سابق ص 162 – 163 .

و الدكتور السراج يؤيد الرأي الثاني ، لان الحكم المبرم ينسحب أثره على الوقائع التي تمت قبله ، أما ما تم بعده من وقائع فانه يشكل أفعالا جديدة لم ينظر فيها القضاء 0 ولا ريب في أن الأخذ بالرأي الأول فيه مخاطرة كبيرة لأنه يجعل الحكم المبرم وسيلة يتذرع بها الجاني للاستمرار في جريمته 0 فمن يصدر بحقه حكم مبرم لحمله سلاحا ممنوع لا يستطيع أن يتخذ من هذا الحكم حجة ليظل حاملا سلاحه طيلة عمره 0 ومن يلصق إعلانا ممنوعا لمخالفته الأخلاق والآداب العامة لا يستطيع أن يتذرع بالحكم الذي يدينه ليترك الإعلان في مكانه إلى ما لانهاية (1)

المطلب الثاني : الجرائم المشهودة و الجرائم غير المشهودة .

الفرع الأول : مفهوم الجرائم المشهودة و الجرائم غير المشهودة .
عرف قانون أصول المحكمات الجزائية الجرم المشهود بأنه :
((الجرم الذي يشاهد حال ارتكابه أو عند الانتهاء من ارتكابه ))
ولكنه ألحق به الحاقاً : ((الجرائم التي يقبض على مرتكبيها بناء على صراخ الناس أو يضبط معهم أشياء أو أسلحة يستدل منها أنهم فاعلوا الجرم وذلك في الأربع والعشرين ساعة من وقوع الجرم )) (المادة 28 أصول جزائية )
وقد ذكر قانون الأصول حالة جديدة ألحقها بحالات الجرم المشهود وان لم تكن منها وهي حالة ارتكاب جناية أو جنحة داخل بيت إذا طلب صاحبه من النائب العام (أو أي ضابط قضائي ) التحقيق بشأنها (المادة 42 أصول جزائية )
وقد قررت محكمة النقض استنادا إلى المادة 231 أصول جزائية انه يحق القبض على مرتكب الجنحة المشهودة واحضاره أمام النائب العام0 وإذا قاوم المقبوض عليه الشرطة فانه يعتبر مقاوم لعمل رسمي مشروع ويعاقب بموجب المادة 370 عقوبات 0
وعلى هذا تكون حالات الجرم المشهود والحالات الملحقة بها خمسا :
1″ـ مشاهدة الجرم ((حال ارتكابه))وليس في هذا صعوبة0 فإبراز الهوية الكاذبة للشرطة او انتحال اسم غير الاسم الحقيقي جنحة مشهودة تبرر إلقاء القبض على فاعلها (2) .
_______________ ( 35 )
( 1 ) – د . عبود السراج ، مرجع سابق ص 162- 163 .
( 2 ) – د . عبد الوهاب حومد ، مرجع سابق ، ص 389 – 390 .

2″ـ مشاهدته((عند الانتهاء من ارتكابه)) وفي هذه الحال يكون الجرم قد ارتكب وتم حين وصلت الضابطة القضائية التي أخبرت بوقوعه فسارعت إلى مكان الحادثة ولكنها لم تصل بعد ارتكابه بزمن طويل بدليل كلمة ((عند)) وإنما وصلت وآثار الجرم قائمة والهياج العام موجودا 0
فالإجهاض المؤدي إلى الموت يعتبر جرما مشهودا وبالتالي يجيز لقاضي التحقيق أن يباشر التحقيق فيه قبل ان تقيم النيابة العامة الدعوى العامة لديه ولو كان ذلك بعد مضي 24 ساعة من وقوع الحادث 0 وقالت محكمة النقض ((ولما كان الفقه الجزائي يعتبر الجريمة في حالة التلبس ولو لم يعرف فاعلها وقتئذ ، بدليل ما جاء في تعريفها المبحوث عنه في الفقرة الأولى من المادة 28 دون أن يحدد المشرع هذه البرهة بمقدار معين 0 وقد اجمع الشراح على امتدادها حتى يهدأ روع الناس وتأثرهم بشرط ان تكون آ ثار الجريمة لا تزال ظاهرة وملموسة ))

3″ـ الجرم الذي يقبض على فاعله بناء على صراخ الناس0 وفي هذه الحال يكتفي بصياح الناس في أعقاب المجرم الهارب ولا حاجة لمطاردته من قبلهم بصورة فعلية 0

4ـ الجرم الذي يقبض على فاعله ومعه أسلحة أو أوراق يستدل منها انه فاعل الجريمة
وقد حسم قانوننا خلافا كان مستفحلا بين الفقهاء فصرح بضرورة القبض على الفاعل بناء على صراخ الناس أو القبض عليه ومعه أسلحة أو أوراق تدل على انه فاعل الجرم شريطة أن يتم ذلك في خلال 24 ساعة من ارتكاب الجريمة وإذا القي عليه القبض بعدها فيجب ألا تطبق الأصول الاستثنائية المطبقة على الجرم المشهود0

5ـ الجرم الذي يرتكب داخل البيت ويطلب صاحبه من النائب العام ( أو ضابط الشرطة) التحقيق فيه0 ((وصاحب البيت)) هو رب الأسرة سواء أكان مالكا ام مستأجر0 أما الطلب فيمكن أن يكون كتابة أو شفاها أو بالهاتف إذ لا يشترط القانون أي شرط0
______________________
( 2 ) – د . عبد الوهاب حومد ، مرجع سابق ، ص 390 – 391 .

( 36 )
الفرع الثاني : أهمية تصنيف الجرائم إلى جرائم مشهودة و جرائم غير مشهودة :
إن فائدة هذا التصنيف أصولية أكثر منها جزائية ، تتعلق بكيفية محاكمة مرتكب الجرم المشهود 0
فكل مواطن وكل شخص من موظفي الحكومة مكلف ان يقبض على فاعل الجناية المشهودة 0 والقانون يفرض على النائب العام ومعاونه الانتقال إلى موقع الجريمة والتحقيق فيها ولكنه مجبر بان يحيط قاضي التحقيق علما بالانتقال دون ان يضطر إلى انتظاره 0 وهذا من شواذ الأصول لان القاعدة الأصولية أن يقوم بذلك قاضي التحقيق نفسه وإذا كان الجرم المشهود جنحة أحيل الفاعل فورا وموقوفا عند الاقتضاء إلى المحاكم ليحاكم على جرمه بسرعة زائدة 0
فإذا تعذر عقد الجلسة في الحال أرجئت الجلسة إلى اليوم التالي على الأكثر 0 وإذا استمهل الفاعل للدفاع عن نفسه فللمحكمةـ إذا شاءت ـ أن تمهله ثلاثة أيام على الأكثر ليعين محاميا أو يعد دفاعه عن نفسه 0
ويدعو النائب العام الشهود شفاها دون مذكرة دعوة بواسطة موظفي النيابة أو بواسطة أفراد الشرطة0 وإذا كان الجرم جناية اتبعت في حق فاعلها الأصول العادية نظرا لخطورة الحكم فيها0
أما فائدته الجزائية فإنها قليلة ، ومنها إعفاء الأشخاص الذين يشتركون في العصابات المسلحة ويحضون على الاقتتال الطائفي ، إذا لم يكونوا من رؤساء العصابة ولم يوقفوا في أماكن الفتنة ، واستسلموا بسلاحهم دون مقاومة وقبل صدور أي حكم 0 وعلى هذا تكون حالة الجرم المشهود في هذه الحالة من أسباب المعاقبة لأنهم إذا استسلموا في غير أماكن الفتنة أي بعد انقضاء حالة الجرم المشهود فإنهم لا يعاقبون (المادة 300 عقوبات )0
ومنها ان الشخص الذي يشاهد وقوع جرم مشهود ويستنكف او يتوانى بدون عذر عن الإغاثة يعاقب عقوبة مخففة بحسب المادة 755 عقوبات0 ومنها جواز إغلاق محل من يخالف قانون التسعيرة رقم 123 لعام 1960 من قبل رجال الضابطة العدلية لمدة ثلاثة أيام بصورة إدارية
(( إذا قبض عليه بالجرم المشهود)) على أن يعرض الأمر على وزير التموين خلال هذه المدة ليقرر فتح المحل أو الاستمرار بإغلاقه حتى صدور الحكم (1) .
________________________
( 1 ) – د . عبد الوهاب حومد ، مرجع سابق ص 392 .

(37 )
وقد نص قانون حماية الأحياء المائية (1) على أن :((كل شخص يضبط وهو يصيد بدون رخصة ( أي جريمة مشهودة ) تصادر تجهيزاته الفردية بحكم يصدر عن محكمة الصلح00 )) 0
ونص المادة 419 من قانون العقوبات التي تعفي من العقاب من أقدم استيفاء لحقه بالذات على نزع مال في حيازة الغير أو استعمل العنف بالأشياء فاضر بها 0 وشروط عدم المعاقبة الا يكون قادرا في الحال على مراجعة السلطة المختصة ، فان كان قادرا على مراجعتها في الحال واستوفى مع ذلك حقه فانه يعاقب بغرامة لا تتجاوز مئة ليرة (2) 0

المبحث الرابع : تصنيف الجرائم على أساس انفراد النشاط الإجرامي أو وجوب تعدده .

الجرائم البسيطة وجرائم الاعتياد

– الفرع الأول : مفهوم الجرائم البسيطة وجرائم الاعتياد:
تنقسم الجرائم من حيث انفراد النشاط الإجرامي أو وجوب تعدده إلى جرائم بسيطة وجرائم اعتياد .
والجرم البسيط : هو ما يكفي لتحققه وقوع فعل جرمي واحد ايجابياً كان أم سلبياً فورياً أو مستمراً ، ومثال ذلك جريمتي السرقة والقتل ، ففي كل منهما يكفي أن يرتكب الجاني فعلاً واحداً كأخذ المال المنقول من غير رضا صاحبه في جريمة السرقة ، وإزهاق روح المجني عليه في جريمة القتل ، حيث تعد الجريمة محققة وتامة بمجرد وقوع الفعل الذي يكونها.
أما جريمة الاعتياد : فهي لا تتكون من فعل واحد فقط وإنما يشترط لقيامها تكرار الفعل أكثر من مرة ، لان الفاعل لا يعاقب فيها إلا على الاعتياد الذي ينبغي له تكرار الفعل بعد وقوعه للمرة الأولى ، حيث يقوم ارتكاب هذا الفعل مرة ثانية وثالثة …. قرينة على وجود الاعتياد ، ومثال ذلك جرم المراباة وجرم الحض على الفجور، فالمراباة هي الإقراض بفائدة تزيد على الحد القانوني وهي لا تُكون جريمة إذا وقعت لمرة واحدة فقط ، ولابد لكي تصبح جريمة من وقوعها مرتين أو أكثر خلال ثلاث سنوات . والحض على الفجور لا يُعاقب عليه إذا وقع لمرة واحدة فقط ، حيث يُشترط فيه لاعتباره جريمة ان يتكرر مرة أخرى أو أكثر . ولمعرفة الجريمة هل هي جريمة بسيطة أو جريمة اعتياد يجب الرجوع إلى نص القانون ، فهو الذي يحدد الجرائم البسيطة التي يكفي لتحققها وقوع فعل جرمي واحد ، وجرائم الاعتياد التي يشترط لقيامها تكرار الفعل أكثر من مرة.
_____________________________________
( 1 ) – المادة 52 من قانون حماية الأحياء المائية الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 30 تاريخ 25ـ 8ـ 1964
( 2 ) – د . عبد الوهاب حومد ، مرجع سابق ص 393 .
( 38 )

الفرع الثاني : عقاب المجرم البسيط ومجرم الاعتياد :
ويعاقب الجرم البسيط بمجرد ثبوته ، في حين لا يعاقب جرم الاعتياد إلا بعد ثبوت تحقق الاعتياد وفقا لما نص عليه القانون0 فالمراباة مثلا تكون جريمة اعتياد إذا تكررت مرتين أو أكثر في خلال ثلاث سنوات وفي الجرائم الأخرى التي لا يعين القانون عدد المرات اللازمة لتكوين الاعتياد فيها يبقى الأمر متروكا لرأي القاضي وتقديره 0ومن رأي بعض الفقهاء انه يلزم لتحقيق ركن الاعتياد تكرار الفعل مرتين وبعضهم الأخر يشترط التكرار ثلاث مرات ويرى ان ارتكاب الفعل مرتين فقط لا يثبت الاعتياد0
فضابط الاعتياد إذن تعدد الأفعال، وسواء في ذلك ان ترتكب هذه الأفعال في مكان واحد أو في أمكنة مختلفة أو ان تقع ضد شخص واحد أو أشخاص متعددين0 وفي جرائم الاعتياد يجب ان لا تمضي مدة طويلة بين كل فعل مكون للاعتياد والفعل الأخر ، والا اعتبر الفعل الثاني مستقلا عن الأول وناشئا عن ميل جديد لا استمرارا للميل الاول0
ويحدد البعض المدة التي إذا وقع في خلالها الفعل الثاني يثبت الاعتياد بمدة التقادم ، فإذا ارتكب الفعل الأول ثم مضت مدة التقادم عليه وارتكب الفاعل بعد ذلك فعلا ثانيا فلا توجد الاعتياد ، إذ يلزم لتكونها وقوع الفعل الجديد بعد الفعل الأول قبل مضي المدة المسقطة للدعوى العمومية عليه0

الفرع الثالث : أهمية التفريق بين الجرائم البسيطة وجرائم الاعتياد:
تظهر هذه الأهمية في قضايا عديدة كتطبيق القانون الجزائي في الزمان والمكان والاختصاص المكاني والتقادم والقضية المبرمة والادعاء بالحقوق المدنية أمام القضاء الجزائي ورجعية القانون الجديد.

أولا-تطبيق القانون الجزائي في الزمان:
يطبق القانون الجزائي على الجرائم البسيطة التي تقع في ظله وفق الأحكام العامة المنصوص عليها لتطبق القانون الجزائي في الزمان ولكن المادة السابعة من قانون العقوبات السوري خرجت على هذه القاعدة بالنسبة لجرائم الاعتياد فنصت على انه :
((كل قانون جديد ولو كان اشد يطبق على جرائم العادة التي ثوبر على تنفيذها تحت سلطانه))0

ثانيا- تطبيق القانون الجزائي في المكان : تخضع الجرائم البسيطة لإحكام قانون المكان الذي وقعت فيه أما جرائم الاعتياد فقد تخضع لأكثر من قانون واحد إذا ما وقعت أفعالها في عدد من الدول وموقف قانون العقوبات السوري في هذه الناحية صريح حينما تعلن الفقرة الثانية من المادة 15 على انه :
((تعد الجريمة مقترفة على الأرض السورية إذا تم على هذه الأرض احد العناصر التي تؤلف الجريمة))0
( 39 )

ثالثا- الاختصاص المكاني :
ذهب القانون السوري إلى أنه ينعقد الاختصاص المكاني في الجرائم البسيطة للمحكمة التي وقعت الجريمة في دائرتها .أما الاختصاص المكاني في جرائم الاعتياد فينعقد لجميع المحاكم التي وقع في دائرتها أي فعل من أفعال الاعتياد (1)
وفي الفقه ظهرت نظريتان لتحديد المحكمة المختصة بمعاقبة المجرم المعتاد هما:
– النظرية الأولى (( نظرية هيلي )) : التي تقول بأن المحكمة المختصة بمعاقبة الفاعل المعتاد هي المحكمة التي ارتكب في دائرتها الفعل الأخير الذي كون العادة .
– النظرية الثانية (( نظرية غارو )) : التي تقول بأن المحكمة المختصة بمعاقبة الفاعل المعتاد هي المحكمة التي ارتكب في دائرتها عدداً من الأفعال كافياً لتكوين العادة (2).

رابعا –التقادم: يسري ميعاد التقادم على الدعوى العامة في الجرائم البسيطة من اليوم التالي لارتكاب الفعل المكون للجريمة إذا كانت وقتية فورية ومن اليوم التالي لانتهاء الحالة الجنائية التي يعاقب عليها القانون اذا كانت الجريمة مستمرة ، وفي جرائم الاعتياد يسري ميعاد التقادم من اليوم التالي لآخر فعل مكون للجريمة ، حتى لو كانت الجريمة قد تكونت قبل ذلك0

خامسا- قوة الشيء المحكوم به :
الحكم المبرم في الجريمة البسيطة يمنع محاكمة الجاني من أجل الأفعال التي تضمنتها الدعوى العامة ، أما في جرائم الاعتياد فلا يحاكم الجاني ثانية ، لا عن الأفعال التي ذكرت في الدعوى العامة ، ولا عن الأفعال التي لم تذكر فيها ، طالما أنها تدخل في تكوين جريمة الاعتياد ، سواء كانت سابقة على الأفعال التي أثيرت في الدعوى أو كانت معاصرة أو لاحقة لها ، شريطة أن تكون قد وقعت قبل صدور الحكم المبرم .

سادساً- الادعاء بالحقوق المدنية أمام القضاء الجزائي :
هذا الادعاء جائز في الجرائم البسيطة ، وغير جائز في جرائم الاعتياد .
وعدم جوازه في جرائم الاعتياد مرده إلى أن المتضرر من فعل واحد ، لا يعد متضرر من جريمة جزائية ، لأن الجريمة الجزائية لا تتكون بهذا الفعل ، وإنما من الاعتياد على الفعل ، وذلك بتكراره أكثر من مرة واحدة .

شارك المقالة

1 تعليق

  1. معلومةمفيدة جدا جزاكم الله خيرا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر بريدك الالكتروني.